المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ اختصاص الإنسان باللغة ومراكزها: - علم اللغة

[علي عبد الواحد وافي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌إطراء مجمع اللغة العربية لكتابي علم اللغة وفقه اللغة

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌تمهيد في التعريف بعلم اللغة

- ‌ البحوث اللغوية وما يدخل منها تحت علم اللغة:

- ‌ أغراض علم اللغة:

- ‌ قوانين العلوم:

- ‌ قوانين علم اللغة:

- ‌ قوانين "الفونيتيك" وقوانين "السيمنتيك

- ‌ الشعبة التي ينتمي إليها علم اللغة:

- ‌الانتفاع ببحوث علم اللغة من الناحية العلمية

- ‌ علاقة علم اللغة بما عداه من البحوث:

- ‌ مناهج البحث في علم اللغة:

- ‌ تاريخ البحوث اللغوية:

- ‌ موضوعات هذا الكتاب:

- ‌الباب الأول: نشأة اللغة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: نشأة اللغة عند الإنسان

- ‌ أنواع التعبير الإنساني:

- ‌ اختصاص الإنسان باللغة ومراكزها:

- ‌ نشأة الكلام:

- ‌ نشاة مراكز اللغة:

- ‌ المراحل الأولى التي اجتازتها اللغة الإنسانية:

- ‌الفصل الثاني: نشأة اللغة عند الطفل

- ‌ أنواع الأصوات في الطفولة، وأساس كل منها:

- ‌ أنواع التعبير في الطفولة:

- ‌ المراحل التي يجتازها الطفل في أصواته وتعبيراته:

- ‌ عوامل كسب الطفل للغة:

- ‌ أثر النظر في التقليد اللغوي:

- ‌ أساس التقليد اللغوي عند الطفل:

- ‌مبلغ تمثيل الطفل في ارتقائه اللغوي لنشأة الغة الإنسانية وتطورها

- ‌الباب الثاني: حياة اللغة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: تفرع اللغة إلى لهجات ولغات

- ‌ انتشار اللغة وأسبابه:

- ‌ تفرع اللغة إلى لهجات ولغات نتيجة لازمة لسعة انتشارها:

- ‌ اللهجات المحلية وصراعها بعضها مع بعض

- ‌ نشأة لغة الدولة أو لغة الكتابة:

- ‌ اختلاف مناحي الفصحى باختلاف فنون القول:

- ‌ اختلاف اللهجات في البلد الواحد باختلاف طبقات الناس وفئاتهم:

- ‌ اختلاف لهجة الرجال عن لهجة النساء:

- ‌الفصل الثاني: فصائل اللغات وخواص كل فصيلة منها وما بينها من صلات:

- ‌ أشهر الآراء في فصائل اللغات:

- ‌ الفصيلة الأولى: الهندية الأوربية

- ‌ الفصيلة الثانية: الحامية - السامية:

- ‌الفصيلة الثالثة: اللغات الطورانية

- ‌ بعض ما تختلف فيه الفصيلتان السامية، والهندية - الأوربية:

- ‌ وجوه الشبه بين الفصيلتين السامية

- ‌الفصل الثالث: صراع اللغات

- ‌ نظرة عامة في عوامله وآثاره في حياة اللغة:

- ‌ العامل الأول: نزوح عناصر أجنبية إلى البلد

- ‌ العامل الثاني من عوامل الصراع اللغوي:

- ‌ عوامل أخرى للاحتكاك اللغوي:

- ‌الفصل الرابع: التطور اللغوي العام

- ‌مدخل

- ‌ انتقال اللغة من السلف إلى الخلف، وأثره في التطور اللغوي:

- ‌ تأثر اللغة باللغات الأخرى تبادل المفردات بين اللغات:

- ‌ العوامل الأدبية المقصودة:

- ‌الفصل الخامس: أصوات اللغة حياتها وتطورها

- ‌خواص التطور الصوتي وعوامله

- ‌ التطور الطبيعي المطرد لأعضاء النطق

- ‌ اختلاف أعضاء النطق باختلاف الشعوب:

- ‌ الأخطاء السمعية:

- ‌ تفاعل أصوات الكلمة بعضها مع بعض:

- ‌ موقع الصوت في الكلمة

- ‌ تناوب الأصوات وحلول بعضها محل بعض:

- ‌الفصل السادس: الدلالة وتطورها

- ‌أنواع التطور الدلالي

- ‌ خواص التطور الدلالي ومناهجه:

- ‌ عوامل التطور الدلالي:

- ‌أهم المراجع

- ‌أولا: المراجع العربية

- ‌ثانيا: أهم المراجع الأفرنجية

- ‌الفهرس:

- ‌تعقيب:

الفصل: ‌ اختصاص الإنسان باللغة ومراكزها:

مظاهر التعبير من جهة، ولأننا قد نحتاج إليها من جهة أخرى في بيان نشأة هذا النوع، أو في ضرب الأمثال أو الموازنة، أو مناقشة النظريات وتوضيحها.

ويمتاز هذا النوع بأربع خصائص: فهو مُكْتَسَبٌ لا فطريّ، وهو إرادي، أي: يصدر عن قصد لا عن طريق آلي، وهو يتمثل في أصوات مركبة ذات مقاطع تتألف منها كلمات وجمل لا في أصوات مبهمة، وهو يعبر عن معان في الذهن لا عن انفعالات تتلبس بها النفس أو يتلبس بها الجسم.

ص: 87

2-

‌ اختصاص الإنسان باللغة ومراكزها:

تشترك معظم فصائل الحيوان مع الإنسان في القسم الأول من قسمي التعبير السابق ذكرهما، وهو التعبير الطبيعي عن الانفعالات، سواء في ذلك التعبير الطبيعي البصري والتعبير الطببيعي السمعي، فانفعالات الحيوان جسميها ونفسيها، كالجوع والعطش والسرور والفرح والخوف والاطمئنان والحزن والاشمئزاز والغضب

وما إلى ذلك، يثير كل منها لدى المتلبس به طائفة خاصة من الحركات الفطرية غير المقصودة، وهذه الحركات: بعضها بصري، أي: يصل عن طريق حاسة النظر، كاتساع الحدقة وضيقها، وبسط الأذنين وخفضهما، والتكشير عن الناب، ووقوف الشعر، وانتفاخ الجسم والأوداج، والهرب، والاختفاء، وما إلى ذلك، وبعضها سمعي، أي: يتمثل في صوت يصل عن طريق الأذن، كرغاء الناقة وبغامها، وصهيل الفرس، وقبعة1 عند نفوره من شيء، وحمحمته عند الجوع أو الاستئناس، وشحيج البغل، ونهيق الحمار، وخوار البقر، وثغاء الغنم، وزئير الأسد، وعواء الذئب وتضوره، وتلعلعه عند جوعه، ونباح الكلب

1 صوت يردده الفرس من منخره إلى حلقه عند نفوره من شيء.

ص: 87

وضغاؤه إذا جاع، ووقوقته إذا خاف، وهريره إذا أنكر شيئًا أو كرهه، وضباح الثعلب، ومواء الهرة، وضحك القردة، وصرصرة البازي، وقعقعة الصقر، وهدير الحمام، وسجع القمري، وزقزقة العصفور، ونعيق الغراب، وفحيح الحيات وكشيشها وحفيفها عند تحرش بعضها ببعض إذا انسابت، ونقيق الضفدع

وهلم جرا1.

وتشترك كذلك بعض فصائل الحيوان مع الإنسان في التعبير الإرادي البصري، وهو التعبير بالإشارة، ويبدو هذا على الأخص لدى الحيوانات التي تعيش جماعات كالنحل والنمل والقردة والبقر والغنم والوعول وما إليها ، فقد ثبت أن كثيرًا من هذه الفصائل وغيرها تستخدم أحيانًا بعض إشارات جسمية للتعبير بها بشكل مقصود عن بعضه شئونها؛ ففحل الأوعال "الأيل" يستخدم في أثناء قيادة قطيعة بعض إشارات برأسه وقرونه للوقوف، فيقف جميع أفراد القطيع، وبعض إشارات للسير فيسير جميع القطيع، ويستحث المتخلفات بأن ينطح كلًّا منها نطحًا خفيفًا. ويستخدم الأذكياء من الكلاب مع أفراد فصيلتها ومع الآدميين بعض إشارات بالرأس وغيرها للتعبير بطريق إرادي عن أمور خاص، كأن تمر بأظافرها على الباب ليفطن أصحابها إلى وجودها فيفتحوا لها، أو تدفع إناء طعامها برأسها للتعبير عن حاجتها إلى الغذء

وهلم جرا. وتستخدم كذلك فصائل القردة، وبخاصةٍ الفصائل العليا منها -الغوريلا، الشمبنزية، الجيبون، الأورانج، أوتانج- وفصائل النحل والنمل بعض إشارات من هذا القبيل؛ فقد كشف العلامة كوهلر Kohler عن ظواهر كثيرة من هذا النوع عند فصائل القردة العليا، منها ما يعمله الشمبنزية حينما يريد أن يرافقه آخر في طريقه، أو يرغب أن يعطيه أحد زملائه شيئًا مما في يده، أو يطلب نداءه عن بعد؛ فإنه في الحالة الأولى يحتك به بخفة ويجذبه من ذراعه محدقًا فيه ومتقدمًا بعض خطوات في الطريق

1 انظر في هذه الأصوات وغيرها "فقه اللغة" للثعالبي 209-212 طبعة بيروت.

ص: 88

التي يود أن يسلكها معًا، وفي الحالة الثانية يمد يده إلى زميله مد الاستجداء، وفي الحالة الثالثة يمد يده ويقبض كفه ويبسطها كما نفعل نحن في مثل هذه المناسبة1. وقرر الأساتذة كيربي وسبنسر وبورميستر وهوبير وفرانكليز Kirby، Spencer، Burmeister، Huber، Franklin، أن كثيرًا من طوائف النحل والنمل يستخدم أفرادها، بعضها مع بعض، إشارات مقصودة للتعبير بها عن بعض شئونها، وأن هذه الإشارات تتمثل في احتكاك بعض أعضاء المتكلم أو أطرافه أو ذؤاباته بجزء من جسم المخاطب بطريقة خاصة. وقام العلامة لوبوك Lubock بهذا الصدد بطائفة كبيرة من التجارب، فتبين له صدق ما ذهب إليه هؤلاء الباحثون2.

وقد نشر الأستاذ "ألن ديفو" في مجلة "نيتشر مجازين" مقالًا تحت عنوان: "لغة الحيوان في الغاب" يتضمن حالات كثيرة من هذا النوع، وفيما يلي بعض مقتطفات من هذا المقال الطريف3:

"إذا وجدت النحلة العاملة زهرة حافلة بالرحيق، عادت طائرة إلى الخلية، ثم تشرع ترقص محومة في الفضاء رقصًا غريبًا خاصًّا يدل دلالة واضحة على معنى رسالتها المستعجلة، فيفهم سائر النحل فحوى هذا العمل، فإذا به ينضم إليها واحدة في أثر واحدة، ثم لا يلبث الجمع أن يندفع كله قاصدًا ينبوع هذا الرحيق، وإذا أراد الحجل أن ينذر قومه بالخطر طار مسرعًا مسافة قصيرة متنقلًا من شجرة إلى شجرة، وهو يصفق بجناحية تصفيقًا شديدًا، وأنثى الدببة إذا أرادت أن يسرع إليها ولدها نازلًا من أعلى شجرة تسلقها ضربت بكفها جذع

1 انظر كوهلر: "ذكاء الفصائل العليا من القردة" صفحة 294 وتوابعها:

Kohler: lntelligence des Singes Superieurs

2 انظر ريبو: "تطور المعاني الكلية" صفحتي 66، 67، وانظر كذلك لوبوك: النمل والنحل والزنابير" Lubbock "Ants Bees and Wasps.

وانظر كذلك رومان "الذكاء الحيواني"Romanes: 'Animal lnteligence".

3 نقلًا عن مجلة "المختار" الصادرة في شهر أكتوبر سنة 1947، وقد لخصت هذه المجلة المشار إليه.

ص: 89

الشجرة. وأنثى الظباء إذا أرادت أن تقول لحشفها: "اتبعني"، شالت بذيلها الكث رمة واحدة حتى يرى بياضه الباطن. ومن أعجب أساليب التفاهم بين الحيوان هو أسلوب الحديث بين الطائر الذي يسمى "الهادي إلى العسل" والحيوان المعروف باسم "أبو كعب" أو آكل العسل، فهذا الطائر يحب أكل يرقات النحل حين تكون كالدود، وآكل العسل منهوم بحب العسل، والطائر الهادي إلى العسل لا قبل له بالتغلب على جماعات النحل الساخطة، أما آكل العسل فهو قصير الرجلين، فلا يستطيع أن يقطع المسافات الطويلة بحثًا عن خلايا النحل، فنرى الهادي إلى العسل يطير مطوفًا في أنحاء الغابة باحثًا عن شجرة فيها خلية نحل، ثم يرتد مسرعًا إلى ذلك القابع الصابر فيحوم فوق رأسه، وهو يقول له بصوت رفيع عالٍ:"شر، شر" ويدلف آكل العسل متثاقل الخطو على أثر الطائر المرفرف بجناحيه، ولما كان هذا الحيوان في وقاء من جلده الكثيف الشعر فلا يضره لسع النحل، فهو يهجم على الخلية ويمزقها إربًا إربًا، ثم يجتمع هو والطائر على المائدة الشهية. ونحل الشجر في المناطق الاستوائية يتكلم، فينتقل كلامه من شجرة إلى شجرة، وذلك بأن يدق دقًّا شديدًا على لحاء الشجر وورقه، حتى يسمع لدقه صوت كأنه صوت انهمار رذاذ من مطر. أما أسراب الفيلة فلا تكف لحظة عن غمغمة تسمع من حديث أو إشارة، وهي لغة أداتها الإشارة بالآذان والخراطيم".

وذكر الفنان والت ديزني أن الجماعتين من الآيائل الأمريكية المتشعبة القرون، تتبادل الإشارات وهي على البعد، وتستخدم في هذا الغرض ذيولها البيضاء، وأنه إلى جانب هذه الإشارات تذيع كل جماعة رسالة إلى الجماعة الأخرى، ولا تلبث كلٌّ منهما أن تتحقق أن الجماعة الأخرى من بني جلدتها1.

1 انظر جريدة الأهرام في 7/ 11/ 64.

هذا، وقد أنكر بعض العلماء وجود الإشارات ذات الدلالة المقصودة عند الحيوانات، ومن هؤلاء العلامة واسمان Wasmann، الذي يرى أن كل الإشارات الحيوانية التي يخيل إلى الإنسان أنها من هذا النوع هي في الحقيقة فطرية، وأنها لا تدل المخاطب على شيء=

ص: 90

وأما النوع الأخير من أنواع التعبير التي ذكرناها في الفقرة

= معين، بل تقتصر على إثارة نشاطه في ناحية يحددها العمل الذي سيتلو الإشارة. وتابعه في هذا أستاذي العلامة دولا كروا، انظر دولا كروا "اللغة والفكر" صفحة 75 وتوابعها.

هذا، وقد كشف بعض الباحثين أنواعًا أخرى غريبة من التفاهم بين الحيوان؛ فمن ذلك ما يمكن تسميته التفاهم بالرائحة؛ فقد ذكرعلماء الحيوان أن الذئب إذا زاد طعامه عن حاجته دفن جزءًا منه في التراب، وخلَّف هناك شيئَا من رائحته عالقًا بالمكان، فيفهم سائر الذئاب فحوى رسالته حق الفهم، والذئب يفصح عن نفسه مرةً بعد أخرى بأن يخلف رائحته حيث يريد، فتفهما الذئاب أجود الفهم، كما يفهم الرحالة من الناس إذا قرأ مذكرات كتبها رجل سبقه إلى هذه الرحلة. والذئاب والثعالب، وهي في الحقيقة من فصيلة الكلاب، تعيش في عالم لا تعد أرضه أرضًا فحسب، بل هي أرض مفعمة بالرائحة المعبرة. ويقول الأستاذ ف. بايتندجك الهولندي، الذي تولى التجارب الشهيرة في دراسة نفسية الكلاب:"إن الكلب مشغول أبدًا بحديثٍ لا ينقطع بينه وبين سائر الكلاب التي في ناحيته عن طريق الشم".

"مجلة المختار، عدد أكتوبر سنة 1947".

وأغرب أنواع التفاهم بين الحيوان، هو ما يكون بغير صوت ولا رائحة ولا إشارة ولا أية حركة أخرى، وفي هذا النوع يقول الأستاذ ألن ديفو:"وقد ذهب بعض علماء الحيوان إلى أنه ضرب من الاستشفاف "تليباثي". وذهب آخرون إلى أنه ليس إلّا ضربًا من الحواس اللطيفة التي بلغ لطفها مبلغًا تعجز عن إدراكه حواس الإنسان، وينكر آخرون ذلك كله إنكارًا باتًّا، وأستطيع أنا أن أروي غير متحيز إلى فئة خبر هرتين عندي، هما "سيم" و"سام" بينهما علاقة لا تنفصم من الأخوة والود، وهما لا يختلفان ولا يفترقان إلّا في شيء واحد: فإن "سيم" يحب الخروج إلى الصيد، أما "سام" فيحب الكسل، فيقضي الساعات قابعًا في البيت، ولكن بعد الشقة بيهما حين يفترقان، لا يمنع فيما يظهر أن يظل بينهما ضرب من التفاهم والاتصال، فقد يخرج "سيم" أحيانًا يتصيد، فيغيب نصف يوم، وإذا بي أرى "سام" يهب من مضجعه على مكتبي يقظان فزعًا، ويرفع أذنيه متلهفًا، ويمل برأسه كالمنصف المصغي، وما هو إلّا أن يعدو نحو الباب، فإذا فتحت له الباب انطلق كأنه سهم مقذوف إلى الحقول تارةً، وإلى الغابة تارةً أخرى. لو بدا لي أن أخرج في أثره لما خامرني ريب فيما سوف أجد؛ فهذا الصياد "سيم" قد ولى وجهه شطر البيت ومعه صيد صاده لساعته، فعرف "سام" خبر صاحبه، وإن كنت لا أدري كيف عرف، قد تقول إنه عجب لا يصدق، نعم ربما كان كما تقول! ولكن ما أكثر ما نجهل مما يدور في طوايا حواس الحيوانات ونفوسها، حتى لنرى أن أكثر العلماء علمًا وتجربة لا يصر إصرار العنيد على إنكار اللغة الصامة التي يتفاهم بها حيوان الغاب، أيًّا كانت طبيعة تلك اللغة. "مجلة المختار عدد أكتوبر 1947-ص48". ومن هذا الننع كذلك ما دونه الأستاذ ألن ديفو عن الثعالب؛ إذا يقول: "وقفت مستترًا ببعض الشجر أرقب ثلاثة من صغار الثعالب تلعب، وأمهن على الوجار تتبعهن البصر راضية مطمئنة، فإذا بصغير يعدو موغلًا في المرج، وكان أصغر من أن يباح له أن يخرج وحيدًا يطوف في أرجاء هذا العالم. فاستوت الأم قائمة، وسددت أنفها إلى الناحية التي ذهب فيها، وبقيت على هذه الهيئة ساكنة صامتة لا تتزحزج، ولم يند عنها صوت يسمح، ولكن لم ألبث قليلًا حتى رأيت الصغير عائدًا أدراجة

ص: 91

السابقة، وهو اللغة بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، أي: الأصوات المركبة ذات المقاطع التي تتألف منها الكلمات، فيظهر أن الإنسان قد اختص بها من سائر الفصائل الحيوانية، حقًّا إن بعض طوائف الحيوان تصدر عنه أصوات شبيهة في ظاهرها بهذا النوع من التعبير، ولكن بالتأمل في هذه الأصوات يتبين أنها عارية عن خصائص اللغة في صورتها الصحيحة، وأنها ترجع إلى فصيلة أخرى من فصائل الأصوات، وسنعرض فيما يلي لأهم ما يبدو عند الحيوان من هذا القبيل، معقبين على كل مظهر منها بما يبين وجوه الفرق بينه وبين اللغة الصوتية بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة.

يرجع أهم ما يلفظه الحيوان من هذه الأصوات إلى ثلاثة طوائف:

الطائفة الأولى: أصوات فطرية الأصل، يستخدمها الحيوان قاصدًا بها التعبير عن بعض شئونه؛ كالحمحمة التي يرددها الفرس بشكل إرادي عند رؤية صاحبه للتعبير عن حاجته إلى العلف، والمواء الذي يلجأ إليه الهر لينبئ به عن جوعه، والنباح الذي يلفظه الكلب قاصدًا به إيقاظ أهل المنزل، أو إرشادهم إلى أن شخصًا يحوم حوال البيت

وهلم جرا.

وهذه الطائفة ليست في الواقع من اللغة الصوتية في شيء، وأن أشبهتها في ظاهرها ووظيفتها، وذلك أنها أصوات مبهمة عارية عن المقاطع والكلمات، وغير متميزة العناصر، ومن أهم خصائص الكلام كما لا يخفى اشتماله على مقاطع وكلمات وتميز عناصره بعضها من بعض. هذا إلى أنها في الأصل أصوات فطرية تصحب الانفعالات، وأن كل ما يعمله الحيوان حيالها في هذه الحالة هو أن يرددها هي نفسها بشكل إرادي للدلالة على الانفعالات نفسها التي تعبر عنها في شكلها الفطري، أو للدلالة على أمور انفعالية قريبة منها "الجوع، العطش، الخوف

إلخ". وأصوات هذا شأنها لا يصح عدها

فتلفت يمنه ويسرة، ثم سدد بصره إلى أمه، فلم تحول بصرها عنه، وإذا بالصغير يسرع إلى وجاره كأنما كانت تجذبه بخيط لا تراه العين".

"مجلة لمختار عدد أكتوبر سنة 1947ص45".

ص: 92

كلامًا؛ لأن أهم خصائص الكلام أنه أصوات موضوعة للدلالة، وأنه يعبر به عن معانٍ لا عن انفعالات1.

الطائفة الثانية: أصوات متنوعة تلفظها القردة في اجتماعاتها بطريقة يتبادر منها إلى الذهن أنها وسائل تعبير إرادي، وأن أفراد القردة تتجاذب بها الحديث بعضها مع بعض. وتبدو هذه الظاهرة بشكل واضح في الفصائل العليا مع القردة، وبخاصة طائفة "الجيبون"2.

وهذه الطائفة كذلك ليست في الواقع من اللغة الصوتية في شيء، وأن أشبهتها في ظاهرها ومناسبات استخدامها. فقد ظهر بالبحث فيها أن بعضها تعبير طبيعي عن الانفعال، وبعضها مجرد ترديد إرادي لهذا التعبير3، وبعضها من ظواهر التداعي الآلي4 أو العدوى الصوتية5، أو تقليد الحيوان بطريق فطري غير إرادي لأصوات نفسه أو أصوات غيره6.-هذا إلى أنها- على الرغم من تنوعها، وعلى الرغم من تشابه أعضاء النطق عند فصائل القردة وأعضاء النطق الإنسانية- أصوات مبهمة بسيطة عارية عن المقاطع والكلمات وغير متميزة العناصر.

1 يبدو كذلك هذا النوع من الأصوات عند الطفل الإنساني في شهوره الأولى، كما سنذكر ذلك في الفصل الثاني من هذا الباب، وقد رأينا تسمية هذا النوع عند الطفل "الأصوات الوجدانية الإرادية". وقد يلجأ الكبار أنفسهم أحيانًا لهذا النوع من التعبير فيضحكون مثلًا متكفلين الضحك للتعبير عن السرور.

2 ولهذه الأمور وما شاكلها، ذهب بعض العلماء إلى أن للقردة لغة تتألف من اثنتين وثلاثين كلمة، ويذهب الدكتور أرثر جرينهول، المدير العام لحدائق الحيوان في ديترويت إلى أن الحيوانات الوحيدة التي تصدر عنها أصوات تشبه اللغة هي الشمبانزي "انظر جريدة الأهرام في عددها الصادر يوم 8/ 12/ 48".

3 أي: من الأصوات التي سبق ذكرها في الطائفة الأولى.

4 وذلك أن يرتبط الصوت بشيء آخر بطريقة تجعله يظهر بشكل غير إرادي كلما ظهر هذ الشيء، وسيأتي بيان ذلك بتفصيل في الطائفة الثالثة.

5 تبدو ظاهرة العدوى الصوتية عند كثير من أنواع الحيوانات، وتبدو كذلك عند الأطفال إذا صمم مكان واحد: يصوت الوليد منهم فيثير صوته أصوات الآخرين، ويبكي أحدهم فيبكي لبكائه الباقون "انظر تفصيل هذا بكتابي "عوامل التربية" صفحة 184 وتوابعها.

6 سيأتي شرح هذا في الطائفة الثالثة.

ص: 93

وقد تقدَّم1 أن من أهم خصائص الكلام اشتماله على مقاطع وكلمات، وتميز عناصره بعضها من بعض2.

الطائفة الثالثة: أصوات مركبة ذات مقاطع تلفظها بعض الطيور؛ كالببغاء، وما إليها من الفصائل التي امتازت أعضاء صوتها بخصائص طبيعية تتيح لها إخراج هذا النوع.

وهذه الطائفة كذلك ليست في الواقع من اللغة الصوتية في شيء، وإن أشبهتها في الظاهر. وذلك أن الطائر لا يقصد بهذه الأصوات التعبير، فهي تصدر عنه في ثلاث حالات كلها فطرية آلية عارية بتاتًا عن هذا القصد:

الحالة الأولى: حينما يكون الطائر متلبسًا بانفعال جسمي أو نفسي، وهي في هذه الحالة من نوع التعبير الطبيعي عن الانفعالات، تصدر عن غير قصد، ويثيرها بشكل آلي الانفعال المتلبس به الطائر، وإثارتها مؤسسة على الروابط الطبيعية الفطرية التي تربط أعضاء الصوت بحالات الجسم والنفس بطريقة تجعل هذه الأعضاء تتحرك وحدها بشكل آلي أو منعكس، وتلفظ أصواتًا مركبة ذات مقاطع عند وجود حالة من الحالات الجسمية أو النفسية المرتبطة بها؛ فهي حينئذ من قبيل الضحك والبكاء، وما إليها من مظاهر "التعبير السمعي". وكل ما هنالك أن التعبير الطبيعي السمعي يبدو عند الحيوانات الأخرى في صورة أصوات بسيطة مبهمة، ويبدو عند هذه الطيور أحيانًا في صورة أصوات مركبة ذات مقاطع.

والحالية الثانية: حينما تكون محاكاة لصوت إنساني سمعه

1 انظر آخر ص86 وأول 87.

2 انظر في هذا الموضوع بحوث الأستاذ Pfungst الذي درس أكثر من مائتي قرد في حديقة الحيوان ببرلين، وبحوث Bouton الذي لاحظ في أثناء خمس سنوات نمو قرد من فصيلة الجيبون، وبحوث كوهلر الذي كتب كثيرًا في القردة، وبخاصة القردة العليا، التي ألف فيها كتابه الشهير "ذكاء القردة العليا"، وانظر ما كتبه أستاذي العلامة دولا كروا بهذا الصدد في كتابه "اللغة والتفكير" ص77 وتوابعها.

ص: 94

الطائر، وهي في هذه الحالة كذلك تصدر بشكل آلي عارٍ عن قصد التعبير، بل عن قصد المحاكاة نفسها. وذلك أن هذه الفصائل مزودة بروابط طبيعية، تربط جهاز سمعها بجهاز صوتها، بطريقة تجعل أعضاء الجهاز الثاني تتحرك أحيانًا وحدها، وتلفظ بشكل آلي الأصوات نفسها التي يحسها الجهاز الأول؛ فكلما وصل صوت إلى سمعها في ظروف خاصة انبعث صداه من أفواهها1.

والحالة الثالثة: قد تسمع الببغاء أحيانًا كلمات أو أصواتًا في مناسبة ما، فتكررها كلما حدثت هذه المناسبة أو مناسبة أخرى تشبهها بطريقة يتبادر منها إلى الذهن أنها قد تقصد بها التعبير عن أمر معين؛ فقد تسمع مثلًا أصحابها ينادون طفلًا باسمه، فتكرر هذا الاسم كلما رأت الطفل أو رأت دميته أو متاعًا من أمتعته2.

وهذه الأصوات كذلك ليست من اللغة في شيء وإن التبست بها في بادئ النظر، وذلك أن الطائر لا يقصد بها في الواقع التعبير عن أمر ما، وإنما تصدر منه بشكل غير إرادي على الصورة التي تصدر فيها ظواهر "التداعي الآلي". فمن كثرة تكرار الكلمة أمام الطائرة بحضرة الشخص أو الشيء الذي تدل عليه، يرتبط صوتها بصوت مدلولها، فينبعث الصوت من الطائر بشكل آلي كلما ظهر أمامه المدلول أو ما يتصل به3.

هذا، ولا يمتاز الإنسان بهذا الصدد عن بقية فصائل الحيوان باللغة الصوتية فحسب، بل يمتاز عنها كذلك بطائفة من المراكز المخية التي شرف على مختلف مظاهر هذه اللغة "مركز إصدار الألفاظ،

1 انظر تفصيل هذا الموضوع بمؤلفي: "عوامل التربية" صفحتي 181، 182.

2 من أهم الملاحظات بهذا الصدد ما دونه الدكتور ولكس، عضو الجمعية الملكية بصحيفة العلوم العقلية، عدد يولية سنة 1879Dr Wilks Journal of Mental Science.

3 انظر في هذا الموضوع كتابي الأستاذ رومان: "الذكاء الحيواني"، و"الارتقاء العقلي للإنسان". وانظر بحثًا بهذا الصدد للعلامة ولكس في المجلة الفلسفية لسنة 1880 Reve Philosphique. وانظر كذلك ما كتبه أستاذي العلامة دولا كروا في كتابه "اللغة والفكر" ص78.

ص: 95