الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما العوامل التي تؤدي إلى تطور الأصوات فيرجع أهمها إلى الأمور الآتية:
1-
التطور الطبيعي المطرد لأعضاء النطق في بنيتها واستعداها.
2-
اختلاف أعضاء النطق في بنيتها واستعدادها باختلاف الشعوب.
3-
الأخطاء السمعية.
4-
تفاعل أصوات الكلمة بعضها مع بعض.
5-
موقع الصوت في الكلمة.
6-
تناوب الأصوات وحلول بعضها مع بعض.
7-
أثر الأمور النفسية والاجتماعية والجغرافية.
8-
أثر العوامل الأدبية.
وقد تكلمنا بما فيه الكفاية في الفصلين الأول والرابع من هذا الباب عن أثر العاملين الأخيرين في التطور الصوتي1، فحسبنا هنا أن نذكر كلمة عن أثر كل عامل من العوامل الستة الأولى في هذا التطور.
1 انظر صفحات 175-185، 188، 189، 257-284.
2-
التطور الطبيعي المطرد لأعضاء النطق
ونظرية روسلو rousselot:
من المقرر أن أعضاء النطق في الإنسان في تطور طبيعي مطرد في بنيتها واستعدادها، ومنهج أدائها لوظائفها. فحناجرنا وحبالنا الصوتية وألسنتا وحلوقنا وسائر أعضاء نطقنا تختلف عما كانت عليه
آبائنا الأولين، إن لم يكن في بنيتها الطبيعية، فعلى الأقل في استعدادها1، بل إنها لتختلف عما كانت عليه عند آبائنا الأقربين، غير أن هذا التطور يسير ببطء وتدرج، ولذلك لا يبدو أثره بشكل واضح إلّا بعد زمن طويل.
وغنيٌّ عن البيان أن كل تطور يحدث في أعضاء النطق أو في استعدادها، يتبعه تطور في أصوات الكلمات، فتنحرف هذه الأصوات عن الصورة التي كانت عليها إلى صورة أخرى أكثر منها ملاءمةً مع الحالة التي انتهت إليها أعضاء النطق.
وقد كان لكشف هذه الحقيقة أكبر فضل في نهضة البحوث اللغوية المتعلقة بالصوت، وفي القضاء على كثير من النظريات الفاسدة التي أشرنا إلى بعضها في الفقرة السابقة2.
وقد اهتدى إلى هذا الكشف، من قبل العلامة3 Rousselot عدد كبير من الباحثين، ونخص بالذكر منهم هرمان4 Herman Paul، ولكن جرت العادة بنسبته إلى العلامة روسلو؛ لأنه وقف قسطًا كبيرًا من جهوده على دراسته وتدعيمه بالأدلة القاطعة، وتحري حقائقه بوسائل البحث القديمة، وبوسيلة جديدة لم يكد يسبقه أحد إليها، وهي وسيلة الأجهزة "الفونيتيك التجريبي5"".
وليس من الميسور وضع قواعد عامة مضبوطة لاتجاهات هذا
1 يكاد العلماء يجمعون على أن أعضاء النطق تختلف بعض الشيء في بنيتها واستعدادها باختلاف الشعوب وباختلاف الظروف المحيطة بكل شعب، كما سيأتي بيان ذلك في الفقرة التالية، ويكادون يجمعون كذلك على أنها في الشعب الواحد والظروف المتشابهة تتطور استعداداتها وتختلف باختلاف العصور، أما تطور بنيتها الطبيعية، واختلافها باختلاف العصور في الشعب الواحد والظروف المتشابهة، فقد اختلف العلماء بصدده: فمن منكر له، ومن قائل به، والمذهب الأخير هو الأولى إلى الصواب.
2 انظر صفحتي 287، 288.
3 انظر صفحة 61 وتعليقيها الأول والثاني.
4 انظر صفحات 57، 60، 61.
5 انظر صفحات 42-45.
التطور؛ لأن الأمر يختلف اختلافًا كبيرًا باختلاف اللغات والبيئات والشعوب، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في الفقرة السابقة1. ولذلك سنقتصر بصدد هذا العامل على ضرب أمثلة من الظواهر الصوتية المترتبة عليه.
فمن ذلك ما حدث في اللغة العربية بصدد أصوات الجيم والثاء والذال والظاء والقاف؛ فقد أصبحت هذه الأصوات ثقيلة على أعضاء النطق في كثير من البلاد العربية، وأصبح لفظها على الوجه الصحيح يتطلب تلقينًا خاصًّا ومجهودًا إراديًّا، وقيادة مقصودة لحركات المخارج، ولعدم ملاءمتها مع الحالة التي انتهت إليها أعضاء النطق في هذه البلاد أخذت تتحول منذ أمد بعيد إلى أصوات أخرى قريبة منها؛ فالصوت الأول:"الجيم" الذي كان ينطق به معطشًا بعض التعطيش في العربية الفصحى، قد تحول في معظم المناطق المصرية إلى جاف "جيم غير معطشة"، وفي معظم المناطق السورية والمغربية إلى جيم معطشة كل التعطيش2 J، والثاء قد تحولت إلى تاء في معظم المناطق المصرية، وفي بلاد أخرى "فيقال: توب، تلج، تخين، تعلب، تعبان، تفل، تئيل، تلت، تلاتة، تمن، تمانية، تور، اتنين، نتر، جنتة، عتة، عتر،
…
إلخ، بدلًا من: ثوب، ثلج، ثخين، تثعلب، ثعبان، ثفل، ثقيل، ثلث، ثلاثة، ثمن، ثمانية، ثور، اثنان، نثر، حثة، عثة، عثر
…
إلخ3". والذال قد تحولت في كثير من المناطق العربية إلى دال، في معظم الكلمات؛ فيقال: داب، دراع، ديب، ده، دبل، دبح، دبان، دأن، أدان، ودن، دهب، ديل..إلخ، بدلًا من: ذاب، ذراع، ذئب، ذا، ذي، ذبل، ذبح، ذباب، ذقن، أذان، ذهب، ذيل
…
إلخ"، وإلى زاي في بعض الكلمات؛ فيقال مثلًَا: زنب،
1 انظر رقم 4 بصفحة 286.
2 لا يزال ينطق بصوت الجيم نطقًا صحيحًا في بعض المناطق المصرية، وخاصة في محافظة الشرقية، وفي كثير من البلاد العربية الأخرى.
3 تحول هذا الصوت في كلمات قليلة إلى سين أو صاد "ثواب مثلًا ينطق بها أحيانًا: سواب أو صواب".
زهن، زكي، بزر، رزالة
…
إلخ، بدلًا من: ذنب، ذهن، ذكي، بذر، رذالة
…
إلخ". والظاء قد تحولت إلى ضاد في معظم الكلمات؛ فيقال: ضلام، ضفر، ضل، ضهر..إلخ" بدلًا من: ظلام، ظفر، ظل، ظهر..إلخ"، وإلى زاي مفخمة في بعض الكلمات، كما ينطق في عامية المصريين بكلمات، ظالم، ظريف، أظن، حظ..إلخ"1 والقاف تحولت إلى همزة في بعض اللهجات العربية؛ فيقال: أط، ألت، أبل، عأد، نطأ
…
إلخ، بدلًا من: قط، قلت، قبل، عقد، نطق..إلخ"، وإلى جاف "جيم غير معطشة" في معظم اللهجات العامية بمصر وغيرها من البلاد العربية؛ فيقال: جط، جلت، جبل، عجد، نطج
…
إلخ، بدلًا من: قط، قلت، قبل، عقد، نطق
…
إلخ"2.
ومثل هذا حدث في كثير من اللغات الأوروبية، فمن ذلك ما لوحظ بصدد تطور الراء الفرنسية في منطقة باريس وما إليها، فقد كان ينطق بها قديمًا في صورة مرققة، ثم أخذت تنحرف عن مخرجها تبعًا لتطور أعضاء النطق واستعدادها، حتى قربت من آخر الحلق، فتحولت إلى صوت بين الراء والغين، وأصبح صوتها القديم ثقيلًا على الألسنة، يتطلب لفظه من أهل هذه المناطق مجهودًا إراديًّا وقيادة مقصودة لحركات المخارج.
1 لا يزال ينطق بأصوات الثاء والذال والظاء نطقًا صحيحًا في عامية العراق وليبيا، وخاصة في برقة، وفي تونس والجزائر والمغرب، وفي القبائل العربية النازحة إلى مصر من المغرب "الفوايد، الرماح، البراعصة، أولاد علي، الضعفاء، سمالوس..إلخ".
2 لا يزال صوت القاف محتفظًا بنطقه الصحيح في كثير من الكلمات في عامية العراق والجزائر وتونس وبعض بلاد سوريا وعامية رشيد وبعض مناطق اليمن، وكان مستعملًا منذ عهد غير بعيد في بعض مناطق بني سويف. وقد سمعت أنا نفسي بعض شيوخ أسرتي "ببلدة الحمام محافظة بني سويف" يتكلمون بالقاف، ولا يزال العامة في هذه المناطق يتكلمون بالقاف، حينما يروون عبارة منسوبة إلى أجدادهم في الأقاصيص الشعبية وما إليها، وهذا يدل على أن صوت القاف لم ينقرض لديهم إلّا منذ أمد قريب "انظر تحقيقًا لابن خلدون في موضوع القاف والجاف في صفحتي 1393، 1294 من الطبعة الثانية للجزء الرابع من مقدمة ابن خلدون، تحقيق الدكتور علي عبد الواحد وافي".