الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استدراك وتعقيب على فتوى دية المرأة
أ. د. سعود بن عبد الله الفنيسان 1/3/1427
30/03/2006
نشرت فتوى بالموقع بعنوان (هل دية المرأة على النصف من دية الرجل) ، للشيخ الدكتور/ سعود الفنيسان، وقد ورد إلى الموقع استدراك من أحد الإخوة الزوار على الفتوى المذكورة وبعد عرضه على الشيخ أجاب بما يلي:
الاعتراض:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد ذكر فضيلة الدكتور سعود الفنيسان - حفظه الله وأحسن إليه- في ترجيحه أن دية المرأة نصف دية الرجل في قتل الخطأ، وذكر في أول دليل له قال:(إجماع الصحابة على هذا الأمر - أي التنصيف- حيث لم ينقل عن أحد منهم قال بخلافه، ثم اتفاق الأئمة الأربعة على هذا بمثابة الإجماع أيضاً، والإجماع عند العلماء أقوى من النص، فهو يَنسخ ولا يُنسخ؛ لأنه لا يكون إجماعاً إلا وهو مستند على نص شرعي، سواء علمنا هذا النص أو جهلناه)، وسؤالي: هل ورد أن هذه القضية عرضت أمام الصحابة رضي الله عنهم وحكم بها أمامهم بتصنيف دية المرأة وسكتوا عنها؟ وهل الإجماع السكوتي حجة ليعارض بها ظاهر النصوص العامة؟ وهل شهرة الحديث بين الفقهاء دليل على صحته؟ أنا لست ممن يعترض عليك فضيلة الدكتور - حفظك الله- ولا ينبغي لي، ولكني وجدت في مقدمة الفتوى قوة دليل للقول بتسوية الرجل والمرأة في هذه القضية قبل ترجيحكم. فلا أدري حفظكم الله، أرشدوني إن كنت مخطئاً وسامحوني دفع الله بكم أمة الإسلام، والسلام عليكم ورحمة الله.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وصحابته أجمعين، وبعد:
فقد تلقيت من بعض الإخوة من طلاب العلم اعتراضاً على الفتوى التي أفتيت بها في موقع (الإسلام اليوم) عن دية المرأة في القتل الخطأ، ورد دعوى أنها كالرجل تماماً وليست بنصف ديته، وأنا أشكرهم على اهتمامهم ومتابعتهم وحسن خطابهم، وأحب أن أبيّن لعامة زائري (نافذة الفتاوى) وهؤلاء الإخوة خاصة ما يلي:
أولاً: بسطت رأي الجمهور ومخالفيهم في دية المرأة في القتل الخطأ، وناقشت أدلة الطرفين معاً، وظهر لي أن ظواهر الأدلة مع القائلين بعدم تنصيف الدية، ورجحت أخيراً مذهب الجمهور القائلين بالتنصيف بأدلة استنباطية عملية وواقعية، ويبدو أن عرض أدلة المخالفين للجمهور رجحت في أذهان الإخوة الكرام واستغربوا أن أرجح خلافها بعد وضوحها، وإنما فعلت ذلك مبسطاً للمسألة وإنصافاً واحتراماً للرأي المخالف والقائل به، والمشير له اليوم فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي - وفقه الله-. وهذا من تمام العدل الذي أمرنا الله به "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تتذكرون"، وبقوله:"وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، والأخذ بظواهر الأدلة - ما لم تكن نصًّا في المسألة- من الفقه الظاهري أقل ما يقال فيه: إنه اجتهاد مقابل اجتهاد مثله، ولا مانع للمجتهد الناظر في الأدلة أن يرجح أحد الرأيين، وما ذكرته من أدلة للقائلين بتماثل الدية بين الرجل والمرأة إنما هو على طريقة العلماء في إعمال الذهن في نقد الأقوال لا غير.
ثانياً: قال أحد الإخوة - وفقه الله- متسائلاً: هل عُرضت قضية تنصيف دية المرأة على الصحابة رضي الله عنهم وحكم بها إمامهم وسكتوا عنها؟ وهل الإجماع السكوتي حجة تعارض به ظواهر النصوص؟ وهل شهرة الحديث بين الفقهاء دليل على صحته؟
وأنا أجيبه بالنفي عن سؤاليه الأول والثاني، فلا إجماع قولي ولا حجة في الإجماع السكوتي، ولكني أقلب عليه سؤاله، فأقول: هل نقل عن أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين توفي عنهم وعددهم يزيد عن مائة ألف- هل نقل عن واحد منهم أنه قال بمساواة دية المرأة في القتل الخطأ لدية الرجل؟! بل هل نقل عن أحد الخلفاء الراشدين المهديين - خاصة شيء من هذا- إن وجد في هذه المسألة نقل عن صحابي تعين المصير إليه والوقوف عنده، وأنا أول من يقول به ويشهره بين الناس.
ثالثاً: نعم إن شهرة الحديث عند العلماء إذا تلقي بالقبول دون نكير تغني عن إسناده سواء كان الإسناد ضعيفاً أو لم يعرف له إسناد أصلاً. وقد سئل الإمام أحمد عن حديث تلقين الميت بعد دفنه فاستحسنه واحتج عليه بالعمل - كما ذكره- ابن القيم في كتاب (الروح)، وقال الإمام مالك: صحة الحديث بالمدينة تغني عن إسناده، وسئل القاسم بن محمد عن عدة الأَمة، فقال الناس يقولون حيضتان، وليس هذا في كتاب الله ولا سنة رسول الله، ولكن عمل به المسلمون) ، وقال ابن عبد البر في التمهيد:(روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بإسناد لا يصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدينار أربعة وعشرون قيراطاً"، وهذا الحديث وإن لم يصح إسناده ففي قول جماعة العلماء به وإجماع الناس على معناه ما يغني عن الإسناد فيه) ا. هـ. وقال الحافظ ابن حجر في النكت على ابن الصلاح: ومن جملة صفات قبول الحديث التي لم يتعرض لها شيخنا الحافظ العراقي أن يتفق العلماء على العمل بمدلول الحديث، فإنه يقبل، بل يجب العمل به) ، وقال السخاوي بشرح ألفية الحديث:(وكذا إذا تلقت الأَمة الحديث الضعيف بالقبول يعمل به على الصحيح حتى إنه ينزل منزلة المتواتر في أنه ينسخ المقطوع به، ولهذا قال الشافعي رحمه الله في حديث: "لا وصية لوارث" إنه لا يثبته أهل الحديث ولكن العامة تلقته بالقبول وعملوا به حتى جعلوه ناسخاً لآية الوصية) ا. هـ، وقد نقل عن الإمام أحمد الأخذ بالحديث الضعيف كحديث "الناس أكفاء إلا الحائك والحجام والكساح"، فقيل له أتأخذ به وأنت تضعفه؟ قال: إنما نضعف إسناده ولكن العمل عليه، وفي رواية عنه أنه قال: إنما نضعفه على طريقة أهل الحديث، ونأخذ به على طريقة العلماء، أو قال الفقهاء.
رابعاً: القول بتنصيف دية المرأة مستند إلى الإجماع العملي منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا، وهو أقوى من الإجماع القولي والسكوتي معاً-، وهذا الإجماع من التواتر العملي الذي هو أقوى من التواتر اللفظي كما هو معلوم عند أهل الحديث.
خامساً: إن القول بمساواة دية المرأة للرجل في القتل الخطأ - لمن الأمر العجب كيف يخالف سلف الأمة من العلماء والفقهاء والقضاة والحكام في حكم استقر منذ خمسة عشر قرناً ولم يعرف لهم مخالف يعتد بخلافه، ثم يجيء بعض الناس في هذا العصر ليخرج على إجماعهم العملي بدعوى أنه لا يتفق مع القول بتكريم المرأة واحترامها! وكأن علماء المسلمين من السلف والخلف أهانوا المرأة ولم ينصفوها حين لم يساووا ديتها بدية الرجل! وهذه الدعوى لم تعرف إلا في العصر الحاضر، أطلقه الأعداء والمستغربين المهزومين من أبناء المسلمين، ثم كيف يجمع العلماء - إجماعاً عملياً منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم والتابعين، ومروراً بعصر الأئمة الأربعة، وانتهاء بالأئمة المجتهدين كابن تيمية والعز بن عبد السلام وأبي بكر بن العربي والنووي، والحافظ ابن حجر وابن عابدين وعبد العزيز بن باز، وغيرهم كثير، كيف لم ينقل عن واحد من هؤلاء أو في مجمع أو هيئة شرعية القول بمساواة دية المرأة لدية الرجل في القتل الخطأ، ثم يأتي من يُخطِّئ كل هؤلاء ويصوب رأيه بلسان الحال أو المقال. وأكرر شكري للإخوة الذين أبدوا ملاحظاتهم وتساؤلاتهم، وفق الله الجميع إلى العلم النافع والعمل الصالح، آمين.