الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
العوامل الأدبية المقصودة:
وأثرها في حياة اللغة وتطورها، وخاصة في لغة الكتابة: الرسم، التجديد في اللغة، البحوث اللغوية، حركة التأليف والترجمة، وسائل تعليم اللغة:
تشمل هذه الطائفة جميع ما يبذله الأفراد والهيئات من جهود مقصودة في سبيل حفظ اللغة، وتعليمها، وتوسيع نطاقها، وتكملة نقصها، وتهذيبها من نواحي المفردات والقواعد والأساليب، وتدوين آثارها، واستخدامها في الترجمة والتأليف الأدبي والعلمي.. وهلم جرا.
وتمتاز هذه الطائفة من العوامل عن الطوائف الثلاث السابقة بأنها أمور مقصودة، تسيرها الإرادة الإنسانية، على حين أن الطوائف السابقة تتمثل مظاهرها في أمور غير مقصودة تحدث من تلقاء نفسها، وتبدو آثارها في صورة جبرية لا اختيار للإنسان فيها، ولا يد له على وقفها، أو تغيير ما تؤدي إليه. وتمتاز عنها كذلك بأن هدفها الأصلي هو لغة الكتابة، بينما تتجه معظم آثار الطوائف السابقة بشكل مباشر إلى لغات المحادثة.
ولهذه الطائفة مظاهر كثيرة من أهمها: الرسم، والتجديد في اللغة، والبحوث اللغوية، وحركة التأليف والترجمة، ووسائل تعليم اللغة، وسنعقد لكل واحد من هذه الأمور الخمسة فقرة خاصة.
أولًا: الرسم:
لم يتح الرسم إلّا لعدد قليل من اللغات الإنسانية، أما معظمها فقد اعتمدت حياته على مجرد التناقل الشفوي. فالشرط الأساسي لحياة
اللغة هو التكلم بها لا رسمها، فكثيرًا ماتعيش اللغة بدون أن يكون لها سند تحريري، ولكن من المستحيل أن تنشأ لغة أو تبقى بدون أن يكون لها مظهر صوتي، ويصدق هذا حتى على اللغات الصناعية نفسها؛ كالاسبرانتو Esperanto وما إليها. فمن المتعذر أن تتاح الحياة للغة من هذا النوع ما لم تتداولها الألسنة وتصبح أداة للكلام، ولذلك كان أول ما يتجه إليه المفكرون في هذا النوع من اللغات هو وضع أصواته وأسلوب نطقه، والبحث في وسائل انتشار التحدث به.
وعلى الرغم من ذلك، فللرسم في حياة اللغة ونهضتها آثار تجلّ عن الحصر؛ فبفضله تضبط اللغة، وتدون آثارها، ويسجل ما يصل إليه الذهن الإنساني، وتنتشر المعارف، وتنتقل الحقائق في الزمان والمكان، وهو قوام اللغات الفصحى، ولغات الكتابة، ودعامة بقائها، وبفضله كذلك أمكننا الوقوف على كثير من اللغات الميتة؛ كالسنسكريتية والمصرية القديمة والإغريقية واللاتينية والقوطية، فلولا ما وصل إلينا من الآثار المكتوبة بهذه اللغات ما عرفنا عنها شيئًا، ولضاعت منا مراحل كثيرة من مراحل التطور اللغوي.
وترجع أساليب الرسم التي استخدمت في مختلف اللغات إلى أسلوبين اثنين:
أحدهما: أسلوب الرسم المعنوي:
ldeographie، Ecriture ideographique
وهو الذي يضع لكل معنًى صورة خطية خاصة، وقد استخدم هذا الأسلوب في لغات كثيرة؛ منها السومرية والصينية1 والمصرية القديمة2، ولا يعلم على وجه اليقين أول أمة استخدمته، ولكن يظهر من شواهد كثيرة أنه أقدم أساليب الرسم الإنساني.
1 يرتكز الرسم الصيني على 214 رمزًا أصليًّا "تسمى بالمفاتيح Clefs أو الأصول Radicaux، يعبر كل رمز منها عن معنًى عام، ويعين المقصود منه عدد الخطوط التي تضاف إلى هذا الرمز ونوعها.
2 يسمى الرسم المصري القديم الهيروغليفي Hieroglypge، وقد اجتاز هذا=
وترجع الصور الخطية التي تستخدم في هذا الأسلوب إلى نوعين؛ فأحيانًا تكون صورًا حقيقية للأشياء التي يراد التعبير عنها، أو لأجزاء من هذه الأشياء، كما يشير الرسم الهيروغليفي إلى الشمس بدائرة في وسطها نقطة، وإلى القمر بقوس في وسطه نتوء، وإلى الزنبق بثلاث فروع من شجرته، في طرف كلٍّ منها ثلاث زنبقات، وإلى الصقر بصورته واقفًا وهلم جرا. وأحيانًا تكون مجرد رموز مصطلح عليها للتعبر عن الأشياء والمعاني Symbolisme، كما يشير الرسم الهيروغليفي إلى الشهر بصورة هلال في وسطه نجم، وإلى اليوم بدائرة في وسطها نقطة، وكما يشير الرسم الصيني لمعنى "الإنسانية" بخطين يتكون منهما شكل رقم8.
ولهذا الأسلوب من الرسم عيوب كثيرة؛ فهو أسلوب بطيء يقتضي الكاتب إسرافًا كبيرًا في الوقت والمجهود. ولكثرة صوره ورموزه تبعًا لكثرة المعاني والأشياء، يقتضي تعلمه وتعليمه جهودًا شاقة وزمنًا طويلًا، ولذلك يقضي كثير من الصينيين زهرة شبابهم في المدارس بدون أن يتموا تعلم الرسم الصيني، وهو لا يقوى على تأدية وظيفته إلّا في صورة ناقصة مبتورة؛ إذ من المستحيل، مهما كثرت صوره وتعددت رموزه أن ينتظم جميع ما يخطر بالذهن الإنساني من معانٍ وأفكارٍ، وجميع ما ينطق به اللسان من ألفاظ وعبارات، هذا إلى أنه
= الرسم أربع مراحل؛ فقد كان في المبدأ تصويرًا للأشياء، فيعبر عن الشمس مثلًا بدائرة في وسطها نقطة، وعن القمر بقوس في وسطه نتوء
…
وهلم جرا، ثم دخل فيه بعد ذلك طريقة الرموز البسيطة والمركبة، فيعبر مثلًا عن اليوم بصورة الشمس "دائرة في وسطها نقطة"، وعن الشهر بصورة نجم تعلوها صورة هلال مستعرضة "قوس في وسطه نتوء"، وفي المرحلة الثالثة دخلت فيه الطريقة الصوتية المقطعية، فاستخدمت مثلًا الصورة التي كان يعبر بها قديمًا عن الفم، وهي صورة الشفتين، للتعبير عن مقطع "را"، وفي المرحلة الأخيرة دخلت فيه الطريقة الهجائية؛ فاستخدمت مثلًا الصورة السابقة لا للتعبير عن مقطع "را" بل للتعبير عن صوت الراء الساكنة غير المتبوعة بحركة، كما هو شأن الراء في الحروف الهجائية العربية، والمظهران الأولان فقط "الصوري والرمزي" هما اللذان يعدان من النوع الذي نحن بصدد الكلام عنه، أما المظهران الأخيران المقطعي والهجائي" فمن النوع الثاني الذي سنتكلم عنه، وهو الرسم الصوتي.
بمقتضاه لا يوجد للمعنى الواحد أكثر من صورة واحدة، مع أنه في معظم اللغات الإنسانية، كثيرًا ما يوجد للمعنى الواحد عدة ألفاظ مترادفة، فاستخدامه في حالات كهذه يوقع في اللبس ويؤدي إلى الاضطراب.
وثانيهما: أسلوب الرسم الصوتي -Ecriture Phonetique on Phonetisme الذي يضع لكل صوت صورة خاصة، وقد استخدم هذا الأسلوب من الرسم في كثير من اللغات القديمة، ويستخدم الآن في معظم الشعوب المتمدينة.
وترجع الصور الخطية التي استخدمت في هذ الرسم إلى طائفتين: إحداهما الصور المقطعية Syllabique وهي التي ترمز إلى مقاطع كاملة، كما يرمز في الهيروغليفي بشكل الشفتين إلى مقطع "را"، وفي المسماري بصورة اليد إلى مقطع "سو"، والأخرى الصور الهجائية Alphabetique، وهي التي ترمز إلى أصوات مفردة، كما يرمز في الرسم العربي بهذا الحرف:"ل" إلى صوت اللام مجردة من جميع الحركات.
ويظهر أن قدماء المصريين كانوا أول من استخدم هذا الأسلوب بنوعيه "المقطعي والهجائي" منذ أكثر من ثلاثين قرنًا قبل الميلاد؛ فمن بين صور الخط الهيروغليفي ما يرمز إلى مقاطع صوتية "صورة الشفتين مثلًا التي تعبر عن مقطع "را"، بل من بينها ما يرمز إلى مجرد أصوات مفردات "صورة الشفتين مثلًا التي أصبحت ترمز فيما بعد إلى صوت الراء الساكنة غير المتبوعة بآية حركة، كما هو شأن الراء في الحروف الهجائية العربية". غير أن قدماء المصريين لم يستخدموا هذا الأسلوب وحده، بل مزجوه بالأسلوب الأول؛ فالرسم الهيروغليفي خليط من الرسم الصوتي والرسم المعنوي، يستخدم بجانب الصور المقطعية والهجائية، صورًا حقيقية ورمزية1.
ومن الراجح أن الفينقيين هم أول من استخدم الأسلوب الهجائي
1 انظر التعليق الثاني بصفحة 269.
وحده. وقد اضطرهم إلى ذلك نشاطهم التجاري وكثرة تنقلهم وتعدد علاقاتهم بمختلف الشعوب، فقد كانت هذه الشئون تقتضيهم في جميع أعمالهم السرعة في الحركة، والاقتصاد في المجهود، وتحري وجوه الدقة. والأسلوب الهجائي هو أسرع أساليب الرسم، وأيسرها وأدناها إلى الكمال، وليس من شكٍّ في أنهم قد حاكوا في أسلوبهم هذا ما كان يشتمل عليه الخط الهيروغليفي من صور هجائية، على أنه قد ثبت أنهم أخذوا أخذًا عن هذا الخط نحو ثلاثة عشر حرفًا من حروفهم.
وقد انتشرت حروف الهجاء الفينقية في معظم أنحاء العالم القديم واستخدمها كثير من شعوبه، ومنها تفرعت بشكل مباشر أو غير مباشر جميع حروف الهجاء التي استخدمت فيما بعد في مختلف اللغات الإنسانية.
فمن الحروف الفينيقية اشتقت الحروف العبرية القديمة، ومن هذه اشتق الرسم العبري الحديث "الحروف العبرية المربعة L ُ hebreu carre" الذي استخدم بعد رجوع بني إسرائيل من نفي بابل، وظلَّ مستخدمًا إلى الآن، بدون أن يناله تغيير ذو بالٍ.
ومن الحروف الفينقية اشتق كذلك نوعان من الرسم قريبا الشبه بالعبرية الحديثة "الحروف العبرية المربعة": أحدهما الخط التدمري1 "أو البالميريني2 Palmyrenien؛ ولآخر الخط النبطي Nabateen ومن التدمري اشتقت الحروف السريانية التي أخذت منها الخطوط المغولية والمنشورية، ومن الخط النبطي والخط السرياني اشتقت حروف الهجاء العربية.
ومن الرسم الفينيقي أخذ كذلك الرسم الآرامي، بل إن الرسم الآرامي في أقدم أشكاله لا يكاد يختلف عن الرسم الفينيقي.
1 نسبة إلى تدمر، وهي مملكة قديمة كانت تشمل جزءًا كبيرًا من سوريا الحالية، ومعنى تدمر في العبرية بلاد النخيل.
2 نسبة إلى بالميرين Palmyrene وهو اسم فرنسي لبلاد تدمر، ومعناه في الفرنسية هو معنى تدمر في العبرية، أي: بلاد النخيل.
وعن الحروف الآرامية أخذت الحروف الهندية الباكتريانية lndo-Bactriens1 التي كانت مستخدمة في شمال الهند، ومن هذه الحروف اشتقت جميع الحروف المستخدمة الآن في مختلف لغات الهند وسيام Siam وكامبدج Cambodge "بالهند الصينية" وماليزيا Malaisie.
ومن الحروف الفينيقية اشتق كذلك الرسم الإغريقي، ومن الرسم الإغريقي أخذت الحروف اللاتينية، ومن الرسمين اللاتيني والإغريقي تفرعت جميع أنواع الرسم المستخدمة في مختلف اللغات الأوروبية في العصر الحاضر.
والأصل في الرسم الهجائي أن يكون معبرًا تعبيرًا دقيقًا عن أصوات الكلمة بدون زيادة ولا نقص ولا خلل في الترتيب، فيرسم في موضع كل صوت من أصواتها الحرف الذي يرمز إليه، ولا يوضع فيها حرف زائد لا يكون له مقابل صوتي، وقد حوفظ على هذا الأصل إلى حد كبير في بعض اللغات الإنسانية، وخاصة القديم منها؛ فرسم الكلمة في السنسكريتية لا يكاد يختلف في شيء عن صوتها2، ولكن معظم أنواع الرسم، وخاصة الحديث منها، لا تتوافر فيه هذه المطابقة، فكثيرًا ما يرسم في الكلمة حرف زائد أو حروف زائدة ليس لها مقابل صوتي في النطق "مثلًا "مائة" في العربية، "loup" في الفرنسية، "thumb" في الإنجليزية". وكثيرًا ما تشتمل الكلمة على أصوات لا تمثلها حروف في الرسم، مثلًا:"هذا" في العربية، "Picture" في الإنجليزية"، وكثيرًا ما يرسم في الكلمة حرف أو أكثر
1 نسبة إلى باكتريان Bactriane، وهي منطقة قديمة كان يسكنها الإيرانيون، وتشمل بعض مناطق تركستان وفارس.
2 وقد ساعد على ذلك أن الرسم السنسكريتي لم يكد يغادر صوتًا من أصوات اللغة إلّا وضع له حرفًا يرمز إليه، ولذلك كثرت حروف الهجاء في هذا الرسم، وقويت على التعبير عن مختلف الأصوات، فقد بلغت 46 حرفًا، منها 33 حرفًا ساكنًا، و13 حرفًا لينًا، هذا إلى ثلاث علامات للشكل.
للتعبير عن صوت غير الصوت الذي وضع له، مثلًا: dompter في الفرنسية، "enough""ocean" of" في الإنجليزية"، وكثيرًا ما ينطق بالحروف الواحد أو بالمقطع الواحد بصور صوتية مختلفة تبعًا لاختلاف الكلمات، أو اختلاف أزمنتها، أو اختلاف موقعه فيها، أو اختلاف ما يسقه أو يلحقه من حروف؛ فيرقق في بعض الكلمات، ويفخم في بعضها الآخر، أو يمد في بعضها، ويقصر في بعضها الآخر، أو يضغط عليه في بعضها، ويرسل في بعضها الآخر.. وهلم جرا "مثلًا: اللام في "والله" و"بالله".؟؟ إنجليزي
"Law low" l get a piece of lead l lead "Present" some men "l will read thes bood l have Just read thes book" The lines of demarkation that separate sciences this book contains separate sciences" l object against thes way the object of our book is "
وكثيرًا ما تختلف الحروف في كلمتين، ويتحد النطق بها
A piece of bread ln time of peace
ويرجع السبب في هذه الظواهر وما إليها، إلى عوامل كثيرة، من أهمها ثلاثة عوامل:
أحدها: أن حروف الهجاء في معظم أنواع الرسم لا تمثل جميع أصوات اللغة التي تكتب بها، فقد جرت العادة مثلًا في معظم أنواع الرسم ألّا يوضع لكل صوت عام أكثر من حرف هجائي واحد، مع أن الصوت العام كثيرًا ما يندرج تحت أصوات مختلفة في مخرجها ونبرتها وقوتها ومدة النطق بها وما إلى ذلك؛ فالصوت العام للام مثلًا، ليس له في معظم أنواع الرسم الحديث إلّا حرف واحد "ل "L"، مع أن هذا الصوت يختلف نطقه باختلاف الكلمات والمواقع؛ فأحيانًا ينطق به مرققًا "Hole، Low، بالله" وأحيانًا مفخمًا "والله law"، وتارةً ينطق به مضغوطًا عليه "أقسم بالله" وأخرى ينطق به مرسلًا "نستعين بالله".. وهلم جرا، ورسمه واحد في جميع هذه الحالات، والصوت العام للألف اللينة ليس له في العربية إلّا حرف واحد، مع أنه أحيانًا ينطق به مستقيمًا، وأحيانًا
ينطق به ممالًا. والصوت العام للجيم ليس له في العربية إلّا حرف واحد، مع أنه في بعض اللهجات ينطق به مجردًا من التعطيش، وفي بعضها ينطق به معطشًا كل التعطيش، وفي بعضها ينطق به بين هذا وذاك1.
وثانيها: أن كثيرًا من أنواع الرسم يقتصر على الرمز إلى الأصوات الهامة في الكلمة، ويغفل ما عداها، كأنواع الرسم السامي؛ إذ تغفل الرمز إلى أصوات المد الطويلة والقصيرة معًا، أو إلى القصيرة وحدها2.
وثالثها: أن أصوات اللغة -كما سبقت الإشارة إلى ذلك3 وكما سيأتي بيانه مفصلًا4- في تطور مطرد وتغير دائم؛ فالأصوات التي تتألف منها كلمة ما، لا تجمد على حالتها القديمة، بل تتغير بتغير الأزمنة والمناطق، وتتأثر بطائفة كبيرة من العوامل الطبيعية والاجتماعية واللغوية، فأحيانًا يسقط منها بعض أصواتها القديمة، وأحيانًا يضاف إليها أصوات جديدة، وتارةً يستبدل ببعض أصواتها أصوات أخرى، وتارةً تحرف أصواتها عن مواضعها، فيختل ترتيبها القديم
…
وقد ينالها أكثر من تغير واحد من هذه التغيرات، على حين أن الرسم لا يساير النطق في هذا التطور، بل يميل غالبًا إلى الجمود على حالته القديمة، أو ما يقرب منها، فلا يدون الكلمة على الصورة التي انتهت إليها أصواتها، بل على الصورة التي كانت عليها من قبل، وهذا هو منشأ الخلاف في معظم اللغات الأوروبية الحديثة بين النطق الحالي لكثير من الكلمات وصورتها في الرسم، فمعظم وجوه هذا الخلاف ترجع إلى جمود الرسم وتمثيله لصور صوتية قديمة نالها مع الزمن كثير من التغير في ألسنة الناطقين باللغة.
ومع ما للرسم من الفوائد الجليلة التي أشرنا إليها في صدر هذه
1 انظر صفحتي 41، 42.
2 انظر ص 219.
3 انظر ص250.
4 انظر الفصل الخامس من هذا الباب.
الفقرة1، فإن عدم مطابقته للنطق يجعل له بعض آثار ضارة، فهو يعرض الناس للخطأ في رسم الكلمات، ويجعل تعلم القراءة والكتابة لأهل اللغة من الأمور الشاقة المرهقة، ويطيل زمن المدرسة، فيسبب إسرافًا كبيرًا في الوقت والمجهود، وما يلاقيه أهل اللغة من صعوبات بهذا الصدد يلاقي أضعافه الأجانب الراغبون في تعلمها، ومن الواضح أن هذا يعوق انتشارها في الخارج، ويضيق سبل الانتفاع بآدابها وعلومها، فيصعب التفاهم بين الشعوب، وتضعف بينها حركة التبادل العلمي والثقافي، هذا إلى أن تمثيل الرسم لصور صوتية قديمة يعمل على رجع اللغة إلى الوراء، وردها إلى أشكالها العتيقة؛ فكثيرًا ما يتأثر الفرد في نطقه للكلمة بشكلها الكتابي، فلا يلفظها بالصورة التي انتهى إليها تطورها الصوتي، بل ينطق بها وفق رسمها، فتنحرف إلى الوضع الذي كانت عليه في العهود القديمة، وليس الأجانب وحدهم هم المعرضين لهذا الخطر، بل إنه كثيرًا ما يصيب أهل اللغة أنفسهم. وإليك مثلًا الحرف المشدد في اللغة الفرنسية في sAVAMMENT EVIDEMMENT إلخ، فقد كان ينطق به وفق رسمه في العصور الأولى لهذ اللغة، ثم انقرضت هذه الطريقة منهذ عهد بعيد، وأخذ الفرنسيون ينطقون به مخففًا، كما ينطقون بحرف واحد "Savaman evidaman"، ولكن منذ عهد قريب أخذت عادة النطق به مشددًا تظهر في ألسنة كثير منهم تحت تأثير صورته الخطية، فمن جراء الرسم نكصت اللغة على عقبيها في هذه الناحية عدة قرون إلى الوراء2.
ومن أجل ذلك كان العمل على إصلاح الرسم وتضييق مسافة الخلف بينه وبين النطق موضع عناية كثير من الأمم في مختلف العصور.
1 انظر صفحة 269.
2 ومن ذلك أيضًا الحروف الساكنة "غير اللينة" في آخر الكلمات، فقد حذفت في النطق الفرنسي في معظم المفردات منذ عهد بعيد، ولكن أخذ كثير من الفرنسيين في العصر الحاضر ينطقون بعضها تحت تأثير صورتها الخطية:"but""نطقها الصحيح "bu" قد تحولت الآن في السنة كثير من الفرنسيين إلى bute. aout "نطقها الصحيح ou" قد تحولت الآن في ألسنة كثير من الفرنسيين إلى oute.
فقد ظهر في هذا السبيل بعض حركات إصلاحية عند اليونان والرومان في العصور السابقة للميلاد، وفي أواخر القرن التاسع عشر عالج الألمان أساليب رسمهم القديم وأصلحوا كثيرًا من نواحيه، ومثل هذا حدث من عهد قريب في مملكة النرويج، ثم في جمهورية البرازيل1. وقد بدت بهذا الصدد محاولات إصلاحية كثيرة في البلاد الواطئة "هولاندا" وإنجلترا والولايات المتحدة، ولكن معظم هذه المحاولات لم يؤد إلى نتائج ذات بال، وأدخلت الأكاديمية الفرنسية، يشد أزرها ويعاونها طائفة من ساسة فرنسا وعلمائها، إصلاحات كثيرة على الرسم الفرنسي، وقد جانبت في إصلاحاتها هذه مناهج الطفرة، واتبعت سبل التدرج البطيء، فكانت تدخل في كل طبعة جديدة لمعجمها، بجانب التنقيحات اللغوية والعلمية، طائفة من الاصطلاحات الإملائية. وقد أقرت مجموعة هامة من القواعد الجديدة في الرسم الفرنسي، هذا إلى اصطلاحات للعلامة جرياد Greard التي تناولت كثيرًا من نواحي الرسم، وأقرتها الأكاديمية الفرنسية. وكانت كل مجموعة من هذه الاصطلاحات تلقى مقاومة عنيفة من جانب غلاة المحافظين، وعلى الرغم من ذلك فقد عمَّ الأخذ بها، وكان لها أكبر فضل في تيسير الرسم الفرنسي، وتضييق مدى الخلاف بينه وبين النطق الحديث. والرسم العربي نفسه قد تناولته يد الإصلاح أكثر من مرة من قبل الإسلام ومن بعده، ومع ذلك لا يزال عدد كبير من لمفكرين في عصرنا الحاضر يأخذون عليه كثيرًا من وجوه النقص والإبهام، وينادون بإصلاحه من عدة نواحٍ، وخاصة رسم الهمزة والألف اللينة، وابتداع طريقة لإحلال علامات ظاهرة ترسم في صلب الكلمة محل الفتحة والكسرة والضمة حتى يتقي اللبس في نطق الكلمات "عَلِمَ، عُلِمَ، عِلْمُ، عَلَمٌ..إلخ". ولكن الرسم العربي ليس في حاجة إلى كثير من الإصلاح، فهو من أكثر أنواع الرسم سهولة ودقة وضبطًا في القواعد ومطابقة للنطق2.
1 انظر ص114 وتعليقها الثاني.
2 انظر تفصيل هذا الموضوع بكتابنا "فقه اللغة" الطبعة السابعة صفحات 258-271.
هذا، وعلى الرغم من المساوئ السابق ذكرها، فإن لجمود الرسم على حالته القديمة أو ما يقرب منها بعض فوائد جديرة بالتنويه؛ فهو يوحد شكل الكتابة في مختلف العصور، ويسهل تناقل اللغة، ويمكن الناس في كل عصر من الانتفاع بمؤلفات سلفهم وآثارهم، فلو كان الرسم يتغير تبعًا لتغير أصوات الكلمات لأصبحت كتابة كل جيل غريبة على الأجيال اللاحقة له، ولاحتاج الناس في كل عصر إلى تعلم طرق النطق والإلمام بحالة اللغة في العصور السابقة لهم، حتى يستطيعوا الانتفاع بمخلفات آبائهم، هذا إلى أن جمود الرسم على حالته القديمة يفيد الباحث في اللغات أكبر فائدة؛ فهو يعرض له صورة صحيحة لأصول الكلمات، ويقفه على ما كانت عليه أصواتها في أقدم عصور اللغة؛ فالرسم للألفاظ أشبه شيء من هذه الناحية بالمتحف للآثار.
وقد كان للرسم في اللغات الأوروبية فضل كبير في تيسير النطق بكثير من الأسماء المتداولة المركبة من عدة كلمات، فقد جرت العاة أن يكتفي في التعبير عن هذه الأسماء بذكر الحروف الأولى التي تتألف منها كلماتها:
T S F = telegraphe sans fil" M A = Master of arts"
وشاع هذا الاستعمال في أسماء المخترعات والشركات والأحزاب والفرق الحزبية والنظريات والشهادات العلمية، وما إلى ذلك. وقد أنزلت هذه الرموز منزلة الكلمات، وأخذ الناس يصرفونها وينسبون إليها ويشتقون منها أفعالًا وصفات، وللاقتصار عليها وكثرة استخدامها في الحديث والكتابة تنوسى أصلها عند عامة الناس، وأصبح كثير منهم يعتقد أنها كلمات كاملة "النازي، الأنزاك، النافي، اليونسكو.. إلخ".
وللرسم أثر كبير في تحريف النطق بالكلمات التي يقتبسها الكتاب والصحفيون عن اللغات الأجنبية، وذلك أن اختلاف اللغات في الأصوات
وحروف الهجاء والنطق بها وأساليب الرسم.. كل ذلك يجعل من المتعذر أن ترسم كلمة أجنبية في صورة تمثل نطقها الصحيح في اللغة التي اقتبست منها؛ فينشأ من جراء ذلك أن ينطق بها معظم الناس بالشكل الذي يتفق مع رسمها في لغتهم، ويشيع هذا الأسلوب من النطق، فتصبح الكلمة غريبة كل الغرابة أو بعض الغرابة عن الأصل الذي أخذت عنه، وليس هذا مقصورًا على اللغات المختلفة في حروف هجائها كالعربية واللغات الأوروبية، بل يصدق كذلك على اللغات المتفقة في حروف الهجاء؛ كالفرنسية والإنجليزية. فجميع الكلمات الإنجليزية التي انتشرت في الفرنسية عن طريق رسمها في الصحف والمؤلفات، ينطق بها الفرنسيون في صورة لا تتفق مع أصلها الإنجليزي Boy-scout; foot ball; rugby; hockey; sterling; standard standard of Living..حتى إن كثيرًا منها لا يكاد يتبينها الإنجليزي إذا سمعها من فرنسي.
ثانيًا: حركة التجديد في اللغة
تبدو حركة التجديد المقصود في مظاهر كثيرة من أكبرها أثرًا في التطور اللغوي الأمور الآتية:
1-
تأثر الأدباء والكتاب بأساليب اللغات الأجنبية، واقتباسهم أو ترجمتهم لمفرداتها مصطلحاتها، وانتفاعهم بأفكار أهلها وإنتاجهم الأدبي والعلمي، فلا يخفى ما لهذا كله من أثر بليغ في نهضة لغة الكتابة وتهذيبها واتساع نطاقها وزيادة ثروتها، والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأمم الغابرة وفي العصر الحاضر؛ فأكبر قسط من الفضل في نهضة اللغة العربية في عصر بني العباس يرجع إلى انتفاع الأدباء والعلماء باللغتين الفارسية والإغريقية، فقد أخذوا في ذلك العصر يترجمون آثارهما، ويعقبون عليهما بالشرح والتعليق، ويستغلونهما في بحوثهم، ويحاكون أساليبهما، ويقتبسون منهما عددًا كبيرًا من المفردات العلمية وغيرها، ويمزجونها بمفردات لغتهم عن طريق تعريبها تارةً، وعن طريق ترجمتها تارةً أخرى، فاتسع بذلك متن اللغة العربية وازدادت مرونة
وقدرة على تدوين الآداب والعلوم. ويرجع كذلك أكبر قسط من الفضل في نهضة اللغة العربية بمصر في العصر الحاضر إلى انتفاع الصحفيين والأدباء والعلماء باللغات الأوروبية الحديثة، ومحاكاتهم لأساليبها، وتعريبهم أو ترجمتهم لألفاظها ومصطلحاتها، واستغلالهم في مؤلفاتهم ومترجماتهم لمنتجات أهلها في شتّى ميادين الحركة الفكرية، ولغة الكتابة بفرنسا في العصر الحاضر مدينة بأهم نواحي رقيها إلى تأثرها باللغتين اللاتينية والإغريقية من جهة، وباللغات الأوروبية الحديثة من جهة أخرى، فمنذ "عصر النهضة" Renaissance لم ينفك أدباء فرنسا وعلماؤها دائبين على اقتباس المفردات اللاتينية واليونانية القديمة، ومحاكاة أساليب هاتين اللغتين، وترسم قواعدهما ومناهجهما في البحث1، وقد أخذوا منذ عهد بعيد يقتبسون كثيرًا من المفردات والأساليب عن اللغات الأوروبية الحديثة، وخاصة الإنجليزية والألمانية، ولولا آلاف المفردات التي اقتبسها المحدثون من أدباء ألمانيا وعلمائها من اللغة اللاتينية وما تفرع عنها، ومن اللغات الأوروبية الحديثة، وبخاصة الفرنسية والإنجليزية، ما قويت لغة الكتابة بألمانيا أن تصل إلى الشأو الذي هي عليه الآن. ومثل هذا يقال في معظم لغات الكتابة في العصر الحاضر.
وكثيرًا ما تقتبس لغة الكتابة عن اللغات الأخرى مفردات لها نظير في متنها الأصلي، وكثيرًا ما تقتبس مفردات من لغة وتقتبس نظيرها في الدلالة من لغة أخرى، وإلى هذه الظواهر وما إليها، يرجع السبب في كثرة الألفاظ المترادفة "المشترك المعنوي" في لغات الكتابة، فما يذهب إليه بعضهم من أن الترادف بالمعنى الكامل لهذه الكلمة لا وجود له في اللغات ليس صحيحًا إلّا فيما يتعلق ببعض لغات المحادثة التي تظل بمأمن من الاحتكاك باللغات الأخرى، أما لغات الكتابة التي يستحيل
1 انتشرت بفرنسا حركة المحاكاة للقواعد والأساليب اللاتينية بفضل كتاب القرن السابع عشر، وعلى الأخص بلزاك وديكارت وبوسويه
Balzac، Descartes، Boussuet
بقاؤها بمعزل عن غيرها، ولغات المحادثة التي يتاح لها هذا الاحتكاك، فلا تخلو من الترادف بالمعنى الصحيح، للسبب الذي ذكرناه.
2-
إحياء الأدباء والعلماء لبعض المفردات القديمة المهجورة، فكثيرًا ما يلجئون إلى ذلك للتعبير عن معانٍ لا يجدون في المفردات المستعملة ما يعبر عنها تعبيرًا دقيقًا، أو لمجرد الرغبة في استخدام كلمات غريبة، أو في الترفع عن المفردات التي لاكتها الألسنة كثيرًا، وبكثرة الاستعمال، تبعث هذه المفردات خلقًا جديدًا، ويزول ما فيها من غرابة، وتندمج في المتداول المألوف، ولا يخفى ما لذلك من أثر في نهضة لغة الكتابة واتساع متنها وزيادة قدرتها على التعبير، وقد سار على هذه الوتيرة بمصر في العصر الحاضر كثير من الأدباء والعلماء والصحفيين، فردوا بذلك إلى اللغة العربية جزءًا كبير من ثروتها المفقودة، وكشفوا عن عدة نواحٍ من كنوزها المدفونة في أجداث المعجمات.
3-
خلق الأدباء والعلماء لألفاظٍ جديدة، فكثيرا ما يلجئون إلى ذلك للتعبير عن أمور مستحدثة في الحياة الاجتماعية أو الفكرية، لا يجدون في مفردات اللغة المستعملة ولا في مفرداتها الداثرة ما يعبر عنها تعبيرًا دقيقًا، وقد لا يضطرهم إلى ذلك إلّا مجرد الرغبة في الابتداع، أو مجانبة الألفاظ المتداولة المألوفة، أو إبراز المعنى في صورة رائعة، وتثبتيه في الأذهان، وتذليل سبل انتشاره بالإغراب في تسميته، وقد عَمَّ استخدام هذه الطريقة في الأمم الأوروبية منذ القرن التاسع عشر، وكثر التجاء الأدباء والعلماء إليها بنوع خاص في تسمية المستحدث من المخترعات الصناعية والمصطلحات العلمية والأحزاب والمبادئ السياسية والاجتماعية، وفي التعبير عن بعض معانٍ دقيقة في عالم الأدب والفلسفة، فناءت مؤلفاتهم بهذه الكلمات المصنوعة، وتألف منها معظم المصطلحات في الفلسفة وعلم النفس والعلوم الطبيعية والطب والصيدلة وما إلى ذلك، وقد صبغ معظم هذه المصطلحات بصبغة دولية، فأقرته
المؤتمرات والهيئات العلمية الممثلة لمختلف الأمم الأوروبية، وعمَّ استخدامه في لغاتها "تلغراف، تليفون، سوسيولوجيا، جيولوجيا
…
إلخ". وقد أجاز المجمع اللغوي بمصر الالتجاء إلى هذه الطريقة، حيث تدعو إلى ذلك ضرورة، بألّا يوجد في مفردات اللغة متداولها ومهجورها ما يعبر تعبيرًا دقيقا عن الاصطلاح المراد التعبير عنه.
ولا يخفى ما لهذه الوسيلة من أثر في نهضة لغة الكتابة، واتساع متنها، ودقة مصطلحاتها وزيادة مرونتها وقدرتها على التعبير.
وقد ارتضى الأدباء والعلماء بعض قواعد عامة في وضع هذه الألفاظ، ويستعينون عادة في تكوينها بالنحت والاشتقاق الأكبر، ومزج كلمتين أو أكثر من كلمة واحدة، ويستمدون أصولها من اللغات الحية أو الميتة وخاصة اللاتينية واليونانية القديمة، وكثيرًا ما يستعان في تكوينها بأكثر من لغة واحدة، فمن المفردات ما هو مؤلف من لغتين ""سوسيولوجيا" أي: علم الاجتماع، فصدر الكلمة "سوسيو" من أصل لاتيني، معناه: الجمعية، وعجزها "لوجيا" من أصل يوناني، معناه: المقال أو البحث أو الخطبة" =Sociologie" du latin "societas discourw = logos scoiete et du grec "logo، بل أن منها ما هو مؤلف من ثلاث لغات ""بيسيكلت" أي: الدراجة، فإن "بي" من أصل لاتيني يدل على التثنية، "وسيكل" من أصل يوناني معناه الدائرة، و"ت" Bicyclette du latin "bi" = deux foes et du grec "kiklos= cercle et du suffixe diminutif francais "tte"
وقوام هذه المفردات هو التواضع والاصطلاح، ولذلك كثيرًا ما تختلف معانيها اختلافًا يسيرًا أو كبيرًا عن معاني الأصول التي استمدت منها.
ولا تبقى هذه الألفاظ جامدة على الحالة التي وضعت عليها، بل ينالها ما ينال غيرها من المفردات، وتخضع في تطورها الصوتي والدلالي للقوانين العامة نفسها التي تخضع لها الألفاظ الأصلية، فبمجرد أن يقذف
بها في التداول اللغوي، وتتناقلها الألسنة، تفلت من إرادة مخترعيها، وتخضع لنواميس التطور العامة المسيطرة على ظواهر الصوت والدلالة؛ فاللفظ الموضوع أشبه شيء بحجر يقذف به القاذف من جهةٍ معينةٍ بقوةٍ خاصةٍ، فإنه بمجرد أن يفارق يده يخضع في سيره لقوانين ثابتة صارمة لا يد للقاذف ولا لغيره على تعطيلها أو وقف آثارها، ولذلك يختلف الآن النطق بالألفاظ الموضوعة، ويختلف رسمها باختلاف الأمم واللغات. والأسلوب الصوتي الذي كانت تلفظ به منذ قرن أو قرنين مثلًا، غير الأسلوب الصوتي الذي تلفظ به الآن. وقد أخذ كثير منها عند جميع الكتاب أو عند بعضهم ينحرف في دلالته نفسها عن المعنى الذي وضع له في الأصل.
ثالثًا: المؤلفات اللغوية:
وهي البحوث التي ترمي إلى حفظ اللغة، وضبطها، وسلامتها، وتخليدها، والوقوف على خواصها وتاريخها وآثارها
…
وما إلى ذلك؛ فتشمل المعجمات ودوائر المعارف وكتب القواعد بمختلف أنواعها "النحو والصرف، الاشتقاق، الوضع، البيان، المعاني، البديع..إلخ" وأدب اللغة وتاريخه، ودراسة أصوات اللغة ومخارج حروفها، ودلالة كلماتها وحياتها، والأدوار التي سارت فيها من مختلف نواحيها.. وهلم جرا.
فلا يخفى ما لهذه الجهود من أثر جليل في حياة لغة الكتابة، وحفظها من التحريف وتهذيبها ونههضتها ونقلها من السلف إلى الخلف.
رابعًا: نشاط التأليف والترجمة في الأداب والعلوم والفنون والصحافة وما إلى ذلك
فمن الواضح أنه لا حياة للغة الكتابة بدون استخدامها في هذه الشئون، وأنه بمقدار نشاط أهلها في هذه الميادين تتاح لها وسائل الانتشار والرقيّ والنهوض.
خامسًا: تعليم لغة الكتابة
تقوم معاهد التعليم في مختلف الأمم بأهم ناحية من هذه الوظيفة، وإليها يرجع أكبر قسط من الفضل في حياة اللغة، وتخليدها وسلامتها، وما يتاح لها من نهوض؛ فهي التي تعلم الصغار الكتابة والقراءة، وتقوِّمُ ألسنتهم، وتصلح فاسد نطقهم، وتأخذهم بآداب اللغة وأساليبها، وتوقفهم على قواعدها، وتلقنهم آثارها، وتبعث في نفوسهم حبها وإجلالها، وتدرس لهم بها مختلف المواد فتزيدها تثبيتًا في أذهانهم، وتقدرهم على استخدامها في مختلف مناحي التعبير.
وتعتمد معاهد التعليم في أدائها لهذه الوظائف الجليلة على العوامل الأربعة السابق ذكرها، وعلى طرق إعداد المعلمين ومؤلفات التربية وأساليب التعليم
…
وما يتصل بذلك، وعلى ما تلقاه من إشراف وتعضيد ومعونة من جانب أولي الأمر والأسرات والهيئات والأفراد.
ولا يفوتنا قبل أن نختم هذه الفقرة أن نشير إلى أن كل تطور أو رقي في لغة الكتابة يؤثر بطريق غير مباشر في لغة الحديث؛ فطبقات الخاصة تعمل جاهدة على تقريب لغة حديثها من اللغة الفصحى، وانتشار التعليم الأولي يساعد على تهذيب لغة الكلام في طبقات العامة، ويدنو بها من لغة الكتابة؛ فالعوامل السابق ذكرها في هذه الفقرة -وإن اتجه أثرها أولًا وبالذات إلى لغات الكتابة- تؤثر بطريق غير مباشر في لغات التخاطب.