الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعقبات على حكم تمثيل الحيوانات
د. أحمد الخضيري 10/1/1424
13/03/2003
السؤال (ملاحظات على سؤال التمثيل والأناشيد المصحوبة بالدف) : هناك بعض الملاحظات على هذه الفتوى حيث أنها نازلة معاصرة وهي محل اجتهاد:
1) إشارة الشيخ المفتي -حفظه الله- إلى عدم جواز تمثيل دور الحيوانات وأن التشبه بها جاء في النصوص بصيغة الذم، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجلس على أربع ويركب الحسن والحسين على ظهره ويقول:"نعم المطية مطيتكما"، رواه الطبراني وإسناده حسن وفي بعض الروايات "نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما" فدل على أن التشبه بالحيوان ليس مذموماً بكل حال.
2) منع الشيخ من استعمال الدف إلا في الأعراس أمر محل مناقشة فإن إباحة النبي صلى الله عليه وسلم استخدامه بالعرس يدل على استثناء هذه الآلة من التحريم ولا يقتصر على العرس فالحادثة لا تخصص العام ونظير هذا تحديد بعض الفقهاء عدم جواز الصلح مع الكفار إلا بقدر عشر سنين لأنه هو الذي حصل من النبي صلى الله عليه وسلم وهو مذهب مرجوح كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، ومما يدل على جواز سماع الدف في غير الأعراس ما رواه أصحاب السنن أن امرأة نذرت أن تضرب الدف أمام النبي صلى الله عليه وسلم فأقرها ولو كان ممنوعاً في غير الأعراس لمنعها.
أرجو نشر ملاحظاتي إن لم يكن مانع أو إرسالها إلى الشيخ إن وجد مانع، وأنتم محسنون ولكم الخيار وما على المحسنين من سبيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أجاب عن السؤال الشيخ/د. أحمد الخضيري (عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام)
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فيمكن توضيح الفتوى في تمثيل دور الحيوانات والأناشيد المصحوبة بالدف، والإجابة عن ملحوظات الأخ فيما يلي:
أولاً: ينبغي أن يعلم أن التمثيل في أصله محل خلاف بين فقهاء العصر، فهناك من أهل العلم من يمنعه مطلقاً، وهناك من يجيزه بقيود معينة، وليس هذا مقام التوسع في ذكر الخلاف وأدلته، ولكن الذي يهمنا منه أن من أجاز التمثيل قيده بقيود يلزم توافرها، ومن هذه القيود ألا يشتمل التمثيل على محاكاة البهائم ومشابهتها، لأن محاكاة البهائم ومشابهتها إذا نظرنا إليه في الكتاب والسنة نجد أنه يرد في مقام الذم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"التشبه بالبهائم في الأمور المذمومة في الشرع مذموم منهي عنه، في أصواتها وأفعالها، ونحو ذلك، مثل: أن ينبح نبيح الكلاب، أو ينهق نهيق الحمير، ونحو ذلك، وذلك لوجوه: أحدها: أنا قررنا في اقتضاء الصراط المستقيم، نهي الشارع عن التشبه بالآدميين الذين جنسهم ناقص كالتشبه بالأعراب وبالأعاجم وبأهل الكتاب ونحو ذلك في أمور من خصائصهم، وبينا أن من أسباب ذلك أن المشابهة تورث مشابهة الأخلاق، وذكرنا أن من أكثر عِشرة بعض الدواب اكتسب من أخلاقها: كالكلاّبين، والجمالين، وذكرنا ما في النصوص من ذم أهل الجفاء وقسوة قلوب: أهل الإبل، ومن مدح أهل الغنم، فكيف يكون التشبه بنفس البهائم فيما هي مذمومة؟ بل هذه القاعدة تقتضي بطريق التنبيه النهي عن التشبه بالبهائم مطلقاً فيما هو من خصائصها، وإن لم يكن مذموماًَ بعينه، لأن ذلك يدعو إلى فعل ما هو مذموم بعينه، إذ من المعلوم أن كون الشخص أعرابياً أو عجمياً خير من كونه كلباً أو حماراً أو خنزيراً، فإذا وقع النهي عن التشبه بهذا الصنف من الآدميين في خصائصه؛ لكون ذلك تشبهاً فيما يستلزم النقص ويدعو إليه، فالتشبه بالبهائم فيما هو من خصائصها أولى أن يكون مذموماًَ ومنهياً عنه.
الوجه الثاني: أن كون الإنسان مثل البهائم مذموم، قال تعالى:"ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون".
والوجه الثالث: أن الله سبحانه إنما شبه الإنسان بالكلب والحمار ونحوهما في معرض الذم له كقوله:"فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون" وقال تعالى:"مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً" الآية، وإذا كان التشبه بها إنما كان على وجه الذم من غير أن يقصد المذموم التشبه بها، فالقاصد أن يتشبه بها أولى أن يكون مذموماًَ، لكن إن كان تشبه بها في عين ما ذمه الشارع صار مذموماً من وجهين، وإن كان فيما لم يذمه بعينه صار مذموماً من جهة التشبه المستلزم للوقوع في المذموم بعينه.
يؤيد هذا الوجه الرابع: وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح:"العائد في هبته كالعائد في قيئه، ليس لنا مثل السوء"، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذا المثل إلا ليبين أن الإنسان إذا شابه الكلب كان مذموماً، وإن لم يكن الكلب مذموماً في ذلك من جهة التكليف، ولهذا ليس لنا مثل السوء، والله سبحانه قد بين بقوله:"ساء مثلاً" أن التمثيل بالكلب مثل سوء، والمؤمن منزه عن مثل السوء، فإذا كان له مثل سوء من الكلب كان مذموماً بقدر ذلك المثل السوء"، ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله الوجه السادس وهو: حرمة تشبه الرجال بالنساء، وتشبه النساء بالرجال فيما يختص به كل جنس وقال عقب ذلك:"فإذا كانت الأمور التي هي من خصائص النساء ليس للرجال التشبه بهن فيها، والأمور التي هي من خصائص الرجال ليس للنساء التشبه بهم فيها، فالأمور التي هي من خصائص البهائم لا يجوز للآدمي التشبه بالبهائم فيها بطريق الأولى والأحرى، وذلك لأن الإنسان بينه وبين الحيوان قدر جامع مشترك، وقدر فارق مختص، ثم الأمر المشترك: كالأكل والشرب، والنكاح والأصوات والحركات، لما اقترنت بالوصف المختص كان للإنسان فيها أحكام تخصه ليس له أن يتشبه بما يفعله الحيوان فيها، فالأمور المختصة به أولى، مع أنه في الحقيقة لا مشترك بينه وبينها، ولكن فيه أوصاف تشبه أوصافها من بعض الوجوه، والقدر المشترك إنما وجوده في الذهن لا في الخارج. وإذا كان كذلك فالله تعالى قد جعل الإنسان مخالفاً بالحقيقة للحيوان وجعل كماله وصلاحه في الأمور التي تناسبه، وهي جميعها لا يماثل فيها الحيوان، فإذا تعمد مماثلة الحيوان، وتغيير خلق الله فقد دخل في فساد الفطرة والشرعة، وذلك محرم والله أعلم". مجموع الفتاوى (32/256-260) .
وأما ما ذكره الأخ السائل من كون النبي صلى الله عليه وسلم كان يركب الحسن والحسين على ظهره ويقول:"نعم المطية مطيتكما" رواه الطبراني وغيره، وفي بعض الروايات:"نعم الجمل جملكما، ونعم العدلان أنتما".
فليس في هذا ما يعارض ما سبق لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداعب الحسن والحسين ويقول هذا عندما يبتدرانه بالركوب على ظهره، وهذا النوع من المداعبة شائع بين الأب وأبنائه ويتم بطريقة عفوية، ولم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك تمثيل حال الحيوان ومشابهته وحاشاه من ذلك.
وبهذا تبقى القاعدة على عمومها وهو أن التشبه بالحيوان جاء في الكتاب والسنة في مقام الذم.
وعلى التسليم بكون التشبه بالحيوان في أحيان قليلة لا يكون وارداً في مقام الذم فهذا لا يؤثر في صحة الاستدلال بهذه القاعدة على منع تمثيل الحيوانات في الجملة، ويبقى الجواز قاصراً على ما ورد تخصيصه بالنص، وهو حال مداعبة الرجل لأبنائه كما في قصة الحسن والحسين مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن الحال المستثناة من النص العام لا يقاس عليها.
ثانياً: الضرب بالدف وقع فيه خلاف بين الفقهاء على ثلاثة أقوال: فهناك من قصر جوازه على الأعراس، وهناك من أجازه أيضاً في الأعياد وقدوم الغائب وبعض الولائم على خلاف في بعضها، وهناك من أجازه مطلقاً.
والذي يظهر لي أنه ينبغي أن يقتصر في الضرب بالدف على ما ورد النص به دون ما عداه، ومن أشهر ما ورد النص به، وهو محل اتفاق بين الفقهاء الضرب بالدف في الأعراس كما جاء ذلك في نص الفتوى.
ويلحق به أيضاً الضرب بالدف في الأعياد وعند قدوم الغائب لما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"دعهما، فلما غفل غمزتهما، فخرجتا، وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدرق والحراب...." متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا" متفق عليه.
وما جاء عن بريدة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، قال لها:"إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا" فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر وهي تضرب فألقت الدف تحت استها ثم قعدت عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان ليخاف منك يا عمر
…
"، رواه أحمد والترمذي وصححه.
ولم تذكر هاتان الحالتان في الفتوى المنشورة لأن الغرض كان ذكر الحكم العام لاستعمال الدف والاختصار بذكر أشهر ما ورد النص بجوازه وهو الضرب بالدف في حال النكاح، والتنبيه بهذا المثال على الاقتصار على ما جاء به النص.
وأما قول الأخ: إباحة النبي صلى الله عليه وسلم واستخدامه بالعرس يدل على استثناء هذه الآلة من التحريم ولا يقتصر على العرس فالحادثة لا تخصص العام
…
إلخ، فهو استدلال غير وجيه في هذه المسألة، لأن تحريم الغناء والدف عام، والترخيص بهما في الأعراس والأعياد وقدوم الغائب خاص ومستثنى من الأصل العام، فلا يصح أن يكون المستثنى أصلاً يقاس عليه غيره، بل يجب أن يقتصر على محل الرخصة، ويبقى ما عداه داخلاً في حيز العموم.
وطريقة الاستدلال التي ذكرها الأخ هي التي تمسك بها وسلكها من أباح الغناء، والمعازف، وهي لا شك طريقة خاطئة، فإباحة الغناء والدف في الأعياد والأعراس وقدوم الغائب على هيئة مخصوصة وصفة مخصوصة لا يكون مبيحاً للغناء بجميع أنواعه واللهو بجميع أدواته، وفي قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه:"مزمارة الشيطان؟! " ما يدل أنه على علم سابق بأن الغناء والدف منهي عنهما، ولهذا بادر في الإنكار، فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلل لهذا الحكم المخالف لما تقرر من منع الغناء والدف بقوله:"إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا" وكذلك فيما يتعلق بموقف عمر رضي الله عنه مع الجارية التي كانت تضرب بالدف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.