الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
19 -
(بابُ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الْوُقُوف إِنَّمَا يكون بِعَرَفَة دون غَيرهَا من الْمَوَاضِع، وَذَلِكَ أَن قُريْشًا كَانُوا يَقُولُونَ: نَحن أهل الله فَلَا نخرج من الْحرم، وَكَانَ غَيرهم يقفون بِعَرَفَة وعرفة خَارج الْحرم فَبين الله تَعَالَى فِي قَوْله:{ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . إِن الْإِفَاضَة إِنَّمَا تكون من موقف عَرَفَة الَّذِي كَانَ يقف فِيهِ سَائِر النَّاس دون غَيره من موقف قُرَيْش عِنْد الْمشعر الْحَرَام، وَكَانُوا يَقُولُونَ، عزتنا بِالْحرم وسكنانا فِيهِ، وَنحن جيران الله فَلَا نرى الْخُرُوج عَنهُ إِلَى الْحل عِنْد وقوفنا فِي الْحَج، فَلَا نفارق عزنا وَمَا حرم الله تَعَالَى بِهِ أَمْوَالنَا ودماءنا، وَكَانَت طوائف الْعَرَب يقفون فِي موقف إِبْرَاهِيم صلى الله عليه وسلم من عَرَفَة، وَكَانَ وقُوف النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَيْضا فِي موقف إِبْرَاهِيم صلى الله عليه وسلم قبل أَن ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي تَوْفِيقًا من الله تَعَالَى لَهُ على ذَلِك.
4661 -
حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا عَمْرٌ وَقَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جُبَيْرِ ابنِ مُطْعِمٍ عنْ أبيهِ قَالَ كُنْتُ أطْلُبُ بَعِيرا لي (ح) وحدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا سُفيَانُ عَنْ عَمْرٍ ووسَمِعَ مُحَمَّدَ بنَ جُبَيْرِ بنِ مُطْعَمٍ قَالَ أضْلَلْتُ بَعِيرا لِي فَذَهَبْتُ أطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ فَرَأيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وَاقِفا بِعَرَفَةَ فَقُلْتُ هاذا وَالله مِنَ الخُمْسِ فَما شَأنُهُ هاهُنا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَرَأَيْت النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا بِعَرَفَة) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع: مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم. الْخَامِس: حبير، بِضَم الْجِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: ابْن مطعم، بِضَم الْمِيم إسم فَاعل من الْإِطْعَام ابْن عدي ابْن نَوْفَل الْقرشِي النَّوْفَلِي الصَّحَابِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. السَّادِس: مُسَدّد بن مسرهد، وَالْكل قد ذكرُوا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: إسنادان: أَحدهمَا عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَالْآخر عَن مُسَدّد فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن أبي بكر وَعَمْرو النَّاقِد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أضللت بَعِيرًا لي) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره:(أضللت بَعِيرًا)، بِدُونِ كلمة: لي، يُقَال: أضلّهُ إِذا أضاعه، وَقَالَ ابْن السّكيت: أضللت بَعِيري إِذا ذهب مِنْك. قَوْله: (يَوْم عَرَفَة) أَي: فِي يَوْم عَرَفَة. فَإِن قلت: إضلاله بعيره كَانَ فِي يَوْم عَرَفَة أَو طلبه؟ قلت: طلبه كَانَ فِي يَوْم عَرَفَة فَإِن جُبَير بن مطعم إِنَّمَا جَاءَ إِلَى عَرَفَة ليطلب بعيره لَا ليقف بهَا، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ الْحميدِي فِي مُسْنده:(أضللت بَعِيرًا لي يَوْم عَرَفَة فَخرجت أطلبه بِعَرَفَة) .
وَمن طَرِيقه رَوَاهُ أَبُو نعيم. قَوْله: (فَقلت) ، قَائِله جُبَير، وَأَشَارَ بقوله هَذَا إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم حِين رَآهُ وَاقِفًا بِعَرَفَة، فَقَالَ: هَذَا وَالله من الحمس، يَعْنِي: هُوَ من الحمس، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وَفِي آخِره سين مُهْملَة، جمع الأحمس، وَفِي اللُّغَة: الأحمس الشَّديد والمشدد على نَفسه فِي الدّين يُسمى أحمس، والحماسة الشدَّة فِي كل شَيْء، قَالَه ابْن سَيّده. وَيُقَال لَهُ: المتحمس أَيْضا. وَفِي (الصِّحَاح) : حمس بِالْكَسْرِ فَهُوَ حمس وأحمس بيِّن الحمس. وَفِي (الموعب) عَن ابْن دُرَيْد: الحمس، بِالْفَتْح التشدد فِي الْأَمر، وَبِه سميت قُرَيْش وخزاعة وَبَنُو عَامر بن صعصعة وَقوم من كنَانَة، وَقَالَ غَيره: الحمس قُرَيْش وَمن ولدت من غَيرهَا، وَقيل: قُرَيْش وَمن ولدت وأحلافها، وَقيل: قُرَيْش وَمن ولدت من قُرَيْش وكنانة وجديلة قيس، وَكَانُوا إِذا أنكحوا امْرَأَة مِنْهُم غَرِيبا اشترطوا عَلَيْهِ أَن وَلَدهَا على دينهم، وَدخل فِي هَذَا الِاسْم من غير قُرَيْش ثَقِيف وَلَيْث بن بكر وخزاعة وَبَنُو عَامر بن صعصعة. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق وَكَانَت قُرَيْش، لَا أَدْرِي قبل الْفِيل أَو بعده، ابتدعت أَمر الحمس رَأيا رَأَوْهُ فتركوا الْوُقُوف على عَرَفَة، والإفاضة مِنْهَا، وهم يعْرفُونَ ويقرون أَنَّهَا من المشاعر وَالْحج، إلَاّ أَنهم قَالُوا: نَحن أهل الْحرم نَحن الحمس، والحمس أهل الْحرم. قَالُوا: وَلَا يَنْبَغِي للحمس أَن يأتقطوا الأقط وَلَا يسلوا السّمن، وهم حرم، وَلَا يدخلُوا بَيْتا من شعر، وَلَا يستظلوا إِن استظلوا إلَاّ فِي بيُوت الْأدم مَا كَانُوا حرما، ثمَّ قَالُوا: لَا يَنْبَغِي لأهل الْحل أَن يَأْكُلُوا من طَعَام جاؤا بِهِ مَعَهم من الْحل إِلَى الْحرم إِذا جاؤا حجاجا أَو عمارا، وَلَا يطوفون بِالْبَيْتِ إِذا قدمُوا أول طوافهم إلَاّ فِي ثِيَاب الحمس. وَقَالَ السُّهيْلي: كَانُوا ذَهَبُوا فِي ذَلِك مَذْهَب الترهب والتأله، فَكَانَت نِسَاؤُهُم لَا ينسجن الشّعْر وَلَا الْوَبر. وَعَن إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي (غَرِيب الحَدِيث) : كَانُوا أَي قُرَيْش إِذا أهلوا بِحَجّ أَو عمْرَة لَا يَأْكُلُون لَحْمًا، وَإِذا قدمُوا مَكَّة وضعُوا ثِيَابهمْ الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم، وَرُوِيَ عَنهُ أَيْضا: سموا الْكَعْبَة بحمساء لِأَنَّهَا حمساء، حجرها أَبيض يضْرب إِلَى السوَاد. قَوْله:(فَمَا شَأْنه؟) هَذَا تعجب من جُبَير بن مطعم وإنكار مِنْهُ لما رأى النَّبِي، صلى الله عليه وسلم، وَاقِفًا بِعَرَفَة، فَقَالَ: هُوَ من الحمس، فَمَا باله يقف بِعَرَفَة والحمس لَا يقفون بهَا؟ لأَنهم لَا يخرجُون من الْحرم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقْفَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَة كَانَت سنة عشر، وَجبير بن مطعم كَانَ مُسلما، لِأَنَّهُ أسلم يَوْم الْفَتْح، بل عَام خَيْبَر، فَمَا وَجه سُؤَاله إنكارا أَو تَعَجبا؟ ثمَّ أجَاب بقوله: لَعَلَّه لم يبلغ إِلَيْهِ فِي ذَلِك الْوَقْت قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . أولم يكن السُّؤَال ناشئا عَن الْإِنْكَار والتعجب، بل أَرَادَ بِهِ السُّؤَال عَن حِكْمَة الْمُخَالفَة عَمَّا كَانَت الحمس عَلَيْهِ، أَو كَانَ لرَسُول الله، صلى الله عليه وسلم، وَقْفَة بهَا قبل الْهِجْرَة. انْتهى. قلت: حج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا غير مرّة، وَأما بعد الْهِجْرَة فَلم يحجّ إلَاّ مرّة وَاحِدَة، وروى ابْن خُزَيْمَة وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه من طَرِيق ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي عبد الله بن أبي بكر عَن عُثْمَان عَن أبي سُلَيْمَان عَن عَمه نَافِع بن جُبَير عَن أَبِيه، قَالَ: كَانَت قُرَيْش إِنَّمَا تدفع من الْمزْدَلِفَة وَيَقُولُونَ: نَحن الحمس فَلَا نخرج من الْحرم، وَقد تركُوا الْموقف بِعَرَفَة، قَالَ:(فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْجَاهِلِيَّة يقف مَعَ النَّاس بِعَرَفَة على جمل لَهُ، ثمَّ يصبح مَعَ قومه بِالْمُزْدَلِفَةِ فيقف مَعَهم وَيدْفَع إِذا دفعُوا) ، وَلَفظ يُونُس بن بكير عَن ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي مُخْتَصرا، وَفِيه (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَائِما مَعَ النَّاس قبل أَن ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي تَوْفِيقًا من الله تَعَالَى لَهُ) . وَأخرجه إِسْحَاق أَيْضا عَن الْفضل بن مُوسَى عَن عُثْمَان بن الْأسود عَن عَطاء عَن جُبَير بن مطعم، قَالَ: أضللت حمارا لي فِي الْجَاهِلِيَّة فَوَجَدته بِعَرَفَة، فَرَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم، وَاقِفًا بِعَرَفَات مَعَ النَّاس، فَلَمَّا أسلمت عرفت أَن الله وَفقه لذَلِك.
5661 -
حدَّثنا فَرْوَةُ بنُ أبِي المَغْرَاءِ قَالَ حدَّثنا عَلِيُّ بنُ مُسْهِرٍ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ قَالَ عُرْوَةُ كانَ الناسُ يَطُوفُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إلَاّ الحُمْسَ والحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا ولَدَتْ وكانَتِ الحُمْسُ يحتَبِسُونَ علَى النَّاسِ يُعطي الرجلُ الرَّجلَ الثِّيابَ يَطُوفُ فِيهَا وتُعْطِي المرْأةُ المرأةَ الثِّيابَ تَطوفُ فِيهَا فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الحُمْسُ طافَ بالْبَيْتِ عُرْيانا وكانَ يُفِيضُ جَماعَةُ النَّاسِ مِنْ عَرَفاتٍ ويُفِيضُ الحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ قَالَ وأخبرَنِي أبِي عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ هذِهِ الآيَةَ نزَلَتْ فِي الحُمْسِ
ثُمَّ أفِيضُوا مِنْ حَيثُ أفَاضَ النَّاسُ قَالَ كانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ فدُفِعُوا إلَى عَرَفاتٍ.
(الحَدِيث 5661 طرفه فِي: 0254) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . لِأَن الْأَمر بالإفاضة من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس لَا يكون إلَاّ بعد الْوُقُوف بِعَرَفَة، فصاروا مأمورين بِالْوُقُوفِ فِي عَرَفَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: فَرْوَة، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْوَاو: ابْن أبي المغراء، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وبالراء وبالمد، مر فِي آخر الْجَنَائِز. الثَّانِي: عَليّ بن مسْهر، بِضَم الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْهَاء وبالراء: قَاضِي الْموصل، مر فِي: بَاب مُبَاشرَة الْحَائِض. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة وَقد تكَرر ذكره الرَّابِع: عُرْوَة بن الزبير. الْخَامِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه وَابْن مسْهر كوفيان، وَأَن هشاما وأباه عُرْوَة مدنيان. وَفِيه: أَن من قَوْله: (قَالَ عُرْوَة) إِلَى قَوْله: (وَأَخْبرنِي. .) مَوْقُوف وَمن قَوْله وَأَخْبرنِي إِلَى آخِره، مُتَّصِل. وَفِيه: قَالَ عُرْوَة، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن معمر: عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عُرَاة) ، جمع عارٍ، كقضاة جمع قاضٍ، وانتصابه على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي يطوفون، وَقد مر تَفْسِير الحمس عَن قريب. قَوْله:(وَمَا ولدت) أَي: وَأَوْلَادهمْ، وَاخْتَارَ كلمة: مَا، على كلمة: من، لعمومه. وَقيل: المُرَاد بِهِ والدهم وَهُوَ كنَانَة، لِأَن الصَّحِيح أَن قُريْشًا هم أَوْلَاد النَّضر بن كنَانَة، وَزَاد معمر هُنَا: وَكَانَ مِمَّن ولدت قُرَيْش خُزَاعَة وَبَنُو كنَانَة وَبَنُو عَامر بن صعصعة. وَعَن مُجَاهِد أَن مِنْهُم أَيْضا عدوان وَغَيرهم. قَوْله: (ويحتسبون) أَي: يُعْطون النَّاس الثِّيَاب حسبَة لله تَعَالَى. قَوْله: (يفِيض) ، أَصله من إفَاضَة المَاء وَهُوَ صبه بِكَثْرَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ، أَفَضْتُم دفعتم من كَثْرَة المَاء. قَوْله:(جمَاعَة النَّاس) أَي: غير الحمس. قَوْله: (من عَرَفَات) ، هُوَ علم للموقف، وَهُوَ منصرف إِذْ لَا تَأْنِيث فِيهَا. قَالَه الْكرْمَانِي: وَالتَّحْقِيق فِيهِ مَا قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ. فَإِن قلت: هلا منعت الصّرْف وَفِيه السببان التَّعْرِيف والتأنيث؟ قلت: لَا يَخْلُو التَّأْنِيث، إِمَّا أَن يكون بِالتَّاءِ الَّتِي فِي لَفظهَا، وَإِمَّا بتاء مقدرَة كَمَا فِي سعاد، فالتي فِي لفها لَيست للتأنيث، وَإِنَّمَا هِيَ مَعَ الْألف الَّتِي قبلهَا عَلامَة جمع الْمُؤَنَّث، وَلَا يَصح تَقْدِير التَّاء فِيهَا، لِأَن هَذِه التَّاء لاختصاصها بِجمع الْمُؤَنَّث مَانِعَة من تقديرها كَمَا لَا تقدر تَاء التَّأْنِيث فِي بنت، لِأَن التَّاء الَّتِي هِيَ بدل من الْوَاو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنييث، فَأَبت تقديرها. انْتهى. وَسميت عَرَفَات بِهَذَا الإسم إِمَّا لِأَنَّهَا وصفت لإِبْرَاهِيم، عليه الصلاة والسلام،، فَلَمَّا بصرها عرفهَا. أَو لِأَن جِبْرِيل، عليه الصلاة والسلام، حِين كَانَ يَدُور بِهِ فِي المشاعر أرَاهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ: قد عرفت. أَو لِأَن آدم، عليه الصلاة والسلام، هَبَط من الْجنَّة بِأَرْض الْهِنْد، وحواء، عليها السلام، بجذة، فَالْتَقَيَا ثمَّة فتعارفا أَو لِأَن النَّاس يَتَعَارَفُونَ بهَا. أَو لِأَن إِبْرَاهِيم صلى الله عليه وسلم عرف حَقِيقَة رُؤْيَاهُ فِي ذبح وَلَده ثمَّة أَو لِأَن الْخلق يعترفون فِيهَا بِذُنُوبِهِمْ. أَو لِأَن فِيهَا جبالاً، والجيال هِيَ الْأَعْرَاف، وكل عَال فَهُوَ عرف. قَوْله:(من جمع)، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمِيم: هِيَ الْمزْدَلِفَة، وَسمي بِهِ لِأَن آدم، عليه الصلاة والسلام، اجْتمع فِيهَا مَعَ حَوَّاء، عليها السلام، وازدلف إِلَيْهَا أَي: دنا مِنْهَا أَو لِأَنَّهُ يجمع فِيهَا بَين الصَّلَاتَيْنِ، وَأَهْلهَا يزدلفون أَي: يَتَقَرَّبُون إِلَى الله تَعَالَى بِالْوُقُوفِ فِيهَا. قلت: أَصْلهَا مزتلفة لِأَنَّهَا من زلف، فقلبت التَّاء دَالا لأجل الزَّاي. قَوْله:(قَالَ: وَأَخْبرنِي أبي) أَي: قَالَ هِشَام: وَأَخْبرنِي أبي عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله:(إِن هَذِه الْآيَة) أَي: قَوْله: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . وَاخْتلف أهل التَّفْسِير فِي هَذِه الْآيَة، فَقَالَ الضَّحَّاك: يُرِيد إِبْرَاهِيم، عليه السلام، يَعْنِي: يُرِيد من النَّاس إِبْرَاهِيم، عليه الصلاة والسلام، وَيُؤَيّد مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عَمْرو بن عبد الله بن صَفْوَان عَن يزِيد ابْن شَيبَان، قَالَ: أَتَانَا ابْن مربع الْأنْصَارِيّ، وَنحن وقُوف بالموقف، مَكَانا يباعده عَمْرو، فَقَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول: كونُوا على مشاعركم فَإِنَّكُم على إِرْث من إِرْث إِبْرَاهِيم، عليه الصلاة والسلام، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَاسم ابْن مربع: زيد، وَقيل: يزِيد، وَقيل: عبد الله بن مربع، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة. وَيزِيد بن شَيبَان أزدي وَله صُحْبَة. قَوْله:(كونُوا على مشاعركم) أَي: على مَوَاضِع الْمَنَاسِك، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد:(قفوا على مشاعركم)، وَفِي رِوَايَة حُسَيْن بن عقيل عَن الضَّحَّاك:(من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس)، أَي: الإِمَام، وَقيل: آدم، عليه الصلاة والسلام،
وَيُؤَيِّدهُ قِرَاءَة النَّاس: وَهُوَ آدم، عليه السلام من قَوْله تَعَالَى:{وَلَقَد عهدنا إِلَى آدم من قبل فنسي} (طه: 511) . وَقيل: {من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . أَي: سَائِر النَّاس غير الحمسن. وَقَالَ ابْن التِّين: وَهُوَ الصَّحِيح، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فَإِن قلت: فَكيف موقع: ثمَّ، يَعْنِي فِي قَوْله:{ثمَّ أفيضوا} (الْبَقَرَة: 991) . لِأَن ثمَّ تَقْتَضِي المهلة؟ قَالَ تَعَالَى: {فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام} (الْبَقَرَة: 991) . ثمَّ قَالَ: {ثمَّ أفيضوا} (الْبَقَرَة: 991) . والإفاضة من عَرَفَات قبل الْمَجِيء إِلَى الْمشعر الْحَرَام. وَأجَاب الزَّمَخْشَرِيّ: بِأَن موقع: ثمَّ، نَحْو موقعها فِي قَوْلك: أحسن إِلَى النَّاس ثمَّ لَا تحسن إِلَى غير كريم، تَأتي بثم لتَفَاوت مَا بَين الْإِحْسَان إِلَى الْكَرِيم وَالْإِحْسَان إِلَى غَيره، وَبَعْدَمَا بَينهمَا، فَكَذَلِك حِين أَمرهم بِالذكر عِنْد الْإِفَاضَة من عَرَفَات. قَالَ:{ثمَّ أفيضوا} (الْبَقَرَة: 991) . لتَفَاوت مَا بَين الإفاضتين وَأَن إِحْدَاهمَا صَوَاب وَالثَّانيَِة خطأ، وَأجَاب غَيره بِأَن: ثمَّ، بِمَعْنى الْوَاو، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ. وَقيل: لقصد التَّأْكِيد لَا لمحض التَّرْتِيب، وَالْمعْنَى: فَإِذا أَفَضْتُم من عَرَفَات فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام، ثمَّ اجعلوا الْإِفَاضَة الَّتِي تفيضونها من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس، لَا من حَيْثُ كُنْتُم تفيضون. وَقَالَ الْخطابِيّ: تضمن قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . الْأَمر بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَة، لِأَن الْإِفَاضَة إِنَّمَا تكون عَن اجْتِمَاع قبله. قَوْله:(فدفعوا إِلَى عَرَفَات) بِلَفْظ الْمَجْهُول أَي: أمروا بالذهاب إِلَى عَرَفَات حَيْثُ قيل لَهُم: ثمَّ أفيضوا، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:(فَرفعُوا) بالراء، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق أبي أُسَامَة عَن هِشَام رجعُوا إِلَى عَرَفَات، وَالْمعْنَى: أَنهم أمروا أَن يتوجهوا إِلَى عَرَفَات ليقفوا بهَا ثمَّ يفيضوا مِنْهَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْوُقُوف بِعَرَفَة وَهُوَ من أعظم أَرْكَان الْحَج، ثَبت ذَلِك بِفعل النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقَوله. أما فعله: فروى الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا روح حَدثنَا زَكَرِيَّاء بن إِسْحَاق أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن ميسرَة أَنه سمع يَعْقُوب بن عَاصِم بن عُرْوَة يَقُول: سَمِعت الشريد يَقُول: أشهد لوقفت مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَات، قَالَ: فَمَا مست قدماه اورض حَتَّى أَتَى جمعا، والشريد بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء: ابْن سُوَيْد الثَّقَفِيّ، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: حَدثنَا ابْن حميد حَدثنَا جرير عَن عَطاء بن السَّائِب عَن عبد الله بن ربيعَة عَن أَبِيه، رجل من قُرَيْش، قَالَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يقف بِعَرَفَة مَوْضِعه الَّذِي رَأَيْته يقف فِيهِ فِي الْجَاهِلِيَّة. وَأما قَوْله: فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ:(وقف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَة فَقَالَ: هَذِه عَرَفَة وَهُوَ الْموقف، وعرفة كلهَا موقف) الحَدِيث.
وروى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث جُبَير بن مطعم، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (كل عَرَفَات موقف، فارفعوا عَن عُرَنَة، وكل مُزْدَلِفَة موقف فارفعوا عَن محسر، وكل أَيَّام منى منحر وَفِي كل أَيَّام التَّشْرِيق ذبح) . وَفِي هَذِه الْأَحَادِيث تعْيين عَرَفَة للوقوف، وَأَنه لَا يَجْزِي الْوُقُوف بغَيْرهَا، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم. وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن مَالك أَنه يَصح الْوُقُوف بعرنة، بِضَم الْعين وَالنُّون، والْحَدِيث الْمَذْكُور حجَّة عَلَيْهِ، وحد عَرَفَة مَا رَوَاهُ الْأَزْرَقِيّ فِي (تَارِيخ مَكَّة) بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس، قَالَ: حد عَرَفَة من قبل الْمشرق على بطن عُرَنَة إِلَى جبال عُرَنَة إِلَى وصيق إِلَى ملتقى وصيق إِلَى وَادي عُرَنَة. ووصيق، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره قَاف، وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الْأَوْسَط) من مَنَاسِكه: وعرفة مَا جَاوز بطن عُرَنَة وَلَيْسَ الْوَادي وَلَا الْمَسْجِد مِنْهَا إِلَى الْجبَال الْمُقَابلَة مِمَّا يَلِي حَوَائِط ابْن عَامر وَطَرِيق الحضن، وَمَا جَاوز ذَلِك فَلَيْسَ بِعَرَفَة، و: الحضن، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة المفتوحتين. وَابْن عَامر هُوَ عبد الله بن عَامر بن كريز، وَكَانَ لَهُ حَائِط نخل وَكَانَ فِيهَا عين. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَهُوَ الْآن خراب. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلفُوا إِذا دفع من عَرَفَة قبل غرُوب الشَّمْس وَلم يقف بهَا لَيْلًا، فَذهب مَالك إِلَى أَن الِاعْتِمَاد فِي الْوُقُوف بِعَرَفَة على اللَّيْل من لَيْلَة النَّحْر، وَالنَّهَار من يَوْم عَرَفَة تبع، فَإِن وقف جزأ من اللَّيْل أَي جزءٍ كَانَ قبل طُلُوع الْفجْر من يَوْم النَّحْر أَجزَأَهُ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ: الِاعْتِمَاد على النَّهَار من يَوْم عَرَفَة من وَقت الزَّوَال وَاللَّيْل كُله تبع، فَإِن وقف جزأً من النَّهَار أَجزَأَهُ، وَإِن وقف جزأً من اللَّيْل أَجزَأَهُ، إلَاّ أَنهم يَقُولُونَ: إِن وقف جزأ من النَّهَار بعد الزَّوَال دون اللَّيْل كَانَ عَلَيْهِ دم، وَإِن وقف جزأ من اللَّيْل دون النَّهَار لم يجب عَلَيْهِ دم، وَذهب أَحْمد بن حَنْبَل إِلَى أَن الْوُقُوف من حِين طُلُوع الْفجْر من يَوْم عَرَفَة إِلَى طُلُوع الْفجْر من لَيْلَة النَّحْر، فسوى بَين أَجزَاء اللَّيْل وأجزاء النَّهَار. وَقَالَ ابْن قدامَة: وعَلى من دفع قبل الْغُرُوب دم فِي قَول أَكثر أهل الْعلم، مِنْهُم عَطاء وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر، وَأَصْحَاب الرَّأْي. وَقَالَ ابْن جريج: عَلَيْهِ بَدَنَة، وَقَالَ الْحسن بن أبي الْحسن: عَلَيْهِ هدي من الْإِبِل، فَإِن دفع قبل الْغُرُوب ثمَّ عَاد نَهَارا فَوقف حَتَّى غربت الشَّمْس فَلَا دم عَلَيْهِ،