الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1-
انتقال اللغة من السلف إلى الخلف، وأثره في التطور اللغوي:
على الرغم من أن الطفل يأخذ اللغة عن أبويه والمحيطين به، فإن لغة الخلف في كل أمة تختلف عن لغة السلف في كثير من المظاهر، وبخاصة مظاهر الصوت.
ويرجع جزء يسير من نواحي هذا الاختلاف إلى أمور خاصة مقصورة على بعض الأفراد؛ كالعيوب الصوتية التي يصاب بها بعض الناس، وضعف السمع، واختلاف أعضاء النطق
…
وما إلى ذلك، وليس لمثل هذه الأمور شأن كبير في تطور اللغة؛ لأن آثارها مقصورة على أصحابها، تبقى معهم وحدهم في حياتهم وتختفي بموتهم.
أما معظم نواحي هذا الاختلاف وأكبرها أثرًا في تطور اللغة؛ فترجع إلى أمور عامة يشترك فيها جميع أفراد الطبقة الواحدة، ويمتازون بها عن أفراد الطبقة السابقة لهم؛ كالتطور الطبيعي لأعضاء النطق في الفصيلة الإنسانية؛ لأن أعضاء النطق في تطور طبيعي مطّرد، فتختلف في كل طبقة عنها في الطبقة السابقة لها؛ والتطور الطبيعي للظواهر النفسية "فالقوى العقلية بمختلف أنواعها في تطور طبيعي مطرد، فتختلف في كل طبقة عنها في الطبقة السابقة لها، شأنها في ذلك شأن أعضاء النطق، ومن الواضح أن كل تطور يحدث في هذه القوى ينبعث صداه في اللغة"، والأخطاء التي تنتشر بين الصغار في طبقة ما، ولا يفطن لها الكبار لدقتها وخفائها، أو يهملون إصلاحها، ولا يُعْنَوْنَ بالقضاء عليها، وكثرة استخدام الكبار في جيل ما لبعض المفردات في غير ما وضعت له عن طريق التوسع أو المجاز، لدواع اجتماعية خاصة، فتنتقل هذه المفردات إلى الجيل اللاحق بمعانيها المجازية وحدها، والنظم والتقاليد الخاصة التي يسير عليها المجتمع في جيلٍ ما في تلقين الأطفال اللغة في الأسرة، وتعليمهم إياها في المدارس؛ فالفروق اللغوية
الناشئة عن هذه الطائفة من العوامل يشترك فيها جميع أفراد الطبقة الواحدة، وتمتاز بها لغتهم عن لغة الطبقة السابقة لهم.
ومن هذا يظهر أن ناحية هامة من نواحي التطور اللغوي ترجع إلى عوامل جبرية، لا اختيار للإنسان فيها، ولا يد له على وقف آثارها، أو تغيير ما تؤدي إليه.
ومن هذا يظهر كذلك أنه ليس في قدرة الأفراد أن يقفوا تطور لغة، أو يجعلوها تجمد على وضع خاصٍّ، فمهما أجادوا في وضع معجماتها، وتحديد ألفاظها ومدلولاتها، وضبط قواعدها وأصواتها
…
ومهما أجهدوا أنفسهم في إتقان تعليمها للأطفال قراءة وكتابة ونطقًا، وفي وضع طريقة ثابتة سليمة يسير عليها المعلمون بهذا الصدد، ومهما بذلوا من قوةٍ في محاربة ما يطرأ عليها من لحن وخطأ وتحريف، فإنها لا تلبث أن تحطم هذه الأغلال، وتفلت من هذه القيود، وتسير في السبيل التي تريدها على السير فيها سنن التطور والارتقاء الطبيعيين.
حقًّا أنه يمكن أحيانًا التحكم في لغة الكتابة والجمود بها زمنًا طويلًا على أصولها القديمة، أو ما يقرب منها. ولكن لغة الكتابة التي تجمد بهذا الشكل لا تمثل تمثيلًا صحيحًا حالة الحياة اللغوية في الأمة، وتتسع كثيرًا مسافة الخلف بينها وبين لغة المحادثة؛ لأن هذه اللغة الأخيرة في تطور مطرد، ولا تستطيع أية قوة إلى تعويق تطورها سبيلًا، فلا تنفك تبعد عن لغة الكتابة الجامدة، حتى تصبح كل منهما غريبة عن الأخرى أو بعيدة عنها، ويصبح تعليم لغة الكتابة في الأمة أشبه شيء بتعليم لغة أجنبية، وهذا هو ما كان عليه الحال بفرنسا وإيطاليا ورومانيا وأسبانيا والبرتغال أيام أن كانت لغة الكتابة فيها هي اللاتينية، وكانت لهجاتها المحلية مقصورة على شئون المحادثة، وما عليه الحال الآن تقريبًا في مصر والسودان وبلاد العرب وشمال أفريقيا بصدد العلاقة بين لهجات المحادثة واللغة العربية الفصحى المتخذة لغة كتابة هذه البلاد.