الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
اللهجات المحلية وصراعها بعضها مع بعض
1:
يترتب على القانون السابق أن تختلف اللهجات في الأمة الواحدة تبعًا لاختلاف أقاليمها، وما يحيط بكل إقليم منها من ظروف، وما يمتاز به أهله من خصائص، وقد جرت عادة علماء اللغة أن يطلقوا على هذا النوع من اللهجات اسم اللهجات المحلية Dialectes Locaux، وتختلف هذه اللهجات بعضها عن بعض اختلافًا كبيرًا في المساحة التي يشغلها كل منها؛ فمنها ما يشغل مقاطعة كاملة من مقاطعات الدولة، ومنها ما تضيق منطقته فلا تشمل إلّا بضع قرى متقاربة، ومنها ما يكون وسطًا بين هذا وذاك. وكثيرًا ما تختلف هذه المناطق اللغوية في حدودها عن المناطق المصطلح عليها في التقسيم الإداري والسياسي؛ فقد تقسم القرى التي تتألف منها منطقة لغوية واحدة بين محافظتين أو أكثر، وقد يجتمع في محافظة واحدة أو مركز واحد عدد كبير من المناطق اللغوية، ولدينا نحن المصريين على ذلك شواهد كثيرة في مختلف أقاليم الصعيد والوجه البحري.
وتعمل كل لهجة من اللهجات المحلية على الاحتفاظ بشخصيتها وكيانها، فلا تدخر وسعًا في محاربة عوامل الابتداع والتغيير في داخل منطقتها، ولا تألو جهدًا في درء ما يوجه إليها من خارجها من هجمات.
أما محاربة عوامل الابتداع في داخل منطقتها، فتتم بفضل العلاقات الوثيقة التي تربط الناطقين بها بعضهم ببعض، وتربطهم ببيئتهم ومجتمعهم، وذلك أنه بقوة هذه العلاقات يقوى الضمير الجمعي، وتتأكد سيطرة النظم الاجتماعية، ويعظم نفوذها، ويشتد بطشها بالمعتدين، فكل محاولة فردية للخروج على النظام اللغوي تلقى في مجتمع قوي كهذا
1 عرضنا هنا لموضوع الصراع بين لهجات اللغة الواحدة لعلاقته الوثيقة بموضوع هذا الفصل وهو التفرع، أما الصراع بين اللغات المختلفة فهو مستقل عن موضوع التفرع، ولذلك سنعقد له فصلًا على حدة "انظر الفصل الثالث".
مقاومة عنيفة تكفل القضاء عليها في مهدها، وبذلك تتقي اللهجة ما عسى أن يوجه إليها في داخل منطقتها من محاولات الابتداع وعوامل التغيير.
وأما حمايتها من اللهجات المجاورة لها، فيرجع الفضل فيها إلى ضعف الصلات التي تربط أهلها بمجاوريهم، وقلة فرص احتكاكهم بهم، وما يبدونه في العادة من نزوع إلى العزلة والاستقلال، ويظهر هذا على الأخص في البيئات الزراعية التي تقل فيها وسائل المواصلات، وتضعف حركة انتقال الأفراد، ويكاد سكان كل منطقة يعيشون في معزل عن سكان المناطق الأخرى. حقًّا أن تزوج بعض الرجال في هذه البيئات إلى نساء من غير مناطقهم، وهجرة بعض الأفراد من بلادهم إلى البلاد المجاورة لها، كل ذلك وما إليه يجلب إلى البلد عناصر أجنبية عنه، ولكن قلة عدد من يفد من الأجانب عن هذه الطرق وما شاكلها، وانتماءهم في الأصل إلى مناطق لغوية مختلفة، ودخولهم البلد فرادى، وفي أزمنة متباعدة، وعدم وجود رابطة تربطهم بعضهم ببعض، وإقامة كل منهم بين مجموعة من الناس تختلف لهجة أفرادها عن لهجته، وما يبديه أهل المنطقة حيال لهجاتهم من سخرية وازدراء، وصعوبة فهم حديثهم أحيانًا
…
كل ذلك وما إليه لا يحول دون تأثر لهجة البلد بلهجاتهم فحسب، بل من شأنه كذلك أن يحملهم على محاكاة لسان المنطقة التي يقيمون فيها، وأما البيئات التجارية والصناعية والساحلية التي يكثر في العادة احتكاك أهلها بغيرهم، فيرجع الفضل في حماية لهجاتها إلى قلة عدد الأجانب بالنسبة إلى سكانها الأصليين، وانتمائهم إلى مناطق لغوية مختلفة، وعدم وجود رابطة تربطهم بعضهم ببعض، وقصر مدة إقامتهم؛ لأن معظمهم يفد إلى البلد في شئون لا تقتضيه إلّا إقامة ساعات أو أيام.
غير أنه قد يتاح أحيانًا للهجة محلية فرص للاحتكاك الدائم بلهجة أخرى من أخواتها، وحينئذ تشتبك اللهجتان في صراعٍ أهلي لا يختلف
كثيرًا في مظاهره وطرقه عن الصراع الذي ينشب بين لغتين مختلفتين، والذي سنعالجه في الفصل الثالث.
وينتهي هذا الصراع إلى إحدى نتيجتين؛ فأحيانًا لا تكاد إحدى اللهجتين تؤثر في الأخرى، وذلك إذا تساوى أهل المنطقتين في الثقافة والقوة والنفوذ، وأحيانًا تتأثر إحداهما بالأخرى، وذلك إذا كانت أقل منها في مظهر من المظاهر السابقة.
وتختلف درجة التأثر باختلاف الأحوال، فأحيانًا يكون يسيرًا لا ينال إلّا بعض مظاهر، وأحيانًا يكون عميقًا ينتهي بالقضاء على اللهجة المغلوبة.
فيكون يسيرًا إذا لم تكن الفوارق كبيرة بين أهل المنطقتين في الثقافة والنفوذ والسلطان، ويبدو هذا في تأثر لهجة القرية بلهجة المدينة التي تجاورها، أو يكون بها مقر المحافظة أو المراكز، أو في تأثرها بلهجة البلد الذي يتخد مقرًّا لنقطة البوليس أو للعمدية، أو التي يقام فيها السوق الأسبوعي
…
وهلم جرا. ففي هذه الحالات وما إليها يقف التأثر عند حد اقتباس الكلمات والتراكيب، وطرق استخدام المفردات في معانيها الحقيقية والمجازية
…
وما إلى ذلك. أما الأساليب الصوتية وطريقة النطق بالحروف والكلمات، فتظل بمنجاة من التأثر والتحريف، ومن ثَمَّ نرى أن القرى المحيطة بقاعدة محافظة من محافظات مصر، قد تقتبس عن هذه القاعدة كثيرًا من ألفاظها وتراكيبها ومدلولات مفرداتها.. ولكن لهجتها تظل سليمة فيما يتعلق بالأصوات وطريقة النطق بالكلمات؛ فالقرى المصرية التي تقلب في لهجتها القاف العربية جيمًا غير معطشة "جلنا=قلنا" قد تجاوز مدينة تختلف عنها في هذا الأسلوب الصوتي "بأن تقلب فيها مثلًا القاف العربية همزة: ألنا= قلنا"، فتقتبس عنها كثيرًا من مفرداتها وتراكيبها ودلالالتها وأساليبها، ولكن تظل طريقتها الصوتية حيال القاف العربية بمأمن من التأثر بطريقة المدينة، اللهم إلّا في الكلمات التي تقتبسها منها.
وإذا كانت الفوارق كبيرة بين أهل المنطقتين في ناحية من النواحي السابق ذكرها، فإن التأثر يكون عميقًا لدرجة تصل أحيانًا إلى القضاء على اللهجة المغلوبة، ويحدث هذا في حالتين:
الحالة الأولى:
أن تكون إحدى المنطقتين خاضعة لسلطان المنطقة الأخرى، ففي هذه الحالة يكتب النصر للهجة المنطقة ذات السلطان، على شريطة أن لا تقل عن المنطقة الأخرى حضارة وثقافة وآدابًا، والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ القديم والحديث؛ فلهجة باريس، حيث مقر الحكومة والسلطان، قد قضت على كثير من لهجات المقاطعات الفرنسية التي خضعت لنفوذ باريس، وكذلك فعلت لهجة لندن مع عدد كبير من اللهجات الإنجليزية الأخرى، ولهجة مدريد مع اللهجات الأسبانية، ولهجة روما في العصور القديمة مع أخواتها الإيطالية، ولهجة قريش قبيل الإسلام مع اللهجات العربية الأخرى
…
وهلم جرا1.
الحالة الثانية:
أن تفوق إحدى المنطقتين الأخرى في ثقافتها وحضارتها وآداب لغتها، وفي هذه الحالة يكتب النصر للهجتها، وإن لم يكن لها سلطان سياسي على المنطقة الأخرى، ولذلك أخذت اللهجة السكسونية بألمانيا تطارد اللهجات الألمانية الأخرى منذ القرن السادس عشر الميلادي، أي: قبل أن تتكون الدولة الألمانية الحديثة، وقبل أن تظهر غلبة برلين2، وأخذت التوسكانية Toscan بإيطاليا تقهر اللهجات الإيطالية الأخرى منذ القرن الرابع عشر الميلادي، أي: قبل أن
1 سنضرب بعض هذه الأمثلة في الفصل الثالث بصدد صراع اللغات بعضها مع بعض، وذلك لأنها تصلح أمثلة للأمرين معًا؛ فاللغات العربية مثلًا يصح اعتبار كل منها لغة مستقلة، ويصح النظر إليها على أنها لهجات قد انشعبت عن لغة واحدة، وكذلك لهجة روما قديمًا مع اللهجات الإيطالية
…
وهلم جرا.
2 على أن برلين لم تكن مهد السكسونية، بل انتقلت إليها كما انتقلت إلى غيرها.
تتكون الدولة الإيطالية الحديثة وقبل أن يظهر سلطان روما1، وذلك بفضل ما كان لكل من السكسونية والتوسكانية من إنتاجٍ أدبي لا يذكر بجانبه إنتاج أخواتها التي اشتبكت معها في هذا الصراع.
وفي كلتا الحالتين السابقتين يختلف الصراع في مدته وعنفه تبعًا لمبلغ قرب اللهجتين أحداهما من الأخرى، ومبلغ ثقافة المنطقة المغلوبة، فيطول أمده، ويشتد عنفه، كلما كثرت وجوه الخلف بين اللهجتين، أو قلَّت ثقافة الناطقين باللهجة المقهورة؛ فلهجة مدريد لم تقوَ بعد على التغلب على كثير من اللهجات الأسبانية الأخرى، ولا تزال إلى الآن تلقى مقاومة عنيفة من جانبها، وذلك لتفشي الجهل، والأمية بين الناطقين بهذه اللهجات، ولهذا السبب نفسه لم يتم بعد للهجة القاهرة التغلب على لهجات المناطق المصرية المجاورة لها، وفي القسم الفرنسي اللهجة من سويسرا، لا تزال اللهجات المحلية تقاوم الفرنسية الفصحى في المناطق الكاثوليكية "فاليه، فريبورج
…
Valais Fribourg"، على حين أنه قد تَمَّ انقراض هذه اللهجات أو كاد في المناطق البروتستانتية "نيوشاتل، جنيف
…
"، وذلك لأن المناطق البروتستانتية من هذا القسم أرقى ثقافة وعلمًا من المناطق الكاثوليكية، وأقدم منها عهدًا بالمدارس، ولسان باريس قد تغلب بسهولة على اللهجات التي كانت منتشرة في إقليمي السين واللوار، وذلك لقلة وجوه الخلف بينه وبينها، على حين أنه لم يقوَ بعد على التغلب على لهجات جنوب فرنسا، ولا يزال يلقى بها مقاومة عنيفة، وذلك لكثرة الفروق التي تفصلها عنه.
هذا، ويسير تغلب لهجة على أخرى على السنن نفسه الذي يسير عليه تغلب اللغات المختلفة بعضها على بعض، والذي سنتكلم عليه في الفصل الثالث. ففي المرحلة الأولى تقذف اللهجة الغالبة اللهجة الأخرى بطائفة كبيرة من مفرداتها، فتوهن بذلك متنها الأصلي وتجرده من كثير من مقوماته، ولكن اللهجة المغلوبة تظل طوال هذه المرحلة محتفظة
1 على أن روما لم تكن مهد الإيطالية الحديثة، بل انتقلت إليها كما انتقلت إلى غيرها.