المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌إطراء مجمع اللغة العربية لكتابي علم اللغة وفقه اللغة

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌تمهيد في التعريف بعلم اللغة

- ‌ البحوث اللغوية وما يدخل منها تحت علم اللغة:

- ‌ أغراض علم اللغة:

- ‌ قوانين العلوم:

- ‌ قوانين علم اللغة:

- ‌ قوانين "الفونيتيك" وقوانين "السيمنتيك

- ‌ الشعبة التي ينتمي إليها علم اللغة:

- ‌الانتفاع ببحوث علم اللغة من الناحية العلمية

- ‌ علاقة علم اللغة بما عداه من البحوث:

- ‌ مناهج البحث في علم اللغة:

- ‌ تاريخ البحوث اللغوية:

- ‌ موضوعات هذا الكتاب:

- ‌الباب الأول: نشأة اللغة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: نشأة اللغة عند الإنسان

- ‌ أنواع التعبير الإنساني:

- ‌ اختصاص الإنسان باللغة ومراكزها:

- ‌ نشأة الكلام:

- ‌ نشاة مراكز اللغة:

- ‌ المراحل الأولى التي اجتازتها اللغة الإنسانية:

- ‌الفصل الثاني: نشأة اللغة عند الطفل

- ‌ أنواع الأصوات في الطفولة، وأساس كل منها:

- ‌ أنواع التعبير في الطفولة:

- ‌ المراحل التي يجتازها الطفل في أصواته وتعبيراته:

- ‌ عوامل كسب الطفل للغة:

- ‌ أثر النظر في التقليد اللغوي:

- ‌ أساس التقليد اللغوي عند الطفل:

- ‌مبلغ تمثيل الطفل في ارتقائه اللغوي لنشأة الغة الإنسانية وتطورها

- ‌الباب الثاني: حياة اللغة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: تفرع اللغة إلى لهجات ولغات

- ‌ انتشار اللغة وأسبابه:

- ‌ تفرع اللغة إلى لهجات ولغات نتيجة لازمة لسعة انتشارها:

- ‌ اللهجات المحلية وصراعها بعضها مع بعض

- ‌ نشأة لغة الدولة أو لغة الكتابة:

- ‌ اختلاف مناحي الفصحى باختلاف فنون القول:

- ‌ اختلاف اللهجات في البلد الواحد باختلاف طبقات الناس وفئاتهم:

- ‌ اختلاف لهجة الرجال عن لهجة النساء:

- ‌الفصل الثاني: فصائل اللغات وخواص كل فصيلة منها وما بينها من صلات:

- ‌ أشهر الآراء في فصائل اللغات:

- ‌ الفصيلة الأولى: الهندية الأوربية

- ‌ الفصيلة الثانية: الحامية - السامية:

- ‌الفصيلة الثالثة: اللغات الطورانية

- ‌ بعض ما تختلف فيه الفصيلتان السامية، والهندية - الأوربية:

- ‌ وجوه الشبه بين الفصيلتين السامية

- ‌الفصل الثالث: صراع اللغات

- ‌ نظرة عامة في عوامله وآثاره في حياة اللغة:

- ‌ العامل الأول: نزوح عناصر أجنبية إلى البلد

- ‌ العامل الثاني من عوامل الصراع اللغوي:

- ‌ عوامل أخرى للاحتكاك اللغوي:

- ‌الفصل الرابع: التطور اللغوي العام

- ‌مدخل

- ‌ انتقال اللغة من السلف إلى الخلف، وأثره في التطور اللغوي:

- ‌ تأثر اللغة باللغات الأخرى تبادل المفردات بين اللغات:

- ‌ العوامل الأدبية المقصودة:

- ‌الفصل الخامس: أصوات اللغة حياتها وتطورها

- ‌خواص التطور الصوتي وعوامله

- ‌ التطور الطبيعي المطرد لأعضاء النطق

- ‌ اختلاف أعضاء النطق باختلاف الشعوب:

- ‌ الأخطاء السمعية:

- ‌ تفاعل أصوات الكلمة بعضها مع بعض:

- ‌ موقع الصوت في الكلمة

- ‌ تناوب الأصوات وحلول بعضها محل بعض:

- ‌الفصل السادس: الدلالة وتطورها

- ‌أنواع التطور الدلالي

- ‌ خواص التطور الدلالي ومناهجه:

- ‌ عوامل التطور الدلالي:

- ‌أهم المراجع

- ‌أولا: المراجع العربية

- ‌ثانيا: أهم المراجع الأفرنجية

- ‌الفهرس:

- ‌تعقيب:

الفصل: ‌ نشأة الكلام:

مركز حفظ الكلمات المسموعة.. وهلم جرا" فقد ثبت أن هذه المراكز لا يوجد لها نظير في مخ أي فصيلة حيوانية أخرى، حتى الفصائل العليا من القردة نفسها.

فالبحث في نشأة اللغة عند الإنسان يتطلب إذن دراسة موضوعين اثنين: أولهما نشأة اللغة في الفصيلة الإنسانية، وثانيهما نشأة مراكز اللغة في المخ الإنساني. وسنعقد لكلٍّ منهما فقرة خاصة، ثم نكمل بحوث هذا الفصل بفقرة ثالثة في المراحل الأولى التي اجتازتها لغة الإنسان بعد نشأتها، وما انتابها من تطور في هذ المراحل.

ص: 96

3-

‌ نشأة الكلام:

لا شك أن الفضل في نشأة اللغة الإنسانية يرجع إلى المجتمع نفسه، وإلى الحياة الاجتماعية. فلولا اجتماع الأفراد بعضهم مع بعض، وحاجتهم إلى التعاون والتفاهم وتبادل الأفكار، والتعبير عما يجول بالخواطر من معانٍ ومدركات، ما وجدت لغة ولا تعبير إرادي.

ولا شك كذلك أن اللغة ظاهرة اجتماعية تنشأ كما ينشأ غيرها من الظواهر الاجتماعية، فتخلقها طبيعة الاجتماع، وتنبعث عن الحياة الجميعة، وما تقتضيه هذه الحياة من شئون1.

فليست المشكلة إذن في البحث عن الأسباب التي دعت إلى نشأة اللغة، ولا في البحث عمن أنشاها، وإنما المشكلة في البحث عن العوامل التي دعت إلى ظهورها في صورة أصوات مركبة ذات مقاطع متميزة الكلمات، والكشف عن الصورة الأولى التي ظهرت بها هذه الأصوات، أي: الأسلوب الذي سار عليه الإنسان في مبدأ الأمر في

1 انظر في ذلك كتابي في "اللغة والمجتمع" الطبعة الثالثة، وخاصة صفحات 3-7.

ص: 96

وضع أصوات معينة لمسميات خاصة، وتوضيح الأسباب التي وجهته إلى هذا الأسلوب دون غيره.

وعلى ضوء هذه الحقائق سنناقش النظريات التي قيلت في نشأة اللغة، فنرفض كل نظرية تذهب في ذلك مذهبًا لا يتفق مع هذه الحقائق المقررة، أو تغفل المشكلة الرئيسية التي نحاول حلها.

هذا، وأهم ما قيل بهذا الصدد يرجع إلى أربع نظريات:

النظرية الأولى: تقرر أن الفضل في نشأة اللغة الإنسانية يرجع إلى الهام إلهيٍّ هبط على الإنسان فعلمه النطق وأسماء الأشياء، وقد ذهب إلى هذ الرأي في العصور القديمة الفيلسوف اليوناني هيراكليت1 Heraclite، وفي العصور الوسطى بعض الباحثين في فقه اللغة العربية كابن فارس في كتابه الصاحبي2، وفي العصور الحديثة طائفة من العلماء على رأسها الأب لامي Lami في كتابه "فن الكلام" LArt de parler، والفيلسوف دوبونالد De Bonald في كتابه التشريع القديم4 Legislation primitive.

ولا يكاد أصحاب هذه النظرية يقدمون بين يدي مذهبهم دليلًا عقليًّا يعتد به5. أما أدلتهم النقلية فبعضها يحتمل التأويل، وبعضها يكاد يكون دليلًا عليهم لا لهم. فالمؤيدون لهذا الرأي من باحثي

1 فيلسوف إغريقي من المدرسة اليونانية، ولد بإيفيزيا عام 576، وتوفي عام 480ق. م، ونسبة هذا الرأي له ليست يقينية.

2 انظر الصاحبي صفحات 507، وقد مال إلى هذا الرأي كذلك ابن جني في كتابه الخصائص، انظر الجزء الأول ص45، وإن كان قد رد في أول الفصل على ما يعتمد عليه القائلون به ذاهبًا إلى أنه لا ينهض دليلًا لهم.

3 هو دوم فرانسوا لامي Dom Franccis Lami، ولد بمنتيرو Montircau، من أعمال فرنسا سنة 1636، وتوفي بسان ديني Saint Denis سنة 1711، وقد قام بتدريس الفلسفة في كثير من المعاهد الدينية، وإليه يرجع الفضل في نشر آراء الفيلسوف ديكارت في هذه المعاهد.

4 انظر ترجمة دوبانالد في التعليق الأول بصفحة 56.

5 سنبين فساد الأدلة العقلية التي ذكرها بعض المتعصبين لهذه النظرية عند مناقشتنا للنظرية الثالثة التي لا تختلف كثيرًا في جوهرها عن هذه النظرية.

ص: 97

العرب يعتمدون على قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 1 وهذا النص كماترى، ليس صريحًا كما يدعون؛ إذ يحتمل أن يكون معناه -كما ذكر ذلك ابن جني في كتابه الخصائص، وذهب إليه كثير من أئمة المفسرين: إن الله تعالى أقدر الإنسان على وضع الألفاظ. أما القائلون بهذه النظرية من الفرنجة، فيعتمدون على ما ورد بهذا الصدد في سفر التكوين؛ إذ يقول:"والله خلق من الطين جميع حيوانات الحقول وجميع طيور السماء، ثم عرضها على آدم ليرى كيف يسميها، وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه له الإنسان، فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول"2: وهذا النص، كما ترى، لا يدل على شيء مما يقول به أصحاب هذه النظرية، بل يكاد يكون دليلًَا عليهم. وفضلًا عن هذا كله، فإن هذه النظرية تغفل إغفالًَا تامًّا المشكلة الرئيسية التي تهمنا، وحدُّها في هذا البحث، والتي حددناها تحديدًا دقيقًا في صدر هذه الفقرة.

النظرية الثانية: تقرر أن اللغة ابتدعت واستحدثت بالتواضع والاتفاق وارتجال ألفاظها ارتجالًا، وقد ذهب إلى هذا الرأي في العصور القديمة الفيلوسف اليوناني ديموكريت Democrite -من فلاسفة القرن الخامس ق م- وفي العصور الوسطى كثير من الباحثين في فقه اللغة العربية، وفي العصور الحديثة الفلاسفة الإنجليز آدم سميث Adem Smith، وريد Reid، ودجلد ستيوارث Dugald Stewart.

وليس لهذه النظرية أي سند عقلي أو نقلي أو تاريخي، بل إن ما تقرره ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية، فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ارتجالًا ولا تخلق خلقًا، بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها. هذا إلى أن التواضع على التسمية

1 سورة البقرة، آية 31.

2 انظر الفقرتين 19، 20 م الإصحاح الثاني من سفر التكوين.

ص: 98

يتوقف في كثير من مظاهره على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون1، فما يجعله أصحاب هذه النظرية منشأ للغة يتوقف هو نفسه على وجودها من قبل2. وفضلًا عن هذا كله، فإن هذه النظرية تغفل المشكلة الرئيسية التي تهمنا وحدها في هذا البحث، والتي وضحناها في صدر هذه الفقرة.

فلسنا هنا بصدد نظرية جديرة بالمناقشة، بل بصدد تخمين خيالي وفرض عقيم يحمل في طيه آية بطلانه، وقد ذهب المتعصبون له في تصوير منشأ اللغة مذاهب ساذجة غريبة، تدل أبلغ دلالة على مبلغ انحرافه عن جادة الصواب ونطاق المعقول؛ وإليك نبذة مما يقوله بعضهم بهذا الصدد: "إن أصل اللغة لابد فيه من المواضعة، وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدًا، فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء، فيضعوا لكل منها سمة ولفظًا يدل عليه ويغني عن إحضاره أمام البصر. وطريقة ذلك أن يقبلوا مثلًا على شخص، ويومئوا إليه قائلين: إنسان، إنسان، إنسان، فتصحب هذه الكلمة اسمًا له، وإن أرادوا سمة عينة أو يده أو رأسه أو قدمه أشاروا إلى العضو وقالوا: يد، عين، رأس، قدم

ويسيرون على هذه الوتيرة في أسماء بقية الأشياء وفي الأفعال والحروف وفي المعاني الكلية والأمور المعنوية نفسها3، وبذلك تنشأ اللغة العربية مثلًا، ثم يخطر بعد ذلك لجماعة منهم كلمة "مرد" بدل إنسان وكلمة "سر" بدل رأس

وهكذا فتنشأ اللغة الفارسية

"4.

النظرية الثالثة: تقرر أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة خاصة، زود بها في الأصل جميع أفراد النوع الإنساني، وأن هذه

1 سيأتي توضيح هذا في النظرية الثالثة.

2 انظر كذلك في الرد على هذه النظرية، رينان "أصل اللغة" صفحة 76 وتوابعها Renan L origin

3 لم يبين القائلون بهذه النظرية بوضوح كيف أمكن التواضع على الكلمات الدالة على الأفعال والحروف والمعاني الكلية، مع أن هذه الأمور ليس لها في الخارج مدلول حتى يشير إليه المتواضعون.

4 نقلًا عن ابن جني بتصرف، الجزء الأول، صفحتي 42، 43.

ص: 99

الغريزة كانت تحمل كل فرد على التعبير عن كل مدرك حسي أو معنوي بكلمة خاصة به، كما أن غريزة "التعبير الطبيعي عن الانفعالات" تحمل الإنسان على القيام بحركات وأصوات خاصة "انقباض الأسارير وانبساطها، وقوف شعر الرأس، الضحك، البكاء

إلخ" كلما قامت به حالات انفعالية معينة "الغضب، الخوف، الحزن، السرور

إلخ"، وأنها كانت متحدة عند جميع الأفراد في طبيعتها ووظائفها وما يصدر عنها، وأنه بفضل ذلك اتحدت المفردات، وتشابهت طرق التعبير عند الجماعات الإنسانية الأولى، فاستطاع الأفراد التفاهم فيما بينهم، وأنه بعد نشأة اللغة الإنساينة الأولى لم يستخدم الإنسان هذه الغريزة، فأخذت تنقرض شيئًا فشيئًا حتى تلاشت، كما انقرض لهذا السبب كثير من الغرائز الإنسانية القديمة. ومن أشهر من ذهب هذا المذهب العلامة الألماني مكس مولر1 Max Muller، والعلامة الفرنسي رينان Rena 2.

وقد اعتمد مكس مولر في تأييد هذه النظرية على أدلة مستمدة من البحث في أصول الكلمات في اللغات الهندية الأوربية3؛ فقد ظهر له أن مفردات هذه اللغات جميعها ترجع إلى خمسمائة أصل مشترك، وأن هذه الأصول تمثل اللغة الأولى التي انشعبت منها هذه الفصيلة، فهي لذلك تمثل اللغة الإنسانية في أقدم عهودها. وتبين له من تحليل هذه الأصول أنها تدل على معانٍ كلية، وأنه لا تشابه مطلقًا بين أصواها، وما تدل عليه من فعل أو حالة.

ففي دلالتها على معانٍ كلية برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية الأولى لم تكن نتيجة تواضع واتفاق، كما يذهب إلى ذلك أصحاب النظرية الثانية السابق ذكرها؛ لأن التواضع فضلًا عن تعارضه مع طبيعة النظم الاجتماعية كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، يتوقف هو

1 انظر ترجمته في التعليق الخامس بصفحة 55.

2 انظر ترجمته في التعليق الثاني بصفحة 56.

3 هي إحدى الفصائل التي ترجع إليها اللغات الإنسانية، كما سيأتي الكلام على ذلك بتفصيل في الفصل الثاني من الباب الثاني.

ص: 100

نفسه على وسيلة يتفاهم بها المتواضعون، وهذه الوسيلة لا يعقل أن تكون اللغة الصوتية؛ لأن المفروض أن المتواضَعَ عليه هو أول ما نطق به الإنسان من هذه اللغة، ولا يعقل كذلك أن تكون لغة الإشارة؛ لأننا بصدد ألفاظ تدل على معانٍ كلية، أي: على أمور معنوية يتعذر استخدام الإشارة الحسية فيها.

وفي عدم وجود تشابه بين أصواتها وما تدل عليه، برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية لم تنشأ من محاكاة الإنسان لأصواته الطبيعية -أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات- وأصوات الحيوانات والأشياء، كما يذهب إلى ذلك أصحاب النظرية الرابعة التي سنتكلم عنها قريبًا.

وإذا بطل أن اللغة الإنسانية كانت نتيجة تواضع، وبطل كذلك أنها نشأت عن محاكاة لأصوات الإنسان الطبيعية وأصوات الحيوانات والأشياء، لم يبق إذن تفسير معقول لهذه الظاهرة غير التفسير السابق ذكره، وهو أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة زود بها الإنسان في الأصل؛ للتعبير عن مدركاته بأصوات مركبة ذات مقاطع، كما زود باستعداد فطري للتعبير عن انفعالاته بحركات جسمية وأصوات بسيطة1.

وهذه النطرية -على ما فيها من دقة وطرافة وعمق في البحث- فاسدة من عدة وجوه:

1-

فهي لا تحل شيئًا من المشكلة التي نحن بصددها، بل تكتفي بأن تضع مكانها مشكلة أخرى أكثر منها غموضًا، وهي مشكلة "الغريزة الكلامية".

2-

هذا إلى أن ما تقرره يعتبر -من بعض الوجوه- من قبيل

1 Max Muller Science du Langage 9e Lecon.

ص: 101

تفسير الشيء بنفسه، فكل ما تقوله يمكن تلخيصه في العبارة الآتية:"إن الإنسان قد لفظ أصواتًا مركبة ذات مقاطع ودلالات مقصودة؛ لأنه كانت لديه قدرة على لفظ هذا النوع من الأصوات". وهذا، كما لا يخفى، مجرد تقرير للمشكلة نفسها في صيغة أخرى.

3-

على أن قدرة الإنسان الفطرية أو المكتسبة على لفظ هذا النوع من الأصوات ليست موضوع البحث؛ لأنه من المقرر أن الإنسان مزود بأعضاء نطق تسمح له بلفظ هذا النوع من الأصوات، بل إن هذا مشترك بين الإنسان وبعض الطيور -كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، وإنما الذي يهمنا هو الوقوف على أول مظهر لاستغلال هذه القدرة والانتفاع بها في تكوين الكلام الإنساني، أي: البحث عن الأسلوب الذي سار عليه الإنسان في مبدأ الأمر في وضع أصوات معينة لمسميات خاصة، والكشف عن العوامل التي وجهته إلى هذا الأسلوب دون غيره.

4-

ولكن أكبر خطأ وقعت فيه هذه النظرية هو ذهابها إلى أن الأصول الخمسمائة -السابق ذكرها- تمثل اللغة الإنسانية الأولى، فهذه الأصول -كما تقدم- تدل على معانٍ كلية، ومن الواضح أن إدراك المعاني الكلية يتوقف على درجة عقلية راقية، لا يتصور وجود مثلها في فاتحة النشأة الإنسانية، وها هي ذي الأمم البدائية التي تُعَدُّ أصدق ممثل للإنساية الأولى تؤيد ما نقول؛ فقد أجمع علماء الأتنوجرافيا الذين قاموا بدراسة هذه الأمم بأمريكا وأستراليا وإفريقيا وغيرها، على ضعف عقلياتها بهذا الصدد وعجزها عن إدراك المعاني الكلية في كثير من مظاهرها. وقد كان لهذه العقلية صدًى كبير في لغاتها، فلا نكاد نجد في كثير منها لفظ يدل على معنًى كلي؛ ففي لغة الهنود الحمر مثلًا، يوجد لفظ للدلالة على شجرة البلوط الحمراء، وآخر للدلالة على شجرة البلوط السوداء

وهكذا، ولكن لا يوجد أيَّ لفظ للدلالة على شجرة البلوط، ومن باب أولى لا يوجد أيًّ لفظ للدلالة على الشجرة على

ص: 102

العموم1، وفي لغة الهورونيين Hurons "من السكان الأصليين لأمريكا الشمالية" يوجد لكل حالة من حالات الفعل المتعدي لفظ خاص بها، ولكن لا يوجد للفعل نفسه لفظ يدل عليه، فيوجد لفظ للتعبير عن الأكل في حالة تعلقه بالخبز، ولفظ آخر للتعبير عنه في حالة تعلقه باللحم، وثالث في حالة تعلقه بالزبد، ورابع في حالة تعلقه بالموز، وهكذا، ولكن لا يوجد فعل ولا مصدر للدلالة على الأكل على العموم، أو الأكل في زمن ما2. ولغة السكان الأصليين لجزيرة تسمانيا Tasmenis "بقرب أستراليا" لا يوجد من بين مفرداتها لفظ يدل على الصفة، فإذا أرادوا وصف شيء لجئوا إلى تشبيه بآخر مشتمل على الصفة المقصودة، فيقولون مثلًا "فلان كشجرة كذا" إذا أرادوا وصفه بالطول3.

ولذلك يرى المحدثون من علماء اللغة أن الأصول الخمسمائة -السابق ذكرها- لا تمثل في شيء اللغة الإنسانية الأولى كما يذهب إلى ذلك مكس مولر، بل إنها بقايا لغة حديثة قطعت شوطًا كبيرًا في سبيل الرقي والكمال، ولم تصل إليها الأمم الإنسانية إلّا بعد أن ارتقت عقلياتها ونهض تفكيرها، ويذهب بعضهم إلى أبعد من هذا، فيقرر أنها مجرد أصول نظرية، وأنها لم تكن يومًا ما موضوع لغة إنسانية4.

النظرية الرابعة: تقرر أن اللغة الإنسانية نشأت من الأصوات الطبيعية "التعبير الطبيعي عن الانفعالات، أصوات الحيوان، أصوات مظاهر الطبيعة، الأصوات التي تحدثها الأفعال عند وقوعها؛ كصوت الضرب والقطع والكسر

إلخ" وسارت في سبيل الرقيّ شيئًا فشيئًا تبعًا لارتقاء العقلية الإنسانية وتقدم الحضارة واتساع نطاق الحياة

1 Ribot Evolutiln des ldees Generales p 110

2 Ribot op cit 173 174

3 Ribot op cit 204 et suiv

4 هذا هو رأي الأستاذين سيس وبريال Sayce Breal، انظر في ذلك Ribot op cit 81-82.

ص: 103

الاجتماعية وتعدد حاجات الإنسان

وما إلى ذلك، وقد ذهب إلى هذا الرأي معظم المحدثين من علماء اللغة، وعلى رأسهم العلامة وتنى1 Whitey، وذهب إلى مثله من قبل هؤلاء كثير من فلاسفة العصور القديمة، ومن مؤلفي العرب بالعصور الوسطى؛ فقد تحدث عنه ابن جني، المتوفى عام 392هـ، أي: من نحو ألف سنة، في كتابه الخصائص في أسلوب يدل على قدمه وكثرة القائلين به من قبله2.

فبحسب هذه النظرية يكون الإنسان قد افتتح هذه السبيل بمحاكاة أصواته الطبيعية التي تعبر عن الانفعالات؛ كأصوات الفرح والحزن والرعب وما إليها، ومحاكاة أصوات الحيوان ومظاهر الطبيعة والأشياء؛ كدوي الريح وحنين الرعد، وخرير الماء، وحفيف الشجر، وجعجعة الرحى، وقعقعة الشنان، وصرير الباب، وصوت القطع والضرب

وهلم جرَّا. وكان يقصد من هذه المحاكاة التعبير عن الشيء الذي يصدر عنه الصوت المحاكى ما زود به من قدرة على لفظ أصوات مركبة ذات مقاطع، وكانت لغته في مبدأ أمرها محدودة الألفاظ، قليلة التنوع، قريبة الشبه بالأصوات الطبيعية التي أخذت عنها، قاصرة عن الدلالة على المقصود، ولذلك كان لابد لها من ساعد يصحبها؛ فيوضح مدلولاتها، ويعين على إدراك ما ترمي إليه، وقد وجد الإنسان خير مساعد لها في الإشارات اليدوية والحركات الفطرية التي تصحب الانفعالات، فكان في مبدأ أمره مجرد محاكاة إرادية لهذه الحركات، ثم توسع الإنسان في

1 انظر بعض مظاهر نشاطه العلمي ومؤلفاته، بصفحة 65 والتعليق الأول من تعليقاتها.

2 انظر الجزء الأول من الخصائص صفحتي 44، 45:"وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعة؛ كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج البغل، ونهيق الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي، ثم تولدت اللغات عن ذلك فيما بعد، وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل".

ص: 104

استخدامه؛ فحاكى به أشكال الأشياء وحجومها وصفاتها، وما إلى ذلك، فازدادت أهميته في الحديث، وسد فراغًَا كبيرًا في اللغة الصوتية، ثم أخذت هذه اللغة يتسع نطاقها تبعًا لارتقاء التفكير، واتساع حاجات الإنسان ومظاهر حضارته، وتستغني شيئًا فشيئًا عن مساعدة الإشارات، وتبعد عن أصولها تأثير عوامل كثيرة؛ كالتطورات الطبيعية التي تعتور الصوت وأعضاء النطق الإنساني، وكعلاقات المجاورة والمشابهة التي تعتور الدلالات

وما إلى ذلك من الأمور التي سنعرض لها بتفصيل في الباب الثاني من هذا الكتاب.

وهذه النظرية هي أدنى نظريات هذا البحث إلى الصحة، وأقربها إلى المعقول، وأكثرها اتفاقًا مع طبيعة الأمور وسنن النشوء والارتقاء الخاضعة لها الكائنات وظواهر الطبيعة الاجتماعية، وهي إلى هذا وذاك تفسر المشكلة التي نحن بصددها، وهي الأسلوب الذي سار عليه الإنسان في مبدأ الأمر في وضع أصوات معينة لمسميات خاصة، والعوامل التي وجهته إلى هذا الأسلوب دون غيره، ولم يقم أيّ دليل يقيني على خطئها، ولكن لم يقم كذلك أيَّ دليل يقيني على صحتها، وكل ما يذكر لتأييدها لا يقطع بصحتها، وإنما يقرب تصورها ويرجح الأخذ بها.

ومن أهم أدلتها أن المراحل التي تقررها بصدد اللغة الإنسانية تتفق في كثير من وجوهها مع مراحل الارتقاء اللغوي عند الطفل؛ فقد ثبت أن الطفل في المرحلة السابقة لمرحلة الكلام، يلجأ في تعبيره الإرادي إلى محاكاة الأصوات الطبيعية "أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات، أصوات الحيوان، أصوات مظاهر الطبيعة والأشياء.." فيحاكي الصوت قاصدًا التعبير عن مصدره، أو عن أمر يتصل به، وثبت كذلك أنه في هذه المرحلة وفي مبدأ مرحلة الكلام يعتمد اعتمادًا جوهريًّا في توضيح تعبيره الصوتي على الإشارات اليدوية والجسمية، ومن المقرر أن المراحل التي يختارها الطفل في مظهر ما من مظاهر حياته تمثل المراحل التي

ص: 105