الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والوضَّاعِينَ: كالواقدي، والكلبي، وأبي مخنف، وغيرهم؟ ! وكان المروي أيضاً في سيرة أحد الصحابة أو التابعين، لا شك أنه ينبغي النظر في إسناده، نظراً يناسب طبيعة الرواية التاريخية، بالنظر إلى العدد المروي، وتعدُّدِ طُرُقِه ومخارِجِه، واشتهارِه عند أهلِ الفَنِّ، وخُلوِّهِ مما يجبُ الوقوفُ عندَه وتمحيصُه من: حُكْمٍ شَرعِيٍّ، أو قَضيةٍ يُستَفَادُ منها في فَهْمِ نصٍّ شَرعيٍّ كالدلالة على تأخُّرِ النصِّ ونَسْخِهِ مَثلاً، أو طَعْنٍ في إمام
(1)
،
أو راوٍ، أو ذي شأن
(2)
؛ ويُستفاد في النظر الحديثي للترجيح عند تعارض المرويات التاريخية، وما اشتُهِر منها ـ والله أعلم ـ.
(1)
ذكر ابن حجر: أن المؤرِّخ لايكتفي بالنقل الشائع، لا سيما إذا ترتب على ذلك مفسدة
، من الطعن في حق أحدٍ من أهل العلم والصلاح.
انظر: «فتيا لابن حجر في كتابة التاريخ» وهي ضمن خمس فتاوى لعلماء القرن التاسع؛ جواباً لسؤال واحد في شأن التاريخ. نُشِرَتْ هذه الأجوبة في كتاب «مسائل نفيسة في منهج كتابة التاريخ» تحقيق: د. محمد بن صامل السلمي (ص 19). ونشرها أيضاً د. محمد يُسري سلامة ضِمْنَ «مجموع في أدب الجرح والتعديل وشروط كتابة التاريخ والتراجم» (ص 102).
وانظر: «الاعلان بالتوبيخ» للسخاوي (ص 160).
(2)
ينظر في نقد بعض الأخبار الواردة في التاريخ عن فسق بعض الخلفاء: «مقدمة ابن خلدون» ـ تحقيق د. علي عبدالواحد وافي ـ (1/ 303) وما بعدها.
قال د. أكرم ضياء العُمري: (ونظراً لأن المصادرَ المتعلِّقَة بالحديث والعلوم الشرعية، والتاريخ الإسلامي، معظمها يسرد الروايات بالأسانيد، فلابُدَّ من تحكيم قواعد علماء المصطلح في نقد هذه الروايات، مع عدم التخلي عن الروايات التي لاتصل إلى مستوى الصحة الحديثية؛ ففي الأبحاث التاريخية تُعتبر الروايات المسندة من طُرُقِ رُوَاة لايبلغون مستوى الثقات، أفضلُ من الروايات والأخبار غير المسندة؛ لأن فيها مايدل على أصلها، ويُمكن من التحكم بنقدها وفحصها بصورة أفضل من الأخبار الخالية من المسند.
أما في الدراسات المتصلة بالعقيدة، والشريعة، فلابد من الاعتماد فيها على الروايات والأحاديث الصحيحة، ونقد وبيان الضعيفة منها، وستسلم في هذا الجانب أحاديث صحيحة على شرط المحدِّثين تكفي لبيان العقيدة وأحكام الشريعة؛ لأن المحدثين أولوا الأحاديث عنايةً كبيرة، وأحاطوا رواتها بدراسة دقيقة واسعة، واهتموا بطُرُقِ تحمُّلِها وأدائها، فإذا طُبِّقَتْ قواعِدُهُم على الأحاديث فهي أهل لذلك، لما بلغته من الدقة والإتقان.
أما اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لاتمس العقيدة، والشريعة؛ ففيه تعسُّفٌ كثير، والخطرُ الناجِمُ عنه كبير؛ لأن الروايات التاريخية التي دوَّنها أسلافنا المؤرِّخُون لم تُعامَل معاملةَ الأحاديث، بل تم التساهُل فيها، وإذا رفضنا منهجهم فإنَّ الحلقات الفارغة في تاريخنا
ستشكل هُوَّة سَحِيقَةً بيننا وبين ماضينا؛ مما يُولِّدُ الحيرةَ والضياع، والتمزق والانقطاع.
إنَّ تاريخ الأمم الأخرى مبني على روايات مفردة، ومصادر مفردة في كثير من حلقاته، وهم ينقدون متون الروايات فقط، ويُحلِّلُونها وفق معايير نقدية تُمكِّنُهم من الوصول إلى صورة ماضيهم، لعدم استعمال الأسانيد في رواياتهم التاريخية؛ لأن الأسانيد اختصَّت بها الأمةُ الإسلامية.
لكنَّ ذلك لايعني التخلِّي عن منهج المحدِّثين في نقد أسانيد الروايات التاريخية، فهي وسيلتُنا إلى الترجيح بين الروايات المتعارضة، كما أنها خيرُ معين في قبولِ أو رفضِ بعضِ المتون المضطرِبة، أو الشاذَّةِ عن الإطار العام لسير أمتنا؛ ولكن الإفادة منها ينبغي أن تَتِمَّ بمرونة، آخذين بعينِ الاعتبار أنَّ الأحاديثَ غَيرُ الرواياتِ التاريخية، وأنَّ الأُولى نالَتْ من العناية ما يُمكِنها من الصمود أمامَ قواعِدِ النقدِ الصارِمَة).
(1)
هذا، ويُحذَر في جملة من المرويات التاريخية عن الصحابة رضي الله عنهم والأئمةِ المقتدى بهم، فقد دخلها تخليط، ولا يُمَيَّزُ ذلك ـ عند الحاجة ـ
…
إلا بالمنهجِ الحديثي: النظر في الأسانيد، وتحقيقِها، ومقارَنةِ المرويات، ونقدِ
(1)
«دراسات تاريخية مع تعليقة في منهج البحث وتحقيق المخطوطات» د. أكرم ضياء العُمري (ص 26 ـ 27).
المتون، قال السخاوي (ت 902 هـ) رحمه الله:(ورحَمِ اللهُ مُنَقِّحَ المَذْهَبِ المحيوي النوَوِيُّ، فإنه لما أثنى على فوائِد «الاستيعاب» للحافظ الحجةِ أبي عمر ابنِ عبدالبر، قال: «لولا ما شانَهُ من ذِكْرِ كثير مما شَجَرَ بين الصحابة، وحكايَتِهِ عن الأخبارِيِّينَ، والغالبُ عليهم الإكثارُ والتخلِيطُ).
(1)
ذكر الشيخ د. حاتم العوني اختلاف المنهج في الحكم على مرويات السيرة والتاريخ والتفسير وغيرها، وذكر مثالاً على ذلك: أنْ يوازِنَ القارئ بين مَنهجِ ابن جرير الحديثي في كتابه «تهذيب الآثار» ، ومَنهَجِهِ التاريخي في كتابه «تاريخ الأمم والملوك» ، ومَنهَجِهِ في التفسير في كتابه «جامع البيان» ، ليُعرَفَ اختلافُ المنهج في هذه الثلاثة. وردَّ على مَن يرى اتحادَ منهجِ النقد لمنقولاتِ العلومِ المختلفة، فلِكُلِّ عِلْمٍ مَنْهَجُ نَقْدٍ مختَلِفٌ.
(2)
(1)
«الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التوريخ» للسخاوي ـ تحقيق: الظفيري ـ (ص 218 ـ 219).
(2)
«مقرر التخريج ومنهج الحكم على الحديث» أ. د. حاتم العوني ـ ط. مركز نماء،
…
ط. الأولى 1439 هـ ـ (ص 279 و 282 و 291 ـ 292).
ورأيتُ في مقدمة كتاب «منهج الإمام ابن جرير الطبري في نقد الأحاديث» د. نبيلة الحليبة (1/ 51 وما بعدها) بيان منهجه في عدد من كتبه إجمالاً، ومنها: التفسير والتاريخ، ولم أرها ذكرت شيئاً في كتابها عن منهجه في نقد مرويات التفسير، والمرويات التاريخية، فليُنظر فيما ذكرَه د. العوني، فالتمثيلُ بابنِ جَريرٍ تَمثِيلٌ جيِّدٌ.
وقال د. حاتم بن عارف العوني ـ بعد بَيانٍ له ـ:
(الضابط الذي يُمكِنُ من خلالِه التشديدُ في نقدِ الأخبارِ والقَصصِ بمنهج المحَدِّثين، أو عَدَمِ التشديد والاكتفاء بمناهج نَقْدٍ أخرى تكفي في مثلِها للتوثُّقِ والتحَرِّي.
- فالضابط هو: كلُّ خَبَرٍ سَأَبْنِي عليه ـ مُبَاشَرةً أو بِغَير مُبَاشَرَةٍ ـ حُكْمَاً دينياً، فالأصلُ فيه أنه لا يُقبَل إلا بذلك المنهجِ المتشدِّدِ للمحدِّثين الذين ينقدُون به السُّنَّةَ، وما لا؛ فلا.
وشرحُ هذا الضابطِ قد يطول، لكنني سأكتفي بأمثلة تُبيِّنُ بعضَ جوانبه:
- إذا جِئتُ للسيرة النبوية، أجدُ أنَّ أخبارها منها:
1.
ما يُمكن أن يُستَنبَط منه حكمٌ شرعي: فهذا من السُّنَّةِ التي تُنقَد بهذا المنهج المُحتَاط لها.
2.
ومنها مالا يُستَنبَط منه حكم شرعي، كتاريخ سرية من السرايا، وعدد من كان فيها، وتحديد موقعها بدقة
…
ونحو ذلك: فهذه لا نُطَبِّقْ عليها منهجَ المحدِّثين، إلا إن كان بعض ذلك له علاقة غير مباشرة باستنباط حُكْم، كمعرفة تَقدُّمِ خَبَرٍ، أو تأخره؛ ليفيدنا ذلك في الناسخ والمنسوخ، أو غير ذلك: فيمكن حينها أن أعود إلى احتياط المحدِّثين مع السُّنَّة في نقدي لهذا الخبر.
- وإذا جئتُ للآثار الموقوفة على الصحابة رضي الله عنهم:
1.
فإنَّ منها ما يكون له علاقة بالأحكام، كفتاواهم وأقضيتهم، فإذا كنتُ سأعتمدُ على قول صحابي في مسألة لا نصَّ فيها ـ على سبيل المثال ـ، فسأحتاطُ في نَقدِها وفْقَ مَنهَجِ نقْدِ أحاديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا بُدَّ من ذلك فيها.
أما إذا كانت المسألةُ فيها نصٌّ صَريحٌ، فإنَّ إيراد أقوال الصحابة بعد ذلك يكون استئناساً وتأكيداً لِصِحَّةِ فَهْمِنَا لذلك النص، فإنْ نَقَدْنَا ذلكَ الخبرَ بالاحتياط المذكور آنفاً، فهو حَسَنٌ، وإنْ لم نفعل ذلك، فالأمرُ واسِعٌ، ولن نَضُرَّ المسألةَ العلميةَ شيئاً، لِوُرود النص فيها.
2.
ومنها ما يكون من باب الأخبارِ التاريخية: كأخبار الفتوح، والغزوات، ونحوها، وهذه حُكمُها حُكْمُ السيرةِ النبويةِ.
3.
فإنْ جئنَا لأخبار ما وقع بينهم في الفتنة، فواجب حينها أن تُنقَد بالاحتياط المذكور لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز غير ذلك؛ وذلك اتِّسَاقَاً مع الضابطِ الكُلِّي الذي وضعناه آنفاً، وليس استثناءً ـ خارجاً عن القانون ـ؛ حيثُ إنَّ أخبار الفتنةِ ليسَتْ أخباراً مجرَّدةً لا ينبني عليها أحكامٌ على أشخاص، بل هي أخبارٌ إذا ذُكِرَتْ لابُدَّ أن تتركَ في النفوس أحكاماً على الأشخاص بالصواب أو الخطأ، وربما بالعدالة أو الفسق عند بعض الأقوام،
وهؤلاء الأشخاص الذين ستُصْدِرُ عليهم تلك الأحكام هم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم و رضي الله عنهم أجمعين، وهم مَنْ سبقَ لهم مِنْ الله تعالى ورسُولِه الثناءُ والحكمُ بالعدالة؛ فلابُدَّ من تمحيصِ تلكَ الأخبارِ؛ خَاصَةً أنها أيضاً كانت مجالاً رحباً لأصحابِ الأهواءِ وأمراضِ النفوس من أهل الغِلِّ والحِقْدِ على دينِ الله تعالى، وعلى أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم للتقوِّلِ والافتراء عليهم.
على أنه يُمْكِنُ أنْ نُعَامِل الأخبار المتعلِّقَةِ بالفتنة، أو ما كان بنحوها بمنهج وسَط، وهُو أنه إذا ثَبَتَ عندنا ـ بالمنهج الحديثي المحتَاط ـ أصلُ خبرٍ من الأخبار، أن نُتَمِّمَ جوانبَ هذا الخبر بتفاصِيلَ مِن بقيةِ الأخبار، بشرط أن لا يكون في تفاصيلِ تلك الأخبار شئٌ يُعارِض الحكمَ الثابتَ لأصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الخيرية والعدالةِ والفَضلِ، وأن لا يُعارِض أصلَ الخبرِ الثابتِ أيضاً.
وذكر د. العوني مثالاً على ذلك، ثم قال:
- فإذا جئنَا لأخبارٍ تاريخيةٍ بعدَ ذلك، مما وقع في القرن الهجري الثاني، أو الثالث:
فالأصل فيها: إمرارُها والاستفادةُ منها دون نَقْدٍ حَدِيثيِّ مُحتَاطٍ، إلا إذا أراد أحدٌ أن يُصدِرَ حُكْماً دينياً على شَخْصٍ من الأشخَاصِ له حُرْمَةٌ دِينِيَّةٌ،
وهو أن يكون مسلماً ـ كبعض الملوك والسلاطين ـ
(1)
، فإننا لا نقبل ذلك إلا بنَقْدٍ يَثْبُتُ بمثلِه الحكمُ الديني. هذا إن كان لمثلِ هذا البحث ثَمرَةٌ عِلمِيةٌ،
…
أما إن لم يكن له ثَمرةٌ، أو كان له ثَمرةٌ خبيثةٌ، فيُنهَى عن مثل هذا البحث، وعن إضاعة الوقت فيه.
- وإذا جئنا إلى سِيَرِ العُلَماء وأخبَارِهِمْ:
فالضابِطُ الكُلِّيُّ سائِرٌ على تَراجُمِهِم:
1.
فإن كان ما يرد في تراجمهم سوف يصدرُ عنه حُكْمٌ ديني، وضعناه في معياره المحتاط، وأَوضحُ صُوَرِ هذا الحكم الديني: عبارات الجرح والتعديل في رُوَاة السُّنَّة.
2.
وإن كان بخلاف ذلك، كقِصَّة البخاري ـ السابقة ـ
(2)
أو كعبارات في الوعظ والحِكْمَةِ، أو كَذِكْرِ مؤلَّفَاتِهِم، أو وصفِ مكتباتهم، ونحو ذلك من الأخبار؛ فهذه لا تُنْقَد بذلك النقد المحتاط، ولكن تُنْقَد بمعايير أخرى: تراعي المعقولَ وغيرَ المعقولِ، والثقةَ بناقِلِ الخبَرِ ـ أي المصدرَ ومؤلِّفَه ـ، وغيرَ ذلك من القرائِنِ المحتَفَّةِ بكُلِّ خَبَرٍ منها، وتُراعِي
(1)
قلت: أو العلماء، والوجهاء، خاصة في مقام دفع تهمة عنهم.
(2)
أشار إليها قبل ذكر الخلاصة: وهي قصة امتحان الإمام البخاري ـ الشهيرة ـ قال ابن عدي: سمعت عدة مشايخ، يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مئة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها
…
إلخ
المصلحةَ الحاصِلةَ من نَقدِهِ أيضاً).
(1)
وأختمُ بنَصٍّ نَفِيسٍ لمنظِّر المؤرِّخين: ابنِ خلدون (ت 808 هـ) رحمه الله حيث قال:
(فضلُ علمِ التاريخ، وتحقيقُ مذاهِبه، والإلماعُ لما يَعرِض للمؤرخين من المغالط، وذِكرُ شيءٍ من أسبابها.
اعلَمْ أنَّ فنَّ التّأريخ فنٌّ عزيزُ المَذهبِ، جمُّ الفوائد، شريفُ الغاية؛ إذْ هو يُوقِفُنَا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سِيَرهم، والملوك في دُوَلِهم وسياستهم. حتّى تتمَّ فائدةُ الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدِّين والدُّنيا.
فهو محتَاجٌ إلى مآخِذَ مُتعَدِّدةٍ، ومَعَارِفَ مُتنوَّعةٍ، وحُسْنِ نَظَرٍ وتَثبُّتٍ يفضيان بصاحبهما إلى الحقِّ، ويُنَكِّبَان بهِ عن المزَلَّات والمغَالِطِ؛ لأنَّ الأخبارَ إذا
(1)
«نقد أسانيد الأخبار التاريخية» د. حاتم بن عارف العوني، بحث نُشر بتاريخ
…
(9/ 1/ 1423 هـ)، وهو ضمن كتابِه:«إضاءات بحثية في علوم السنة النبوية وبعض المسائل الشرعية» (ص 149 ـ 153).
اعتُمِدَ فيها على مجرَّدِ النَّقْلِ، ولمْ تُحَكَّم أصولُ العَادَةِ، وقواعدُ السِّياسَةِ، وطبيعةُ العمران والأحوال في الاجتماع الإنسانيِّ، ولا قِيسَ الغائبُ منها بالشَّاهِدِ، والحاضرُ بالذَّاهِبِ؛ فرُبَّما لم يُؤمَنْ فيها مِن العُثُور ومَزِلَّةِ القَدَمِ والحَيدِ عَن جادَّة الصِّدْقِ.
وكثيراً ما وقع للمُؤرِّخين والمُفَسِّرين وأئمَّةِ النَّقْلِ من المَغَالِطِ في الحكايات والوقائع؛ لاعتمادِهِمْ فيها على مُجَرَّد النَّقلِ غَثَّاً أوْ سمِيناً،
…
لم يَعرِضُوهَا على أُصُولِهَا ولا قاسُوها بأشباهها، ولا سبَرُوها بمِعْيَارِ الحِكمَةِ، والوقوفِ عَلى طبائِعِ الكائنات، وتحكيمِ النَّظَرِ والبَصِيْرَةِ في الأخبار؛ فضلُّوا عن الحق، وتاهُوا في بَيْدَاءِ الوَهْمِ والغَلَطِ، سيِّما فِي إحصاءِ الأعدادِ من الأموال والعساكر، إذا عَرَضَتْ في الحِكَايات؛ إذْ هِيَ مَظِنَّةُ الكَذِبِ ومَطِيَّةُ الهَذَرِ،
…
ولا بُدَّ من ردِّها إلى الأُصُولِ، وعَرْضِهَا عَلى القَوَاعِدِ).
(1)
(1)
«مقدمة ابن خلدون» ـ تحقيق د. علي عبدالواحد وافي ـ (1/ 291).
النتيجة:
الأحاديث النبوية، والأخبار التاريخية على مراتب عدة:
فأحاديث العقائد في درجة عالية من الحيطة، ثم أحاديث العبادات،
…
ثم مابعد ذلك من الجنايات، والمعاملات، وأحكام النكاح والطلاق ونحوها، ثم الفضائل، والمناقب، والآداب، والرقاق، وغيرها.
والحديث الوارد في الباب: منه ما يرد في أصل الباب، ومنه ما يرد تابعاً وشاهداً، فيُتخفف في الثاني ما لايتخفف في الأول، ومنه صنيع الإمامين البخاري ومسلم في تخريج أحاديث الرواة الثقات.
فهذه لها مراتب عند المحدثين في الحكم عليها وقبولها.
وثمَّةَ أبوابٌ عظيمةٌ كالمغازي، والتفسير، والملاحم يَقِلُّ فيها الحديث المسند المتصل الصحيح.
وأخبار السيرة النبوية منها ما يستفاد منه حكمٌ شرعيٌّ، فيأخذ حكم السنة النبوية في النقد والتمحيص، ومنه ما لا يؤخذ منه حكمٌ شرعيٌّ، وإنما بيان عدد الرجال في الغزوة، أو تحديد دقيق في وقتها ومكانها، وغير ذلك فهذا يُتسامح فيه، ولا يعامل معاملة الأحاديث النبوية في فحصها ونقدها. ويرى بعض العلماء أن التسامح في تلك المرويات يكون في الرواة الضعفاء، ومن اعتُمِدوا في السِّيَر والمغازي كابن إسحاق
(1)
، وغيره.
(1)
ينظر: «منهج كتابة التاريخ الإسلامي» د. محمد بن صمايل السلمي (ص 247).