المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المراحل الأولى التي اجتازتها اللغة الإنسانية: - علم اللغة

[علي عبد الواحد وافي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌إطراء مجمع اللغة العربية لكتابي علم اللغة وفقه اللغة

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌تمهيد في التعريف بعلم اللغة

- ‌ البحوث اللغوية وما يدخل منها تحت علم اللغة:

- ‌ أغراض علم اللغة:

- ‌ قوانين العلوم:

- ‌ قوانين علم اللغة:

- ‌ قوانين "الفونيتيك" وقوانين "السيمنتيك

- ‌ الشعبة التي ينتمي إليها علم اللغة:

- ‌الانتفاع ببحوث علم اللغة من الناحية العلمية

- ‌ علاقة علم اللغة بما عداه من البحوث:

- ‌ مناهج البحث في علم اللغة:

- ‌ تاريخ البحوث اللغوية:

- ‌ موضوعات هذا الكتاب:

- ‌الباب الأول: نشأة اللغة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: نشأة اللغة عند الإنسان

- ‌ أنواع التعبير الإنساني:

- ‌ اختصاص الإنسان باللغة ومراكزها:

- ‌ نشأة الكلام:

- ‌ نشاة مراكز اللغة:

- ‌ المراحل الأولى التي اجتازتها اللغة الإنسانية:

- ‌الفصل الثاني: نشأة اللغة عند الطفل

- ‌ أنواع الأصوات في الطفولة، وأساس كل منها:

- ‌ أنواع التعبير في الطفولة:

- ‌ المراحل التي يجتازها الطفل في أصواته وتعبيراته:

- ‌ عوامل كسب الطفل للغة:

- ‌ أثر النظر في التقليد اللغوي:

- ‌ أساس التقليد اللغوي عند الطفل:

- ‌مبلغ تمثيل الطفل في ارتقائه اللغوي لنشأة الغة الإنسانية وتطورها

- ‌الباب الثاني: حياة اللغة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: تفرع اللغة إلى لهجات ولغات

- ‌ انتشار اللغة وأسبابه:

- ‌ تفرع اللغة إلى لهجات ولغات نتيجة لازمة لسعة انتشارها:

- ‌ اللهجات المحلية وصراعها بعضها مع بعض

- ‌ نشأة لغة الدولة أو لغة الكتابة:

- ‌ اختلاف مناحي الفصحى باختلاف فنون القول:

- ‌ اختلاف اللهجات في البلد الواحد باختلاف طبقات الناس وفئاتهم:

- ‌ اختلاف لهجة الرجال عن لهجة النساء:

- ‌الفصل الثاني: فصائل اللغات وخواص كل فصيلة منها وما بينها من صلات:

- ‌ أشهر الآراء في فصائل اللغات:

- ‌ الفصيلة الأولى: الهندية الأوربية

- ‌ الفصيلة الثانية: الحامية - السامية:

- ‌الفصيلة الثالثة: اللغات الطورانية

- ‌ بعض ما تختلف فيه الفصيلتان السامية، والهندية - الأوربية:

- ‌ وجوه الشبه بين الفصيلتين السامية

- ‌الفصل الثالث: صراع اللغات

- ‌ نظرة عامة في عوامله وآثاره في حياة اللغة:

- ‌ العامل الأول: نزوح عناصر أجنبية إلى البلد

- ‌ العامل الثاني من عوامل الصراع اللغوي:

- ‌ عوامل أخرى للاحتكاك اللغوي:

- ‌الفصل الرابع: التطور اللغوي العام

- ‌مدخل

- ‌ انتقال اللغة من السلف إلى الخلف، وأثره في التطور اللغوي:

- ‌ تأثر اللغة باللغات الأخرى تبادل المفردات بين اللغات:

- ‌ العوامل الأدبية المقصودة:

- ‌الفصل الخامس: أصوات اللغة حياتها وتطورها

- ‌خواص التطور الصوتي وعوامله

- ‌ التطور الطبيعي المطرد لأعضاء النطق

- ‌ اختلاف أعضاء النطق باختلاف الشعوب:

- ‌ الأخطاء السمعية:

- ‌ تفاعل أصوات الكلمة بعضها مع بعض:

- ‌ موقع الصوت في الكلمة

- ‌ تناوب الأصوات وحلول بعضها محل بعض:

- ‌الفصل السادس: الدلالة وتطورها

- ‌أنواع التطور الدلالي

- ‌ خواص التطور الدلالي ومناهجه:

- ‌ عوامل التطور الدلالي:

- ‌أهم المراجع

- ‌أولا: المراجع العربية

- ‌ثانيا: أهم المراجع الأفرنجية

- ‌الفهرس:

- ‌تعقيب:

الفصل: ‌ المراحل الأولى التي اجتازتها اللغة الإنسانية:

في إمكانهم أن يذهبوا إلى أن هذه المراكز لم تنشأ من العدم، بل كانت نتيجة تطور لمراكز قديمة أو لأجزاء من مراكز قديمة، كان في أماكنهم مثلًا أن يذهبوا إلى أن جزءًا من مراكز الحركة الخاصة بعضلات الوجه Centres des mouvements des muscles de la face قد تخصص في حركة أعضاء النطق. ومع تقادم الزمن وكثرة مزاولته لهذه الوظيفة تشكل بالشكل الذي يتفق معها، واستقل عن غيره، وأخذ يسير في سبيل الارتقاء حتى وصل إلى الحالة التي هو عليها الآن. كان في إمكانهم أن يقولوا: هذا بصدد مراكز الكلام، ويقولوا مثله بصدد المراكز اللغوية الأخرى؛ فيتقوا معظم ما وجه إلى فروضهم السابقة من اعتراضات، ويكون مذهبهم أدنى إلى القبول وأكثر اتفاقًا مع حقائق الأمور، وذلك أنه بالموازنة بين مخ الإنسان وأمخاخ الحيوانات القريبة منه، يظهر أن مراكزه اللغوية -على فرض أنها لم تكن موجودة في أصل خلقه- كانت نتيجة تشكيل جديد لبعض المراكز الموجودة في أمخاخ هذه الحيوانات.

ص: 110

5-

‌ المراحل الأولى التي اجتازتها اللغة الإنسانية:

تقدَّم أن اللغة الإنسانية قد نشأت ناقصة ساذجة مبهمة في نواحي أصواتها ومدلولاتها وقواعدها، ثم سارت بالتدريج في سبيل الارتقاء1.

وقد اختلف الباحثون اختلافًا كبيرًا في بيان المراحل الأولى التي اجتازتها في هذا السبيل.

فبعضهم نظر إلى الموضوع من الناحية الصوتية؛ فحاول أن يشكف

1 انظر صفحات 103-106.

ص: 110

عما كانت عليه أصوات اللغة الإنسانية في مبدأ نشأتها، وعن مراحل ارتقائها، وقد ذهب معظم هؤلاء إلى أن اللغة قد سارت بهذا الصدد في ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: مرحلة الصراخ Le Cri:

وفي هذه المرحلة لم يكن في أصوات اللغة الإنسانية أصوات مد -وهي الأصوات التي نرمز إليها بحروف اللين، ولا أصوات ساكنة -وهي الأصوات التي نرمز إليها بالحروف الساكنة، وإنما كانت مؤلفة من أصوات مبهمة تشبه أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعال؛ كالضحك والبكاء والصراخ، وأصوات الحيوان ومظاهر الطبيعة والأشياء؛ كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء وحفيف الشجر وجعجعة الرحى وصوت القطع والضرب

وهلم جرا.

والمرحلة الثانية: مرحلة المد Vocalisation: وفيها ظهرت أصوات اللين في اللغة الإنسانية.

والمرحلة الثالثة: مرحلة المقاطع Articulation: وفيها ظهرت الأصوات الساكنة في اللغة الإنسانية "الباء، التاء، الثاء.... إلخ".

ويعتمد أصحاب هذه النظرية في تأييدها على أمور مستمدة من لغة الطفل ولغات الأمم البدائية:

أما فيما يتعلق بالطفل؛ فقد ظهر أن أصواته تجتاز المراحل نفسها التي ذكرها أصحاب هذه النظرية، فأصواته في المبدأ يتألف معظمها من الصراخ والأصوات المبهمة المشبهة لأصوات الحيوان ومظاهر الطبيعة، ثم تكثر لديه في المرحلة التالية أصوات المد، وفي آخر مرحلة يجتازها قبل أن يظهر لديه التقليد اللغوي، وهي المرحلة التي يسميها علماء النفس بمرحلة:"التمرينات النطقية"، تكثر في نطقه الأصوات الساكنة1.

1 سنتكلم عن هذا الموضوع بتفصيل في الفصل الثاني من هذا الباب.

ص: 111

وقد أشرنا فيما سبق إلى أن كثيرًا من العلماء يرى أن المراحل التي يجتازها الطفل في مظهر ما من مظاهر حياته تمثل المراحل التي اجتازها النوع الإنساني في هذا المظهر1.

وأما فيما يتعلق بلغات الأمم البدائية: فقد لوحظ في كثير منها، أن الأصوات المبهمة وأصوات المد تفوق كثيرًا الأصوات الساكنة في كميتها وأهميتها في الدلالة2، وقد تقدَّم أن هذه الأمم -لبعدها عن تيارات الحضارة وبقائها بمعزل عن أسباب النهضات الاجتماعية- تمثل إلى حد كبير الأساليب الإنسانية في عهودها الأولى3.

وليس من بين هذه الأدلة ما يمكن عده برهانًا قاطعًا على صحة هذه النظرية، بل إن معظم المحدثين من علماء اللغة يقطعون بفسادها، وحجتهم في ذلك أنه لا يوجد من بين اللغات الإنسانية المعروفة -سواء في ذلك اللغات الحية والميتة، الراقية والساذجة- لغة خالية من أصوات اللين أو من الأصوات الساكنة، وأنه من المتعذر تصور لغة إنسانية عارية عن أحد هذين النوعين، هذا إلى أن ظهور الأصوات ذات المقاطع "الأصوات الساكنة" في لغة الإنسان، لم يكن ليتوقف على ارتقاء في لغته، أو على تطور صوتي، أو على مراحل يجتازها في هذا السبيل، كما يزعم أصحاب هذه النظرية؛ لأن الأصوات ذات المقاطع توجد عند كثير من فصائل الحيوانات نفسها، كما سبقت الإشارة إلى ذلك4.

وبعضهم نظر إلى الموضوع من ناحية مفردات اللغة ودلالة بعضها

1 انظر أول صفحة 106 وتعليقها الأول.

2 ففي لغات القيجيين والهوتنتوت ولغات بعض قبائل من السكان الأصليين لأمريكا الشمالية تكثر الأصوات المبهمة المشبهة لأصوات الحيوانات ومظاهر الطبيعة، وفي لغات السياميين والصينيين مثلًَا نرى أن معظم ظواهر الدلالة تتصل بحروف المد، فكلمة "ها" مثلًا معناها: البحث في لغة السياميين، فإذا مدت ألفها قليلًا وفتح الفم في نطقها a أصبح معناها الوباء، وإذا مدت قليلًا بدون فتح الفم أصبح معناها خمسة.

V Ribot on cit p 78.

3 انظر صفحة 106.

4 انظر صفحة 94 وتوابعها.

ص: 112

على معانٍ جزئية، وبعضها الآخر على معانٍ كلية، وحاول أن يبين أيّ القسمين كان أسبق ظهورًا من الآخر.

وقد اختلف هؤلاء فيما بينهم، وانقسموا إلى فريقين:

الفريق الأول: -وعلى رأسه مكس مولر- يرى أن اللغة الإنسانية قد بدأت بألفاظ دالة على معانٍ كلية، ثم انشعبت عن هذه الألفاظ الكلمات الدالة على المعاني الجزئية، ودليلهم على هذا أن الأصول المشتركة التي ترجع إليها المفردات في جميع اللغات الهندية - الأوربية، والتي تمثل في نظرهم اللغة الإنسانية في أقدم عصورها، تدل على معانٍ كلية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك1.

وقد ناقشنا هذه النظرية فيما تقدم فتبين فسادها، وظهر أن هذه الأصوات لا تمثل اللغة الإنسانية في عهودها الأولى، وأنها بقايا من لغة راقية لم تصل إليها الأمم الإنسانية إلّا بعد أن اجتازت في حياتها اللغوية مراحل طويلة، وأن بعض الباحثين يذهب إلى أبعد من هذا، فيقرر أننا بصدد أصول نظرية لم تكن يومًا ما لغة كلام2.

وبعضهم يبحث في هذا التطور من ناحية ثالثةٍ قريبة من بعض الوجوه من الناحية السابقة، فيتساءل عن المراحل التي ظهر فيها كل من الاسم والصفة والفعل والحرف في الكلام الإنساني، وأشهر نظرية بهذا الصدد هي نظرية العلامة ريبو Ribot، التي تقرر أن الصفة هي أول ما ظهر في اللغة الإنسانية، ثم تلتها أسماء المعاني وأسماء الذوات، ثم ظهرت الأفعال، وبظهور الأفعال دخلت اللغة الإنسانية في أهم مرحلة من مراحل رقيها، فلا يخفى أهمية الأفعال في الحديث وكثرة وظائفها في الدلالة، ثم اختتمت مراحل الارتقاء بظهور الحروف3.

1 انظر صفحة 100.

2 انظر صفحتي 102، 103.

3 انظر Ribot op cip pp 88-96.

ص: 113

وقد اعتمد في تأييد نظريته هذه على أدلة كثيرة، بعضها يرجع إلى لغة الطفل ولغات الأمم البدائية، وبعضها إلى بحوث إيتيمولوجية "دراسة أصول الكلمات" أو نفسية، فمن ذلك أن الأصول الهندية الأوربية التي كشفها "مكس مولر"، يتألف معظمها من كلمات دالة على الصفات، وفي هذا دليل على أن الصفات كانت أسبق الكلمات ظهورًا في اللغة الإنسانية، وأن معظم أسماء المعاني وأسماء الذوات مشتقة في كثير من اللغات من كلمات دالة على صفات، وفي هذا دليل على أن الأسماء لم تظهر في اللغة الإنسانية إلّا بعد ظهور الصفات، وأن معظم الأفعال في اللغات الهندية الأوروبية مأخوذة من كلمات دالة على صفات أو أسماء، مضاف إليها بعض أصوات من ضمائر، وفي هذا دليل على أن الأفعال قد ظهرت بعد ظهور الصفات والأسماء، وأن كثيرًا من لغات الأمم البدائية مجردة من الحروف1، وأن لغة الطفل لا تظهر فيها الحروف إلّا في آخر مرحلة من مراحلها، ففي المرحلة الأولى ينطق الطفل بأجزاء الجملة عارية عن الحروف وعن علامات الربط2، وفي خلو اللغات البدائية ولغة الطفل في مراحلها الأولى من الكلمات الدالة على الحروف دليل على أنها كانت آخر ما ظهر في اللغات الإنسانية.

وليس من بين هذه الأدلة ما ينهض برهانًا قاطعًا على صحة هذه النظرية، بل إنها ظاهرة الخطأ في بعض نواحيها، وخاصة إذ تقرر أن الصفات كانت أسبق ظهورًا في اللغة الإنسانية من أسماء الذوات، ففي هذه الناحية توجه إليها المآخذ نفسها التي وجهناها إلى نظرية مكس مولر3.

1 سيأتي الكلام عن ذلك في اللغات غير المتصرفة "انظر صفحتي 117، 118".

2 سيأتي الكلام على ذلك بتفصيل في الفصل الثاني من هذ الباب.

3 انظر صفحتي 102، 103.

ص: 114

وبعضهم يبحث في هذا التطور من ناحية رابعة تتعلق بقواعد الصرف والتنظيم "المورفولوجيا والسنتكس1".

وأشهر نظرية بهذا الصدد، هي النظرية التي قال بها العلامة شليجل Schlegel، وتابعه فيها جمهرة كبيرة من علماء اللغة، وهي تقسم اللغات الإنسانية في هذه الناحية إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: اللغات المتصرفة Flexionnelles ou a Flexion، أو التحليلة Analytiquew: ويمتاز هذ االقسم من ناحية "المورفولوجيا" بأن كلماته تتغير معانيها بتغير أبنيتها، ومن ناحية "السنتكس" بأن أجزاء الجملة يتصل بعضها ببعض بروابط مستقلة2 تدل على مختلف العلاقات، وذلك كاللغة العربية؛ فإن كلماتها تتغير معانيها بتغير بنيتها؛ فتقول عِلْم للدلالة على المصدر، وعَلِمَ للدلالة على الفعل الماضي، وعَلَّمَ للدلالة على تعدي الفعل، واعْلَمْ للدلالة على الأمر، والعلوم للدلالة على جمع العلم، والمعلوم للدلالة على ما وقع عليه العلم، والعلَّامة للدلالة على وسيلة العلم

وهلم جرا. هذا من ناحية الصرف، وأما من ناحية التنظيم: فإن عناصر جملها يتصل بعضها ببعض عن طريق روابط مستقلة تشير إلى مختلف العلاقات؛ فتقول مثلًا: ذهب محمد وعلي من المنزل إلى الجامعة، فتأتي بواو قصيرة ونون زائدتين بعد دال محمد للدلالة على أنه أحدث الحدث، وتأتي بالواو العاطفة بين محمد وعلي للدلالة على عطف عنصر من عناصر الجملة على آخر، وبمن للدلالة على الابتداء، وبإلي للدلالة على الانتهاء، وما قيل في اللغة العربية يقال مثله في بقية اللغات السامية، وفي اللغات الهندية - الأوروبية.

1 انظر صفحات 8-10.

2 نقصد باستقلال الروابط زيادتها عن أصوات الكلمة؛ فالواو القصيرة "الضمة" والنون الساكنة الملحقتان بكلمة "محمد" في: جاء محمد "محمدن" تعتبران من الروابط المستقلة، وهما تشيران في هذا التركيب إلى أن مدلول محمد هو الذي أحدث الحدث.

ص: 115

وسميت هذه الطائفة من اللغات "بالمتصرفة" لتغير أبنيتها بتغير المعاني، و"بالتحليلية" لما تتخذه حيال الجملة من تحليل أجزائها وربطها بعضها ببعض بروابط تدل على العلاقات.

القسم الثاني: اللغات اللصقية أو الوصلية: Agglutinantes ou Agglomerrantes ou Synthetiques: ويمتاز هذا القسم من ناحيتي المورفولوجيا والسنتكس، بأن تغير معنى الأصل وعلاقته بما عداه من أجزاء الجملة يشار إليهما بحروف تلصق به، وتوضع هذه الحروف أحيانًا قبل الأصل، فتسمى:"سابقة Prefixes"، وأحيانًا بعده فتسمى "لاحقة1 Suffixes"، وبعض هذه الحروف ليس له دلالة مستقلة، ولكن معظمها كان في الأصل كلمات ذات دلالة، ثم فقدت معانيها وأصبحت لا تستخدم إلّا مساعدة للدلالة على تغير معنى الأصل الذي تلصق به، أو للإشارة إلى علاقته بما عداه من أجزاء الجملة، ومن أشهر لغات هذه الفصيلة اللغة اليابانية واللغة التركية، وبعض لغات الأمم البدائية؛ كلغة الأيروكويين2 lroquois، والبنتوين3 Bantous.

وسميت هذه اللغات "باللصقية" أو "الوصلية" للطريقة التي تتبعها

1 يختلف هذا الأسلوب باختلاف اللغات، فبعض اللغات اللصقية تستخدم الحروف "السابقة" كاللغة البنتوية، وبعضها يستخدم الحروف "اللاحقة" كالتركية، فمنزل في التركية مثلًا يقال له: أو Ew، فإذا أردت أن تقول خارج المنزل ألصقت بآخره دالًا مكسورة، ونونًا للدلالة على المجاوزة؛ فتقول: أودن Ewden، وإذا أردت جمعه ألصقت بآخره لامًا مكسورة وراء، فتقول: أولر Ewler، وإذا أردت أن تقول: خارج المنازل، ألصقت بالجمع الدال والنون الدالتين على المجاورة، فتقول أولردن Ewlerden.

وقد تجتمع الطريقتان في لغة واحدة، فتستخدم أحيانًا الحروف السابقة، وأحيانًا الحروف اللاحقة.

2 عشائر من الهنود الحمر "السكان الأصليين لأمريكا الشمالية"، وقد يلحق بالأصل الواحد في لغتهم عدد كبير من هذه الحروف للدلالة على كثير من العلاقات والمعاني، فتصبح الكلمة الواحدة كثيرة الأصوات كبيرة المدلول؛ فقد روى العلامة ريبو، أنه توجد في لغتهم كلمة واحدة تدل على ما يأتي: "اطلب نقودًا من هؤلاء الذين جاءوا ليشتروا مني الأقمشة، ويكثر كذلك هذا النوع من الكلمات الطويلة بلغة الإسكيمو V Ribot op cit 89.

3 يطلق هذا الاسم على سكان القسم الجنوبي بأفريقيا الاستوائية "ما عدا قبيلتي الهوتانتوت والبوشيمان Hottentots Bochimaans، وترجع لغاتهم إلى فصيلة واحدة على الرغم من اختلاف أصولهم الشعبية.

ص: 116

حيال الأصل؛ إذ تلصق به حروفًا زائدة عن حروفه، لتوضيح المعنى المقصود منه، أو للإشارة إلى علاقته بما عداه من أجزاء الجملة.

القسم الثالث: اللغات غير المتصرفة Mono-syllabiques، أو "العازلة" lsolantes: ويمتاز هذا القسم من ناحية "المورفولوجيا"، بأن كلماته غير قابلة للتصرف، لا عن طريق تغيير البنية ولا عن طريق لصق حروف بالأصل، فكل كلمة تلازم صورة واحدة وتدل عل معنى ثابت لا يتغير، ويمتاز من ناحية "السنتكس" بعدم وجود روابط بين أجزاء الجملة للدلالة على وظيفة كل منها وعلاقته بما عداه، بل توضع هذه الأجزاء بعضها بجانب بعض، وتستفاد وظائفها وعلاقاتها من ترتيبها أو من سياق الكلام، ويدخل في هذا القسم اللغة الصينية وكثير من لغات الأمم البدائية.

وسميت هذه اللغات بغير المتصرفة؛ لأن كلماتها لا تتصرف ولا يتغير معناها "بالعازلة"؛ لأنها تعزل أجزاء الجملة بعضها عن بعض، ولا تصرح بما يربطها من علاقات.

ويرى أصحاب هذه النظرية أن اللغة الإنسانية في مبدأ نشأتها كانت من النوع الثالث "اللغات غير المتصرفة"، ثم ارتقت إلى النوع الثاني "اللغات اللصقية"، ولم تصل إلى حالة النوع الأول "اللغات المتصرفة" إلّا في آخر مرحلة قطعتها في هذا السبيل، غير أن بعض اللغات الإنسانية قد وقفت في نموها فلم تتجاوز المرحلة الأولى كاللغة الصينية، أو لم تتجاوز المرحلة الثانية كاليابانية والتركية.

ويستدل على صحة هذه النظرية بأدلة مستمدة من لغة الطفل ولغات الأمم البدائية، على النحو الذي تقدَّم شرحه في النظريات السابقة.

ولكن ليس من بين أدلتها ما ينهض برهانًا قاطعًا على صحتها، بل قامت أدلة كثيرة على خطئها، فمن ذلك أن الأساليب الثلاثة التي تعرض

ص: 117

لها "التصرف واللصق والعزل" توجد مجتمعة في كل لغة إنسانية، وأنه من المتعذر أن نعثر على لغة عارية عن أسلوب منها.

فاللغة العربية، كما يوجد بها مظاهر من أسلوب التصرف والتحليل كما تقدم، يوجد بها مظاهر كثيرة من الأسلوبين الآخرين؛ فهي تسير على طريقة اللصق بالحروف "اللاحقة" و"السابقة" في حالات كثيرة؛ كجمع المذكر السالم وجمع المؤنث السالم والتعدي بالهمزة "قائم قائمون، زينب زينبات، قام على، وأقام على الصلاة"

وهلم جرا. وتسير كذلك على طريقة العزل في كثير من التراكيب؛ فبعض الجمل الاسمية والجمل الفعلية لا ترتبط عناصرها بعضها ببعض بأي رابطة ملفوظ، وإنما تفهم العلاقة بينها من ترتيبها أو من السياق مثل "ضرب موسى عيسى"، وجميع الجمل على هذا النحو في اللغات العامية المتشعبة عن العربية، فقد تجردت جميعها من علامات الإعراب الدالة على وظائف الكلمات، وعلاقة أجزاء الجملة بعضها ببعض.

وكذلك جميع اللغات الهندية - الأوربية. فالإنجليزية والفرنسية مثلًَا تسيران أحيانًا على طريقة التصريف والتحليل.

Je vois، je voyais، je vis، nous voyons، la vue، vous voyez que la Linguistique est une science sociale.

l see، l saw، l have seen، to see، the sight، you see that the Science of Languages is a social one

وتسيران أحيانًا على طريقة اللصق:

j a joute، Jajouterai - tigre، tigresse

l care، l cared - cariful، carefulness

وتسيران أحيانًا على طريقة العزل:

Tom beats Dick- pierre bat Paul

"ففي هذه الجملة لا يميز الفاعل من المفعول إلّا مجرد ترتيبه".

ومثل هذا يقال في جميع اللغات الإنسانية، فلسنا إذن بصدد فصائل لغوية متميزة، بل بصدد أساليب مستخدمة في جميع اللغات.

ص: 118