الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سأل حربُ الكرماني الإمامَ أحمد عن حديث؟ فقال: (لا أصل له، وليس له إسناد يثبت).
(1)
فدَلَّتْ هذه الأمثلة على أن مراد الإمام أحمد بِـ (لا أصل له) و (لا إسناد له): أي لا إسنادَ له صَحيحٌ.
وهو استخدامُ عامَّةِ الأئمةِ المتقدِّمين.
(2)
ف
عُلِم مما سبق أنَّ المغازي، والتفسير، والملاحم، تَقِلُّ فيها الأسانيدُ الصحيحةُ المتَّصِلَةُ، فما بالُكَ بما دونها من الآثارِ في سِيَر وقَصَصِ الصحابة، ثم التابعين، ثم مَن بعدَهم التي تَرِدُ في كُتُبِ التاريخ، وكُتُبِ مَنْ حشَاها بالروايات المنكرة
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كلامٍ له رائع: (والمراسيل إذا تعدَّدَتْ طُرُقها، وخلَتْ عن المواطأة قصداً، أو الاتفاق بغير قصد؛ كانت صحيحةً قطعاً؛ فإن النقل إمَّا أن يكون صدقاً مطابقاً للخبر، وإما أن يكون كذباً تعمَّد صاحبُه الكذِبَ أوْ أخطأ فيه؛ فمتى سَلِمَ مِن الكذب العَمْدِ والخطأ؛ كان صِدقاً بلا ريب.
فإذا كان الحديث جاء من جهتين أو جهات، وقد عُلِمَ أنَّ المُخبِرَين لم
يتواطآ على اختلاقِه، وعُلِمَ أنَّ مثل ذلك لا تقع الموافقة فيه اتِّفَاقاً بِلا قَصدٍ؛ عُلِمَ أنَّه صحيحٌ
(1)
، مثل: شخص يحدِّثُ عن واقِعَةٍ جَرَت، ويذكُرُ تفاصيلَ ما فِيهَا من الأقوال والأفعال، ويأتي شخْصٌ آخَرُ قدْ عُلِمَ أنه لمْ يُواطِئَ الأول، فيذكرُ مثلَ مَا ذكرَهُ الأوَّل من تفاصيل الأقوال والأفعال؛ فيُعلَم قطعاً أن تِلك الواقعةَ حَقٌّ في الجملة؛ فإنه لو كان كلُّ منهما كَذَبَهَا عَمْدَاً أو خطأً؛ لم يتَّفِق في العَادة أنْ يأتيَ كُلٌّ منهما بتلك التفاصيل التي تمنَعُ العَادةُ اتِّفَاق الاثنين عليها بلا مُواطَأة من أحدهما لصاحبه، فإن الرجُلَ قد يتَّفِق أن ينْظِمَ بيتاً، وينظمَ الآخرُ مثلَه؛ أو يكذبَ كذبةً، ويكذِبَ الآخرُ مثلَهَا؛ أمَّا إذا أنشأَ قصِيدَةً طويلةً ذاتَ فنونٍ على قافيةٍ ورَوِيٍّ، فَلَمْ تجرِ العادَةُ بأنَّ غيرَهُ يُنْشِئُ مثلَها لفظاً ومَعْنَى، مع الطُّولِ المفْرِطِ؛ بلْ يُعلَمُ بالعادَة أنَّه أخذَهَا منه.
وكذلك إذا حدَّث حديثاً طويلاً فيهِ فُنونٌ، وحدَّثَ آخرُ بمثلِهِ، فإنه إمَّا أنْ يكونَ واطأَهُ عليه، أو أخذَهُ منه، أو يكونَ الحديثُ صِدْقاً.
وبهذه الطريق يُعلَمُ صِدقُ عامَّةِ مَا تتعدد جهاتِهُ المختلفة على هذا الوجه من المنقولات
(2)
، وإن لمْ يكنْ أحدُها كافياً، إما لإرساله، وإما لضعف ناقله.
(1)
وانظر: «منهاج السنة النبوية» (7/ 435 ـ 436).
(2)
وانظر: «منهاج السنة النبوية» (7/ 437 ـ 442)، و «الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح» (6/ 481 ـ 496)، «مجموع الفتاوى» (22/ 418).
لكن مثل هذا لا تُضبَطُ به الألفاظُ والدقائقُ التي لا تُعلم بهذه الطريق، بل يُحتَاجُ ذلك إلى طريق يَثبتُ بها مثلُ تلك الألفاظ والدقائق؛
(1)
ولهذا ثبتتْ بالتواتر غزوة بَدْر، وأنها قبل أُحُدٍ، بل يُعلَمُ قطعاً أن حمزةَ وعليَّاً وعُبَيدةَ بَرَزُوا إلى عُتْبَةَ وشيبةَ والوليد؛ وأنَّ عليَّاً قتلَ الوليدَ، وأنَّ حمزةَ قتلَ قِرْنَهُ، ثمَّ يُشَكُّ في قِرْنِهِ هَل هُوَ عُتْبَةُ أو شَيْبَةُ؟
وهذا الأصلُ ينبغي أنْ يُعرف، فإنَّه أصلٌ نافعٌ في الجزم بكثير من المنقولات: في الحديث، والتفسير، والمغازي، وما يُنقَلُ من أقوال الناس، وأفعالهم، وغير ذلك.
ولهذا إذا رُوِيَ الحديثُ الذي يتأَتَّى فيه ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ وجهينِ معَ العِلمِ بأنَّ أحدَهما لمْ يأخذْهُ عَن الآخر؛ جُزِمَ بأنَّهُ حقٌّ، لا سِيَّمَا إذا عُلِمَ أن نقَلَتَهُ ليسوا ممن يتعمَّدُ الكذِبَ، وإنما يُخَافُ على أحدهم النسيانَ والغلَط؛ فإن مَنْ عرفَ الصحابةَ: كابن مسعود، وأُبَيِّ بن كعب، وابنِ عُمَر، وجابرَ، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وغيرهم؛ عَلِمَ يقيناً أنَّ الواحدَ من هؤلاء،
(1)
قال الشيخ ابن عثيمين في «شرحه لمقدمة التفسير» (ص 77): (المؤلف رحمه الله هنا لا يتكلَّم عن المراسيل، بل يتكلم عن هذه الحادثة التي وقعت وحصل فيها التفصيل؛ فإن الألفاظ والدقائق التفصيلية من هذه الحادثة لا تثبت بهذه الطريق، بل تحتاج إلى نقل صحيح يعتمد عليه لإثباتها
…
).
لم يكن ممن يتعمَّدُ الكذبَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عمن هو فوقهم؛ كما يعلمُ الرجلُ مِن حالِ مَنْ جرَّبَهُ وخَبَرَهُ خِبْرَةً باطنةً طويلةً أنّه ليسَ ممن يسْرقُ أموالَ الناس، ويقطع الطريق، ويشهد بالزور، ونحو ذلك.
وكذلك التابعون بالمدينة، ومكة، والشام، والبصرة، فإنَّ مَن عرَفَ مثلَ أبي صالح السمَّان، والأعرج، وسليمان بن يسار، وزيد بن أسلم، وأمثالهم؛ عَلِمَ قطعاً أنهم لمْ يكونوا ممَّن يتعمَّدُ الكذِبَ في الحديث
…
).
(1)
ومما سبق في كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله يتبين رجحان قبول المراسيل والمنقولات التاريخية إذا تعدَّدَتْ طُرُقُهَا، وسَلِمَ رجالها مِن الكَذِبِ، وكان فيها من التفصِيل ما لايمكن في العَادَةِ التَواطُؤ عَلَيْه.
ونجد للأئمة رحمهم الله نقداً في بعض مرويات السيرة النبوية، وكذا التاريخية، فكيف لاتُنْقَد المرويات عن الصحابة، ومَن بعدهم، خاصة إن كان لها تعلُّق بآل البيت؛ لكثرة ما وضعت الرافضة في سيرهم وفضائلهم؛
…
أو تضمنت أمراً منكراً، ومخالفاً للثابت المعروف، أو جرحاً في أحد الصحابة، وخيار سلف الأمة.
(1)
«مقدمة في أصول التفسير» لابن تيمية (ص 62) = «مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية» (13/ 347 ـ 349)، وشروح المقدمة السابقة: شرح الشيخ: ابن عثيمين
…
(ص 68)، وشرح د. مساعد الطيار (ص 184)، وشرح الشيخ: صالح آل الشيخ
…
(ص 74).
فالذهبي رحمه الله نَقَدَ سِيرَةَ ابنِ إسحاق، مع أنه قال فيه:(وكان بَحْرَاً في العِلْمِ، حَبْرَاً في مَعرِفَةِ أيامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم .... وبعدَ كلامٍ للأئمةِ في جرحِه وتَعديلِهِ، قال: (الذي استقرَّ عليه الأمر أنَّ ابنَ إسحاق صالحُ الحديث، وأنه في المغازي أقوى منه في الأحكام).
ثم قال: (وكذا في «السيرة» عجائب ذكرها ابنُ إسحاق بلا إسنادٍ تَلَقَّفَها، وفيها خيرٌ كثيرٌ لمن له نَقْدٌ ومَعرِفَةٌ).
(1)
وقال أيضاً عنه: (وثَّقَه غيرُ واحدٍ، ووهَّاهُ آخرون، وهو صالحُ الحديث، ماله عندي ذنبٌ إلا ما قد حشا في «السيرة» من الأشياءِ المُنكرةِ المُنقَطِعة، والأشعارِ المكذوبة).
(2)
وذكر أيضاً أن فيها آثاراً لم تصحَّح، وأن كتابَه يحتاج إلى تنقيحٍ وتصحيح، وروايةِ ما فاتَه.
(3)
فإذا كان هذا الحديث عن ابن إسحاق، وهو في درجة القبول في الحديث، وفي السيرة أقوى منه في الحديث، والنقدُ موجَّهٌ إلى كتابِ
…
سيرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فكيف بمَن دون ابنِ إسحاق من المتَّهَمِينَ