المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ علاقتها بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - سيرتها، فضائلها، مسندها - رضي الله عنها - - جـ ١

[إبراهيم بن عبد الله المديهش]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة:

- ‌حدود الكتاب:

- ‌الدراسات السابقة، والمؤلفات المفردة في فاطمة:

- ‌خطة الكتاب

- ‌تنبيهات:

- ‌ لِمَ الإطالة العلمية في موضوع فاطمة رضي الله عنها

- ‌التمهيد:

- ‌المبحث الأول:المؤلفات في فاطمة رضي الله عنها ــ عرض ونقد

- ‌القسم الأول: الكتب المطبوعة:

- ‌القسم الثاني: المخطوطات في فاطمة رضي الله عنها

- ‌المبحث الثاني:ترجمة فاطمة رضي الله عنها

- ‌سبب إيراد هذه الترجمة مع أن الكتاب كلَّه ترجمة:

- ‌ لم يبقَ شئٌ من آثار النبي صلى الله عليه وسلم الحسية

- ‌ من أوائل من دخل في الإسلام

- ‌ هل تعرَّض الحويرثُ بنُ نُقَيذ لفاطمة وأم كلثوم رضي الله عنهما عند هجرتهما

- ‌ لقَبُ الأشراف

- ‌ لقب: الحسَني أو الحُسَيني الهاشمي، أفضل وأحسن من لقب: الشريف أو السيد

- ‌حَريٌّ أن يُمنَع هذا اللقب «الهاشمي» في بلاد الإسلام إلا لآلِ النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ اللباس:

- ‌ إطلاق لفظ السيد على البشر

- ‌نكاح الفاطميات من غير الفاطميين

- ‌ عِلمُ فاطمة رضي الله عنها

- ‌ الكذب على فاطمة رضي الله عنها

- ‌ علاقتها بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ قصائد في مدح فاطمة رضي الله عنها

- ‌ منظومات لترجمة فاطمة رضي الله عنها

- ‌ من ترجم لفاطمة رضي الله عنها

- ‌المبحث الثالث:عقيدة أهل السنة والجماعة في آل بيت النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم

- ‌من أخبار السلف في تعظيم آل البيت:

- ‌أقوال أئمة الاعتقاد في آل البيت:

- ‌المبحث الرابع:عناية أهل السنة والجماعة بجمع مرويات…آل البيت وفضائلهم

- ‌ الكتب المفردة العامة في آل البيت

- ‌ الكتب المفردة في ذرية النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ الكتب المفردة في بني هاشم

- ‌المبحث الخامس:‌‌فاطمة رضي الله عنها في كتب: الرافضة،…والإسماعيلية، والمستشرقين

- ‌فاطمة رضي الله عنها في كتب: الرافضة

- ‌ فاطمة رضي الله عنها في كتب الإسماعيلية

- ‌ فاطمة رضي الله عنها في كتب المستشرقين

- ‌من كتابات المستشرقين المفردة(1)عن فاطمة رضي الله عنها

- ‌ المدرسة الاستشراقية في كتابات السيرة:

- ‌ انتبه بعضُ المستشرقين إلى الغلو والأساطير المفتعلة من الرافضة

- ‌إنَّ أسعدَ الناس بمحبة وموالاة ومتابعة آل البيت ــ ومنهم فاطمة رضي الله عنها ــ هم أهل السنة والجماعة لا غير

- ‌المبحث السادس:تطبيق منهج النقد الحديثي على مرويات السيرة،…والروايات التاريخية؛ للقبول أو الرد

- ‌ كتب التاريخ العامة ليست من عُمَد أهل السنة والجماعة في معرفة أحكام الشريعة، وفضل الصحابة وأحوالهم

- ‌«مَن وُثِّق في عِلْمٍ وضُعِّف في آخر

- ‌عُلِم مما سبق أنَّ المغازي، والتفسير، والملاحم، تَقِلُّ فيها الأسانيدُ الصحيحةُ المتَّصِلَةُ، فما بالُكَ بما دونها من الآثارِ في سِيَر وقَصَصِ الصحابة، ثم التابعين، ثم مَن بعدَهم التي تَرِدُ في كُتُبِ التاريخ، وكُتُبِ مَنْ حشَاها بالروايات المنكرة

- ‌ ذكر ابن حجر: أن المؤرِّخ لايكتفي بالنقل الشائع، لا سيما إذا ترتب على ذلك مفسدة

- ‌ليس من الصوابِ أن نُقسِّم المسألة إلى: أحاديث نبوية، وروايات تاريخية فقط، فهذا تقسيم قاصِر، بل ينبغي أن تُعرَفَ مَراتِبُ الأحاديث، والمرويات

- ‌ مرويات سيرةِ فاطمة رضي الله عنها تُعتَبَرُ من الأحاديث النبوية

الفصل: ‌ علاقتها بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم

23.

‌ علاقتها بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم

-.

لما حصل بين أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يحصل بين الأزواج، وكنَّ حزبين رضي الله عنهن كما في «الصحيح» ، أرسلَ حِزبُ أمِّ سلمة فاطمةَ لأبيها صلى الله عليه وسلم يَنشُدْنَ العدلَ في ابنةِ أبي قُحَافة، فلَمْ يجب النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنتَه، بل حثَّها على حُبِّ عائشة.

(1)

وكانت بين عائشة وفاطمة علاقة حميمية رضي الله عنهما.

ومما ورد في الباب:

ما أخرجه: ابنُ وهب في «الجامع» ـ تحقيق الحمَّادي ـ (1/ 388) رقم

(623).

وابنُ سعد في «الطبقات الكبرى» (8/ 127) عن مَعْنِ بن عيسى.

كلاهما: (ابنُ وهب، ومَعْن) عن مَخْرَمَةَ بن بُكَير، عن أبيه، قال: سمعتُ عمرَ بنَ عبدِالله، يقول: سمعتُ سعيدَ بنَ المسيب، يقول:«قَدِمَتْ صَفِيةُ بنتُ حُييٍّ وفي أُذُنيها أخْرِصَةٌ مِن ذَهَبٍ، فوَهَبَتْ لِفَاطِمَةَ بنتِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولِنسَاءٍ معَهَا» .

(1)

كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، وسيأتي في الباب الثاني: الفصل الأول: المبحث السابع.

ص: 256

مُرسلٌ وإسنادُه صَحيحٌ، وقد صحَّحَ إسنادَه ابنُ حجر.

(1)

وأخرج ابنُ وهب ـ أيضاً ـ في «الجامع» (1/ 389) رقم (624) عن مالك بن أنس، أنَّ صفيةَ بنتَ حُيَيٍّ، قَدِمَتْ من خَيبَرَ بخُرصَيْنِ مِن ذَهَبٍ، فوهَبَتْ منها لِفاطمة بنتِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولبعضِ أزواجه.

قال ابن الأثير: (الخُرص ـ بالضمِّ والكَسْرِ ـ: الحلْقَةُ الصغيرَةُ من الحُلِيِّ، وهُوَ مِن حُلِيِّ الأُذُن).

(2)

24.

طلب منها الشفاعة عند والدها صلى الله عليه وسلم: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان.

ــ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:

سبق ذكر طلبهن في المسألة السابقة.

ــ أبو سفيان رضي الله عنها:

جاء أبو سفيان رضي الله عنه ــ قبل إسلامه ـ إلى المدينة، قبل فتح مكة، يريد العفو من النبي صلى الله عليه وسلم بعد نقض العهد، فطلب من فاطمة أن تشفعَ له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجدد الهدنة التي بينه وبين قريش

(1)

«الإصابة» (8/ 211).

(2)

«النهاية» (2/ 22).

ص: 257

قال عبدالرزاق الصنعاني (ت 211 هـ) رحمه الله: عن مَعمَر، عن عثمان الجزَرِي، عن مِقْسَمٍ.

قال مَعْمَر: وكان يُقال لعثمان الجزري المشاهد، عن مِقْسَمٍ مَولى ابن عباس

(1)

، قال: لما كانت المدَّةُ التي كانت بينَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش زمن الحديبية، وكانت سنين ذَكرَ أنها كانت حَربٌ بَين بني بكرٍ ــ وهم حُلَفَاءُ قُريش ــ، وبين خُزَاعَة ــ وهُمْ حُلَفاءُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ـ؛ فأعانَت قريشٌ حُلَفاءَه عَلى خُزاعة، فبلغَ ذلكَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال:«والذي نفسي بيده، لأمنعَنَّهُم مما أمنَعُ مِنهُ نَفْسِي وأهلِ بَيتِي» .

وأخذَ في الجهَازِ إليهم، فبلَغَ ذلكَ قُرَيشَاً، فقالوا لأبي سفيان: ما تصنَعُ وهذهِ الجيوش تجهَّزُ إلينا؟ ! انطَلِقْ فجَدِّدْ بينَنا وبينَ محمَّدٍ كِتَابَاً، وذلك مَقدَمَهُ مِن الشام.

فخرَجَ أبو سفيان حتَّى قَدِمَ المدينة، فكَلَّمَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: هَلُمَّ فلَنْجُدِّدْ بيننا وبينَك كِتَابَاً.

فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فنحنُ على أمرِنَا الذي كانَ، وهَلْ أحدَثْتُمْ مِن حَدَثٍ» ؟

(1)

مِقْسَم بن بُجْرة، ويقال: نجدة، أبو عبدالله، مولى عبدالله بن الحارث، ويقال له: مولى ابن عباس للزومه له. صدوقٌ، وكان يُرسِل (101 هـ). «تقريب التهذيب» (ص 574).

ص: 258

فقال أبو سفيان: لا.

فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فنحنُ عَلى أمْرِنَا الذي كان بيننا» .

فجاءَ عَليَّ بنَ أبي طالب فقال: هَلْ لكَ عَلى أنْ تسُودَ العرَبَ، وتمُنَّ عَلى قَومِكَ فتُجِيْرَهُمْ، وتُجَدِّدَ لهم كتاباً؟ فقال عليٌّ: ما كنتُ لأفتَاتَ عَلى

رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بأمْرٍ.

ثمَّ دخَلَ ــ أبو سفيان ـ عَلى فاطِمَةَ، فقالَ: هَل لَكِ أنْ تَكُوْنِي خَيْرَ سَخْلَةٍ

(1)

في العَرَبِ؟ أنْ تُجيرِي بَينَ الناس، فقد أجارَتْ أختُكِ عَلى

رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم زوجَها أبا العاص بن الربيع فلَمْ يُغَيِّرْ ذلِكَ.

فقالت فاطمة: ما كنتُ لأفتَاتَ عَلى رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بأمرٍ.

ثم قال ذلكَ للحسَنِ والحُسَين: أجِيرَا بَين الناس، قُولا: نَعَمْ، فلَمْ يقُولا شيئاً، ونظَرَا إلى أمِّهِما وقالا: نقولُ ما قالَتْ أمُّنَا.

فلَم يَنجح مِن واحِدٍ منهم مَا طلَب .... الحديث.

(2)

وقال ابن أبي شيبة (ت 235 هـ) رحمه الله: قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، قال: لما وادَع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة، وكانَتْ خُزاعة حلفاءُ رسولِ الله

(1)

كذا في طبعة الأعظمي، وط. التأصيل (5/ 43) رقم (10476).

(2)

«المصنف» لعبد الرزاق الصنعاني (5/ 375) رقم (9739)، وهو مرسل.

ص: 259

- صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، وكانت بنو بكر حلفاء قريش، فدخلَت خزاعة في صُلح رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ودخلَت بنو بكر في صلح قريش، فكان بين خزاعة وبين بني بكر قتال، فأمدَّتْهم قريشٌ بسلاح وطعام، وظللوا عليهم، فظهرَت بنو بكر على خزاعة، وقتلوا فيهم، فخافت قريش أن يكونوا قد نقَضُوا، فقالوا لأبي سفيان: اذهب إلى محمد فأَجِزْ الحِلْفَ، وأصلح بين الناس .... ثم أتى أبا بكر، ثم عمر، ثم فاطمة، وقال لها: يا فاطمة، هل لك في أمر تَسُودِين فيه نساءَ قومك، ثم ذكر لها نحواً مما ذكرَ لأبي بكر، فقالت: ليس الأمرُ إليَّ، الأمرُ إلى الله وإلى رسُولِه. ثمَّ أتى عَلِيَّاً

الحديث.

(1)

قال الواقدي (ت 207 هـ) رحمه الله: وحدثني عبدالله بن محمد، عن أبيه، قال: دخل أبو سفيان على فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم فكلَّمَها فقال: أجيري بين الناس! فقالت رضي الله عنها: إنما أنا امرأةٌ. قال: إنَّ جِوارَكِ جَائِزٌ، قَدْ أجارَتْ أُختُكِ أبا العاص بن الربيع، فأجازَ ذلكَ محمد.

قالت فاطمة: ذلكَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم! وأبَت ذلك عليه.

فقال: مُرِي أحدَ بَنِيكِ يُجِيرُ بين الناس!

قالت فاطمة: إنهما صَبِيَّان، وليس مِثلُهُما يُجير.

(2)

(1)

«المصنف» لابن أبي شيبة (20/ 460) رقم (38057)، وهو مرسل.

(2)

«المغازي» للواقدي (2/ 793 ـ 294).

ص: 260

فلما أَبَتْ عَلَيْهِ، أتَى عَلِياً رضي الله عنه فقال: يا أبا الحسن، أَجِرْ بَين الناس، وكَلِّمْ محمداً يَزيدُ في المدَّةِ! قال عليٌّ: ويحكَ يا أبا سفيان! إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ عزَمَ ألا يَفعَلْ، ولَيسَ أحدٌ يَستطِيعُ أن يُكلِّمَ رسولَ الله في شَيءٍ يكرَهُهُ ..... الحديث.

وعند البيهقي بإسناده إلى موسى بن عقبة: ( ..... فلما يئس أبو سفيان مما عندهم دخلَ على فاطمة بنتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلَّمَهَا فقالت: إنما أنا امرأة، وإنما ذاك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأمُرِي أحدَ ابنَيْكِ، قالت رضي الله عنها: إنما هما صبيَّان ليس مثلهما يُجِير، قال: فكلِّمِي عليَّاً، قالت: أنتَ فكلِّمْهُ، فكلَّمَ عليَّاً

الحديث.

(1)

وأخرج البيهقي ـ أيضاً ـ بإسناده إلى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثنا الزهري، عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكَم، والمِسْوَر بن مَخْرَمَة، أنهما حدثاه جميعاً، قالا: كان في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بينه وبين قريش أنه مَن شاء يدخل في عقْدٍ محمد وعَهدِه دخل، ومَن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل ....

فذكر طلب أبو سفيان الشفاعة من أبي بكر، ثم عُمر .... وامتناعهما

ثمَّ خرَجَ أبو سفيان فدخلَ عَلَى عَلِيِّ بنِ أبي طالب وعندَه فاطمةُ بنتُ

(1)

«دلائل النبوة» للبيهقي (5/ 9).

ص: 261

رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وعندَهَا حسَنٌ، غلامٌ يدبُّ بين يديها، فقال: يا عليٌّ، إنك أمسُّ القومِ بي رَحِمَاً، وأقربُهُمْ مِنِّي قَرابَةً، وقد جِئتُ في حَاجَةٍ، فلا أرجِعَنَّ كما جِئتُ خَائِبَاً، فاشْفَعْ لي إلى رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمَه فيه، فالتَفَتَ إلى فاطمة رضي الله عنها، فقال: يا بنتَ محمَّدٍ، هل لكِ أن تَأمُرِي بَنِيْكِ هَذَا، فيُجِيرَ بَينَ الناس؛ فيَكُونَ سَيِّدَ العَرَبِ إلى آخر الدهر؟

فقالت فاطمة رضي الله عنها: والله ما بلغَ بَنِييَّ ذاكَ أنْ يُجيرَ بَينَ الناس، وما يُجيرُ أحدٌ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

فقال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدَّتْ عليَّ فانصحني

الحديث.

(1)

يُلحظ أن في رواية ابن إسحاق، لم يطلب أبو سفيان من فاطمة أن تشفع، بل أن تأمر ولدَها الحسن رضي الله عنهم، بخلاف رواية الواقدي، وموسى بن عُقبة، ومِقْسَم، وعكرمة ـ والله أعلم ـ.

(1)

«دلائل النبوة» للبيهقي (5/ 6 ـ 8).

وانظر: «إمتاع الأسماع» للمقريزي (1/ 350)، «البداية والنهاية» لابن كثير

(6/ 517)، «سبل الهدى والرشاد» للصالحي (5/ 207)، «شرح المواهب اللدنية» للزرقاني (3/ 385)، «السيرة الحلبية» (3/ 105).

ص: 262

25.

مع أبي لبابة رضي الله عنه

قصةُ أبي لبابة بن عبدالمنذر الأنصاري رضي الله عنه وربطِه نفسَه في المسجد ندَماً على خطئيته ــ إما بعد غزوة تبوك، وإما بعد قريظة على اختلاف في ذلك ــ، وحَلَفَ أن لا يحِلَّ رِبَاطَه إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فحلَّه الرسولُ صلى الله عليه وسلم ـ كذا في أغلب الأسانيد والروايات وهي من روايات السير والمغازي ــ وهذا القول هو المتناقل عند المحدِّثين والمفسرين والمؤرِّخِين.

وفي رواية ضعيفة جداً: أن فاطمةَ رضي الله عنها هي التي حلَّتْهُ وفكَّت رباطه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إثرَ ذلك:«هي بضعةٌ مني» .

فبَرَّ أبو لبابة بيَمِيْنِهِ.

والصوابُ والأشهر، هوالأول، ولا يصح لفاطمة ذكرٌ في القصة.

قال عبدالرزاق الصنعاني (ت 204 هـ) رحمه الله: عن مَعمَرٍ قال: أخبرني الزهري، قال: كان أبو لبابة ممَّنْ تخلَّفَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فربَطَ نفسَه بِسَارِيَةٍ، ثم قال: والله لا أَحِلُّ نفسِي منها، ولا أذوقُ طعامَاً ولا شَرابَاً حتَّى أموتَ أوْ يتُوبَ الله عليَّ.

فمَكَثَ سبعةَ أيام لا يذوقُ فيها طعاماً ولا شراباً، حتى كان يخِرُّ مَغشِيَّاً عليه قال: ثم تاب الله عليه فقِيلَ له: قد تِيْبَ عليكَ يا أبا لبابة. فقال: والله

ص: 263

لا أحِلُّ نفسِي حتى يكونَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يحلُّنِي بيدِهِ.

قال: فجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم فحلَّه بِيدِهِ، ثم قال أبو لبابة:

يا رسولَ الله، إنَّ مِن تَوبَتِي أنْ أهجُرَ دارَ قَوْمِي التي أصبْتُ فيها الذَّنْبَ، وأنْ أنخَلِعَ مِن مالي كُلِّهِ صدقةً إلى الله وإلى رسُولِه.

قال صلى الله عليه وسلم: «يجزِيْكَ الثُّلُثُ يَا أبَا لُبَابَةَ» .

(1)

وأخرجه: ابنُ جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال الزهري

فذكره.

(2)

وقال ابن جرير الطبري (ت 310 هـ) رحمه الله: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمِّي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله:{(101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} (التوبة: 102) وذلك أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوةَ تبوك، فتخلَّف أبو لبابة وخمسةً معه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

ثمَّ إنَّ أبا لُبَابَةَ ورَجُلَين معه تفكَّرُوا ونَدِمُوا وأيقَنُوا بالهَلَكَةِ، وقالوا:

(1)

«المصنف» لعبدالرزاق (2/ 163) رقم (1123)، و (5/ 405 ـ 406) رقم

(9745).

(2)

«تفسير ابن جرير» (11/ 657).

ص: 264

نكونُ في الكِنِّ والطمأنينةِ مع النساء، ورسولُ الله والمؤمنونَ معَهُ في

الجهاد؟ ! والله لَنُوَثِّقَنَّ أنفسَنَا بالسَّوَارِي، فلا نُطْلِقهَا حتى يكونَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو يُطلِقُنَا ويَعذِرُنَا.

فانطلق أبو لبابة وأوثقَ نفسَه، ورجلان معَه بسَواري المسجد، وبقِيَ ثلاثةُ نفَرٍ لم يُوثِقُوا أنفسَهَم.

فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته، وكان طريقُه في المسجد، فمرَّ عليهم، فقال:«مَن هؤلاء الموثقِو أنفسهم بالسواري» ؟ فقالوا: هذا أبو لبابة وأصحابٌ له تخلَّفُوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاهدوا الله أن لا يطلِقُوا أنفسَهم حتى تكونَ أنتَ الذي تُطلِقُهُمْ وتَرضَى عنهم، وقد اعترَفُوا بذنوبهم.

فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «والله لا أُطلِقُهُمْ حتَّى أُومَرُ بإطلاقِهِم، ولا أَعذُرُهُم حتَّى يكونَ الله هُوَ يعذُرُهُمْ، وقد تخلَّفُوا عنِّي، ورَغِبُوا بأنفسِهم عَن غزوِ المسلمين وجهادِهم» .

فأنزل الله برحمتِهِ: {(101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} التوبة: 102 وعسى

مِن الله واجبٌ. فلما نزلت الآيةُ أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرَهم، وتجاوزَ عنهم.

(1)

ص: 265

وقال ابن جرير ـ أيضاً ـ: حُدِّثْتُ عن الحُسين بن الفرج، قال: سمعتُ أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك، يقول .... فذكر تفسيراً نحو تفسير ابن عباس.

(1)

وذكر ابن جرير الأقوالَ في الموضوع ـ وليس فيه الشاهد عن فاطمة ـ ثم قال: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك قولُ مَن قال: نزلَت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخلُّفِهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتَركِهم الجهاد معَهُ والخروجَ لِغزو الروم حين شخَصَ إلى تبوك، وأن الذين نزلَ ذلك فيهم جماعةٌ أحدُهُم أبو لبابة.

وإنما قُلْنَا ذلك أولى بالصواب في ذلك، لأن الله جَلَّ ثناؤه قال:

{(101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا} فأخبرَ عن اعترافِ جماعةٍ بذنوبهم، ولم يكن المعترفُ بذنْبِهِ الموثِّقُ نفسَه بالسارية في حصار قريظة غيرَ أبي لبابة وحدَهُ. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تبارك وتعالى قد وصفَ في قوله:{(101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا} بالاعترافِ بذنوبهم جماعةً، عُلِمَ أنَّ الجماعةَ الذين وصفَهُمْ بذلك السببِ غيرُ الواحد، فقد تبيَّنَ بذلك أنَّ هذه الصفة إذا لم تكن إلا لجماعة، وكان لا جماعةَ فعَلَتْ ذلك فيما نقلَهُ أهلُ السِّيَرِ والأخبار، وأجمعَ عليه أهلُ

ص: 266

التأويل إلا جماعةٌ مِن المتخلِّفِين عن غزوة تبوك؛ صحَّ ما قُلنا في ذلك، وقُلْنَا: كان منهم أبو لبابة؛ لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك).

(1)

وورد ربط أبي لبابة نفسَه في غزوة بني قريظة:

قال البيهقي (ت 458 هـ) رحمه الله: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس، عن ابن إسحاق، قال: فحدثني والدي إسحاق بن يسار، عن معبد بن كعب بن مالك السلمي، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حاصرَهم خمساً وعشرين ليلةً حتَّى أجهدَهُمْ الحِصَار، وقذَفَ الله عز وجل الرعبَ في قلوبهم، وكان حَييُّ بنُ أخطَبٍ دخَلَ مع بني قُريظة في حِصنِهِم حينَ رجعَتْ قُريشُ وغطَفَانُ؛ وفاءً لِكَعْبِ بنِ أسَدٍ بما كان عاهدَه عليه ..... إلى أن قال:

ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابعَثْ إلينا أبا لبابة بن عبدالمنذر ـ وكانوا حُلَفَاء الأوس ـ؛ نَستشِيرُهُ في أمرِنَا، فأرسَلَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه، قامَ إليه الرِّجَالُ، وجهَشَ إليه النساءُ والصبيانُ يَبْكُونَ في وجهِهِ، فرَقَّ لهم، وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزِلَ على حُكْمِ محمد؟ فقال: نعم. وأشار بيده إلى حَلْقِهِ؛ أنَّه الذبح.

ص: 267

قال أبو لبابة: فوَالله، ما زالَتْ قدَمَايَ تَرجُفَان، حين عرَفْتُ أني قد خُنْتُ اللهَ ورسولَه.

ثم انطلقَ أبو لبابة على وجهِهِ، ولم يأَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبطَ في المسجد إلى عمُودٍ من عُمُدِهِ، وقال: لا أبرحُ مَكَاني هذا حتى

يتُوبَ الله عليَّ مما صنعْتُ. وعاهد الله أن لا يطَأَ بَنِي قُريظةَ أبدا، ولا يَراني في بَلدٍ خُنْتُ الله ورسولَه فيه.

فلما بلَغَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خبرَهُ، وكان قَدْ استبطَأَهُ، قال:«أما لَوْ جاءَني، لاستَغْفَرتُ لَه، فأمَّا إذْ فعَلَ الذي فعَلَ، مَا أنا بالذي يُطلِقُهُ مِن مَكانِهِ حتَّى يتوبَ الله عليه» .

قال البيهقي: هكذا قال ابنُ إسحاق بإسناده، وزعَم سعيد بن المسيب أن ارتباطَه بسارية التَوبةِ كان بعدَ تخلُّفِهِ عن غزوة تبوك، حينَ أعرضَ عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهُو عليه عاتِبٌ بما فعَلَ يوم قريظة، ثم تخلَّفَ عن غزوة تبوك فيمن تخلف، والله أعلم.

وفي رواية علي بن أبي طلحة، وعطية بن سعد، عن ابن عباس في ارتباطه حين تخلف عن غزوة تبوك، ما يؤكد قول ابن المسيب.

(1)

(1)

«دلائل النبوة» (4/ 15 ـ 16).

ص: 268

ثم قال البيهقي (4/ 16): أخبرنا أبو عبدالله الحافظ، قال: حدثنا

أبو العباس محمد بن يعقوب قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثنا يزيد بن عبدالله بن قسيط، أنَّ توبة أبي لبابة نزلَتْ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهُو في بيتِ أمِّ سلمة، فقالَت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من السَّحَرِ وهُو يَضحَكُ، فقلتُ: مَا يُضحِكُكَ؟ أضحَكَ الله سِنَّكَ.

فقال: «تِيبَ عَلى أبي لبابة» .

فقلتُ: ألا أُبشِّرُهُ يا رسول الله بذاك؟

فقال: «بلى إنْ شِئتِ» .

فقُمْتُ على بابِ حُجْرَتي فقلتُ ــ وذلك قبل أن يُضربَ علينا الحجابُ ـ: يا أبا لبابة، أَبشِرْ، فقد تابَ الله عليكَ.

فثار الناسُ إليه لِيُطْلِقُوهُ، فقال: لا، والله حتَّى يكونَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يُطلِقُنِي بيده.

فلمَّا مَرَّ عليه خَارِجَاً إلى صلاة الصبح، أطلَقَهُ.

(1)

(1)

«دلائل النبوة» (4/ 16).

والذين ذكروا أنَّ الآيةَ نزلَتْ في أبي لُبَابة بعدما ما قال لبني قريظة: عبدُالله بنُ قتادة، والزهريُّ، والكلبيُّ، والسديُّ، وعكرمةُ.

انظر: «الدر المنثور» للسيوطي ـ ط. هجر ـ (7/ 91 ـ 93)، و «زاد المسير في علم التفسير» لابن الجوزي (2/ 202).

ص: 269

قال ابن عبدالبر (ت 463 هـ) رحمه الله: ولا يتصل حديث أبي لبابة فيما علمتُ، ولا يستَنِدُ. وقِصَّتُهُ مَشهُورَةٌ في السِّيَرِ مَحفُوظَةٌ.

ذكر ابن عبدالبر حديث الزهري، وأن ابن إسحاق رواه فجوَّده بطولها وتمامها في قصة قريظة. ثم نقل قول ابن هشام في القصة، عن زياد، عن ابن إسحاق، ثم ذكر من مسند بقي بن مخلد أثر عكرمة في سبب نزول الآية.

ثم ذكر ابن عبدالبر أن حديث أبي لبابة منقطع لا يتصل إسناده إلا على ما ذكرنا.

(1)

قلتُ: جميع الأسانيد الماضية وغيرها على ما فيها من الضعف والانقطاع، تناقله أهل السير والمغازي، وقبِلُوه.

لكن: ليس فيه شَئٌ عن فاطمة رضي الله عنها.

وقد رُوي مِن وَجهٍ واحدٍ أنَّ فاطمة هي التي حلَّتْ رِبَاط أبي لبابة؟

قال ابن حزم (ت 456 هـ) رحمه الله: ( .... مَوَّهَ بعضُهُم بأنْ ذكَرَ مَا رَوينَاهُ مِن طريقِ حماد بنِ سَلَمَةَ، عن علي بن زيد بن جُدْعَان، عن علي بن

(1)

«التمهيد» (20/ 83 ـ 87).

انظر تخريجه وبيان الاختلاف على الزهري:

«التفسير» لسعيد بن منصور ـ بتخريج د. الحميِّد ـ (5/ 205) رقم (987)

و (988)، و «المسند المصنف المعلل» (29/ 274) رقم (13337).

ص: 270

الحسين: «أنَّ أبا لبابة ربَطَ نفسَهُ إلى ساريةٍ

(1)

، وقال: لا أَحِلُّ نَفْسِي حتَّى يحِلَّنِي رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أو تَنزِلَ تَوبَتِي.

فجاءَتْ فاطمةُ تُحِلَّه، فأَبَى إلا أنْ يُحِلَّهُ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: إنَّ فاطمةَ بَضْعَةٌ مِنِّي».

فهذا لا يَصِحُّ، لأنَّه مُرْسَلٌ، ثمَّ عَن علي بن زيدٍ

(2)

، وهُو ضَعيفٌ).

(3)

ونقلَهُ عبدُ الحق الإشبيلي عن ابن حزم، وقال عقبه:(هذا مرسل، وعلي بن زيد ضعَّفَه أكثرُهم).

(4)

قلتُ: لم أجدْهُ مسنداً، إلا هذا المعلَّق وهو مع ذلك مُرسَلٌ، وفيه ابنُ جُدعان.

(1)

هذه السارية تُسمَّى: أسطوانة أبي لبابة، وتسمَّى أيضاً: أسطوانة التوبة، وذكر بعض المؤرِّخين كابن النجار أن هذه الاسطوانة هي التي رُبِط فيها ثمامة بن أثال.

انظر الحديثَ عن «أسطوانة أبي لبابة = أسطوانة التوبة» : «وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى» للسمهودي (2/ 442)، «معجم المعالم الأثرية في المدينة المنورة في ضوء المصادر الأصلية» د. سعود الصاعدي رحمه الله (ص 79 ـ 84).

(2)

علي بن زيد بن جُدعان، ضعيف. «تقريب التهذيب» (ص 432).

(3)

«المحلَّى» (8/ 57).

(4)

«الأحكام الوسطى (4/ 35).

ص: 271

قال السُّهَيلي (ت 581 هـ) رحمه الله: (حول قصة أبي لبابة:

فصلٌ: وذكَر أبا لبابة واسمُه: رفاعة بن عبد المنذر بن زنبر، وقيل: اسمه مبشر، وتوبتَهُ وربطَهُ نفسَهُ حتَّى تابَ الله عليه، وذكَرَ فيه أنه أقسَمَ ألا يَحِلَّهُ إلا رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم.

وروى حمادُ بن سلمة، عن علي بن زيد، عن علي بن الحسين: أنَّ فاطمةَ أرادَت حِلَّهُ حِين نَزلَتْ تَوبتُهُ، فقال: قَدْ أقسَمْتُ ألا يُحِلَّنِي إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إن فاطمة مضغة مني» .

فصَلَّى الله علَيهِ وَعَلَى فاطمةَ.

فهَذَا حَديثٌ يَدُلُّ عَلَى أنَّ مَنْ سَبَّهَا؛ فَقَدْ كَفَر، وأنَّ مَن صَلَّى عَلَيها، فقَدْ صَلَّى عَلَى أبِيْهَا صلى الله عليه وسلم.

(1)

وفيه أنزلَ الله تعالى: {(101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} التوبة: 102

غيرَ أنَّ المفسرين اختلَفوا في ذَنْبِهِ ما كان؟

فقال ابن إسحاق فيما ذكرَهُ في السِّيْرَةِ مِن إشارَتِهِ على بني قريظة.

(1)

تعقَّبَ السهيليَّ في استدلاله هذا عَددٌ من العلماء، انظر الباب الثاني: الفصل الأول: المبحث الثالث.

ص: 272

وقال آخرون: كانَ مِن المخلَّفِينَ الذين تخلَّفُوا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فنزلَتْ توبةُ الله عليه في هذه الآية.

(1)

نَقَلَهُ الصالحي (942 هـ) رحمه الله، ثم قال مُعِلِّقاً: (قلتُ: عليُّ بنُ زيد

ـ هو ابنُ جدعان ـ ضَعيفٌ، وعليُّ بنُ الحسين روايتُه مُرْسَلَةٌ).

(2)

وقال السهيلي ـ أيضاً ـ ضمن حديثه عن المفاضلة بين خديجة وعائشة رضي الله عنهما:

(3)

(الموازنة بين خديجة وعائشة رضي الله عنهما:

فصل: وذكرَ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة: «هذا جبريلُ يُقرَئُكِ السلامَ مِن ربِّك

الحديثَ».

يُذكر عن أبي بكر بن داود أنه سُئل أعائشة أفضل أم خديجة؟ فقال:

«عائشةُ أقرأها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم السلامَ من جبريل، وخديجةُ أقرأها جبريلُ السلامَ من ربِّها على لسانِ محمدٍّ صلى الله عليه وسلم؛ فهي أفضل» .

قِيلَ له: فمَن أفضل أخديجة أم فاطمة؟ فقال: إنَّ رسُولَ الله

(1)

«الروض الأنف» (6/ 227 ـ 228)، وانظر:«وفاء الوفاء» للسمهودي (2/ 442).

(2)

«سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد» (5/ 9).

(3)

ستأتي الإشارة إلى مسألة المفاضلة بين فاطمة، وعائشة، وخديجة، في: الباب الثاني: الفصل الخامس: المبحث الأول.

ص: 273

- صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ فاطمةَ بَضْعَةٌ مِنِّي» . فَلا أعدِلُ ببَضْعَةٍ مِن

رسُولِ الله أحَداً.

وهذا استِقْرَاءٌ حَسَنٌ، ويشهَدُ لِصحَّةِ هذا الاستقراءِ: أنَّ أبا لُبَابَةَ حين ارتبَطَ نفسَهُ، وحَلَفَ ألا يَحِلَّهُ إلا رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فجَاءَتْ فاطِمَةُ لِتَحِلَّهُ فأبَى مِن أجلِ قسَمِهِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنما فاطمة مضغة مني» . فحلَّتْهُ ـ وسنذكرُ الحديث بإسنادِهِ في مَوضِعِهِ إن شاء الله تعالى ـ.

ويدل أيضاً على تفضيل فاطمة

إلخ

(1)

أشار إلى القصة ابنُ القيم (ت 751 هـ) رحمه الله وفيها: أن فاطمة جاءت تحله، فقال أبو لبابة لا، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«فاطمة بضعة مني» .

قال ابن القيم: فهل يَبَرُّ الحالفُ بمثل هذا لَوْ اتَّفَق اليوم؟

قيل: لا، إمَّا أنه مختصٌّ بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإمَّا لأنَّ فاطمةَ

(1)

«الروض الأنف» للسهيلي (6/ 278 ـ 279)، وعنه: الدماميني (ت 827 هـ) في

«مصابيح الجامع» (7/ 247)، والمقريزي (ت 845 هـ) في «إمتاع الأسماع»

(10/ 273).

ص: 274

بضعةٌ منه قَطعاً، واللهُ أعلم.

(1)

وقال علي بن إبراهيم الحلبي (ت 1044 هـ) رحمه الله: (وظاهر هذا أنَّه رضي الله عنه كان يُبَرُّ بإطلاق سيِّدتنا فاطمة رضي الله عنها له، فَليُتَأمَّلْ).

(2)

الخلاصة: لا يصحُّ شَئٌ عن فاطمة رضي الله عنها أنها حَلَّتْ رِباطَ أبي لُبَابة رضي الله عنه.

(1)

«بدائع الفوائد» ـ ط. عالم الفوائد ـ (3/ 1174).

(2)

«السيرة الحلبية» = «إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون» (2/ 455).

ص: 275

26.

طلبها الميراث وعلاقتها بالشيخين أبي بكر

وعمر رضي الله عنهما.

لم تكُن فاطمة رضي الله عنها تَعلَمُ ـ كما بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عدا عائشة ـ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يُورث، فجاءت تطلبُ ميراثها من أبي بكر، فأخبرَها بالسُّنَّة في ذلك، فصدَّقت، ولم تُناقشْهُ في ذلك، ولم تَعُدْ تطلب الميراث منه مرةً ثانية.

قال الذهبي (ت 748 هـ) رحمه الله: (ولما توفي أبوها صلى الله عليه وسلم، تعلَّقَتْ آمالها بميراثه، وجاءتْ تطلب ذلك من أبي بكر الصديق، فحدثها: أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا نورث، ما تركنا، صدقة». فوَجَدَتْ عَليه، ثم تعَلَّلَتْ .... ثم ذكر الذهبي مراضاة أبي بكر لها في مرضها رضي الله عنهما).

(1)

كان الشيخان أبو بكر وعمر، والصحابة كلُّهم رضي الله عنهم، والمسلمون أهل السنة والجماعة يحبون آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم محبة شرعية، ويعرفون لهم حقوقهم، وكان بين الصحابة وآل البيت ألفة وحميمية ومصاهرة لم ينكرها إلا مكابر معاند.

ص: 277

كان الشيخان الخليفتان الراشدان الباران: أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما يعتنيان بفاطمة وأولادها غاية العناية، وقد طلبت فاطمة من أبي بكر أمرين: ميراثها، وأن يتولى زوجها صدقات النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرها أبو بكر بالشرع الوارد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُورث، وأما الصدقات فإنه يتولاها خليفة الرسول، ويعمل فيها كما كان يعمل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وخيراً فعل رضي الله عنه.

لم يحصل لفاطمة رضي الله عنها ما طلَبَتْهُ، وعتَبَتْ على أبي بكر، فهجَرتْهُ حتى ماتَتْ، كما ذكرَتْ ذلك عائشةُ رضي الله عنها وهي بهذا أعلم، وحديثها في «الصحيحين» ، لم ينكر أحدٌ من الأئمةِ صِحة ما ورد فيه، إلا بعضُ المعاصرين الذين طعَنوا في عدد من الجُمَل الواردة فيه، ومنها: هَجْرُ فاطمة أبا بكر رضي الله عنهما، ولم يكن معهم حجة فيما ذهبوا إليه من القدح في الحديث.

لم يكن لفاطمة ولا نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من نساء المسلمات رأيٌ في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، بل أمرُ الإمامة وعَقْدِها للرجال باتفاق العلماء، ولم يَظهر من فاطمة أيُّ خِلافٍ أو رأيٍ في ذلك.

كان عمر يقدِّم آل البيت في العطاء، وقد أظهر محبته لفاطمة، وبيَّن مكانتها عنده، وأخبرها بخطأ اجتماع نفَرٍ من الرجال عند زوجها رضي الله عنه في الأيام الأولى من البيعة، والبيعةُ قد قامت لأبي بكر، فأمرَها عمرُ بعدم

ص: 278

اجتماعهم، وهدَّدَ الرجال إن اجتمعوا أن يحرِّق عليهم، كلُّ ذلك إتماماً للجماعة ودَفعاً للفُرقة والنزاع، وللسياسةِ الشرعية أحكام.

من محبة عمر لفاطمة زواجه بابنتها أم كلثوم رضي الله عنهم.

27.

حزنها على وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم.

في «الصحيحين» : عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام: وَا كَرْبَ أَبَاهُ، فَقَالَ لَهَا:«لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَوْمِ» ، فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ، أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ، مَنْ جَنَّةُ الفِرْدَوْسِ، مَأْوَاهْ يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ، فَلَمَّا دُفِنَ، قَالَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام: يَا أَنَسُ أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم التُّرَابَ.

حُزْنُها ومُصيبَتُها على أبيها النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتصورها أحدٌ، وفي كلماتها السابقة حزن كاتم، مع إيمان ويقين بالله تبارك وتعالى.

تضاعف الحزن عليها بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم، وبقيت حزينة حتى توفيت بعده بستة أشهر، وكانت صابرة محتسبة رضي الله عنها.

قال محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله: «ما رُئِيَتْ فاطمةُ ضَاحِكةً بعْدَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إلا أنها قد تُمُورِي في طَرَفِ فِيها» .

ص: 279

عن عبدالله بن الحارث، قال: مكثَتْ فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، وهي تَذُوب.

قيل: وما ضحكت بعده أبداً، وقيل: وما رُئيت ضاحكة إلا تبسماً حتى ماتت، وامتروا بطرف فيها، ويُروى أنها تبسمت قُبيل وفاتها عندما قيل لها عن النعش الذي يُصنع في الحبشة.

قال ابن كثير رحمه الله: (ويقال: إنها لم تضحك في مدة بقائها بعده عليه الصلاة والسلام، وإنها كادت تذوب مِن حُزنِها عليه، وشوقِها إليه).

قال القسطلاني رحمه الله في حالها: ما ضحِكت، وحُقَّ لها ذلك.

وسيأتي مبحث خاص في هذا الموضوع، وهو في الباب الأول: الفصل الأول: المبحث السادس.

28.

وصيتها.

ذكر أهلُ التاريخ الأوَّلُون أنها أوصت علياً أن يتزوج بعدها ابنةَ أختها زينب: أمامة بنت أبي العاص رضي الله عنها.

وأوصت أن تُدفَن ليلاً، قيل: حِرصاً منها على الستر.

ورُوي أنها اغتسلَتْ، ولبِسَتْ أكفانها، وأوْصَتْ ألا تُغسَّل. وهذا باطل لا يصح.

ص: 280

ورُوي أنها أوصت علياً وأسماء بنت عميس أن يُغسِّلاها. وهذا ضعيف لايثبت.

وثمَّةَ وصايا كثيرة، وكلُّ ماقيل فيها وفي مظلمتها كذب وزور من افتعال الرافضة.

وفي الكتاب تفصيل ذلك كله.

29.

وفاتها.

أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسارَّته لابنته بقُرْبِ أَجَلِه، وأنها أول مَن يتبعه من أهله.

مرِضت رضي الله عنها، فشُغِل بها عليٌّ رضي الله عنه، في تمريضها، وفي تسليتها بعد مصيبتها في فقد أبيها نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان يلازمها.

توفيت ليلةَ الثلاثاء، لثَلاثٍ خَلَونَ من شهر رمضان، سنة (11 هـ) بعد أبيها بستة أشهر، غَسَّلَها عليٌّ، وَصَلَّى عَليها مع جماعة من آله، ودفنَها في البقيع ليلاً، ولم يُخبر بذلك أبا بكر والصحابة رضي الله عنهم.

وكان عمرها نحو ثمان وعشرين سنة ونصف السنة تقريباً.

قيل بأنها أول مَن غُطِّي نعشها في الإسلام، لما روي أن أسماء بنت عميس ذكرت لها ما رأته في الحبشة من ستر المرأة بهذا النعش، فاستحسنته رضي الله عنهما.

ص: 281

30.

قبرها.

لا إشكال أنَّ فاطمة رضي الله عنها دُفنت في المقبرة في بقيع الغرقد، ولايصح أنها دُفنت في بيتها، هذا هو المعتمد عند المؤرخين، وقد رَدُّوا على مَن ادَّعى أن قبرَها في بيتها، أو أمامَ مصلَّى الإمامِ بالروضة الشريفة، وهي أقوال واهِيةٌ جداً.

وأيضاً لا يصحُّ أن قبرَها أُخفِي عن الصحابة ـ كما تدعيه الرافضة ـ، وقد وردَتْ آثارٌ كثيرة ـ على ضَعفِها وانقطاعِها ـ تُثبِتُ أنها في مقبرة البقيع، قريباً من زاوية دار عُقيل، ومُواجِه دار نُبيه.

وهذه الدور والمواضع كلها قد زالَتْ، ودخلَتْ في التوسعة

ـ والله أعلم ـ.

ولا يكاد يَعلَمُ أحَدٌ الآن قبرَاً مُعَيَّنَاً من القبور التي ذُكرت في عدد من النصوص ــ ذكرتُها في الدراسة الموضوعية لِفَصلِ: وفاتها ــ.

فالقبورُ تتغيَّر معالمها، وتندثرُ تماماً مع تعاقب القرون فكيف بتعاقب قرون طويلة تصل إلى خمسة عشر قرناً، وفي التاريخ ما يدل على تعاقب الدفن في البقيع في موضع واحد دون معرفة بالسابق.

ولم يكن على قبرها ولا قبر أحد من المسلمين تَجصيصٌ، ولا قُبَّةٌ،

ولا بناءٌ؛ لنهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وإنما حدثَ البناء على القبور

ص: 282

في مكة والمدينة، وغيرِها، في زمن العُبيدين الباطنيين في القرن الخامس الهجري.

قال السمهودي (ت 911 هـ) رحمه الله: (وإنما أوجب عدم العلم بعين قبر فاطمة رضي الله عنها وغيرها من السلف، ما كانوا عليه من عدم البناء على القبور وتجصيصها ..... ).

وسيأتي تفصيل ذلك كله.

ومَن دخل في البقيع الآن، وسلَّم على الجميع بما في ذلك الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم؛ كفَاهُ ذلك ـ والحمدُ الله ـ.

ومن محاسن الدولة السعودية السُّنِّيَّة السَّنِيَّة المباركة ـ حفظها الله وحماها، وأبقاها مَصدَرَاً ومَورِدَاً لأهل السُّنَّةِ والجماعة ـ:

أنها هدَمَتْ القِباب البِدعية المبنية على القبور في مكة والمدينة،

ومنها: قُبَّةٌ عظيمةٌ جداً بُنيَت في البقيع على قبور يُدَّعى أنها لبعض آل البيت، ومنهم: فاطمة! !

وقد هُدِمَت القباب في البقيع مرتين ـ ولله الحمد ـ وعادت المقبرة كما كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلفاء الراشدين، والقرون الثلاثة المفضلة.

فالحمد لله على التوحيد، والسُّنَّة، والعقل الرشيد، ونسأل الله أن

ص: 283

يجزي الدولة السعودية خيراً كثيراً على إحسانها في هذه الأمور العقدية، وفي رعاية شؤون الحرمين الشريفين رعايةً فائقةَ الجودة، مُبهِجَةً مُدهِشَةً ـ زادها اللهُ قوة وعزة ونُصرة للتوحيد والسُّنَّة، ورزَقَها خيراً على خير ـ.

والحمد للهِ ربِّ العالمين.

ص: 284