الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اجتازها النوع الإنساني في هذا المظهر1.
ومن أدلتها كذلك ما تقرره بصدد خصائص اللغة الإنسانية في مراحلها الأولى يتفق مع ما نعرفه عن خصائص اللغات في الأمم البدائية؛ ففي هذه اللغات تكثر المفردات التي تشبه أصواتها أصوات ما تدل عليه، ولنقص هذه اللغات وسذاجتها وإبهامها، وعدم كفايتها للتعبير، لا يجد المتكلمون بها مناصًا من الاستعانة بالإشارات اليدوية والجسمية في أثناء حديثهم؛ لتكملة ما يفتقر إليه من عناصر وما يعوزه من دلالة2، ومن المقرر أن هذه الأمم لبعدها عن تيارات الحضارة، وبقائها بمعزل عن أسباب النهضة الاجتماعية، تمثل إلى حد كبير النظم الإنسانية في عهودها الأولى.
1 يطلق على هذه النظرية اسم نظرية "هيكل Haeckel، أو "نظرية التلخيص العام" وقد تكلمنا عليها بتفصيل في كتابنا: "عوامل التربية" صفحات 123-129.
هذا، وسندرس بتفصيل في الفصل الثاني نشأة اللغة عند الطفل وتطورها، ومبلغ تمثيلها لمراحل اللغة الإنسانية.
2 انظر صفحة 83 والتعليق الثالث من تعليقاتها.
4-
نشاة مراكز اللغة:
تقدَّمَ أن الإنسان لا يمتاز عن الفصائل الحيوانية الأخرى باللغة الصوتية فحسب، بل يمتاز عنها كذلك باشتمال مخه على مراكز تشرف على مختلف مظاهر هذه اللغة "مركز الكلام، مركز حفظ الأصوات، مركز الكلمات المرئية
…
إلخ"1.
وقد اختلف الباحثون اختلافًا كبيرًا في نشأة هذه المراكز في الفصيلة الإنسانية.
1 انظر آخر ص95 وأول ص96، هذا ولا يتسع المقام للكلام عن هذه المراكز ووظائفها وطريقة آدائها لها، على أن هذا من بحوث علم النفس والفيزيولوجيا لا عن بحوث علم اللغة.
فالقائلون باستقلال النوع الإنساني في نشأته عن الأنواع الحيوانية الأخرى يذهبون إلى أنه قد خلق مزودًا بهذه المراكز، كما خلق مزودًا بخصائصه الأخرى؛ كاعتدال القامة، وإدراك المعاني الكلية
…
وما إلى ذلك، ويرون أن هذه المراكز كانت في مبدأ الخلق ساذجة قاصرة، ثم ارتقت في بعض الشعوب حتى وصلت إلى شأوٍ كبير في الدقة والنضج، على حين أنها جمدت في شعوب أخرى فلم تتزحزج كثيرًا عن الحالة الساذجة التي خلقت عليها، ويرجع الفضل في ارتقائها إلى عوامل كثيرة؛ منها كثرة استخدامها في وظائفها، وما تمرن عليه من عادات مكتسبة، واتساع الحضارة الإنسانية، وارتقاء التفكير
…
وهلم جرا.
فمراكز اللغة شأنها في ذلك شأن أعضاء الحس وأعضاء الحركة في الجسم الإنساني، تخلق مزودة بالقدرة على القيام بوظائفها، وتظل قابلة للارتقاء في هذه الناحية ما أتيحت لها الوسائل المواتية، فإن لم يتح لها ذلك قصرت عن القيام بوظائفها، أو جمدت على الحالة التي كانت عليها في نشأتها الأولى.
وأما القائلون بمذهب الارتقاء وتفرع الإنسان عن غيره من الفصائل الحيوانية، فيرون أن الفضل في نشأة هذه المراكز عند الإنسان يرجع إلى الظروف التي أحاطت به في مبدأ نشأته، وإلى الأمور التي ألجأته إليها مقتضيات حياته، وبخاصة ما يتصل منها بشئون دفاعه عن نفسه، وقد اختلفوا في تصوير هذه النشأة على الرغم من اتفاقهم على الأسس السابق ذكرها، وأشهر نظرياتهم بهذا الصدد نظرية دارون التي تتلخص في أن الإنسان كان في الأصل من الفصائل المتسلقة الأشجار، ثم اضطرته ظروف قاهرة إلى العيش على الأرض حيث تعرض لإغارة الحيوانات القوية وسطوها عليه، فاستخدم في مبدأ الأمر في مقاومتها أنيابه وأعضاء جسمه كما كان يفعل من قبل، وكما تفعل أفراد فصيلته، ولكن هذه الوسيلة كانت تضطره إلى الارتماء في أحضان عدوه فتعرض حياته للخطر، فهدته غريزة المحافظة على الحياة إلى وسيلة أخرى تدفع عنه عدوان الحيوان بدون أن تضطره إلى
الاصطدام به، وذلك بأن يقذف عليه عن بعد قطعًا من حجارة أو خشب أو معدن، أو بأن يمسك بطرف عصا ويدفعه عنه، أو يضربه بطرفها الآخر، وقد كان لهذا الأسلوب الجديد أثران كبيران في حياة الإنسان:
أحدهما: أنه يضطره إلى الوقوف على رجلين اثنين في أثناء دفاعه عن نفسه، ومن تكرار هذه الوقفة أخذت قامته تعتدل شيئًا فشيئًا حتى استوى القسم الأعلى من جسمه مع أطرافه السفلى، وأخذت عادة المشي على أربع تضعف بالتدريج حتى انقرضت "وإن كانت تظهر في بعض مراحل الطفولة الإنسانية وفقًا لقوانين الوراثة النوعية التي تقضي بأن يجتاز الطفل في سبيله من الطفولة إلى الرجولة المراحل نفسها التي اجتازها النوع في سبيله من الحيوانية إلى الإنسانية ومن الوحشية إلى الحضارة".
وثانيهما: وهو الذي يهمنا في موضوعنا، أن هذا الأسلوب الدفاعي قد أعفى الإنسان من استخدام فكه وأسنانه في الدفاع عن نفسه، فتعطلت هذه الأعضاء عن القيام بجزء كبير من وظيفتها، ونجم عن ذلك تقلص العضلات والعظام الصدغية التي تتحرك مع الفم، وترتب على هذا التقلص أن اتسع مجال النمو للجمجمة، فزاد حجمها عما كان عليه، وباتساع حجم الجمجمة اتسع مجال النمو للمخ؛ فزاد حجمه، ونشأت به مراكز جديدة لم تكن به من قبل، من أهمها مراكز اللغة التي نحن بصدد الكلام عنها.
ولتأييد هذا الأثر الأخير، قام العلامة أنتوني Anthony بتجربة على عدد من الجراء "الكلاب الصغيرة" وذلك بأن استأصل جزءًا من عضلاتها وعظامها الصدغية، وتتبع نمو جماجمها بعد هذه العملية، فتبين له أنها أخذن تتسع أكثر من المعتاد.
وقد تصدى كثير من العلماء المحدثين للتحري عن هذه الحقائق، فثبت لهم فسادها من نواحٍ كثيرة، لا يهمنا منها الآن إلّا الناحية المتعلقة
بنشأة مراكز اللغة؛ فقد ظهر لهم بهذا الصدد أن تعطيل الفك والأسنان وإن نجم عنه اتساع في الجمجة، لا يترتب عليه مطلقًا اتساع في المخ، أواختلاف في تعاريجه وشكل تكونه، والتجربة التي قام بها أنتوني تدل هي نفسها على صحة ذلك، فقد ظهر له أن جماجم الجراء قد انحصرت عن أمخاخها، بدليل أن الآثار التي تنطبع عليها من ملاصقتها للمخ قد انمحت؛ فاتساع الجمجمة الناجم عن تقلص عضلات الصدغ وعظامه لا يتبعه أذن اتساع في حجم المخ، أو نشأة مراكز جديدة كما يزعم دارون.
وكثيرًا ما تتسع الجمجمة عند بعض الناس اتساعًا غير عاديّ لسبب آخر غير تقلص عضلات الصدغ وعظامه، ولكن لم يحدث مطلقًا في حالة من حالات هذا الاتساع أن زاد حجم المخ أو تغيرت صورته. وعلى العكس من ذلك نمو المخ نفسه؛ فإنه يرغم الجمجمة على الاتساع، ويشكلها بالشكل الذي يتفق مع نموه، فإن قاومته، بأن كان عظم اليافوخ1 قد اشتد قبل أوانه، تغلب على مقاومتها وشق لنفسه طريقًا على أي وجه، فأحيانًا يدفعها إلى الأمام فينشأ الشخص بارز الجبهة، وأحيانًا يدفعها إلى الخلف فينشأ الشخص أحدب الرأس، وأحيانًا يدفعها إلى أعلى فينشأ مسنم الرأس، وأحيانًا يدفعها من ناحيتين أو أكثر فينشأ مدنخ الرأس2
…
وهكذا، فالطريق الطبيعي للارتقاء، إن كان ثَمَّ ارتقاء، هو أن يتسع المخ أولًا وتوجد فيه مراكز لم تكن موجودة من قبل، ويتبع ذلك اتساع في الجمجمة، لا أن تتسع الجمجمة أولًا ويتبعها اتساع المخ كما يقول دارون ومن نحا نحوه.
على أن الارتقائيين لم يكونوا في حاجة إلى هذه الفروض التعسفية لتعليل نشأة مراكز اللغة بطريقة تتفق مع مبادئهم؛ فقد كان
1 حيث يلتقي عظم مقدم الرأس بعظم مؤخرة وهو الذي يكون لينًا في الصبي.
2 "رجل مدنخ الرأس: في رأسه ارتفاع وانخفاض"، "المخصص لابن سيده جزء أول ص62". "والمدنخ كمحدث -بتشديد الدال المكسورة: من في رأسه ارتفاع أو انخفاض، "القاموس المحيط"، والعامة تقول شخص برأسين، أو برءوس.