المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الترغيب في الشهادة وما جاء في فضل الشهداء - فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب - جـ ٦

[حسن بن علي الفيومي]

فهرس الكتاب

- ‌التَّرْغِيب فِي تَعْجِيل الْفطر وَتَأْخِير السّحُور

- ‌الترغيب في الفطر على التمر فإن لم يجد فعلى الماء

- ‌التَّرْغِيب فِي إطْعَام الطَّعَام

- ‌ترغيب الصَّائِم فِي أكل المفطرين عِنْده

- ‌ترهيب الصَّائِم من الغَيْبَة وَالْفُحْش وَالْكذب وَنَحْو ذَلِك

- ‌التَّرْغِيب فِي الِاعْتِكَاف

- ‌التَّرْغِيب فِي صَدَقَة الْفطر وبَيَان تأكيدها

- ‌كتاب الْعِيدَيْنِ وَالْأُضْحِيَّة

- ‌التَّرْغِيب فِي إحْيَاء لَيْلَتي الْعِيدَيْنِ

- ‌التَّرْغِيب فِي التَّكْبِير فِي الْعِيد وَذكر فَضله

- ‌التَّرْغِيب فِي الْأُضْحِية وَمَا جَاءَ فِيمَن لم يضح مَعَ الْقُدْرَة وَمن بَاعَ جلد أضحيته

- ‌التَّرْهِيب من الْمثلَة بِالْحَيَوَانِ وَمن قَتله لغير الْأكل وَمَا جَاءَ فِي الْأَمر بتحسين القتلة والذبحة

- ‌كتاب الحج

- ‌الترغيب في الإحرام من المسجد الأقصى

- ‌التَّرْغِيب فِي النَّفَقَة فِي الْحَج وَالْعمْرَة وَمَا جَاءَ فِيمَن أنْفق فيهمَا من مَال حرَام

- ‌التَّرْغِيب فِي الْعمرَة فِي رَمَضَان

- ‌التَّرْغِيب فِي التَّوَاضُع فِي الْحَج والتبذل وَلبس الدون من الثِّيَاب اقْتِدَاء بالأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌التَّرْغِيب فِي الْإِحْرَام والتلبية وَرفع الصَّوْت بهَا

- ‌التَّرْغِيب فِي الْإِحْرَام من الْمَسْجِد الْأَقْصَى

- ‌الترغيب في الطواف واستلام الحجر الأسود والركن اليماني وما جاء في فضلهما وفضل المقام ودخول البيت

- ‌[الترغيب في العمل الصالح في عشر ذي الحجة وفضله]

- ‌التَّرْغِيب فِي الْوُقُوف بِعَرَفَة والمزدلفة وَفضل يَوْم عَرَفَة

- ‌التَّرْغِيب فِي رمي الْجمار وَمَا جَاءَ فِي رَفعهَا

- ‌التَّرْغِيب فِي حلق الرَّأْس بمنى

- ‌التَّرْغِيب فِي شرب مَاء زَمْزَم وَمَا جَاءَ فِي فَضله

- ‌ترهيب من قدر على الْحَج فَلم يحجّ وَمَا جَاءَ فِي لُزُوم الْمَرْأَة بَيتهَا بعد قَضَاء فرض الْحَج

- ‌التَّرْغِيب فِي الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَسْجِد الْمَدِينَة وَبَيت الْمُقَدّس وقباء

- ‌الترغيب في سكنى المدينة إلى الممات وما جاء في فضلها وفضل أحد ووادي [القرى]

- ‌الترهيب من إخافة أهل المدينة أو إرادتهم بسوء

- ‌كتاب الجهاد

- ‌الترغيب في الرباط في سبيل الله عز وجل

- ‌الترغيب في الحراسة في سبيل الله تعالى

- ‌الترغيب في النفقة في سبيل الله وتجهيز الغزاة وخلفهم ها أهليهم

- ‌الترغيب في احتباس الخيل في الجهاد لا رياء ولا سمعة وما جاءه في فضلها، والترغيب فيها يذكر منها والنهي عن قص نواصيها لأن فيها الخير والبركة

- ‌ترغيب الغازي والمرابط في الإكثار من العمل الصالح من الصوم والصلاة والذكر ونحو ذلك

- ‌الترغيب في الغدوة في سبيل الله والروحة وما جاء في فضل المشي والغبار في سبيل الله والخوف فيه

- ‌الترغيب في سؤال الشهادة في سبيل الله

- ‌الترغيب في الرمي في سبيل الله وتعلمه والترهيب من تركه بعد تعلمه رغبة عنه

- ‌التَّرْغِيب فِي الْجِهَاد فِي سَبِيلِ اللّه تَعَالَى وَمَا جَاءَ فِي فضل الْكَلم فِيهِ وَالدّعَاءِ عِنْد الصَّفّ والقتال

- ‌الترغيب في إخلاص النية في الجهاد وما جاء فيمن يولد الأجر والغنيمة والذكر وفضل الغزاة إذا لم يغنموا

- ‌الترهيب من الفرار من الزحف

- ‌الترغيب في الغزاة في البحر وأنها أفضل من عشر غزوات في البر

- ‌الترهيب من الغلول والتشديد فيه وما جاء فيمن ستر على غال

- ‌الترغيب في الشهادة وما جاء في فضل الشهداء

- ‌الترهيب من أن يموت الإنسان ولم يغز ولم ينو الغزو وذكر أنواع من الموت تلحق أربابها بالشهداء والترهيب من الفرار من الطاعون

- ‌فصل

الفصل: ‌الترغيب في الشهادة وما جاء في فضل الشهداء

‌الترغيب في الشهادة وما جاء في فضل الشهداء

2107 -

عَن أنس رضي الله عنه أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا أحد يدْخل الْجنَّة يحب أَن يرجع إِلَى الدُّنْيَا وَإِن لَهُ مَا على الأرْض من شَيْء إِلَّا الشَّهِيد فَإِنَّهُ يتَمَنَّى أَن يرجع إِلَى الدُّنْيَا فَيقْتل عشر مَرَّات لما يرى من الْكَرَامَة وَفِي رِوَايَة لما يرى من فضل الشَّهَادَة رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ

(1)

.

قوله: وعن أنس رضي الله عنه: تقدم.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أحدٌ يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وإن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة" الحديث، سيأتي الكلام على معنى هذا الحديث في الحديث بعده.

قوله: "وإن له مما على الأرض" الحديث، بفتح الهمزة عطف على أن يرجع وبالكسر على أنها جملة حالية.

2108 -

وَعنهُ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله يُؤْتى بالرجل من أهل الْجنَّة فَيَقُول الله لَهُ يَا بن آدم كَيفَ وجدت مَنْزِلك فَيَقُول أَي رب خير منزل فَيَقُول سل وتمنه فَيَقُول وَمَا أَسأَلك وأتمنى أَسأَلك أَن تردني إِلَى الدُّنْيَا فأقتل فِي سَبِيلك

(1)

البخاري (2817)، ومسلم (1877)، والترمذي (1661)، وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد (12273)، وابن حبان (4662).

ص: 582

عشر مَرَّات لما يرى من فضل الشَّهَادَة رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح على شَرط مُسلم

(1)

.

قوله: وعنه، تقدم الكلام عليه.

قوله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول الله له يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول أي رب خير منزل فيقول سل وتمنَّه فيقول وما أسألك وأتمنى أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات لما يرى من فضل الشهادة" رواه النسائي والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم، أ. هـ. قال ابن النحاس، ورواه أبو عوانة في صحيحة

(2)

، قال عفا الله عنه: فإذا كان أهل الجنة يتمنون الشهادة يسألونها وقد حصلوا على ما حصلوا عليه من الفوز العظيم ووصلوا إلى ما وصلوا إليه من النعيم المقيم فكيف لا يتمناها ويسألها من هو الآن في دار المحي والغرور واللعن والشرور، ولا يدري إلى الجنة يصير أو إلى النار وبئس المصير، وقد ثبت من غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشهداء يتمنون الخروج من الجنة ومفارقة ما هم فيه من النعيم والرجوع إلى الدنيا ليقتلوا في سبيل الله لما وجدوا من لذة القتل في سبيل الله وفضل الشهادة عند الله

(3)

.

(1)

أخرجه النسائي في المجتبى 5/ 387 (3184)، والحاكم (2/ 75)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7996).

(2)

أخرجه أبو عوانة (7775).

(3)

مشارع الأشواق (ص 674).

ص: 583

2109 -

وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَوَدِدْت أَن أغزو فِي سَبِيل الله فأقتل ثمَّ أغزو فأقتل ثمَّ أغزو فأقتل رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي حَدِيث تقدم

(1)

.

قوله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه، تقدم الكلام عليه.

قوله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل" قال النووي

(2)

: في هذا الحديث جواز قول الإنسان وددت حضور كذا من الخير الذي يعلم [أنه لا] يحصل، وفيه فضل الجهاد [والشهادة] في سبيل الله والحث على حسن النية، قال: وهذا الفضل وإن كان ظاهره أنه في قتال الكفار يدخل فيه من خرج في سبيل الله في قتال البغاة، وفيه إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوه، وفيه: أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين، وفيه: تمني الشهادة وتمني ما لا يمكن في العادة من الخيرات والله أعلم، وتقدم الكلام على هذا الحديث مطولا في الجهاد.

2110 -

وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي رضي الله عنه. أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ يغْفر للشهيد كل ذَنْب إِلَّا الدّين رَوَاه مسلم

(3)

.

قوله: وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما، تقدم الكلام عليه.

(1)

البخاري (3123)، ومسلم (1876)، ومالك في الموطأ (1284).

(2)

شرح النووي على مسلم (13/ 22) وانظر الكواكب الدراري (1/ 157).

(3)

مسلم (1886).

ص: 584

قوله صلى الله عليه وسلم: "يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين" رواه مسلم، وفي رواية قال:"القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين" قال أبو الوليد بن رشد في مقدماته، وقد قيل: إن ذلك كان في أول الإسلام ولما روي أن الله تعالى يقضي عنه دينه

(1)

، أ. هـ.

وقال الإمام أبو عبد الله القرطبي في تفسيره

(2)

: الدين الذي يحبس صاحبه عن الجنة والله أعلم هو الذي قد ترك له وفاء ولم يوص به أو قدر على الأدإء فلم يؤده أو أدانه في سفر أو سرف ومات ولم يوفه فهذا هو الذي يحبس صاحبه عن الجنة [حتى يقع] القصاص بالحسنات والسيئات لا [إتلاف المال على صاحبه، فيحتمل] أن يكون قوله في شهيد البحر عام في الجميع وهو الأظهر لأنه لم يفرق بين دين ودين، وأما من أدان في حق واجب كفاقة أو عسر ومات ولم يترك وفاء فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله شهيدًا كان أو غيره، لأن على السلطان فرضا أن يؤدي عنه دينه، إما من جملة الصدقات أو من سهم الغارمين، أو من الفيء الراجع على المسلمين

(3)

، قال صلى الله عليه وسلم:"من ترك دينا أو ضياعا فعلى الله ورسوله، ومن ترك مالا فلورثته"

(4)

أ. هـ.

(1)

المقدمات الممهدات (1/ 351).

(2)

تفسير القرطبي (4/ 274).

(3)

تفسير القرطبي (4/ 274) والتذكرة (ص 432).

(4)

أخرجه مسلم (43 - 867) عن جابر.

ص: 585

ثم قال

(1)

: فإن لم يقض عنه السلطان فإن الله يقضي عنه ويرضي خصمه ثم ذكر الدليل على ذلك ومن جملته قوله صلى الله عليه وسلم: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله" رواه البخاري

(2)

، قال ابن النحاس عفا الله عنه: ومما يؤيد ما ذكره القرطبي قصة عبد الله والد جابر فإنه خرج في غزاة أحد وعليه دين فاستشهد فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ولده جابرا بعد أيام وهو مهتم [لما] على أبيه من الدين فأخبره أن الله تعالى كلم أباه كفاحًا

(3)

فلو كان أبوه محبوسا عن الجنة بسبب دينه لما حصلت له هذه الدرجة العظيمة في تخصيص الله تعالى له بالتكليم كفاحا وكذلك الزبير استشهد وعليه ألف ألف ومائتا ألف

(4)

والله أعلم.

2111 -

وَعَن أبي قَتَادَة رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَامَ فيهم فَذكر أَن الْجِهَاد فِي سَبِيل الله وَالإِيمَان بِالله أفضل الأعْمَال فَقَامَ رجل فَقَالَ يَا رَسُول الله أَرَأَيْت إِن قتلت فِي سَبِيل الله تكفر عني خطاياي فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نعم إِن قتلت فِي سَبِيل الله وَأَنت صابر محتسب مقبل غير مُدبر ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كيفَ قلت قَالَ أَرَأَيْت إِن قتلت فِي سَبِيل الله أتكفر عني خطاياي فَقَالَ رَسُول الله

(1)

التذكرة (ص 433).

(2)

أخرجه البخاري (2387) عن أبي هريرة.

(3)

أخرجه ابن ماجه (190 و 2800)، والترمذي (3010)، وابن حبان (7022). وحسنه الألباني في الظلال (602)، وصحيح الترغيب (1361).

(4)

مشارع الأشواق (ص 721 - 722).

ص: 586

- صلى الله عليه وسلم نعم إِن قتلت وَأَنت صابر محتسب مقبل غير مُدبر إِلَّا الدّين فَإِن جِبْرَائِيل قَالَ لي ذَلِك رَوَاهُ مُسلم وَغَيره

(1)

.

قوله: وعن أبي قتادة، تقدم.

قوله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم فذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، الحديث، إونما جعل الجهاد أفضل من غيره لأنه بذل النفس في سبيل الله والجود بالنفس أفضل غاية الجود والأفضل بعده هو الحج لأنه عبادة مركبة من العبادة البدنية والمالية، وأسقط في الحديث ذكر الصلاة والزكاة والصيام ولا شك أن الثلاث مقدمات على الحج والجهاد مرتبة؛ فإن قيل: لم قدم الجهاد على الحج مع أن الحج من أركان الإسلام والجهاد فرض كفاية، فالجواب: أن الجهاد قد يتعين كسائر فروض الكفايات وإذا لم يتعين لم يقع إلا فرض كفاية وأما الحج فالواجب منه حجة واحدة وما زاد فنفل

(2)

قال النووي

(3)

: الأفضل في هذا الحديث بعد الإيمان الجهاد، وفي حديث ابن مسعود، وفي بالصلاة لوقتها، وفي حديث أبي ذر ولم يذكر الحج، وفي الحديث الآخر أي الإسلام أفضل قال:"من سلم المسلمون من لسانه ويده" وفي حديث آخر: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام"

(4)

قال العلماء: اختلاف الأجوبة في هذا الحديث لاختلاف الأحوال فأعلم كل قوم بما بهم الحاجة إليه

(1)

مسلم (1885)، والترمذي (1712).

(2)

الكواكب الدراري (1/ 127).

(3)

شرح النووي على مسلم (13/ 35).

(4)

سبق تخريجهم.

ص: 587

دون ما لم تدع حاجتهم إليه، وذكر ما لم يعلمه السائل وأهل المجلس وترك ما علموه والله أعلم، قاله الكرماني في شرح البخاري

(1)

.

قوله: فقام رجل: فقال يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر" وفي آخره "إلا الدين، فإن جبريل قال لي ذلك"، في هذا الحديث هذه الفضيلة العظيمة للمجاهد وهي تكفير خطاياه كلها إلا حقوق الآدميين وإنما يكون تكفيرها بهذه الشروط المذكورة وهو أن يقاتل صابرًا محتسبًا مقبلا غير مدبر، ومنه أن الأعمال لا تنفع إلا بالنية والإخلاص لله تعالى، وقوله "مقبل غير مدبر" لعله احتراز ممن يقبل في وقت ويدبر في وقت، والمحتسب هو المخلص لله تعالى، فإن قاتل لعصبية أو لغنيمة أو لصيت أو نحو ذلك فليس له هذا الثواب ولا غيره، وأما قوله:"إلا الدين" ففيه تنبيه على حقوق الآدميين وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا تكفر حقوق الآدميين وإنما تكفر حقوق الله تعالى، وأما قوله صلى الله عليه وسلم "نعم" ثم قال بعد ذلك "إلا الدين" فمحمول على أنه أوحى إليه به في الحال، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "إلا الدين" فإن جبريل قال لي ذلك

(2)

.

تنبيه: والمراد بالدين هاهنا ما يتعلق بذمته من كل ما كان من حقوق الآدميين كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحة وغير ذلك من التبعات وكذلك الغيبة والنميمة والسخرية وما أشبه ذلك فإن هذه

(1)

الكواكب الدراري (1/ 127).

(2)

شرح النووي على مسلم (13/ 29).

ص: 588

الحقوق كلها لابد من استيعابها لمستحقها وقد نبه على ذلك النووي في شرح مسلم

(1)

وغيره

(2)

والله أعلم.

فائدة: روى الطبراني

(3)

من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يسبق المقتول في سبيل الله تعالى مقبلا غير مدبر المقتول المدبر بسبعين خريفًا".

2112 -

وَعَن ابْن أبي عميرَة رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا من نفس مسلمة يقبضهَا رَبهَا تحب أَن ترجع إِلَيْكُم وَإِن لهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا غير الشَّهِيد قَالَ ابْن أبي عميرَة رضي الله عنه: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لِأن أقتل فِي سَبِيل الله أحب إِلَيّ من أَن يكون لي أهل الْوَبر والمدر رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد حسن وَالنَّسَائيّ وَاللَّفْظ لَهُ

(4)

.

أهل الْوَبر هم الَّذين لا يأوون إِلَى جِدَار من الأعْرَاب وَغَيرهم.

وَأهل الْمدر أهل الْقرى والأمصار والمدر محركا هُوَ الطين الصلب المستحجر.

قوله: وعن ابن أبي عمرة: صوابه ابن أبي عميرة بفتح العين وكسر الميم بعدها ياء هكذا ذكره بعض المحدثين.

(1)

إكمال المعلم (6/ 303)، والمفهم (12/ 20)، وشرح النووي على مسلم (13/ 29).

(2)

مشارع الأشواق (ص 720) وانظر تفسير القرطبي (4/ 272) والميسر (3/ 876).

(3)

المعجم الكبير للطبراني (12/ 121)(12651).

(4)

أحمد (1894)، وقال الألباني صحيح في صحيح سنن النسائي.

ص: 589

قوله صلى الله عليه وسلم: لأن أقتل في سبيل الله أحب إلي من أن يكون لي أهل الوبر والمدر" قال الحافظ

(1)

: أهل الوبر هم الذين لا يأوون إلى جدار من الأعراب وغيرهم اهـ، وقال في النهاية: أهل البوادي الذين يسكنون مواضع الأحجار والجبال سموا بذلك لأنهم يتخذون بيوتهم من وبر الإبل

(2)

اهـ.

قيل يريد ربيعة ومضر وقال في النهاية

(3)

يريد بأهل المدر أهل القرى والأمصار المدن، والمدر جمع مدرة وهي البنية اهـ وأهل المدر هم أهل القرى والأمصار والمدر محركا هو الطين الصلب المستحجر اهـ.

2113 -

وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ غَابَ عمي أنس بن النَّضر عَن قتال بدر فَقَالَ يَا رَسُول الله غبت عَن أول قتال قَاتَلت الْمُشْركين لَئِن أشهدني الله قتال الْمُشْركين ليرين الله مَا أصنع فَلَمَّا كَانَ يَوْم أحد وانكشف الْمُسلمُونَ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أعْتَذر إِلَيْك مِمَّا صنع هَؤُلاءِ يَعْني أَصْحَابه وَأَبْرَأ إِلَيْك مِمَّا صنع هَؤُلاءِ يَعْني الْمُشْركين ثمَّ تقدم فَاسْتَقْبلهُ سعد بن معَاذ رضي الله عنه: فَقَالَ يَا سعد بن معَاذ الْجنَّة وَرب النَّصْر إِنِّي أجد رِيحهَا دون أحد قَالَ سعد فَمَا اسْتَطَعْت يَا رَسُول الله أصنع مَا صنع قَالَ أنس فَوَجَدنَا بِهِ بضعا وَثَمَانِينَ ضَرْبَة بِالسَّيْفِ أَو طعنة بِرُمْح أَو رمية بِسَهْم ووجدناه قد قتل وَقد مثل بِهِ الْمُشْركُونَ فَمَا عرفه أحد إِلَّا أُخْته ببنانه فَقَالَ أنس كنَّا نرى أَو نظن أَن هَذِه الآيَة نزلت فِيهِ وَفِي

(1)

فتح الباري لابن حجر (6/ 37).

(2)

النهاية (1/ 343 و 5/ 145).

(3)

النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 309 و 5/ 145).

ص: 590

أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}

(1)

إِلَى آخر الآيَة رَوَاهُ البُخَارِيّ وَاللَّفْظ لَهُ وَمُسلم وَالنَّسَائيّ

(2)

.

الْبضْع بِفَتْح الْبَاء وَكسرهَا أفْصح وَهُوَ مَا بَين الثَّلَاث إِلَى التسع وَقيل مَا بَين الْوَاحِد إِلَى أَرْبَعَة وَقيل من أَرْبَعَة إِلَى تِسْعَة وَقيل هُوَ سَبْعَة قوله: وعن أنس رضي الله عنه تقدم الكلام عليه.

قوله: "غاب عمي أنس بن النضر" بن ضمضم بن زيد بن حرام عم أنس بن مالك استشهد يوم أحد وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حقه "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره".

[قوله]"غاب عمى أنس بن النضر عن قتال بدر" هي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسة وهي في السنة الثانية من الهجرة النبوية على مهاجرها أفضل الصلاة والسلام.

قوله "لئن أشهدني الله قتال المشركين" أي أحضرني.

قوله "ليرين الله ما أصنع" الحديث جواب القسم المقدر هكذا هو في بعفالنسخ بياء بعد الراء ثم نون مشددة وهكذا وقع في صحيح البخاري ووقع في أكثر النسخ "ليراني" بالألف وهو صحيح ويكون معنى ما أصنع بدلا من الضمير في أراني أي ليرى الله ما أصنع وعلى ليرن الله ضبطوه بوجهين

(1)

سورة الأحزاب، الآية:23.

(2)

البخاري (2805)، ومسلم (1903)، والنسائي في الكبرى (8291)، والترمذي (3201)، وأحمد (13015).

ص: 591

أحدهما ليرن بفتح الياء والراء أي يراه الله واقعا بارزا والثاني ليرين بضم الياء وكسر الراء ومعناه ليرين الله الناس ما أصنع ويبرزه الله تعالى لهم ذكره النووي

(1)

.

قوله "فلما كان يوم أحد" أي في العام المقبل أي في يوم قتال أحد وأطلقوا اليوم وأريد الوقعة.

قوله "وانكشف المسلمون فقال اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين" وفيه حسن العبارة إذ لم يصرح بلفظ الانهزام على المسلمين

(2)

.

قوله وانكشف المسلمون أي انهزموا وفارقوا مواضعهم وكشفوها

(3)

.

وقوله "أعتذر إليك مما صنع هؤلاء" يعني أصحابه أي من فرار المسلمين

(4)

.

وقوله "وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء" يعني المشركين أي أمتنع من هذا وأنكره

(5)

أي القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

(6)

.

قوله "ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها دون أحد" سعد بن معاذ هو أبو عمرو سعد بن

(1)

شرح النووي على مسلم (13/ 48).

(2)

الكواكب الدراري (12/ 108).

(3)

شرح النووي على مسلم (12/ 120).

(4)

الكواكب الدراري (12/ 108).

(5)

شرح النووي على مسلم (5/ 13).

(6)

الكواكب الدراري (12/ 108).

ص: 592

معاذ بن النعمان بن امرئ القيس الأنصاري الأوسي الأشهلي المدني سيد الأوس وأمه كبشة بنت رافع أسلمت ولها صحبة أسلم سعد على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله مهاجرا إلى المدينة يعلم الناس أمر دينهم فلما أسلم سعد قال لبني الأشهل كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تسلموا فأسلموا فكان من أعظم الناس بركة في الإسلام ومن أنفعهم لقومه وشهد بدرا وأحدا والخندق وقريظة وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي شهيدا عام الخندق من جرح أصابه من قتال المشركين وثبت في صحيح البخاري عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ رضي الله عنه"

(1)

وقال العلماء: اهتزاز العرش فرح الملائكة بقدومه لما رأوا منزلته وشهده سبعون ألفا من الملائكة وفيه يقول الشاعر:

وَمَا اهْتَزَّ عَرْشُ اللهِ مِنْ مَوْتِ هَالِكٍ

سَمِعْنَا بِهِ إِلا لِسَعْدِ أَبِي عَمْرٍو

وفي الصحيحين عن البراء "أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، فجعلنا نلمسه ونتعجب منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون من هذا" قلنا: نعم، قال: "مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا وألين"

(2)

، وفي الترمذي عن أنس "لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته، وذلك لحكمه في بني قريظة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"إن الملائكة كانت تحمله"

(3)

،

(1)

أخرجه البخاري (3803).

(2)

أخرجه البخاري (3249) و (3802) و (5836) و (6640)، ومسلم (126 - 2468).

(3)

أخرجه الترمذي (3849) وابن حبان (7032). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وصححه الألباني في المشكاة (6228)، الصحيحة (3347).

ص: 593

ووافق حكمه في قريظة حكم الله من فوق سماواته روى له البخاري حديثا من رواية ابن مسعود ومناقبه كثيرة مشهورة

(1)

.

قوله "فقال يا سعد بن معاذ الجنة" هو بالنصب أي أريد الجنة وبالرفع أي هي مطلوبي

(2)

.

قوله "ورب النضر إني لأجد ريحها دون أحد" أي عند هذا محمول على ظاهره وأن الله تعالى أوجده ريحا من موضع المعركة وقد ثبتت الأحاديث أن ريح الجنة يوجد من مسيرة خمسمائة عام وريح الجنة نوعان ريح يوجد في الدنيا تشمه الأرواح أحيانا لا تدركه العبارة وريح يدرك بحاسة الشم للأبدان كما تشم روائح الأزهار وغيرها وهذا يشترك أهل الجنة في إدراكه في الآخرة من قرب ومن بعد وأما في الدنيا فقد يدركه من شاء الله من أنبياءه ورسله وهذا الذي وجده أنس بن النضر يجوز أن يكون من هذا القسم وأن يكون من الأول قاله في حادي الأرواح

(3)

.

قوله "قال سعد فما استطعت يا رسول الله أصنع ما صنع" أي ما قدرت على مثل ما يصنع أنس مع أني شجاع كامل القوة

(4)

.

قوله "قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو

(1)

تهذيب الأسماء واللغات (1/ 214 - 215 ترجمة 206).

(2)

الكواكب الدراري (12/ 108).

(3)

حادى الأرواح (ص 161).

(4)

الكواكب الدراري (12/ 108 - 109).

ص: 594

رمية بسهم ووجدناه قد قتل" قال الحافظ

(1)

: البضع بفتح الباء وكسرها أفصح وهي ما بين الثلاث إلى التسع وقيل ما بين الواحد إلى الأربعة وقيل من أربعة إلى تسعة وقيل هو سبعة اهـ.

قوله "ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون" قال أهل اللغة يقال مثل بالقتيل والحيوان يمثل مثلا كقتل يقتل قتلا إذا قطع أطرافه أو أنفه أو أذنه أو مذاكيره ونحو ذلك والاسم المثلة

(2)

، وهي تعذيب المقتول بقطع أعضاءه وتشويه خلقه قبل أن يقتل أو بعده مثل [أن يجدع]

(3)

والجدع قطع الأنف أو الأذن أو الشفة أو اليد وهو بالأنف أخص فإذا [أطلق] غلب عليه

(4)

فأما مثل بالتشديد فهو للمبالغة [ومنه الحديث "نهى أن يمثل بالدواب" أي تنصب فترمى، أو تقطع أطرافها وهي حية

(5)

]، وهذا إذا لم يكن الكافر فعل ذلك بالمقتول المسلم فإن [مثل بالمقتول المسلم] جاز أن يمثل به و [لذلك قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيدي العرنيين وأرجلهم وسمر أعينهم وكانوا فعلوا ذلك برعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك] هذا في القصاص بين المسلمين إذا كان القاتل قطع أعضاء المقتول وعذبه قبل القطع فإنه يعاقب بمثله وقد قال الله تعالى:

(1)

أي المنذري.

(2)

الكواكب الدراري (20/ 104)، ومشارع الأشواق (ص 722).

(3)

معالم السنن (2/ 280).

(4)

النهاية (1/ 246).

(5)

النهاية (4/ 294).

ص: 595

{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا}

(1)

الآية

(2)

اهـ.

قوله "فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه" واسم أخته الربيع بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد الياء المكسورة وبالمهملة بنت النضر بفتح النون وإسكان المعجمة الأنصارية أخت أنس بن النضر وعمة أنس بن مالك والبنان الأصابع وقيل أطراف الأنامل واحدها بنانه

(3)

.

قوله "فقال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}

(4)

إلى آخر الآية، النحب النذر كأنه ألزم نفسه أن يصدق وقيل النحب الموت كأنه ألزم نفسه أن يقاتل إلى أن يموت ولذلك قالت عائشة أم المؤمنين طلحة من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه

(5)

ففي هذا الحديث إلى أنه ينبغي للإنسان الصبر عند اللقاء ولا يكون سببا للهزيمة وإن فعلت هذه من بعض الناس يثبت ويقاتل مع من بقي لعلهم ينصرون أو يقتل شهيدا ليكون مع الذين قال الله في حقهم {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} ، الآية إلى قوله:{وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}

(6)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:194.

(2)

معالم السنن (2/ 280).

(3)

الكواكب الدراري (12/ 109).

(4)

سورة الأحزاب، الآية:23.

(5)

النهاية (5/ 26).

(6)

سورة آل عمران، الآيات: 169 - 174.

ص: 596

2114 -

وَعَن سَمُرَة بن جُنْدُب رضي الله عنه: قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رَأَيْت اللَّيْلَة رجلَيْنِ أتياني فصعدا بِي الشَّجَرَة فأدخلاني دَارا هِيَ أحسن وَأفضل لم أر قطّ أحسن مِنْهَا قَالا لي أما هَذِه فدار الشُّهَدَاء رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي حَدِيث طَوِيل تقدم

(1)

.

قوله: وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: تقدم الكلام عليه.

قوله صلى الله عليه وسلم "رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل لم أر قط أحسن منها قالا لي أما هذه فدار الشهداء" رواه البخاري في حديث طويل تقدم في ترك الصلاة.

2115 -

وَعَن جَابر بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ جِيءَ بِأبي إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد مثل بِهِ فَوضع بَين يَدَيْهِ فَذَهَبت أكشف عَن وَجهه فنهاني قومِي فَسمع صَوت صائحة فَقيل ابْنة عَمْرو أَو أُخْت عَمْرو فَقَالَ لم تبْكي أَو لا تبْكي مَا زَالَت الْمَلَائِكَة تظله بأجنحتها رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم

(2)

.

قوله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هو عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر.

قوله "جيء بأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد مثل به" مثل بضم الميم وكسر الثاء المثلثة المخففة والاسم مثلة وقد تقدم وأما مثل بالتشديد فهو للمبالغة والرواية هنا بالتخفيف

(3)

.

(1)

البخاري (2791).

(2)

البخاري (2816)، ومسلم (2471).

(3)

شرح النووي على مسلم (16/ 25).

ص: 597

قوله "فسمع صوت صائحة" أي امرأة صارخة، فقيل ابنة عمرو أو أخت عمرو فقال لم تبكي أو لا تبكي قوله: ابنة عمرو وهي عمة جابر أو أخت عمرو فهي عمة المقتول، لما استشهد عبد الله أبو جابر يوم أحد وكانت تبكيه، وأصل لم تبكي لم تبكين حذفت النون نخفيفا ومعناه سواء بكت عليه أم لا فما زالت الملائكة تظله أي بأجنحتها حتى رفع أي فقد حصل له من الكرامة هذا وغيره فلا ينبغي البكاء على مثل هذا [وفي هذا] تسلية لها

(1)

.

قوله "مما زالت الملائكة" يحتمل أن يكون هذا خاصا بعبد الله كرامة له من الله تعالى كما خصه بكلامه له كفاحا، وقال القاضي عياض

(2)

: ويحتمل أن يكون لتزاحمها عليه لبشارته بفضل الله عليه ورضاه وما أعد الله له من الكرامة، وازدحموا عليه إكراما له وفرحا به عند الله من الكرامة والدرجة الرفيعة، أو أظلوه من حر الشمس لئلا يتغير ريحه أو جسمه.

2116 -

وَعنهُ رضي الله عنه قَالَ لما قتل عبد الله بن عَمْرو بن حرَام يَوْم أحد قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَا جَابر أَلا أخْبرك مَا قَالَ الله لأبيك قلت بلَى قَالَ مَا كلم الله أحدا إِلَّا من وَرَاء حجاب وكلم أَبَاك كفاحا فَقَالَ يَا عبد الله تمن عَليّ أعطك قَالَ يَا رب تحييني فأقتل فِيك ثَانِيَة قَالَ إِنَّه سبق مني أَنهم إِلَيْهَا لا يرجعُونَ قَالَ يَا رب فأبلغ من ورائي فَأنْزل الله هَذِه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا

(1)

شرح النووي على مسلم (16/ 25 - 26).

(2)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/ 28).

ص: 598

فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ}

(1)

الآيَة كلهَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه وَابْن مَاجَه بِإِسْنَاد حسن أَيْضا وَالْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح الإِسْنَاد

(2)

.

قوله: وعنه رضي الله عنه، تقدم الكلام عليه، قال: لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام يوم أحد، غزوة أحد تقدم الكلام عليها وهي من الغزوات التي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه.

قوله صلى الله عليه وسلم: "يا جابر ألا أخبرك ما قال الله لأبيك قلت بلى قال ما كلم الله أحدًا إلا من وراء حجاب وكلم أباك كفاحًا" بكسر الكاف أي مواجهة، قال علي بن المديني: الكفاح الحواجهة

(3)

ومعناه معاينة ليس بينهما حجاب ولا رسول وأنه رآه قبل الناس في الآخرة وهذا يعضد أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه ليلة الإسراء إذ لا يتقدمه إلى رؤيته أحد من أمته، قاله ابن العربي

(4)

.

قال أبو العباس القرطبي في شرح مسلم في باب فضائل أبي دجانة بن خرشة الأنصاري، أبو جابر هو: عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي أحد النقباء شهد العقبة وبدرًا وقتل يوم أحد ومثل به كما تقدم ذكره،

(1)

سورة آل عمران، الآيتان:169.

(2)

الترمذي (3010)، وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه، وابن ماجه في المقدمة (190)، والحاكم (3/ 204)، والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 298)، وأحمد (14881)، وابن حبان (7022)، وابن أبي عاصم في السنة (602)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7905).

(3)

ذكره ابن مردويه في تفسيره كما في تفسير ابن كثير (2/ 143).

(4)

عارضة الأحوذى (1/ 165).

ص: 599

وقد تضمن حديثه هذا فضيلة عظيمة لعبد الله لم يسمع بمثلها لغيره وهو أن الله كلمه مشافهة بغير حجاب حجبه به ولا واسطة قبل يوم القيامة ولم يفعل الله تعالى بغيره في هذه الدار كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا}

(1)

، وكما قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:"وما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب "ظاهر هذه الآية وهذا الحديث أن الله تعالى لم يفعل هذا في هذه الدار لحي ولا ميت إلا لعبد الله هذا خاصة فيلزم على هذا العموم أنه قد خص من ذلك بما لم يخص به أحدًا من الأنبياء وهذا مشكل بالعموم من ضرورة الشرع ومن إجماع المسلمين على أن درجة الأنبياء وفضيلتهم أعظم من درجة الأولياء والشهداء فوجه التوفيق أن قوله عليه السلام: "وما كلم الله أحدًا إلا من وراء حجاب" إنما يعني به والله أعلم: أحدًا من الشهداء وممن ليس بنبي بعد موته وقبل يوم القيامة إلا عبد الله ولم يرد به الأنبياء ولا أراد بعد يوم القيامة لما قد علم أيضًا من الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة من أن المؤمنين يرون الله تعالى في الجنة ويكلمهم بغير حجاب ولا واسطة، وأما الآية فإنما مقصودها حصر أنواع الوحي الحاصل إلى الأنبياء من الله تعالى فمنه ما يقذفه الله تعالى في النبي وروعه ومنه، ومنه ما يسمعه الله تعالى النبي مع كون ذلك النبي محجوبًا من رؤية الله تعالى ومنه ما يبلغه له الملك حاصلها الإعلام بأن الله

(1)

سورة الشورى، الآية:51.

ص: 600

تعالى لم يره أحد من البشر في هذه الدار نبيا كان أو غيره وشهد لهذا قوله عليه السلام في الصحيح "اعلموا أنه لا يرى الله أحد ربه حتى يموت" ويقوم الخلاف في رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم لربه والصحيح أنه لم يأت قاطع بذلك والأصل بقاء ما ذكرناه على أصلنا

(1)

أ. هـ.

2117 -

وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رَأَيْت جَعْفَر بن أبي طَالب رضي الله عنه ملكا يطير فِي الْجنَّة ذَا جناحين يطير مِنْهَا حَيْثُ شَاءَ مقصوصة قوادمه بالدماء رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ بِإِسْنَادَيْنِ أَحدهمَا حسن

(2)

.

قوله: وعن ابن عباس رضي الله عنهما، تقدم الكلام عليه.

قوله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ملكا يطير في الجنة ذا جناحين يطير منها حيث شاء" الحديث، هو: أبو عبد الله جعفر بن أبي طالب الطيار الهاشمي

(3)

ذو الجناحين وذو الهجرتين الجواد أبو الجواد وكان من متقدمي الإسلام وهاجر إلى الحبشة وكان هو وأصحابه سبب إسلام النجاشي رحمه الله، وارتفق المسلمون بجعفر هناك واعتضدوا به وكان جعفر أميرهم في الهجرة وهاجرت معه زوجته أسماء بنت عميس فولدت له هناك عبد الله بن

(1)

المفهم (120/ 18 - 120).

(2)

الطبراني في الكبير (1467)، وفي (12112)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 273)، رواه الطبراني في بإسنادين أحدهما جيد. وصححه الألباني في صحيح الجامع (3465).

(3)

طبقات ابن سعد: 4/ 1/ 22، التاريخ الكبير: 2/ 185، الجرح والتعديل: 2/ 482، حلية الأولياء: 1/ 114 - 118، الاستيعاب: 2/ 149، أسد الغابة: 1/ 341، تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 148 - 149، تهذيب التهذيب: 2/ 98، الإصابة: 2/ 85.

ص: 601

جعفر وهو أول مولود ولد في الإسلام بأرض الحبشة، وقضية جعفر مع النجاشي في أول اجتماعه به وقراءته عليه سورة مريم، وقوله إن عيسى عبد الله تعالى وغير ذلك مما جرى له مشهور معروف، ثم قدم من الحبشة هو ومن صحبه من المهاجرين ومن دخل في الإسلام هناك وجاءوا في سفينتين في البحر فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر فأسهم له منها ولم يسهم لمن لم يحضرها غير أهل السفينة، وحديث قصتهم في الصحيح مشهور، سكن المدينة ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم على جيش غزوة مؤتة بعد زيد بن حارثة فاستشهد هو وزيد فيها فأخبر بوفاته رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر في المدينة حال وفاته واستغفروا له وأمر المسلمين بالاستغفار له ووجدوا به يؤمئذ أربعا وخمسين ضربة بالسيف في مقدمه وقبر صاحبيه زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة مشهوران بأرض مؤتة من الشام على نحو مرحلتين من بيت المقدس.

قوله: "مقصوصة قوادمه بالدماء" قوادم الطائر مقاديم ريشه وهي عشر في كل جناح، الواحدة: قادمة

(1)

، وفي الحديث:"إن مدينة لوط حملها جبريل عليه السلام على خوافي جناحه" وهي الريش الصغار التي في جناح الطائر ضد القوادم واحدها خافية قاله في النهاية

(2)

.

2118 -

وَعَن سَالم بن أبي الْجَعْد رضي الله عنه قَالَ أريهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي النّوم فَرَأى جعفرا ملكا ذَا جناحين مضرجين بالدماء وَزيد مُقَابِله رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ

(1)

مشارع الأشواق (ص 727).

(2)

النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 57).

ص: 602

وَهُوَ مُرْسل جيد الإِسْنَاد

(1)

.

قَالَ الْحَافِظ كَانَ جَعْفَر رضي الله عنه: قد ذهبت يَدَاهُ فِي سَبِيل الله يَوْم مُؤْتَة فأبدله بهما جناحين فَمن أجل ذَلِك سمي جعفرا الطيار.

قوله: وعن سالم بن أبي الجعد رضي الله عنه، واسم أبي الجعد [رافع الأشجعي مولاهم الكوفي، أخو زياد بن أبي الجعد، وعبد الله بن أبي الجعد، وعبيد بن أبي الجعد، قال يحيى بن معين، وأبو زرعة، والنسائي: ثقة وقال منصور: قلت لإبراهيم: ما لسالم بن أبي الجعد أتم حديثا منك؟ قال: لأنه كان يكتب وقال عبد الله بن المبارك: أخبرنا مالك بن مغول أنه ذكر له عن سالم بن أبي الجعد أنه كان يعطي، فعاتبته امرأته أم أبان، فقال: لأن أذهب بخير وأترككم بشر أحب إلي من أن أذهب بشر وأترككم بخير، وقال مطين: مات سنة مئة، وقيل: سنة إحدى ومئة، وقال أبو نعيم: مات سنة سبع أو ثمان وتسعين

(2)

].

قوله: أريهم النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فرأى جعفرا ملكا ذا جناحين مضرجين بالدماء وزيد مقابله، أي: على السرير، وابن رواحة جالس معهما كأنهما معرضان عنه، رواه الطبراني وهو مرسل جيد الإسناد، قال الحافظ

(3)

: كان جعفر رضي الله عنه قد ذهبت يداه في سبيل الله يوم مؤتة فأبدله بهما جناحين فمن

(1)

الطبراني في الكبير (1468)، وفي (1473)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 273)، رواه الطبراني مرسلا بإسنادين، ورجال أحدهما، رجال الصحيح.

(2)

تهذيب الكمال (10/ ترجمة 2142).

(3)

أي المنذري.

ص: 603

أجل ذلك سمي جعفرًا الطيار، أ. هـ.

قوله: "مضرجين بالدماء" أي: ملطخين به، وتضرج الثوب بالدم إذا تلطخ بدم أو غيره، قاله صاحب المغيث

(1)

فالتضريج التدمية والتلطيخ وتقدم الكلام على جعفر.

وقوله: "وزيد مقابله" الكلام الآن على زيد بن حارثة، هو:[والد] أسامة بن زيد بن حارثة بالحاء المهملة بن شراحيل بفتح الشين بن كعب بن عبد العزى بن امرئ القيس [بن عامر بن الثعمان بن عامر ابن عبد الله بن عوف بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن كلب بن وبرة بن الحاف، بن قضاعة الكلبي نسبا القرشي الهاشمي بالولاء الحجازي وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهر مواليه، ويقال له حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو حبه، كان أصابه سبي في الجاهلية لأن أمه خرجت به تزور قومها فأغارت عليهم بنو القين فأخذوا زيدا فقدموا به سوق عكاظ فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد فوهبته للنبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وهو ابن ثمان سنين، قيل: رآه النبي صلى الله عليه وسلم ينادى عليه بالبطحاء فذكره لخديجة فقال له يشتريه من مالها ثم وهبته للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه، قال ابن عمر: كنا ندعوه زيد بن محمد حتى نزل قول الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}

(2)

وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيه وبين جعفر بن أبي طالب وكان من أول من أسلم حتى أن الزهري قال في رواية عنه أنه أول من أسلم، وقال غيره: أولهم إسلامًا خديجة ثم أبو بكر ثم زيد،

(1)

المجموع المغيث (2/ 318 - 319).

(2)

سورة الأحزاب، الآية:5.

ص: 604

وفي المسألة خلاف مشهور ولكن تقديم زيد على الجميع ضعيف وهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وشهد بدرًا وأحدًا والخندق والحديبية وخيبر وكان هو البشير إلى المدينة بنصر المسلمين يوم بدر، وكان رضي الله عنه: من الرماة المذكورين وزوجه النبي صلى الله عليه وسلم مو لاته أم أيمن فولدت له أسامة وتزوج زينب بنت جحش أم المؤمنين ثم طلقها ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصته في القرآن العظيم في سورة الأحزاب، قال العلماء: ولم يذكر الله عز وجل في القرآن باسم العلم من أصحاب نبينا وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إلا زيدًا في قوله تعالى {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا}

(1)

، ولما جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش إلى غزاة مؤتة جعل أميرهم زيد بن حارثة، وقال:"إن أصيب فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب فعبد الله بن رواحة" فاستشهدوا ثلاثتهم بها رضي الله عنهما وحزن عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، روي لزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا وروي عنه ابنه أسامة بن زيد رضي الله عنه، قال النووي

(2)

: روينا في صحيح البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أمر أسامة بن زيد فطعن بعض المنافقين في إمارته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليّ من بعده"

(3)

، وقد ذكر تمام الرازي في فوائده أن حارثة والد زيد أسلم حين جاء في طلب

(1)

سورة الأحزاب، الآية:37.

(2)

شرح النووي على مسلم (13/ 35).

(3)

أخرجه البخاري (4250).

ص: 605

زيد ثم ذهب إلى قومه مسلمًا، ومناقبه كثيرة مشهورة

(1)

.

فائدة: وغزوة مؤتة كانت في جمادي الأولي في السنة الثامنة من الهجرة قبل الفتح، ومؤتة بضم الميم ثم همزة ساكنة ويجوز ترك الهمزة كما في نظائره وهي قرية معروفة من قرى البلقاء في طرف الشام عند الكرك، التقت جيوش المسلمين وهرقل وقتل جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة فيها وأخذ الراية بعد ابن رواحة خالد بن الوليد ففتح الله عليه، وكان المسلمون ثلاثة آلاف والروم مع هرقل في مائة ألف كذا في التحفة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في ثلاثة آلاف من المسلمين إلى أرض البلقاء من أطراف الشام، وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج

(2)

وقد اختلف العلماء في عسكر المسلمين بمؤتة هل كانت الهزيمة عليهم أو على المسلمين فحكى ابن سعد أن الهزيمة كانت على المسلمين وحكي أيضا أنها كانت على الروم وذهبت جماعة إلى أن الهزيمة كانت على المشركين والنصرة للمسلمين وهو الأقرب واليه مال البيهقي ورجحه في دلائل النبوة واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم

(3)

، أ. هـ.

(1)

تهذيب الأسماء واللغات (1/ 252 - 253 ترجمة 187).

(2)

عيون الأثر (2/ 196) ومشارع الأشواق (ص 883 - 884).

(3)

مشارع الأشواق (ص 891).

ص: 606

2119 -

وَعَن عبد الله بن جَعْفَر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هَنِيئًا لَك يَا عبد الله أَبوك يطير مَعَ الْمَلَائِكَة فِي السَّمَاء رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ بِإِسْنَاد حسن

(1)

.

قوله: وعن عبد الله، عبد الله هذا هو ابن جعفر رضي الله عنهما الطيار، وهو والد والد علي بن المديني

(2)

.

قوله: "هنيئا لك يا عبد الله، جعفر أبوك يطير مع الملائكة في السماء"، وتقدم أن جعفر قد ذهبت يداه في سبيل الله يوم مؤتة فأبدله الله بهما جناحين، أ. هـ، فجزاه الله أن جعله من الأحياء المذكورين عنده وزاده أن أبدله بيديه جناحين يطير بهما حيث شاء، ويأكل من ثمار الجنة ما شاء فمن أجل ذلك سمي الطيار وكان عبد الله بن عمر إذا حيي عبد الله بن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين

(3)

.

فائدة: قال السهيلي

(4)

: ومما ينبغي الوقوف عليه في معنى الجناحين أنهما ليسا كما سبق الوهم على مثل جناحي الطائر وريشة لأن الصورة الآدمية

(1)

الطبراني في الكبير (14773)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد وإسناده حسن، وكذا قال الحافظ في الفتح.

(2)

هذا غلط فاحش ووهم عجيب فلا رابطة نسب ولا ولاء من قريب أو بعيد بين عبد الله بن جعفر وعلي بن عبد الله المديني من جهتين من جهة أن ابن المديني من مواليد الموالى فهو علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدى، أبو الحسن ابن المديني البصرى، مولى عروة بن عطية السعدى. والثانى أن ولاء ابن المديني لغير الهاشميين.

(3)

أخرجه البخاري (3709) و (4264).

(4)

الروض الأنف (7/ 38 - 39).

ص: 607

أشرف الصورة وأكملها وقي قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم على صورته" تشريف لها عظيم وحاشى الله من التشبيه والتمثيل، ولكنها عبارة عن صورة ملائكته وقوة روحانية أعطيها جعفر كما أعطيتها الملائكة وقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام:{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ}

(1)

فعبر عن العضد بالجناح توسعا وليس ثم طيران فكيف بمن أعطي القوة على الطيران مع الملائكة أخلق به إذن بوصف الجناح مع كمال الصورة الآدمية وتمام الجوارح البشرية، وقد قال أهل العلم في أجنحة الملائكة: ليست كما يتوهم من أجنحة الطير ولكنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة، واحتجوا بقوله تعالى:{أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}

(2)

فكيف تكون كأجنحة الطير على هذا، ولم ير طائر له ثلاثة أجنحة ولا أربعة فكيف بستمائة جناح كما جاء في صفة جبريل عليه الصلاة والسلام، فدل على أثها صفات لا تنضبط كيفيتها للفكر ولا ورد أيضا في بيانها خبر فيجب علينا الإيمان بها ولا يفيدنا إعمال الفكر في كيفيتها علما، وكل أمريء قريب من معاينة ذلك فإما أن يكون من الذين تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون وإما أن يكون من الذين تقول لهم الملائكة وهم باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون، أ. هـ، قاله في الديباجة.

(1)

سورة طه، الآية:22.

(2)

سورة فاطر، الآية:1.

ص: 608

2120 -

وَعَن ابْن عمر رضي الله عنهما أَنه كانَ فِي غَزْوَة مُؤْتَة قَالَ فالتمسنا جَعْفَر بن أبي طَالب رضي الله عنه فوجدناه فِي الْقَتْلَى فَوَجَدنَا بِمَا أقبل من جسده بضعا وَتِسْعين بَين ضَرْبَة ورمية وطعنة.

وَفِي رِوَايَة فعددنا بِهِ خمسين طعنة وضربة لَيْسَ مِنْهَا شَيْء فِي دبره رَوَاهُ البُخَارِيّ

(1)

.

قوله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما، تقدم الكلام عليه.

قوله: أنه كان في غزوة مؤتة. ومؤتة: موضع على مرحلتين من بيت المقدس

(2)

، وتقدم الكلام على مؤتة في حديث سالم بن أبي الجعد.

قوله: فوجدنا بما أقبل من جسده بضعا وتسعين بين ضربة ورمية وطعنة، وفي رواية: فعددنا به خمسين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره، الحديث، والدبر: بضم الباء الموحدة وسكونها الظهر يعني لم يكن شيء منها في حال الإدبار بل كلها في حال الإقبال وغرضه بيان شجاعته رضي الله عنه

(3)

.

تنبيه: فإن قلت: الرواية السابقة خمسون، قلت: كان ذلك في قبله خاصة وهذا في جميع جسده، أو ذلك من الطعنات والضربات وهذا من الطعنات والرميات، والفرق بينهما أن الطعنة بالرمح والضربة بالسيف والرمية بالسهم مع أن التخصيص بالعدد لا يدل على نفي الزائد والله أعلم.

(1)

البخاري (4261).

(2)

الكواكب الدراري (7/ 56) ونهاية الأرب (ص 461).

(3)

الكواكب الدراري (16/ 121).

ص: 609

قاله الكرماني

(1)

، وهذا يدل على أن الحرب لما انكشفت وانهزم المشركون رجع المسلمون إلى القتلى ينظرون من فقد منهم كما جرت به العادة وكان ممن وقف على القتلى عبد الله بن عمر فلا طريق إلى الجمع بين الحديثين إلا أن يقال إن ابن عمر انهزم في أول الحرب مع طائفة ثم تشجعوا ورجعوا وقاتلوا إلى أن فتح الله على المسلمين وانهزم المشركون وكان اختفاؤهم في المدينة لما رجع العسكر، أ. هـ، ذكره ابن النحاس

(2)

.

2121 -

وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ بعث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم زيدا وجعفرا وَعبد الله بن رَوَاحَة وَدفع الرَّايَة إِلَى زيد فأصيبوا جَمِيعًا قَالَ أنس فنعاهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قبل أَن يَجِيء الْخَبَر فَقَالَ أَخذ الرَّايَة زيد فأصيب ثمَّ أَخذهَا جَعْفَر فأصيب ثمَّ أَخذهَا عبد الله بن رَوَاحَة فأصيب ثمَّ أَخذ الرَّايَة سيف من سيوف الله خَالِد بن الْوَلِيد قَالَ فَجعل يحدث النَّاس وَعَيناهُ تَذْرِفَانِ.

وَفِي رِوَايَة قَالَ وَمَا يسرهم أَنهم عندنَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَغَيره

(3)

.

قوله: وعن أنس، تقدم الكلام عليه.

قوله: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا وجعفرًا وعبد الله بن رواحة، وتقدم الكلام على زيد وجعفر والكلام الآن على عبد الله بن رواحة، وقيل: أبو عمرو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن

(1)

الكواكب الدراري (16/ 122).

(2)

مشارع الأشواق (895).

(3)

البخاري (1246).

ص: 610

امرئ القيس الأكبر بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الحارثي المدني، شهد العقبة وشهد بدرا وأحدا والحندق والحديبية وخيبر وعمرة القضاء والمشاهد كلها مع رسول الله إلا الفتح وما بعدها فإنه كان توفي قبلها يوم مؤتة وهو أحد الأمراء في غزوة مؤتة وهو خال النعمان بن بشير وكان أول خارج إلى الغزوات وآخر قادم وكان أحد الشعراء المحسنين الذي يردون الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام والمسلمين، وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: ما رأيت أحدا أجرأ ولا أسرع شعرا من ابن رواحة، وعن أبي الدرداء قال: أعوذ بالله أن يأتي يومٌ لا أذكر فيه عبد الله بن رواحة كان إذا لقيني يقول: يا عويمر اجلس فلنؤمن ساعة فنجلس فنذكر الله تعالى ما شاء الله ثم يقول يا عويمر هذه الإيمان، وهو الذي شجع المسلمين في غزوة مؤتة على لقاء الكفار وكان المسلمون ثلاثة آلاف والكفار مائتي ألف، وقيل: غير ذلك، استشهد عبد الله بن رواحة في غزوة مؤتة في جمادي الأولى سنة ثمان من الهجرة ولم يعقب ومناقبه كثيرة مشهورة

(1)

.

قال ابن هشام في السيرة: وحدثني من أتق به من أهل العلم أن جعفرا أخذ اللواء بيمينه فقطعت فأخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فأثابه الله جناحين يطير بهما حيث شاء، ويقال: إن رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين

(2)

، وقال موسى بن عقبة

(1)

تهذيب الأسماء واللغات (1/ 265 ترجمة 295).

(2)

سيرة ابن هشام (2/ 378).

ص: 611

زعموا والله أعلم أن يعلى بن منبه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر أهل مؤتة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت فأخبرني وإن شئت فأخبرتك" قال: فأخبر في يا رسول الله، فأخبره رسول الله خبره كله ووصفه لهم فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره وإن أمرهم لكما ذكرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم"

(1)

أ. هـ.

قوله: ودفع الراية إلى زيد فأصيبوا جميعًا، الراية: العلم الكبير، واللواء دوثه

(2)

، واللواء بكسر اللام وبالمد هو بمعنى الراية والمراد بهما العلم الذي يحمل في الحروب وهو من العلامة لأنه يعرف به موضع مقدم الجيش واللواء والراية مترادفان صرح به أهل اللغة والغريب، ومنهم صاحب المشارق والنهاية

(3)

، انتهى.

وقال بعض العلماء: كانت راية النبي صلى الله عليه وسلم سوداء ولواءه أبيض

(4)

، والراية قال الجوهري: العلم

(5)

، وكان اسم راية النبي صلى الله عليه وسلم العقاب

(6)

، قال الجوهري

(1)

عيون الأثر (2/ 156 - 5 - 156) ومشارع الأشواق (ص 888 - 889).

(2)

الميسر (3/ 890) وتحفة الأبرار (2/ 610)، والمفاتيح (4/ 376)، وشرح المصابيح (4/ 356).

(3)

طرح التثريب (7/ 220)، وانظر مشارق الأنوار (1/ 304)، والنهاية (4/ 279).

(4)

أخرجه ابن ماجه (2818)، والترمذي (1681) عن ابن عباس. وحسنه الألباني في الصحيحة (2333).

(5)

الصحاح (6/ 2364).

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة (33604) وأبو الشيخ في أخلاق النبي (427) عن الحسن البصرى مرسلا، والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 68) عن عائشة.

ص: 612

في باب المعتل: والألوية المطارف أردية من خز مربعة لها أعلام

(1)

، وفي هذا الحديث استحباب الألوية في الحروب وأنه ينبغي أن تكون مع أمير الجيش فجعل آخذ الراية هو الأمير، وقد يقيم الأمير في حملها غيره، ولا أمير كامل [الإمرة] مع حضوره عليه السلام ولكنه يقيم من يشاء فيما شاء

(2)

والله أعلم.

قوله: قال أنس فنعاهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يجيء الخبر، الخبر والنعي بسكون العين وبكسرها خبر الموت

(3)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فقال أخذ الراية زيد فأصيب" إلى آخره، وأصيب معناه: نيل بالمصيبة.

قوله: "ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد" الحديث هو: أبو سليمان، وقيل: أبو الوليد خالد بن الوليد بن المغيرة [بن عبد الله بن عمرو بن] مخزوم [بن يقظة] بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي المخزوكي، سيف الله، أمه: لبابة الصغرى بنت الحارث أخت ميمونة أم المؤمنين، ولبابة الكبرى امرأة العباس، أسلم بعد الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة وشهد غزوة مؤتة وسماه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ سيف الله، وشهد خيبر وفتح مكة وحنينا، روى له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر حديثا، اتفق

(1)

الصحاح (4/ 1394) و (6/ 2489).

(2)

طرح التثريب (7/ 221).

(3)

الصحاح (6/ 2512).

ص: 613

البخاري ومسلم على حديث، روى عنه ابن عباس وجابر والمقدام بن معدي كرب وأبو أمامة بن سهل الصحابيون وغيرهم من التابعين، وكان رضي الله عنه من المشهورين بالشجاعة والشرف والرياسة، قال الزبير بن بكار وغيره: وكان خالد هو المقدم على خيول قريش في الجاهلية ولم يزل من حين أسلم يوليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أعنة الخيل فيكون في مقدمتها، أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أكيدر صاحب دومة فأسره وأحضره عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالحه على الجزية ورده إلى بلده، وأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب من مدلج فقدم معه رجال منهم فأسلموا ورجعوا إلى قومهم، وأمره أبو بكر الصديق على قتال مسيلمة الكذاب والمرتدين باليمامة وكان له في قتالهم الأثر العظيم، وله الآثار العظيمة المشهورة في قتال الروم بالشام والفرس بالعراق، وافتتح دمشق، وكان في قلنسوته شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصر به وببركته فلا يزال منصورًا، ولما حضرت خالدًا الوفاة قال: لقد شهدت مائة زحف أو نحوها وما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية وها أنا أموت على فراشي فلا نامت أعين الجبناء، وما لي عمل أرجى من لا إله إلا الله وأنا متترس بها [الجبناء جمع جبان والجبن الخوف وعدم الإقدام على الشيء]، وتوفي رضي الله عنه في خلافة عمر بن الخطاب سنة إحدى وعشرين، وكانت وفاته بحمص وقبره مشهور على نحو ميل من حمص، وقيل: توفي بالمدينة، قاله أبو زرعة الدمشقي عن دحيم، والصحيح الأول، وحزن عليه عمر والمسلمون حزنا شديدا عظيما، ولما حضرته الوفاة

ص: 614

حبس فرسه وسلاحه في سبيل الله، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن خالدا احتبس أذراعه وأعتاده في سبيل الله" وفضائله كثيرة مشهورة

(1)

، فرضي الله تعالى عنه وأرضاه بسر محمد، وتقدم الكلام عليه أخصر من هذا.

قوله: فجعل يحدث الناس وعيناه تذرفان، وتذرفان بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الذال المعجمة وكسر الراء المهملة وبالفاء أي: يسيل دمعهما، يقال: ذرفت عينه إذا سال دمعها

(2)

، وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

والله أعلم.

2122 -

وَعَن جَابر رضي الله عنه قَالَ قَالَ رجل يَا رَسُول الله أَي الْجِهَاد أفضل قَالَ أَن يعقر جوادك ويهراق دمك رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه

(4)

. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث عَمْرو بن عبسة قَالَ أتيت النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقلت فَذكره

(5)

.

قوله: وعن جابر رضي الله عنه، تقدم الكلام عليه.

قوله: قال رجل: يا رسول الله، أي الجهاد أفضل؟ قال:"أن يعقر جوادك ويهراق دمك" الحديث.

(1)

تهذيب الأسماء واللغات (1/ 172 - 174 ترجمة 142).

(2)

كشف المناهج (2/ 240).

(3)

الكواكب الدراري (12/ 103).

(4)

ابن حبان (4639)، وأحمد (14210)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2253).

(5)

ابن ماجه (2794)، وأحمد (19435).

ص: 615

2123 -

وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه: قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا يجد الشَّهِيد من مس الْقَتْل إِلَّا كمَا يجد أحدكم من مس القرصة رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائيّ وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن صَحِيح

(1)

.

قوله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه، تقدم الكلام على أبي هريرة.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة" إنما كان كذلك لأنه ينتقل إلى روح وريحان ورب غير غضبان ويبشر بالنعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول فتقرأ عليهم {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ}

(2)

فلا يجدون من ألم القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة، وهذه الأحاديث وغيرها تدل على فضل الشهادة ولا شك أنها كذلك، أ. هـ.

واعلم أن الجريح في سبيل الله لا يجد من ألم الجراح ما يجده غيره فإنه قد صح في الحديث أن القتيل في سبيل الله لا يجد ألم القتل إلا كمس القرصة وإذا كان هذا حال القتل فكيف بما دونه من الجراح، وهذا أمر مستقر لا يجحده إلا من لم يجرب، وما تقدم من أخبار الجرحي يؤيد ذلك مع ان العقل لا يستبعد ذلك فإن سورة الغضب والحمية إذا اشتدت وحكمت وجد الإنسان في نفسه من الشدة والقوة والصبر والاحتمال وقلة المبالاة بالمكروه وعدم الإحسالس بالآلام ما لم يكن يجده قبل ذلك حتى ربما يقع بيني المتخاصمين الشجاج المؤلمة

(1)

الترمذي (1668)، وقال: حديث حسن صحيح غريب، وابن ماجه (2802)، وابن حبان (4655)، وأحمد (7953)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5813).

(2)

سورة آل عمران، الآية:171.

ص: 616

والجراح البالغة ولا يحسون بذلك إلا بعد انفصالهم مما هم فيه، هذا وكل منهم مجتهد في الدفع عن نفسه كاره للموت أن ينزل به فكيف بمن يشتد غضبه لله ويخرج عن نفسه إلى الله، ويتمنى الشهادة عند الله ويعد ما أصابه من فضل الله، ويشهد بقوة نور الإيمان ما أعدّ الله للشهداء والجرحى في سبيله من الفضل الجزيل شهودًا محققًا لا علمًا مجردًا كما قال أنس بن النضر في وقعة أحد: واها لريه الجنة إني لأجد ريحها دون أحد، ثم انغمس في المشركين حتى قتل لص رضي الله عنه (واها) قال العلماء: كلمة تحنن وتلهف

(1)

، ومن هذا ما قيل: إن امرأة فتح الموصلي عثرت فطار ظفرها، فضحكت فقيل لها: يذهب ظفرك وتضحكين، فقال: عن حلاوة الأجر أذهبت عني مرارة الألم أو نحو هذا، وروي أيضًا في الحديث عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا التقى الزحفان ونزل الصبر كان القتل أهون على الشهيد من الماء البارد في اليوم الصائف"

(2)

ذكره صاحب شفاء الصدور، وفي حديث مرفوع قال:"عضة نملة أشد على الشهيد من مس السلاح بل هو أشهى إليه من شراب بارد في يوم صائف"

(3)

، أ. هـ، ذكره ابن النحاس في كتابه

(4)

.

(1)

شرح النووي على مسلم (13/ 48).

(2)

ذكره صاحب كتاب شفاء الصدور وعنه ابن النحاس في مشارع الأشواق (ص 752) وورد بمعناه في الحديث التالي.

(3)

أخرجه ابن أبي عاصم في الجهاد (192) ومن طريقه الضياء في المختارة (10/ 344 (372) ومن طريق آخر 10/ 343 (371) عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"عضة نملة أشد على الشهيد من مس السلاح، بل هو أشهى عنده من شراب بارد في يوم صائف". وضعفه الألباني في الضعيفة (3866).

(4)

مشارع الأشواق (ص 514 - 515).

ص: 617

2124 -

وَعَن كعْب بن مَالك رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي أَجْوَاف طير خضر تعلق من ثَمَر الْجنَّة أَو شجر الْجنَّة رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث حسن صَحِيح

(1)

.

تعلق بِفَتْح الْمُثَنَّاة فَوق وَعين مُهْملَة وَضم اللَّام أَي ترعى من أعالي شجر الْجنَّة.

2125 -

وَعَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول الشَّهِيد يشفع فِي سبعين من أهل بَيته رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن حبَان فِي صَحِيحه

(2)

.

قوله: وعن كعب بن مالك رضي الله عنه، كعب بن مالك [هو أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد، وقيل: أبو بشير كعب بن مالك بن عمرو بن القين بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة، بكسر اللام، ابن سعد بن علي الأنصارى الخزرجى السلمى، بفتح السين واللام.

شهد العقبة، وأحدا، وسائر المشاهد إلا بدرا، وتبوك، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم وأنزل فيهم:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا}

(3)

، والثلاثة: كعب بن مالك،

(1)

الترمذي (1641)، وأحمد (15776)، وابن حبان (4657)، وابن ماجه (4271)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1559).

(2)

أبو داود (2522)، وابن حبان (4660)، والبيهقي (9/ 164)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3746).

(3)

سورة التوبة، الآية:118.

ص: 618

ومرارة بن ربيعة، وهلال بن أمية، وحديث قصتهم طويل مشهور في الصحيحين.

روى لكعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانون حديثا اتفقا على ثلاثة، وللبخارى حديث، ولمسلم حديثان. روى عنه بنوه عبد الله، وعبد الرحمن، ومحمد، وعبيد الله بنو كعب، وابن عباس، وجابر، وأبو أمامة الباهلى، ومحمد بن علي بن الحسين، رضى الله عنهم، وآخرون.

جرح كعب يوم أحد أحد عشر جرحا في سبيل الله، وهو أحد شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ثلاثة: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وكان حسان يقبل على الأنساب، وابن رواحة يعيرهم بالكفر، وكعب يخوفهم الحرب. توفى بالمدينة في زمن معاوية سنة ثلاث وخمسين، وقيل: سنه خمسين، رضى الله عنه

(1)

].

قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمر الجنة أو شجر الجنة" الحديث، تعلق بضم اللام أي تتناول، وقيل:[تأكل وتصيب منها وقيل تشم] وبالفتح أيضًا ومعناه تتعلق وتلزم ثمارها وتأوي إليها وتقع عليها، وقيل: هما سواء، وقد روي:"تسرح" وهذا يشهد بضم اللام ومن رواه التاء عني النسمة ويحتمل أن يرجع على الطير على أن يكون جميعا ويكون ذكر النسمة لأنه أراد الجنس لا الواحد، وقد يكون التذكير والتأنيث جمعا للروح لأن الروح تذكر وتؤنث، أ. هـ، قاله عياض

(2)

، وقال المنذري:

(1)

تهذيب الأسماء واللغات (2/ 69 ترجمة 530).

(2)

مشارق الأنوار (2/ 84).

ص: 619

تعلق أي ترعى من أعالى شجر الجنة، وقال في النهاية

(1)

هو في الأصل في الإبل إذا أكلت العضاة يقال: علقت تعلق فنقل إلى الطير، قاله في النهاية

(2)

، وفي هذا الحديث: بيان أن الجنة مخلوقة موجودة الآن وهو مذهب أهل السنة وهي التي أهبط الله منها آدم وهي التي ينعم فيها المؤمنون يوم القيامة، هذا إجماع أهل السنة، وقالت المعتزلة وطائفة من المبتدعة أيضا غيرهم: أنها ليست موجودة وأنها توجد بعد البعث في القيامة قالوا: والجنة التي أخرج منها آدم غيرها، وظواهر القرآن والسنة تدل لمذهب أهل الحق، وفي هذا الحديث إثبات مجازاة الأموات بالثواب والعقاب قبل القيامة

(3)

، قال القاضي عياض

(4)

: وفيه أن الأرواح باقية لا تفنى فينعم المحسن ويعذب المسيء، وقد جاء بذلك القرآن والآثار وهو مذهب أهل السنة خلافا لطائفة من المبتدعة قالت تفنى.

فائدة في أرواح الشهداء: في حديث سئل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن أرواح الشهداء عند الله كطير في قناديل تحت العرش، وفيه أحاديث مختلفة وذكر شبيب بن إبراهيم في كتاب الإفصاح المنعم على جهات مختلفة منها ما هو طائر يعلق من شجر الجنة ومنها ما هو في حواصل طير خضر ومنا ما يأوى في قناديل تحت العرش ومنها ما هو في حواصل طير بيض ومنها ما هو

(1)

النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 255).

(2)

المصدر السابق.

(3)

شرح النووي على مسلم (13/ 31).

(4)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/ 306).

ص: 620

في تاجواف طير كالزرازير ومنها ما هو في أشخاص وصور من صور الجنة ومنها ما هو في صور تخلق لهم من ثواب أعمالهم ومنها ما يسرح ويتردد جنتها يزورها ومنها ما يتلقى أرواح المقبوضين وممن سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل ومكنها ما هو في كفالة آدم ومنها ما هو في كفالة إبراهيم عليه السلام وهذا قول حسن فإنه يجمع الأخبار حتى لا تتدافع والله أعلم ذكره القرطبي في التذكرة

(1)

.

فائدة: روى الطبراني وابن أبي شيبة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أنه قال:"أرواح المؤمنين في أجواف طيور خضر، كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة"

(2)

الزرزور: بضم الزاي طائر من نوع العصفور سمي بذلك لزرزرته أي تصويته، وما أحسن قول شيخنا الشيخ برهان الدين القيراطي رحمة الله تعالى عليه

(3)

:

قد قلت لما مر بي معرضا

وكفه يحمل زرزورا

يا ذا الذي عذّبني مطله

إن لم يزر حقا فزرزورا

(1)

التذكرة (ص 437 - 438).

(2)

أخرجه ابن المبارك (446) وابن أبي شيبة 7/ 31 (33978)، والطبراني في الكبير (13/ 346 - 350 رقم 14167)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 289 - 290 و 5/ 212) وصفة الجنة (133). وصحح إسناده الألباني كما في الضعيفة (7/ 473).

(3)

برهان الدين القيراطي (726 - 781 هـ) هو إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن عسكر بن مظفر بن نجم بن شادي، الشيخ الإمام العالم العلامة برهان الدين ابن مفتي المسلمين شرف الدين الطائي الطريفي، الشهير بالقيراطي المصري، الأديب الشاعر المشهور.

ص: 621

وفي مناقب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، لعبد المحسن بن عثمان بن غانم، قال الشافعي: من عجائب الدنيا، طلسم على صفة الزرزور من نحاس في رومية، يصفر في يوم واحد من السنة فلا يبقى طائر من جنسه إلا أتى رومية وفي منقاره زيتونة، فإذا اجتمع ذلك عصر، وكان منه زيتهم في ذلك العام. قاله في حياة الحيوان

(1)

.

فائدة أخرى: قال أبو الحسن القابسي أنكر العلماء قول من قال أرواح الشهداء في حواصل طير خضر لأنها رواية غير صحيحة لأنها إذا كانت كذلك فهي محصورة مضيق عليها، قال الإمام أبو عبد الله القرطبي الرواية صحيحة لأنها في صحيح مسلم فيحتمل أن تكون الفاء بمعنى على فيكون المعنى أرواحهم على حواصل طير خضر كما قال تعالى {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}

(2)

[أي على جذوع النخل وجائز أن يسمى الظهر: جوفا: إذا هو محيط به ومشتمل عليه، قال أبو محمد عبد الحق: وهو حسن جدا]

(3)

قال ابن النحاس عفا الله عنه: في هذا الكلام كله نظر فإنا لا نسلم أن أرواحهم محصورة بأجسادها وأن يكون جعفر رضي الله عنه محصورا بالجسد الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم فيه وهو سيد الشهداء ولا ضرورة تدعو إلى التأويل الذي أوله أبو محمد

(4)

، قال ابن

(1)

حياة الحيوان (2/ 7).

(2)

سورة طه، الآية:71.

(3)

التذكرة (ص 437).

(4)

مشارع الأشواق (ص 731).

ص: 622

النحاس عفا الله عنه: بل الذي يظهر لي والله أعلم من الحكمة في جعلهم في هذه الأجساد أنهم لما جاءوا بأجسادهم الكثيفة لله تعالى وبذلوها في حبه وعرضوها للآلام والمشاق الشديدة وسمحوا بها للفناء امتثالا لأمر الله تعالى وطلبا لمرضاته عوضهم الله عنها أجسادا لطيفة في دار النعيم الباقي يأكلون بها ويشربون ويسرحون في الجنة حيث شاءوا ولما كان ألطف الحيوانات أجساما الطير وألطف الألوان الأخضر وألطف الجمادات الشفافة الزجاج كما قال الله تعالى {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}

(1)

فإن كانت من ذهب كما جاء في حديث ابن عباس فهو المفرح طبعا وخاصية وناهيك بذهب الجنة مفرحا فلذلك والله أعلم جعل الله أرواح الشهداء في ألطف الأجساد وهو الطير الملون بألطف الألوان وهو الخضرة تأوي إلى ألطف الجمادات وهي القناديل المنورة أو المفرحة في ظل عرش لطيف رحيم ليكمل لها لذة النعيم في جوار الرب الكريم فكيف يظن أنها محصورة كلا والله إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليشمر المشمرون وعليه فليجتهد المجتهدون

(2)

والله أعلم. اهـ

فائدة أخرى: قال القرطبي

(3)

: الذي عليه المعظم هو ما ذكرناه، وأن حياة الشهداء محققة. وأنهم أحياء في الجنة يرزقون كما أخبر الله تعالى ولا محالة

(1)

سورة النور، الآية:35.

(2)

مشارع الأشواق (ص 731 - 732).

(3)

تفسير القرطبي (4/ 269) وانظر مشارع الأشواق (ص 699).

ص: 623

أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم كأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم، ومن العلماء من يقول: ترد إليهم الأرواح في قبورهم فينعمون، كما يحيا الكفار في قبورهم فيعذبون. وقال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة، أي يجدون ريحها وليسوا فيها. وقال آخرون: أرواحهم في أجواف طير خضر وأنهم يرزقون في الجنة ويأكلون ويتنعمون.

وقال الإمام أبو عبد الله القرطبي

(1)

: وهذا هو الصحيح من الأقوال، لأن ما صح به النقل فهو الواقع. وقد قيل إنه يكتب في كل سنة ثواب غزوة ويشتركون في كل جهاد كان بعدهم إلى يوم القيامة وقيل لأن أرواحهم تركع وتسجد إلى يوم العرش إلى يوم القيامة كأرواح المؤمنين الذين باتوا على وضوء. وقيل: لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض.

قال ابن النحاس عفا الله عنه: والذي يظهر لي والله أعلم أن أجساد الشهداء تتميز عن أجساد الأموات بصفة من صفة الحياة تفيد إدراكا ما والظاهر أن أرواحهم عند الله على رتب في المكانة فمنهم من روحه في جوف طير خضر ترعى في الجنة وتأوى إلى قناديل في ظل العرش كما ورد في الأحاديث ومنهم من هو على بارق نهر بباب الجنة يخرج إليهم رزقهم في الجنة بكرة وعشيا ومنهم من يطير مع الملائكة في السماء وفي الجنة حيث يشاء كما في حديث جعفر بن أبي طالب ومنهم من هو على أسرة في الجنة

(1)

تفسير القرطبي (4/ 269 - 270) وانظر مشارع الأشواق (ص 699 - 700).

ص: 624

كما في حديث ابن رواحة وصاحبيه وإنما تفاوتت منازل أرواحهم لتفاوت رتب إخلاصهم وسماحة أنفسهم بأنفسهم وما كانوا عليه قبل حصول الشهادة من رتب الإسلام والإيمان والإحسان

(1)

اهـ.

[ويجاب أيضا بأن حواصل الطير لا تنحصر الأرواح فيها حصر الظرف في مظروفه كسائر خلق الجنة كما ورد وصفه في الأحاديث من وصف قصورها وحورها بل ذلك على خلاف ما تفهمه العقول بل في ذلك أيضا نوع استئناس للأرواح عن مفارقة الأشباح وتعويضها أجساما هي ألطف وأشف في فضاء هذه الحواصل مما الله عالم بقدر سعته وإن كانت بادي الرأى طيرا صغيرة الجرم ومنحصرة الجسم ولعل داخل حواصلها من النعيم والمنظر الرائق العجيب ما تقصر عنه العبارة وتنبو عنه الإشارة مما يفوت غير الشهداء ممن ليس كذلك والله أعلم قاله كاتبه].

فائدة أخرى: وقد من الله على الشهداء بفضائل لا تحصى ومآثر لا تستقصى قال ابن النحاس عفا الله عنه: وها أنا أذكر إن شاء الله تعالى من ذلك ما وصل إليه علمي القليل وفهمي الكليل فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون:

فمنها أنهم أحياء عند ربهم يرزقون كما قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}

(2)

وقال

(1)

مشارع الأشواق (ص 700).

(2)

سورة البقرة، الآية:154.

ص: 625

تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ}

(1)

الآية

(2)

.

ومنها أن الشهادة في سبيل الله تكفر جميع ما على العبد من الذنوب التي بينه وبين الله تعالى

(3)

.

ومنها أن الملائكة تظلل الشهيد بأجنحتها

(4)

.

ومنها أن الشهادة الخالصة في سبيل الله توجب دخول الجنة مطلقا قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}

(5)

الآية وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}

(6)

الآية

(7)

.

ومنها أن الشهداء حين يقتلون في سبيل الله تجعل أرواحهم في أجواف طير خضر في الجنة

(8)

.

ومنها أن الشهداء لا يفتنون في قبورهم ولا يصعقون عند نشورهم وقد

(1)

سورة آل عمران، الآيتان: 169 - 170.

(2)

مشارع الأشواق (ص 694).

(3)

مشارع الأشواق (ص 720).

(4)

مشارع الأشواق (ص 722).

(5)

سورة التوبة، الآية:111.

(6)

سورة محمد، الآية:4.

(7)

مشارع الأشواق (ص 722).

(8)

مشارع الأشواق (ص 727).

ص: 626

ثبت أن المرابط في سبيل الله لا يفتن في قبره فالشهيد أولى وأحرى لأنه أفضل منه، وما نال المرابط ما ناله من الفضل إلا بتعرضه للشهادة وتوقعه لها فكيف لا يعطى ذلك الفضل من نالها

(1)

.

ومنها: أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته

(2)

.

ومنها: أن الشهيد يأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة

(3)

.

ومنها: أن الشهيد يغفر له بأول قطرة من دمه ذنوبه كلها ويرى مقعده من الجنة

(4)

.

ومنها: أن دم الشهيد لا يجف حتى يرى الحور العين

(5)

.

ومنها: أن الشهيد في سبيل الله أفضل ممن انتصر ورجع سالما

(6)

.

ومنها: أن الشهيد لا يجد من ألم القتل في سبيل الله إلا كما يجد أحدكم من ألم القرصة

(7)

.

ومنها: أن الملائكة يدخلون على الشهداء من كل باب يسلمون عليهم

(8)

.

(1)

مشارع الأشواق (ص 734).

(2)

مشارع الأشواق (ص 738).

(3)

مشارع الأشواق (ص 740).

(4)

مشارع الأشواق (ص 741).

(5)

مشارع الأشواق (ص 745).

(6)

مشارع الأشواق (ص 747).

(7)

مشارع الأشواق (ص 751).

(8)

مشارع الأشواق (ص 755).

ص: 627

ومنها: أن الشهيد في سبيل الله يرضى الله عنه رضي لا سخط بعده

(1)

.

ومنها: أن الشهادة لا يشترط فيها سبق أعمال الأبرار بل هي بسابق الإرادة والاختيار

(2)

.

ومنها: أن الشهيد في سبيل الله لا يفضله النبيون إلا بفضل النبوءة

(3)

.

ومنها: أن الشهيد يزوجه الله الحور العين

(4)

.

تنبيه: ذكر الإمام أبو عبد الله القرطبي في تفسيره حديثا غريبا جدًّا

(5)

قال: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أكرم الله تعالى الشهداء" بخمس كرامات لم يكرم بها أحدا من الأنبياء ولا أنا، إحداها: أن جميع الأنبياء قبض أرواحهم ملك الموت وهو الذي سيقبض روحي وأما الشهداء فالله هو الذي يقبض أرواحهم بقدرته كيف شاء ولا يسلط على أرواحهم ملك الموت، والثاني: أن جميع الأنبياء قد غسلوا بعد الموت وأنا أغسل بعد الموت والشهداء لا يغسلون ولا حاجة لهم إلى ماء الدنيا؛ والثالث: أن جميع الأنبياء قد كفنوا وأنا أكفن والشهداء لا يكفنون بل يدفنون في ثيابهم؛ والرابع: الأنبياء لما ماتوا سموا أمواتا وأنا إذا مت يقال: قد مات والشهداء لا يسمون

(1)

مشارع الأشواق (ص 757).

(2)

مشارع الأشواق (ص 759).

(3)

مشارع الأشواق (ص 763).

(4)

مشارع الأشواق (ص 766).

(5)

تفسير القرطبي (4/ 276).

ص: 628

أمواتا؛ والخامس: أن الأنبياء لهم الشفاعة لهم يوم القيامة وشفاعتي أيضًا يوم القيامة، وأما الشهداء فإنهم يشفعون كل يوم فيمن يشفعون

(1)

، أ. هـ.

2126 -

وَعَن عتبة بن عبد السّلمِيّ رضي الله عنه وَكَانَ من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ الْقَتْلَى ثَلَاثَة رجل مُؤمن جَاهد بِنَفسِهِ وَمَاله فِي سَبِيل الله حَتَّى إِذا لَقِي الْعَدو وَقَاتلهمْ حَتَّى يقتل فَذَلِك الشَّهِيد الممتحن فِي جنَّة الله تَحت عَرْشه لَا يفضله النَّبِيُّونَ إِلَّا بِفضل دَرَجَة النُّبُوَّة وَرجل فرق على نَفسه من الذُّنُوب والخطايا جَاهد بِنَفسِهِ وَمَاله فِي سَبِيل الله حَتَّى إِذا لَقِي الْعَدو قَاتل حَتَّى يقتل فَتلك ممصمصة محت ذنُوبه وخطاياه إِن السَّيْف محاء للخطايا وَأدْخل من أَي أَبْوَاب الْجنَّة شَاءَ فَإِن لهَا ثَمَانِيَة أَبْوَاب ولجهنم سَبْعَة أَبْوَاب وَبَعضهَا أفضل من بعض وَرجل مُنَافِق جَاهد بِنَفسِهِ وَمَاله حَتَّى إِذا لَقِي الْعَدو قَاتل فِي سَبِيل الله عز وجل حَتَّى يقتل فَذَلِك فِي النَّار إِن السَّيْف لَا يمحو النِّفَاق رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد جيد وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَاللَّفْظ لَهُ وَالْبَيْهَقِيّ

(2)

.

الممتحن بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة هُوَ المشروح صَدره وَمِنْه {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} أَي شرحها ووسعها.

وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد فَذَلِك المفتخر فِي خيمة الله تَحت عَرْشه وَلَعَلَّه تَصْحِيف.

(1)

لم أعثر عليه.

(2)

أحمد (17657)، والطبراني (17/ رقم 310)، وابن حبان (4663)، والبيهقي (9/ 164)، وفي شعب الإيمان (4261)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 291)، ورجال أحمد رجال الصحيح، خلا أبا المثنى، الأملوكي، وهو ثقة.

ص: 629

وَفرق بِكَسْر الرَّاء أَي خَائِف وجزع.

والممصمصة بِضَم الْمِيم الأولى وَفتح الثَّانِيَة وَكسر الثَّالِثَة وبصادين مهملتين هِيَ الممحصة المكفرة.

قوله: وعن عتبة بن عبد الله السلمي، عتبة بن عبد الله السلمي [هو أبو الوليد، عتبة بن عبد السلمي. وقال ابن عبد البر: عتبة بن عبد وهو عتبة بن عبد الندر. وقال: قد قيل إنهما اثنان، ومال إلى القول الأول. وأما البخاري فإنه جعلهما اثنين، وكذلك أبو حاتم الرازي. وهذا عتبة كان اسمه عتلة، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عتبة. شهد خيبر.

روى عنه ابنه يحيى، ولقمان بن عامر، وكثير بن مرة، وخالد بن معدان، وغيرهم.

مات بحمص سنة سبع وثمانين، وهو ابن أربع وتسعين سنة. وهو آخر من مات بالشام في قول الواقدي

(1)

].

قوله صلى الله عليه وسلم: "القتلى ثلاثة رجل مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فذلك الشهيد الممتحن" الحديث، الممتحن هو المشروح صدره ومنه قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى}

(2)

أي: شرحها ووسعها قاله المنذري، وقيل: اختبرها وأخلصها،

(1)

جامع الأصول (12/ 594 - 595).

(2)

سورة الحجرات، الآية:3.

ص: 630

أ. هـ، وقال شمر: الممتحن هو المصفى المهذب

(1)

يقال: محنت الفضة إذا صفيتها وخلصتها بالنار قاله في النهاية

(2)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ورجل فرق على نفسه من الذنوب والخطايا جاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل"، قوله "فرق" أي خاف وجزع كذا قاله المنذري؛ قوله "فتلك ممصمصة"، والممصمصة هي الممحصة المكفرة قاله المنذري، وقال الهروي في الغريبين

(3)

، معنى ممصمصة أي مطهرة غاسلة من دنس الذنوب، وأصله من الموص وهو الغسل، وقال ابن الأثير والأصمعي: يقال ممصمص إناءه إذا جعل فيه الماء وحركه ليتنظف وإنما انتهى والقتل مذكر لأنه أراد معنى الشهادة أو خصلة ممصمصة فأقام الصفة مقام الموصوف قاله في النهاية

(4)

والمعنى أن القتل في سبيل الله يطهر من الذنوب كما يمصمص الإناء بالماء فانظر إلى الثاني الذي قاتل خوفا على نفسه من ذنوبه وخطاياه كيف غفر الله له ومحيت ذنوبه وأدخل الجنة

(5)

.

قوله: وفي رواية لأحمد فذلك المفتخر في خيمة الله تحت عرشه" الخيمة معروفة ومنه خيم بالمكان أي أقام فيه وسكنه فاستعارها لظل رحمة الله

(1)

مشارع الأشواق (ص 764).

(2)

النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 304).

(3)

الغريبين (6/ 1756).

(4)

النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 337).

(5)

مشارع الأشواق (ص 764).

ص: 631

ورضاه [وأمنه] بصدقة الحديث الآخر [الشهيد] في ظل الله وظل عرشه قاله في النهاية

(1)

.

2127 -

وَرُوِيَ عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الشُّهَدَاء ثَلَاثَة رجل خرج بِنَفسِهِ وَمَاله فِي سَبِيل الله لَا يُرِيد أَن يُقَاتل وَلَا يقتل يكثر سَواد الْمُسلمين فَإِن مَاتَ أَو قتل غفرت لَهُ ذنُوبه كلهَا وأجير من عَذَاب الْقَبْر ويؤمن من الْفَزع ويزوج من الْحور الْعين وحلت عَلَيْهِ حلَّة الْكَرَامَة وَيُوضَع على رَأسه تَاج الْوَقار والخلد وَالثَّانِي خرج بِنَفسِهِ وَمَاله محتسبا يُرِيد أَن يقتل وَلَا يقتل فَإِن مَاتَ أَو قتل كَانَت ركبته مَعَ إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن عليه السلام بَين يَدي الله تبارك وتعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}

(2)

وَالثَّالِث خرج بِنَفسِهِ وَمَاله محتسبا يُرِيد أَن يقتل وَيقتل فَإِن مَاتَ أَو قتل جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة شاهرا سَيْفه وَاضعه على عَاتِقه وَالنَّاس جاثون على الركب يَقُول أَلا أفسحوا لنا فَإنَّا قد بذلنا دماءنا وَأَمْوَالنَا لله تبارك وتعالى.

قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو قَالَ ذَلِك لإِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن عليه السلام أَو لنَبِيّ من الْأَنْبِيَاء لزحل لَهُم عَن الطَّرِيق لما يرى من وَاجِب حَقهم حَتَّى يَأْتُوا مَنَابِر من نور تَحت الْعَرْش فيجلسوا عَلَيْهَا ينظرُونَ كيفَ يقْضى بَين النَّاس لَا يَجدونَ غم الْمَوْت وَلَا يغتمون فِي البرزخ وَلَا تفزعهم الصَّيْحَة وَلَا يهمهم الْحساب وَلَا الْمِيزَان وَلَا الصِّرَاط ينظرُونَ كيفَ يقْضى بَين النَّاس

(1)

النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 94).

(2)

سورة القمر، الآية:55.

ص: 632

وَلَا يسْأَلُون شَيْئا إِلَّا أعْطوا وَلَا يشفعون فِي شَيْء إِلَّا شفعوا فِيهِ ويعطون من الْجنَّة مَا أَحبُّوا ويتبوؤون من الْجنَّة حَيْثُ أَحبُّوا رَوَاهُ الْبَزَّار وَالْبَيْهَقِيّ والأصبهاني وَهُوَ حَدِيث غَرِيب

(1)

.

زحل بالزاي والحاء الْمُهْملَة كَذَا فِي رِوَايَة الْبَزَّار وَقَالَ الْأَصْبَهَانِيّ فِي رِوَايَته لتنحى لَهُم عَن الطَّرِيق وَمعنى زحل وَتَنَحَّى وَاحِد.

2128 -

وَعَن أنس بن مَالك رضي الله عنه أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذا وقف الْعباد لِلْحسابِ جَاءَ قوم واضعي سيوفهم على رقابهم تقطر دَمًا فازدحموا على بَاب الْجنَّة فَقيل من هَؤُلاءِ قيل الشُّهَدَاء كَانُوا أَحيَاء مرزوقين رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي حَدِيث يَأْتِي بِتَمَامِهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِسْنَاده حسن

(2)

.

قوله: عن أنس بن مالك رضي الله عنه تقدم الكلام عليه.

قوله: "الشهداء ثلاثة رجل خرج بنفسه وماله

إلى قوله

ويوضع على رأسه تاج الوقار والخلد" التاج ما يصاغ للملوك من الذهب والجوهر تجعله على رؤوسها ولهذا قال عليه السلام "العمائم تيجان العرب"

(3)

وفي جامع الترمذي

(1)

البزار (1715)، والبيهقي في شعب الإيمان (4255)، وقال: محمد بن معاوية النيسابوري، غيره أوثق منه، والأصبهاني في الترغيب (832)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 291)، رواه البزار، وضعفه بشيخه محمد بن معاوية، فإن كان هو النيسابوري فهو متروك، وفيه - أيضًا - مسلم بن خالد الزنجي، وهو ضعيف وقد وثق.

(2)

الطبراني في الأوسط (1998)، والعقيلي في الضعفاء (3/ 447)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 187)، وابن أبي عاصم في الجهاد (208)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 295)، في إسناده الفضل بن يسار، قال العقيلي: لا يتابع على حديثه.

(3)

النهاية (1/ 199).

ص: 633

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول يا رب حله فيلبس تاج الكرامة ثم يقول يا رب زده فيلبس حلة الكرامة ثم يقول يا رب ارض عنه فيرضى عنه"

(1)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو قال ذلك لإبراهيم خليل الرحمن عليه السلام أو لنبي من الأنبياء لزحل لهم عن الطريق" ومعنى زحل تنحى وقال الأصبهاني في روايته لتنحى لهم عن الطريق ومعنى زحل وتنحى واحد قاله المنذري، وقال غيره زحل أي تنحى وزال عن مكانه وبه سمي زحل لبعده كذا قاله الأزهري وغيره

(2)

.

2129 -

وَعَن نعيم بن همار رضي الله عنه أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَي الشُّهَدَاء أفضل قَالَ الَّذين إِن يلْقوا فِي الصَّفّ لَا يلفتون وُجُوههم حَتَّى يقتلُوا أُولَئِكَ ينطلقون فِي الغرف الْعلَا من الْجنَّة ويضحك إِلَيْهِم رَبهم وَإِذا ضحك رَبك إِلَى عبد فِي الدُّنْيَا فَلَا حِسَاب عَلَيْهِ رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو يعلى ورواتهما ثِقَات

(3)

.

قوله: وعن نعيم بن همار رضي الله عنه[ويقال: ابن هبار، ويقال: ابن هدار، ويقال: ابن خمار، ويقال: ابن حمار، الغطفاني من غطفان بن سعد بن قيس

(1)

أخرجه الترمذي (2915). وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1425).

(2)

تهذيب اللغة (4/ 211)، والغريبين (3/ 816)، والنهاية (2/ 298).

(3)

أحمد (22476)، وأبو يعلى (6855)، والبخاري في التاريخ (8/ 95)، وابن أبي عاصم في الجهاد (228)، وابن قانع في معجم الصحابة (3/ 152)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 292)، رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط بنحوه، ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1107).

ص: 634

عيلان، وقيل: من غطفان جذام الشامي. له صحبة روى عنه قيس الجذامي، وأبو إدريس الخولاني، وسعيد بن عبد العزيز].

قوله: "ويضحك إليهم ربهم وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا فلا حساب عليه" قال القاضي عياض

(1)

رحمه الله: الضحك هنا استعارة في حق الله لأنه لا يجوز عليه سبحانه وتعالى الضحك: المعروف في حقنا لأنه إنما يصح من الأجسام وممن يجوز عليه تغير الحالات والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، وإنما المراد بذلك الرضى بفعل العبد والثواب عليه وحمد فعله ومحبته لأن الضحك من أحدنا إنما يكون عند موافقة ما يرضاه وسروره به وبره لمن يلقاه، قال: ويحتمل أن يكون المراد هنا ضحك ملائكة الله تعالى الذين يوجههم لقبض روحه وإدخاله الجنة كما يقال قتل السلطان فلانا أي أمره بقتله والله أعلم.

2130 -

وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الْجِهَاد عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة الَّذين يلتقون فِي الصَّفّ الأول فَلَا يلفتون وُجُوههم حَتَّى يقتلُوا أُولَئِكَ يتلبطون فِي الغرف من الْجنَّة يضْحك إِلَيْهِم رَبك وَإِذا ضحك إِلَى قوم فَلَا حِسَاب عَلَيْهِم رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد حسن

(2)

.

يتلبطون مَعْنَاهُ هُنَا يضطجعون وَالله أعلم.

(1)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/ 337).

(2)

الطبراني في المعجم الأوسط (4131)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 292)، رواه الطبراني في الأوسط، من طريق عنبسة بن سعيد بن أبان، وثقه الدراقطني كما نقل الذهبي، ولم يضعفه أحد، وبقية رجاله رجال الصحيح.

ص: 635

2131 -

وَعَن عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول أول ثَلَاثَة يدْخلُونَ الْجنَّة الْفُقَرَاء الْمُهَاجِرُونَ الَّذين تتقى بهم المكاره إِذا أمروا سمعُوا وأطاعوا وَإِن كَانَت لرجل مِنْهُم حَاجَة إِلَى السُّلْطَان لم تقض لَهُ حَتَّى يَمُوت وَهِي فِي صَدره وَإِن الله عز وجل ليدعو يَوْم الْقِيَامَة الْجنَّة فتأتي بزخرفها وَزينتهَا فَيَقُول أَيْن عبَادي الَّذين قَاتلُوا فِي سبيلي وَقتلُوا وأوذوا وَجَاهدُوا فِي سبيلي ادخُلُوا الْجنَّة فيدخلونها بِغَيْر حِسَاب وَتَأْتِي الْمَلائِكَة فيسجدون فَيَقُولُونَ رَبنَا نَحن نُسَبِّح بحَمْدك اللَّيْل وَالنَّهَار ونقدس لَك من هَؤُلاءِ الَّذين آثرتهم علينا فَيَقُول الرب عز وجل هَؤُلاءِ عبَادي الَّذين قَاتلُوا فِي سبيلي وأوذوا فِي سبيلي فَتدخل عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة من كل بَاب سَلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنعم عُقبى الدَّار رَوَاهُ الْأَصْبَهَانِيّ بِإِسْنَاد حسن لَكِن مَتنه غَرِيب

(1)

.

2132 -

وَرُوِيَ عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَلا أخْبركُم عَن الأجود الأجود الله الأجود الأجود وَأَنا أَجود ولد آدم وأجودهم من بعدِي رجل علم علما فنشر علمه يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة أمة وَحده وَرجل جاد بِنَفسِهِ لله عز وجل حَتَّى يقتل رَوَاهُ أَبُو يعلى وَالْبَيْهَقِيّ

(2)

.

(1)

الأصبهاني في الترغيب (837)، وأحمد (6570، 6571)، والطبراني (14734)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 347)، وفي صفة الجنة (81)، والبزار (3665)، وابن حبان (7421)، والحاكم (2/ 71)، والبيهقي في شعب الإيمان (4259)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 259)، رواه أحمد والبزار والطبراني ورجالهم ثقات.

(2)

أبو يعلى (2782)، وابن عدي في الكامل (2258)، وابن حبان في المجروحين (2/ 301)، وابن طاهر في تذكرة الحفاظ (342)، وابن الجوزي في الموضوعات =

ص: 636

قوله: وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، تقدم.

قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد عند الله يوم القيامة الذين يلتقون في الصف الأول فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا أولئك يتلبطون في الغرف من الجنة" الحديث، يتلبطون معناه هنا يضطجعون وقال في النهاية

(1)

أي يتمرغون ومنه حديث ماعز "لا تسبوه فإنه يتلبط الجنة" ومنه حديث أم إسماعيل: جعلت تنظر إليه يتلوي ويتلبط، وتقدم معنى الضحك في الحديث قبله.

2133 -

وَعَن عبَادَة بن الصَّامِت رضي الله عنه عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم مثئل حَدِيث قبله وَمَتنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن للشهيد عِنْد الله سبع خِصَال أَن يغْفر لَهُ فِي أول دفْعَة من دَمه وَيرى مَقْعَده من الْجنَّة ويحلى حلَّة الْإِيمَان ويجار من عَذَاب الْقَبْر ويأمن من الْفَزع الْأَكْبَر وَيُوضَع على رَأسه تَاج الْوَقار الياقوتة مِنْهُ خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ويزوج ثِنْتَيْنِ وَسبعين زَوْجَة من الْحور الْعين ويشفع فِي سبعين إنْسَانا من أَقَاربه رَوَاهُ أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ وَإسْنَاد أَحْمد حسن

(2)

.

= (453)، وقال: قال أبو حاتم: هذا حديث منكر باطل لا أصل له، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 166)، رواه أبو يعلى وفيه سويد بن عبد العزيز وهو متروك. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2161).

(1)

النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 226).

(2)

أحمد (17183)، وسعيد بن منصور في سننه (2563)، والبزار (1709)، وابن أبي عصم في الجهاد (207)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 293)، رواه أحمد هكذا، قال مثل ذلك، والبزار والطبراني، إلا أنه قال: سبع خصال، وهي كذلك، ورجال أحمد والطبراني ثقات، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5182).

ص: 637

قوله: وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، تقدم الكلام عليه.

قوله صلى الله عليه وسلم: "إن للشهيد عند الله سبع خلال" أي: خصال، والخلة بالفتح الخصلة، وفي الرواية الأخرى [سقط هنا نحو ثلاث كلمات].

قوله: "أن يغفر له في أول دفعة من دمه" قال الحافظ

(1)

: الدفعة بضم الدال المهملة هي الدفعة من الدفع وغيره أ. هـ، أي: في أول قطرة من الدم، وقيل: الدفعة بالضم ما دفع من إناء أو سقاء فانصب بمرة وكذلك الدفعة من المطر وغيره

(2)

مثل الدفقة بالقاف يقال: جاء القوم دفعة واحدة بالضم إذا دخلوا بمرة واحدة، وقال غيره: الدفعة بالفتح المرة الواحدة من الدفع وهو الإزالة بقوة

(3)

فلا يصح هاهنا إنما المراد الأول

(4)

ويبينه رواية [يغفر له] في أول دفعة من دمه، أ. هـ.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ويأمن من الفزع الأكبر" الفزع الأكبر: قيل هو إذا أطبقت النار على أهلها أعاذنا الله منها ومن كل عذاب في الدنيا والآخرة، وقيل: هو النفخ في الصور، وقيل: هو حين يعرض على النار، وقيل: هو حين يذبح الموت

(5)

وتقدم ذكر ذلك.

(1)

فتح الباري لابن حجر (6/ 16).

(2)

المحكم والمحيط الأعظم (2/ 23) ولسان العرب (8/ 87 - 88).

(3)

المحكم (2/ 22 - 23)، ولسان العرب (8/ 87).

(4)

كذا ضبطها في مشارع الأشواق (ص 740) والدميرى كما في كشف المناهج (3/ 336).

(5)

المفاتيح (4/ 356)، وشرح المشكاة (/ 2650)، وكشف المناهج (3/ 337).

ص: 638

قوله: "ويوضع على رأسه تاج الوقار" أي: العزة، وقيل: الوقار [الحلم والرزانة]، والتاج: هو ما يصاغ للملوك من الذهب والجوهر [وفى] حديث "العمائم تيجان العرب" التيجان جمع تاج وقد توجته إذا ألبسته التاج العمائم للعرب بمنزلة التيجان للملوك لأنهم أكثر ما يكونون في البوادي مكشوفي الرأس، القلانس والعمائم فيهم قليلة

(1)

.

قوله صلى الله عليه وسلم "ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين" ويحتمل أن المراد من ينزل له منهن عند خروج روحه ومن يزوج بهن يوم القيامة في الجنة

(2)

.

2134 -

وَعَن الْمِقْدَام بن معد يكرب رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم للشهيد عِنْد الله سِتّ خِصَال يغْفر لَهُ فِي أول دفْعَة وَيرى مَقْعَده من الْجنَّة ويجار من عَذَاب الْقَبْر ويأمن من الْفَزع الْأَكْبَر وَيُوضَع على رَأسه تَاج الْوَقار الياقوتة مِنْهُ خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ويزوج اثْنَتَيْنِ وَسبعين من الْحور الْعين ويشفع فِي سبعين من أَقَاربه رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث صَحِيح غَرِيب

(3)

.

الدفعة بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْفَاء وَهِي الدفقة من الدَّم وَغَيره.

(1)

النهاية (5/ 213) و (1/ 199).

(2)

مشارع الأشواق (ص 741).

(3)

الترمذي (1663)، وابن ماجه (2799)، وأحمد (17182)، وابن أبي عاصم في الجهاد (204)، والطبراني في السير (20/ رقم 629)، والبيهقي في شعب الإيمان (4254)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5182)، وفيه سبع، بدلا من ست.

ص: 639

قوله: وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه تقدم الكلام على مناقبه.

قوله صلى الله عليه وسلم: "للشهيد عند الله ست خصال يغفر له في أول دفعة" تقدم تفسيره في الحديث الذي قبله.

قوله: "ويشفع في سبعين من أقاربه" فإنهما أنه ارتفعت درجته حتى صار من الشافعين والحمد لله رب العالمين.

قوله: "ويجار من عذاب القبر" أي يحفظ منه.

2135 -

وَعَن أبي أُمَامَة رضي الله عنه عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لَيْسَ شَيْء أحب إِلَى الله من قطرتين وأثرين قَطْرَة دموع من خشيَة الله وقطرة دم تهراق فِي سَبِيل الله وَأما الأثران فأثر فِي سَبِيل الله وَأثر فِي فَرِيضَة من فَرَائض الله رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث حسن غَرِيب

(1)

.

قوله: وعن أبي أمامة رضي الله عنه تقدم الكلام عليه.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين

وأما الأثران فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة من فرائض الله" هو الذي يقوم فتنفطر قدماه أو يصوم فينحل بدنه ويصفر لونه من أثر العبادة وتقدم الكلام على ذلك قريبا أبسط من هذا.

2136 -

وَعَن مُجَاهِد عَن يزِيد بن شَجَرَة وَكَانَ يزِيد بن شَجَرَة رضي الله عنه مِمَّن يصدق قَوْله فعله خَطَبنَا فَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم مَا أحسن

(1)

الترمذي (1669)، والطبراني (7918)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1363).

ص: 640

نعْمَة الله عَلَيْكُم ترى من بَين أَخْضَر وأحمر وأصفر وَفِي الرِّجَال مَا فِيهَا وَكَانَ يَقُول إِذا صف النَّاس للصَّلَاة وصفوا لِلْقِتَالِ فتحت أَبْوَاب السَّمَاء وأبواب الْجنَّة وغلقت أَبْوَاب النَّار وزين الْحور الْعين واطلعن فَإِذا أقبل الرجل قُلْنَ اللَّهُمَّ انصره وَإِدْا أدبر احْتَجِبْنَ مِنْهُ وقلن اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ فانهكوا وُجُوه الْقَوْم فدى لكم أبي وَأمي وَلَا تخزوا الْحور الْعين فَإِن أول قَطْرَة تنضح من دَمه تكفر عَنهُ كل شَيْء عمله وَينزل إِلَيْهِ زوجتان من الْحور الْعين يمسحان التُّرَاب عَن وَجهه ويقولان فدانا لَك وَيَقُول فدانا لَكمَا ثمَّ يكسى مائَة حلَّة من نسج بني آدم وَلَكِن من نبت الْجنَّة لَو وضعن بَين أصبعين لوسعن وَكَانَ يَقُول نبئت أَن السيوف مَفَاتِيح الْجنَّة رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيقين إِحْدَاهمَا جَيِّدَة صَحِيحَة

(1)

.

وَالْبَيْهَقِيّ فِي كتاب الْبَعْث إِلَّا أَنه قَالَ فَإِن أول قَطْرَة تقطر من دم أحدكُم يحط الله عَنهُ بهَا خطاياه كمَا يحط الْغُصْن من ورق الشّجر وتبتدره اثْنَتَانِ من الْحور الْعين وتمسحان التُّرَاب عَن وَجهه ويقولان فدانا لَك وَيَقُول فدانا لَكمَا فيكسى مائَة حلَّة لَو وضعت بَين أُصْبُعِي هَاتين لوسعتاهما لَيست من نسج بني آدم وَلكنهَا من نبَات الْجنَّة مكتوبون عِنْد الله بأسمائكم وسماتكم الحَدِيث

(2)

.

(1)

الطبراني في المعجم الكبير (641)، والحاكم (3/ 494)، وعبد الرزاق (9538)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 294)، رواه الطبراني من طريقين رجال أحدهما رجال الصحيح.

(2)

البيهقي في كتاب البعث والنشور (562).

ص: 641

رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا عَن يزِيد بن شَجَرَة مَرْفُوعا مُخْتَصرا

(1)

، وَعَن جدان أَيْضا مَرْفُوعا وَالصَّحِيح الْمَوْقُوف مَعَ أَنه قد يُقَال إِن مثل هَذَا لَا يُقَال من قبل الرَّأْي فسبيل الْمَوْقُوف فِيهِ سَبِيل الْمَرْفُوع وَالله أعلم

(2)

.

وَيزِيد بن شَجَرَة بالشين الْمُعْجَمَة وَالْجِيم مفتوحتين قيل لَهُ صُحْبة وَلَا يثبت وَالله أعلم

(3)

.

وانهكوا وُجُوه الْقَوْم هُوَ بِكَسْر الْهَاء بعد النُّون أَي أجهدوهم وابلغوا جهدهمْ والنهك الْمُبَالغَة فِي كل شَيْء.

قوله: وعن مجاهد [هو أبو الحجاج مجاهد بن جبر، ويقال: ابن جبير، بالتصغير، المكى المخزومى، مولاهم مولى عبد الله بن أبي السائب، ويقال: مولى السائب بن أبي السائب، ويقال: مولى قيمس بن الحارث، وهو تابعي، إمام، متفق على جلالته وإمامته. سمع ابن عمر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وابن عمرو بن العاص، وأبا سعيد، وأبا هريرة، وعائشة، وغيرهم من الصحابة، رضى الله عنهم. وسمع من التابعين طاووسا، وابن أبي ليلى، ومصعب بن سعد، وآخرين.

(1)

البزار (1712)، والطبراني في الكبير (642)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 294)، رواه البزار الطبراني وفي إسناد البزار إسماعيل بن إبراهيم التيمي، وفي إسناد الآخر فهد بن عوف؛ وكلاهما ضعيف جدا.

(2)

الطبراني في الكبير (2203)، والبزار (1714)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 275)، وفيه العباس بن الفضل الأنصاري، وهو ضعيف.

(3)

الإصابة (11/ 410).

ص: 642

روى عنه طاووس، وعكرمة، وعمرو بن دينار، وأبو الزبير، والحكم، وابن عون، والأعمش، ومنصور، وحماد بن أبي سليمان، وطلحة بن مصرف، وأيوب السختيانى، وعبد الله بن أبي نجيح، وخلائق لا يحصون. واتفق العلماء على إمامته، وجلالته، وتوثيقه، وهو إمام في الفقه، والتفسير، والحديث.

قال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة. وقال خصيف: كان أعلمهم بالتفسير مجاهد. وقال أبو حاتم: لم يسمع مجاهد عائشة. ومناقبه كثيرة مشهورة. وقال ابن بكير: توفى مجاهد سنة إحدى ومائة، وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، وقيل: توفى سنة مائة، وقيل: سنة ثنتين ومائة، وقيل: سنة ثلاث ومائة].

قوله: عن يزيد بن شجرة قال المنذري: قيل له صحبة ولا يثبت والله أعلم. وقال غيره هو يزيد بن شجرة الرهاوي ورهاء قبيلة من مدلج مختلف في صحبته وقد ذكره الحافظ الذهبي في تجريد الصحابة وقال له صحبة ورواية

(1)

والله أعلم.

قوله: "يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم ما أحسن نعمة الله عليكم ترى من بين أخضر وأحمر وأصفر وفي الرجال ما فيها" الرجال بالحاء المهملة أي في البيوت والمنازل قال الرهاوي ومنه الحديث "إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال" يعني في الدور والمساكن والمنازل وهي جمع رحل يقال لمنزل

(1)

تجريد أسماء الصحابة (2/ 138).

ص: 643

الإنسان ومسكنه رحله وانتهينا إلى رحالنا أي منازلنا قاله في النهاية

(1)

.

قوله: "فانهكوا وجوه القوم" انهكوا هو بكسر الهاء بعد النون أي اجهدوهم وأبلغوا جهدهم والنهك المبالغة في كل شيء قاله المنذري يقال في الحث على القتال انهكوا وجوه القوم أي ابلغوا جهدكم في قتالهم.

قوله: "ولا تخزوا الحور العين" الحديث يقول لا تجعلوهن يستحيين من فعلكم وتقصيركم في الجهاد وقد يكون الخزي بمعنى الهلاك والوقوع في البلية ومنه الحديث "شارب الخمر شارب الخمر أخزاه" ويروى خزاه أي قهره يقال منه يخزي قاله في النهاية

(2)

بمعنى الحديث لا تجعلهن يستحيين من فعلكم وبالغوا في قتال القوم أي غير مستحيين مأخوذ من الخزاية وهي الاستحياء.

قوله: "وينزل إليه زوجتان من الحور العين يمسحان التراب عن وجهه ويقولان فدانا لك ويقول فدانا لكما" فدانا هو بفتح الألف وتخفيف النون مقصور أي حان لك يقال أنا الشيء إذا حان وقته والله أعلم.

قوله: "وكان يقول نبئت أن السيوف مفاتيح الجنة" نبئت أي أخبرت قال ابن النحاس عفا الله عنه: جعلت السيوف في هذا الحديث مفاتيح الجنة لأنها سبب في فتح أبوابها لكونها إذا أشهرت في سبيل الله عند التقاء الصفين تفتح أبواب الجنة

(3)

.

(1)

النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 209).

(2)

النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 30).

(3)

مشارع الأشواق (ص 496).

ص: 644

فائدة: وفي حديث آخر في المعنى عن مجاهد قال: قام يزيد بن شجرة في أصحابه فقال: إنه قد أصبحت عليكم، وأمسيت من بين أخضر وأحمر وأصفر، وفي البيوت ما فيها، فإذا لقيتم العدو غدا فقدما قدما، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ما تقدم رجل من خطوة إلا تقدم إليه الحور العين، فإن تأخر استترن منه، وإن استشهد، كانت أول نضحة كفارة الخطايا، وينزل الله من الحور العين ثنتين، فتنفضان عنه التراب، ويقولان: مرحبا، قد آن لك ويقول: مرحبًا: قد آن لكما" رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن فضيل وكذا رواه ابن الأثير في أسد الغابة ورواه أيضا ابن أبي شيبة موقوفا مختصرا بإسناد صحيح وكذا رواه عبد الرزاق موقوفا بإسناد صحيح

(1)

.

قوله: "قدما قدما" هو بضم القاف والدال قال الجوهري

(2)

ومعناه التحريض

(1)

مشارع الأشواق (ص 743). وأما تخريج الحديث: رواه مرفوعًا: ابن أبي شيبة 4/ 204 (19328) وابن أبي عاصم في الآحاد (2654) والجهاد (204) والبزار (1712 و 1713 و 1714)، والطبراني في الكبير (2/ 289 رقم 2203) والدارقطني في المؤتلف والمختلف (2/ 758 - 759) وابن الأثير في أسد الغابة (1/ 520).

وأما الموقوف:

أخرجه ابن المبارك في الزهد (133) وعبد الرزاق (9538) وسعيد بن منصور (2564) و (2567) وابن أبي شيبة في المسند (327) والمصنف 4/ 207 (19351). قال الهيثمي في المجمع 5/ 294: رواه البزار، والطبراني، وفي إسناد البزار إسماعيل بن إبراهيم التيمي، وفي إسناد الآخر فهد بن عوف، وكلاهما ضعيف جدًّا. وضعفه الألباني في الضعيفة (3740).

(2)

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (3/ 1070).

ص: 645

على القتال قال أهل اللغة: يقال مضى قدما إذا لم يعرج ولم ينثني

(1)

.

قوله: "قد أنى لك" بفتح الألف وتخفيف النون مقصور أي حان

(2)

وتقدم الكلام على الحديث قبله.

فائدة أخرى: غزا قوم في سبيل الله فلما صافوا عدوهم واقتتلوا رأى كل واحد منهم زوجته من الحور قد فتحت بابا من السماء وهي تستدعي صاحبها إليه وتحثه على القتال فقتلوا كلهم إلا واحدا وكان كلما قتل منهم واحد أغلق باب وغابت منه المرأة فأفلت آخرهم فأغلقت تلك المرأة الباب الباقي وقالت ما فاتك يا شقي فكان يبكي على حاله إلى أن مات ولكنه أورثه ذلك طول الاجتهاد والحزن والأسف.

على مثل ليلى يقتل المرء نفسه وإن كان من ليلى على الهجر طاويا

(3)

2137 -

وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ ذكر الشَّهِيد عِنْد النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَا تَجف الأَرْض من دم الشَّهِيد حَتَّى تبتدره زوجتاه كَأَنَّهُمَا ظئران أظلتا فصيليهما فِي براح من الأَرْض وَفِي يَد كل وَاحِدَة مِنْهُمَا حلَّة خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة شهر بن حَوْشَب

(4)

.

(1)

مشارع الأشواق (ص 744).

(2)

مشارع الأشواق (ص 744).

(3)

لطائف المعارف (ص 243).

(4)

ابن ماجه (2798)، وأحمد (7955)، قال البوصيري في الزوائد (2/ 404)، هذا إسناد فيه هلال القرشي، وهو ضعيف، وقال الألباني ضعيف جدا في ضعيف الجامع (6197).

ص: 646

الظِّئْر بِكَسْر الظَّاء الْمُعْجَمَة بعْدهَا همزَة سَاكنة هِيَ الْمُرْضع وَمَعْنَاهُ أَن زوجتيه من الْحور الْعين تبتدرانه وتحنوان عَلَيْهِ وتظلانه كمَا تحنو النَّاقة الْمُرْضع على فصيلها وَيحْتَمل أَن يكون أضلتا بالضاد فَيكون النَّبِي صلى الله عليه وسلم شبه بدارهما إِلَيْهِ باللهفة والحنو والشوق كبدار النَّاقة الْمُرْضع إِلَى فصيلها الَّذِي أضلته وَيُؤَيّد هَذَا الاحْتِمَال قَوْله فِي براح من الأَرْض وَالله أعلم.

والبراح بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة هِيَ الأَرْض المتسعة لَا زرع فِيهَا وَلَا شجر.

قوله: عن أبي هريرة رضي الله عنه تقدم الكلام عليه.

قوله: "لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى تبتدره زوجتاه كأنهما ظئران أظلتا فصيليهما في براح من الأرض" قال الحافظ

(1)

الظئر بكسر الظاء المعجمة بعدها همزة ساكنة هي المرضه. اهـ

قال صاحب المغيث

(2)

: الظئر يقع على الذكر والأنثى وأصله التعطف وفي حديث إبراهيم صلى الله عليه وسلم إن له ظئرا يتم رضاعه في الجنة، الظئر المرضعة غير ولدها وتقع على الذكر والأنثى والاسم الظئار والظئار أن تعطف الناقة على غير ولدها وكانوا إذا أرادوا ذلك سدوا أنف الناقة وعينيها وحشوا في جيابها خرقة ثم حلوه بخلالين وتركوها كذلك يوما فتظن أنها قد مخضت بولادة فإذا غمها ذلك وأكربها نفسوا عنها وأخرجوا الخرقة من جيابها ويكونون قد

(1)

فتح الباري لابن حجر (6/ 37).

(2)

المجموع المغيث (2/ 382).

ص: 647

أعدوا لها حوارا من غيرها فيلطخونه بتلك الخرقة ويقدمونه ثم يفتحون أنفها وعينيها فإذا رأت الحوار وشمته ظنت أنه ولدته [فترأمه] وتعطفت عليه اهـ قاله في النهاية

(1)

ومعنى الحديث أن زوجتيه من الحور العين تبتدرانه وتحنوان عليه وتظلانه كما تحنوا الناقة المرضع على فصيلها قاله الحافظ

(2)

وقال غيره معنى الحديث إن زوجتى الشهيد من الحور العين تبتدرانه قبل أن يجف دمه كما تبتدر الناقة المرضع ولدها الضال إذا وجدته مع شدة شوقها إليه في أرض متسعة ليس لها شيء يحول بينه وبينها من بناء ولا غيره

(3)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "أضلتا فصيلها في براح من الأرض" أضلتا بالضاد غير المشالة، وقال بعضهم: هو بالطاء، والفصيل ولد الناقة قبل أن يفصل عنها، والبراح بفتح الباء الموحدة وبالحاء المهملة هي الأرض المتسعة لا زرع فيها ولا شجر، قال الحافظ

(4)

: ويحتمل أن يكون أصلها بالضاد فيكون النبي صلى الله عليه وسلم شبه بدارهما إليه باللهفة والحنو والشوق كبدار الناقة المرضع إلى فصيلها الذي أضلته، ويؤيد هذا الاحتمال قوله "في براح من الأرض"، والله أعلم، ا. هـ، وقال غيره: معناه أن زوجتيه من الحور العين يحنوان عليه ويظلانه كما تحنو الناقة على فصيلها، وتظله من الشمس وغيرها في أرض

(1)

النهاية (3/ 154).

(2)

فتح الباري لابن حجر (6/ 143).

(3)

مشارع الأشواق (ص 747).

(4)

فتح الباري لابن حجر (6/ 16).

ص: 648

ليس فيها ما يقيه ذلك الحر من ماء أو شجر ونحو ذلك

(1)

، أ. هـ.

2138 -

وَعَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول الشُّهَدَاء أَرْبَعَة رجل مُؤمن جيد الْإِيمَان لَقِي الْعَدو فَصدق الله حَتَّى قتل فَذَاك الَّذِي يرفع النَّاس إِلَيْهِ أَعينهم يَوْم الْقِيَامَة هَكَذَا وَرفع رَأسه حَتَّى وَقعت قلنسوته فَلَا أَدْرِي قلنسوة عمر أَرَادَ أم قلنسوة النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ وَرجل مُؤمن جيد الْإِيمَان لَقِي الْعَدو فَكَأَنَّمَا ضرب جلده بشوك طلح من الْجُبْن أَتَاهُ سهم غرب فَقتله فَهُوَ فِي الدرجَة الثَّانِيَة وَرجل مُؤمن خلط عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا لَقِي الْعَدو فَصدق الله حَتَّى قتل فَذَلِك فِي الدرجَة الثَّالِثَة وَرجل مُؤمن أسرف على نَفسه لَقِي الْعَدو فَصدق الله حَتَّى قتل فَذَلِك فِي الدرجَة الأولى رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن غَرِيب

(2)

.

القلنسوة هُوَ مَا يلبس فِي الرَّأْس.

والطلح بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام نوع من الْأَشْجَار ذِي الشوك.

والجبن بِضَم الْجِيم وَإِسْكَان الْبَاء الْمُوَحدَة هُوَ الْخَوْف وَعدم الْإِقْدَام.

وَسَهْم غرب غرب بِالْإِضَافَة أَيْضا وبسكون الرَّاء وتحريكها فِي كليهمَا أَيْضا أَرْبَعَة وُجُوه هُوَ الَّذِي لَا يدرى راميه وَلَا من أَيْن جَاءَ.

(1)

مشارع الأشواق (ص 747).

(2)

الترمذي (1644)، والبيهقي في شعب الإيمان (4262)، وأحمد (146)، والطيالسي (45)، وابن أبي عاصم في الجهاد (186)، وأبو يعلى (252)، والبزار (246). وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3446).

ص: 649

قوله: وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تقدم الكلام عليه.

قوله صلى الله عليه وسلم: "الشهداء أربعة" الحديث"رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو" فذكره إلى أن قال "ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته" قال الحافظ

(1)

رحمه الله: القلنسوة هو ما يلبس في الرأس، وقال غيره: البرنس بضم الباء الموحدة وسكون الواو وضم النون ثوب رأسه منه ملتزق به قلنسوة طويلة، قال الجوهري

(2)

: كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام، اهـ

قوله "ورجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فكأنما ضرب جلده بشوك طلح من الجبن" والطلح نوع من الأشجار والشوك والجبن هو الخوف وعدم الإقبال على الشيء قاله المنذري.

قوله صلى الله عليه وسلم: "أتاه سهم غرب فقتله" هو الذي لا يدري راميه ولا من أين جاء، قاله المنذري، قوله سهم غرب على النعت هو بفتح الراء وسكونها قال أبو زيد فبالفتح إذا رمى شيئًا فأصاب غيره وبسكونها إذا أتى السهم من حيث لا يدري، وقال الكسائي والأصمعي: إنما هو سهم غرب بفتح الراء مضاف الذي لا يعرف راميه فإذا عرف فليس بغرب، قال أبو عبيد: والمحدثون يسكنون الراء والفتح أجود، وقال ابن سراج وبالإضانة مع فتح الراء ولا تضاف مع سكونها، ومنه سهم غرض وحجر غرض، قاله القاضي عياض

(3)

، أ. هـ.

(1)

فتح الباري لابن حجر (6/ 37).

(2)

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (3/ 908).

(3)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/ 69).

ص: 650

2139 -

وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الشُّهَدَاء على بارق نهر بِبَاب الْجنَّة فِي قبَّة خضراء يخرج عَلَيْهِم رزقهم من الْجنَّة بكرَة وعشيا رَوَاهُ أَحْمد وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَالْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح على شَرط مُسلم

(1)

.

قوله: وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما، تقدم الكلام عليه.

قوله صلى الله عليه وسلم: "الشُّهَدَاء على بارق نهر بِبَاب الْجنَّة فِي قبَّة خضراء يخرج عَلَيْهِم رزقهم من الْجنَّة بكرَة وعشيا" والنهر بالفتح والسكون لغتان واحد الأنهار، وقوله تعالى:{فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر}

(2)

أي أنهار وقد يعبر بالواحد عن الجمع كما قال تعالى: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}

(3)

أ. هـ.

2140 -

وَعَن ابْن عَبَّاس أَيْضا رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لما أُصِيب إخْوَانكُمْ جعل الله أَرْوَاحهم فِي جَوف طير خضر ترد أَنهَار الْجنَّة تَأْكُل من ثمارها وتأوي إِلَى قناديل من ذهب معلقَة فِي ظلّ الْعَرْش فَلَمَّا وجدوا طيب مَأْكَلهمْ وَمَشْرَبهمْ وَمَقِيلهمْ قَالُوا من يبلغ إِخْوَاننَا عَنَّا أَنا أَحيَاء فِي الْجنَّة نرْزق لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَاد وَلَا ينكلُوا عَن الْحَرْب فَقَالَ الله تَعَالَى أَنا أبلغهم عَنْكُم

(1)

أحمد (2390)، وابن حبان (4658)، والحاكم (2/ 74)، وابن أبي عاصم في الجهاد (199)، والطبراني في الكبير (10825)، والبيهقي في شعب الإيمان (4241)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 294)، ورجال أحمد ثقات، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3742).

(2)

سورة القمر، الآية:54.

(3)

سورة القمر، الآية:45.

ص: 651

قَالَ فَأنْزل الله عز وجل {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ}

(1)

. إِلَى آخر الْآيَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد

(2)

.

ينكلُوا مُثَلّثَة الْكَاف أَي يجبنوا ويتأخروا عَن الْجِهَاد.

قوله: وَعَن ابْن عَبَّاس أَيْضا رضي الله عنهما، تقدم الكلام عليه.

قوله صلى الله عليه وسلم: "لما أُصِيب إخْوَانكُمْ جعل الله أَرْوَاحهم فِي جَوف طير خضر ترد أَنهَار الْجنَّة تَأْكُل من ثمارها" وفي هذا الحديث دليل على أن الأرواح باقية لَا تفنى فينعم المحسن ويعذب المسيء، وتقدم الكلام على ذلك أوضح من هذا.

قوله: "فَلَمَّا وجدوا طيب مَأْكَلهمْ وَمَشْرَبهمْ وَمَقِيلهمْ، قَالُوا: من يبلغ إِخْوَاننَا عَنَّا أَنا أَحيَاء فِي الْجنَّة نرْزق؟ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَاد وَلَا ينكلُوا عَن الْحَرْب" الحديث، "ينكلوا" مثلثة الكاف أي يجيئوا ليلا ويتأخروا عن الجهاد قاله المنذري، وهذا الحديث صريح في أكلها وشربها وحركتها وانتقالها وكلامها، وإذا كان هذا شأن الأرواح فتميزها بعد المفارقة يكون أظهر من تمييز الأبدان والاشتباه بينها أبعد من اشتباه البدر فإن الأبدان تشتبه كثيرًا، وأما الأرواح فقلما تشتبه قاله ابن قيم الجوزية

(3)

.

(1)

سورة آل عمران، الآيتان:169.

(2)

أبو داود (2520)، والحاكم (2/ 297)، وأحمد (2388)، وابن أبي عاصم في الجهاد (194)، والبيهقي في شعب الإيمان (4240)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5205).

(3)

الروح (ص 40).

ص: 652

تنبيه: في أراوح الشهداء هل تكون في السماء أو في الأرض؟ فالجواب: أنها تسرح حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش كما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود، وروي الإمام أحمد

(1)

بإسناد حسن عن ابن عباس رفعه "أراوح الشهداء على باب نهر على باب الجنة يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيًا" ولا مغايرة بين الحديثين أن النهر على باب الجنة والقناديل المعلقة بالعرش، أيضًا تحمل على أنها بجوار الجنة، وأما ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رفعه:"أن كل ميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي"

(2)

الحديث، فلا ينافي الحديث المذكور أيضًا لأنه محمول على غير الشهداء، وأما على عمومه والمراد بالمقعد المستقرئ في القيامة كالقصر ونحوه، فذلك لا يحصل دخوله، والاستقراء فيه إلا يوم القيامة وهذا هو المعتمد والله أعلم قاله قاضي القضاة شيخ الإسلام ابن حجر

(3)

.

وقد اختلف الناس في الروح ما هي اختلافا كثيرا لا يكاد ينحصر، فقال كثير من العلماء: هي مما لا يعلمه إلا الله تعالى لقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}

(4)

، وقال جمهور الأطباء: هي البخار اللطيف السائر في البدن،

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (19321)، وأحمد 1/ 266 (2390) وابن حبان (4658) والحاكم 2/ 74. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1378).

(2)

أخرجه البخاري (1379) و (3240) و (6515)، ومسلم (65 - ) عن ابن عمر.

(3)

فتح الباري (3/ 243).

(4)

سورة الإسراء، الآية:85.

ص: 653

قيل: هو الدم والأصح عند أصحابنا أن الروح أجسام لطيفة متخللة في البدن فإذا فارقته مات، وقال كثيرون من شيوخنا: هو الحياة، وقال بعض متقدمي أئمتنا: هو جسم لطيف متصور على صورة الإنسان داخل الجسم، وقال بعض مشايخنا وغيرهم: إنه النفس الداخل والخارج، وقال آخرون: هو الدم، هذا ما نقله القاضي، قال القاضي: واختلفوا في النفس والروح، فقيل: هما بمعنى، قيل: لفظان لمسمى واحد، وقيل: إن النفس هي الداخل والخارج

(1)

.

2141 -

وَعَن رَاشد بن سعد رضي الله عنه عَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن رجلا قَالَ يَا رَسُول الله مَا بَال الْمُؤمنِينَ يفتنون فِي قُبُورهم إِلَّا الشَّهِيد قَالَ كفى ببارقة السيوف على رَأسه فتْنَة رَوَاهُ النَّسَائِيّ

(2)

.

قوله: وَعَن رَاشد بن سعد رضي الله عنه[هو راشد بن سعد المقرائي. تابعي جليل القدر، يعد في الشاميين، سمع ثوبان، ويعلي بن مرة روى عنه ثور، وصفوان بن عمرو، والمقرائي: بضم الميم، وسكون القاف، وفتح الراء، وكسر الهمزة، وقيل: هو بفتح الميم، نسبة إلى مقرا قرية بدمشق "والحبراني" بضم الحاء المهملة وسكون الموحدة وفتح الراء نسبة إلى حبران بطن من حمير.

قال الأثرم عن أحمد لَا بأس به وقال الدارمي عن ابن معين ثقة وكذا قال أبو حاتم والعجلي ويعقوب بن شيبة والنسائي وقال ابن المديني عن يحيى بن سعيد هو أحب إلي من مكحول وقال المفضل الغلابي من أثبت أهل

(1)

شرح النووي على مسلم (13/ 32 - 33).

(2)

النسائي (4/ 99)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4483).

ص: 654

الشام وقال ابن سعد كان ثقة. مات سنة (108) وقال الدارقطني لا بأس به إذا لم يحدث عنه متروك وله ذكر في الجهاد من صحيح البخاري. قلت وذكره ابن حبان في الثقات وقال مات سنة (113) وكذا أرخه أبو عبيد وخليفة والحربي وابن قانع وقال أبو حاتم والحربي لم يسمع من ثوبان وقال الخلال عن أحمد لا ينبغي أن يكون سمع منه وقال أبو زرعة راشد بن سعد عن سعد بن أبي وقاص مرسل قلت وفي روايته عن أبي الدرداء نظر وذكر الحاكم أن الدارقطني ضعفه وكذا ضعفه بن حزم وقد ذكر البخاري أنه شهد صفين مع معاوية].

قوله: أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، مَا بَال الْمُؤمنِينَ يفتنون فِي قُبُورهم إِلَّا الشَّهِيد؛ الحديث، قد ثبت أن المرابط في سبيل الله لا يفتن في قبره، فالشهيد أولى وأحرى لأنه أفضل منه، وما نال المرابط ما ناله من الفضل إلا بتعرضه للشهادة وتوقعه لها فكيف لا يعطي ذلك الفضل من نالها

(1)

.

قوله: "كفى ببارقة السيوف على رَأسه فتْنَة" الحديث، بارقة السيوف: هو ظلها الذي يقع على الأرض وغيرها، وقال في النهاية

(2)

: هو لمعانها، يقال: برق سيفه وأبرق إذا لمع به، ومنه حديث عمار"الجنة تحت البارقة"، أي: تحت السيوف ومعنى قوله "كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة" أن الفتنة في القبر بسؤال الملكين إنما هي لاختبار ما عند المرء من حقيقة الإيمان

(1)

مشارع الأشواق (ص 734).

(2)

النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 120).

ص: 655

والتصديق، ولا شك أن من وقف للقتال وراء السيوف تلمع وتقطع والأسنة تبرق وتخرق والسهام ترشق وتمزق والرءوس تندر والدماء تثغب، والأعضاء تتطاير والثاس بين قتيل وجريح وطريح فثبت على ذلك ولم يول الدبر ولم ينهزم وجاء بنفسه لله تعالى إيمانا وتصديقا بوعده ووعيده كما وصف الله تعالى المؤمنين في قوله تعالى:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} إلى قوله: {وَتَسْلِيمًا}

(1)

فيكفيه هذا امتحانا واختبارًا وفتنة إذ لو كان عنده شك وارتياب لولى الدبر وذهل عما هو واجب عليه من الثبات داخله الشك والارتياب كما قال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إلى قوله: {غُرُورًا}

(2)

فيكفي الشهيد هذا الامتحان من سؤال الفتان كما قاله ابن النحاس

(3)

، وقال القرطبي في التذكرة: معناه أنه لو كان في هؤلاء المقتولين نفاق كان إذا التقى الزحفان وبرقت السيوف فروا لأن من شأن المنافق الفرار والروغان عند ذلك، ومن شأن المؤمن البذل والتسليم لله نفسا وهيجان حمية الله والتعصب له لإعلاء كلمته فهذا قد أظهر صدق ما في ضميره حيث برز للحرب والقتل فلماذا يعاد عليه السؤال في القبر قاله الترمذي الحكيم

(4)

، قال أبو عبد الله

(1)

سورة الأحزاب، الآية:22.

(2)

سورة الأحزاب، الآية:12.

(3)

مشارع الأشواق (ص 735 - 736).

(4)

نوادر الأصول (6/ 445).

ص: 656

القرطبي في التذكرة: وإذا كان الشهيد لا يفتن فالصديق أجل خطرًا وأعظم أجرًا، فهو أحرى أن لا يفتن لأنه المقدم ذكره في التنزيل على الشهداء في قوله تعالى:{فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ}

(1)

وقد جاء في المرابط الذي هو أقل مرتبة من الشهيد أنه لا يفتن، فكيف بمن هو أعلى مرتبة منه ومن الشهيد؟ فتأمله

(2)

والله تعالى أعلم.

2142 -

وَعَن أنس رضي الله عنه أَن رجلا أسود أَتَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنِّي رجل أسود منتن الرّيح قَبِيح الْوَجْه لَا مَال لي فَإِن أَنا قَاتَلت هَؤُلاءِ حَتَّى أقتل فَأَيْنَ أَنا قَالَ فِي الْجنَّة فقاتل حَتَّى قتل فَأَتَاهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ قد بيض الله وَجهك وَطيب رِيحك وَأكْثر مَالك وَقَالَ لهَذَا أَو لغيره لقد رَأَيْت زَوجته من الْحور الْعين نازعته جُبَّة لَهُ من صوف تدخل بَينه وَبَين جبته رَوَاهُ الْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح على شَرط مُسلم

(3)

.

قوله: وروى عَن أنس رضي الله عنه، تقدم الكلام عليه.

قوله: أَن رجلا أسود أَتَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم. قال عفا الله عنه: اسم هذا الأسود الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم (جُعال) ذكره ابن الأثير في أسد الغابة، وذكره الحافظ أبو موسى الأصبهاني في الصحابة، وروي هذا الحديث بنحوه في ترجمته من حديث ابن عمر ولفظه: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله،

(1)

سورة النساء، الآية:69.

(2)

التذكرة (ص 424).

(3)

الحاكم (2/ 93).

ص: 657

أرأيت إن قاتلت بين يديك حتى أقتل، يدخلني ربي عز وجل الجنة ولا يحقرني؟ قال:"نعم، قال: فكيف وأنا منتن الريح، أسود اللون، خسيس في العشيرة؟، ومضى، فقاتل، فاستشهد، فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "الآن طيب الله ريحك، يا جعال، وبيض وجهك"

(1)

.

2143 -

وَعَن ابْن عمر رضي الله عنهما أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم مر بخباء أَعْرَابِي وَهُوَ فِي أَصْحَابه يُرِيدُونَ الْغَزْو فَرفع الأعرَابِي نَاحيَة من الخباء فَقَالَ من الْقَوْم فَقيل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه يُرِيدُونَ الْغَزْو فَقَالَ هَل من عرض الدُّنْيَا يصيبون قيل لَهُ نعم يصيبون الْغَنَائِم ثمَّ تقسم بَين الْمُسلمين فَعمد إِلَى بكر لَهُ فاعتقله وَسَار مَعَهم فَجعل يدنو ببكره إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَجعل أَصْحَابه يذودون بكره عَنهُ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم دعوا لي النجدي فوالذي نَفسِي بِيَد إِنَّه لمن مُلُوك الْجنَّة قَالَ فَلَقوا الْعَدو فاستشهد فَأخْبر بذلك النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ فَقعدَ عِنْد رَأسه مُسْتَبْشِرًا أَو قَالَ مَسْرُورا يضْحك ثمَّ أعرض عَنهُ فَقُلْنَا يَا رَسُول الله رَأَيْنَاك مُسْتَبْشِرًا تضحك ثمَّ أَعرَضت عَنهُ فَقَالَ أما مَا رَأَيْتُمْ من استبشاري أَو قَالَ سروري فَلَمَّا رَأَيْت من كَرَامَة روحه على الله عز وجل وَأما إعراضي عَنهُ فَإِن زَوجته من الْحور الْعين الْآن عِنْد رَأسه رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد حسن

(2)

.

قوله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما، تقدم الكلام علي ابن عمر.

قوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بخباء أعرابي. الخباء بكسر المعجمة وخفة

(1)

أسد الغابة (1/ 339).

(2)

البيهقي في شعب الإيمان (4317).

ص: 658

الموحدة وبالمد خيمة من وبر أو صوف وهي على عمودين أو ثلاثة وما فوق ذلك فهو بيت، قاله الكرماني

(1)

، والأعرابي: بفتح الهمزة هو الذي يسكن البادية وتقدم ذكر ذلك.

قوله: فقال: "هل من عرض الدنيا يصيبون قيل له: نعم، يصيبون الغنائم ثم تقسم بين المسلمين" العرض بفتح العين والراء ما يقتنى من المال وغيره، وتقدم ذكر ذلك في السؤال في الصدقة؟

قوله: "فعمد إلى بكر له فاعتقله وسار معهم" الحديث عمد بفتح الميم معناه قصد، وهذا الحديث بمفرده دليل واضح على ما ذكرناه في الذي يجاهد ونيته وجه الله ونيل الغنيمة فإن في الحديث التصريح بقصد الغزو، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بكرامة روحه على الله تعالى وأنه من ملوك الجنة وحسبك بهذا شرفا وفضلا غير أن من كان قصده مشوبا بإرادة الغنيمة والميل إليها لا يساوي من ليس إليها التفات البتة كما تقدم أن نيل الغنيمة منقص لأجر أكثر الغزاة وإن لم ينووها لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من غزية أو سرية في سبيل الله فيصيبون ويغنمون" الحديث، ولأجل ما في نيل الغنيمة من شائبة نقص الأجر كان جماعة يتعففون عن المغنم منهم إبراهيم بن أدهم كان إذ غزى لم ينل من المغنم شيئا فيقال له: أتشك في أنه حلال؟ فيقول: إنما الزهد في الحلال، ذكره ابن النحاس

(2)

، وذكر صاحب شفاء

(1)

الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (12/ 150).

(2)

مشارع الأشواق (ص 629 - 630).

ص: 659

الصدور حديثا غريبا عن أبي الدرداء قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه علقمة اليهودي وهو شاب جميل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا علقمة، لو كان لك مع جمالك إسلام لكمل لك أمرك، ألا تتقي الله على حسن صورتك" قال: فقال: يا رسول الله إن أسلمت فما لي، قال:"أزوجك سبعين من الحور العين" قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة وخرج معه علقمة فقاتل بين يديه حتى استشهد فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر:"ائتيا لي خيمة من سعف" وقال: "لا يدخل عليّ أحد" فدخل النبي صلى الله عليه وسلم في الخيمة وعليه جبة له فسمع أبو بكر وعمر جلبة كجلبة الخيل فقام عمر وأخذ سيفه، فقال له أبو بكر: لا يا عمر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليه أحد فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انقطعت أزرار جبته وقد شقوها من خلفه فقال: "هل سمعتم شيئًا" فقال عمر نعم يا رسول الله قد سمعنا جلبة كجلبة الخيل فأخذت سيفي ظننت أن العدو أتاك فحبسني أبو بكر، فقال: إن تلك الجلبة التي سمعتها الحور العين اقتتلوا عليه حتى أوفيته سبعين حوراء فهن شققن عليّ جبتي

(1)

.

فائدة: واعلم أن الحور العين قد يتراءين للجريح إذا أغمي عليه بشارة له بأن الله تعالى قد أفاض خلعة الشهادة عليه وقد يتراءين في اليقظة لبعض المجاهدين ليبذل جهده ويكون من المستشهدين

(2)

، وأما من تراءين له

(1)

مشارع الأشواق (ص 768 - 769).

(2)

مشارع الأشواق (ص 769 و 771).

ص: 660

في المنام فكثير لا تحصره الأقلام

(1)

والله أعلم وفي الاستيعاب وغيره قصة إسلام الأسود الحبشي الذي كان يرعى غنما لعامر اليهودي، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خيبر، ومعه الغنم فقال: يا رسول الله أعرض علي الإسلام فعرضه عليه فأسلم. ثم قال: يا رسول الله إني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم، وهي أمانة عندي، فكيف أصنع فيها؟ فقال:"اضرب في وجوهها فسترجع إلى ربها". فقام الأسود، فأخذ حفنة من حصى، ورمى بها في وجوهها، وقال: ارجعي إلى صاحبك، فوالله لَا أصبحك بعدها أبدا، فرجت الغنم مجتمعة، كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن، ثم تقدم يقاتل مع المسلمين، فأصابه حجر فقتله، وما صلى لله صلاة قط، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سجي بشملة كانت عليه فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعرض عنه. فقالوا: يا رسول الله لم أعرضت عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن معه الآن زوجتيه من الحور العين، ينفضان التراب عن وجهه، ويقولان: ترب الله وجه من ترب وجهك وقتل من قتلك". قال أبو عمرو: إنما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنم إلى الحصن، لأن ذلك كان مصالحا عليه، أو كان قبل حل الغنائم. ذكره في حياة الحيوان

(2)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "دعوا لي النجدي " قال الجوهري: ونجد من بلاد العرب، وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد

(3)

، قال الرافعي: اليمن تشتمل

(1)

مشارع الأشواق (ص 772).

(2)

حياة الحيوان (2/ 258).

(3)

الصحاح (2/ 542).

ص: 661

على نجد وتهامة. وكذلك الحجاز وإذا أطلق ذكر نجد كان المراد منه نجد الحجاز

(1)

.

2144 -

وَعَن أنس رضي الله عنه أَن أم الرّبيع بنت الْبَراء رضي الله عنها وَهِي أم حَارِثَة بنت سراقَة أَتَت النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَت يَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَلا تُحَدِّثنِي عَن حَارِثَة وَكَانَ قتل يَوْم بدر فَإِن كَانَ فِي الْجنَّة صبرت وَإِن كَانَ غير ذَلِك اجتهدت عَلَيْهِ بالبكاء فَقَالَ يَا أم حَارِثَة إِنَّهَا جنان فِي الْجنَّة وَإِن ابْنك أصَاب الفردوس الأعْلَى رَوَاهُ البُخَارِيّ

(2)

.

قوله: وعن أنس رضي الله عنه تقدم الكلام عليه.

قوله "أن أم الربيع بنت البراء رضي الله عنها هي أم حارثة بنت سراقة الأنصارية".

قوله: فقال يا أم حارثة إنها جنان في الجنة" أي إن جنته جنان في الجنة.

قوله "وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى" الفردوس هو البستان الذي يجمع كل ما في البساتين من شجر وزهر ونبات وقال الضحاك: الفردوس هو الجنة الملتفة بالأشجار وهو اختيار المبرد وقال: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف بالأشجار والأغلب عليه العنب وجمعه الفراديس قال وبهذا سمي باب الفراديس بالشام والفردوس الأعلى وجنة الفردوس وهو اسم يقال على جميع الجنة ويقال على أفضلها وأعلاها ومنه

(1)

فتح العزيز بشرح الوجيز (7/ 80).

(2)

البخاري (2809)، وأحمد (12252)، وأبو يعلى (3500)، وابن أبي عاصم في الجهاد (159)، والطبراني في الكبير (3234).

ص: 662

تتفجر الأنهار وفي الحديث "الفردوس ربوة الجنة أي أرفعها" الربوة بالضم والفتح وهو ما ارتفع من الجنة قاله في النهاية

(1)

.

"قوله أم الربيع" بضم الراء وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء المكسورة مصغر كذا في جميع النسخ وهذا وهم والصحيح أن يقول الربيع بنت النضر وهي أم حارثة بن سراقة عمة البراء لابنته قال الدارقطني: الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك أم حارثة بن سراقة المستشهد ببدر والبراء هذا هو [أخو] أنس بن مالك بن النضر اهـ قاله عياض

(2)

. وكذا قاله ابن الأثير

(3)

في جامع الأصول الذي جاء في كتب النسب وأسماء الصحابة [أن أم حارثة بن سراقة هي الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك] وكذا الربيع بنت [معوذ] بياء التصغير وأمها أم الربيع ومن عداهما الربيع بالفتح.

2145 -

وَعَن عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عجب رَبنَا تبارك وتعالى من رجل غزا فِي سَبِيل الله فَانْهَزَمَ يَعْنِي أَصْحَابه فَعلم مَا عَلَيْهِ فَرجع حَتَّى أهريق دَمه فَيَقُول الله عز وجل لملائكته انْظُرُوا إِلَى عَبدِي رَجَعَ رَغْبَة فِيمَا عِنْدِي وشفقة مِمَّا عِنْدِي حَتَّى أهريق دَمه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عَطاء بن السَّائِب عَن مرّة عَنهُ

(4)

.

(1)

النهاية (2/ 192)

(2)

مشارق الأنوار (1/ 308).

(3)

جامع الأصول (12/ 395 و 397).

(4)

أبو داود (2536).

ص: 663

2146 -

وَرَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو يعلى وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَتقدم لَفظهمْ فِي قيام اللَّيْل

(1)

.

وَتقدم فِيهِ أَيْضا حَدِيث أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَة يُحِبهُمْ الله ويضحك إِلَيْهِم ويستبشر بهم الَّذِي إِذا انكشفت فِئَة قَاتل وَرَاءَهَا بِنَفسِهِ لله عز وجل فإمَّا أَن يقتل وَإِمَّا أَن ينصره الله ويكفيه فَيَقُول انْظُرُوا إِلَى عَبدِي هَذَا كيفَ صَبر لي بِنَفسِهِ الحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد حسن

(2)

.

قوله: وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه تقدم الكلام عليه.

قوله صلى الله عليه وسلم "عجب ربنا تبارك وتعالى من رجل غزا في سبيل الله فانهزم يعني أصحابه فعلم ما عليه فرجع حتى أهريق دمه" الحديث قيل معناه عظم ذلك عنده وكثر وكبر لديه وقيل رضي وأثاب فسماه عجبا مجازا والله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه أسباب الأشياء، والعجب ما خفى سببه ولم يعلم وقال ابن فورك

(3)

: العجب المضاف إلى الله تعالى يرجع إلى معنى الرضا والتعظيم وأن الله يعظم من أخبر عنه فإنه يعجب منه ويرضى عنه وتقدم أيضا الكلام على ذلك في قيام الليل.

(1)

أحمد (3949)، وأبو يعلى (5272)، والطبراني في الكبير (10383)، وابن حبان (2557)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 167)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 255)، رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير، وإسناده حسن.

(2)

الطبراني في الكبير، كما في مجمع الزوائد (2/ 255)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، ورجاله ثقات، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (892).

(3)

مشكل الحديث (ص 192).

ص: 664

2147 -

وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ جَاءَ أنَاس إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن ابْعَثْ مَعنا رجَالًا يعلمونا الْقُرْآن وَالسّنة فَبعث إِلَيْهِم سبعين رجلا من الْأَنْصَار يُقَال لَهُم الْقُرَّاء فيهم خَالِي حرَام يقرؤون الْقُرْآن وَيَتَدَارَسُونَهُ بِاللَّيْلِ يتعلمون وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يجيئون بِالْمَاءِ فيضعونه فِي الْمَسْجِد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون بِهِ الطَّعَام لأهل الصّفة وللفقراء فبعثهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِم فعرضوا لَهُم فَقَتَلُوهُمْ قبل أَن يبلغُوا الْمَكَان فَقَالُوا اللَّهُمَّ أبلغ عَنَّا نَبينَا أَنا قد لقيناك فرضينا عَنْك ورضيت عَنَّا قَالَ وأتى رجل حَرَامًا خَال أنس من خَلفه فطعنه بِرُمْح حَتَّى أنفذه فَقَالَ حرَام فزت وَرب الْكَعْبَة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن إخْوَانكُمْ قد قتلوا وَإِنَّهُم قَالُوا اللَّهُمَّ أبلغ عَنَّا نَبينَا أَنا قد لقيناك فرضينا عَنْك ورضيت عَنَّا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَاللَّفْظ لَهُ.

2148 -

وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ قَالَ أنس رضي الله عنه أنزل فِي الَّذين قتلوا ببئر مَعُونَة قُرْآن قرأناه ثمَّ نسخ بعد بلْغُوا قَومنَا أَنا قد لَقينَا رَبنَا فَرضِي عَنَّا ورضينا عَنْهُ

(1)

.

قوله: وعن أنس رضي الله عنه تقدم الكلام عليه.

قوله "جاء أناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء فيهم خالي حرام بن ملحان يقرؤون القرآن ويتدارسونه بالليل يتعلمون وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد" الحديث معناه يضعونه في المسجد سبيلا لمن

(1)

البخاري (2814)، ومسلم (677).

ص: 665

أراد استعماله لطهارة أو شرب أو غيره وفيه جواز وضعه في المسجد وقد كانوا أيضا يضعون أعذاق التمر لمن أرادها في المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلاف في جواز هذا وفضله.

قوله "ويحتطبون" أي يجمعون الحطب "فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء" والقراء جمع قارئ وسموا به لأنهم كانوا أكثر قراءة من غيرهم وكانوا من أورع الناس ومن أوزاع وقصته أن عامر بن مالك قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه فقال: لو بعثت إلي أهل نجد بعثًا لاستجابوا لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخاف عليهم فقال: أنا جار لهم فابعثهم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من قراء الصحابة وفضلائهم وجعل أميرهم المنذر بن عمرو الساعد فلما نزلوا بئر معونة بعثوا إلى عامر بن الطفيل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينظر فيه وقتل رسولهم وجاء بطائفة من قبائل عصية ورعل وذكوان على بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوا أكثرهم قاله الكرماني

(1)

، وقيل: لم ينج منهم إلا كعب بن زيد الأنصاري، وأما أهل الصفة ففقراء الغرباء المهاجرين ومن لم يكن له منزل يسكنه الذين كانوا يأوون إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت لهم في آخره صفة وهي مكان مقتطع من المسجد مظلل عليه يبيتون فيه قاله إبراهيم الحربي والقاضي، وأصله من صفة البيت وهي شيء كالظلة قدامه

(2)

.

(1)

الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (7/ 94).

(2)

إكمال المعلم (6/ 325)، وشرح النووي على مسلم (13/ 47).

ص: 666

قوله: "فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان" الحديث، قال: فدعا النبي صلى الله عليه وسلم على من قتلهم أربعين صباحا، وفي رواية:"شهرا"، [قاله في أهل بئر معونة] ومعونة بفتح الميم وضم العين في أرض بني سليم فيما بين مكة والمدينة [وبني سليم بين مكة وعسفان بأرض هذيل]، فإما الغين المعجمة فموضع قريب من المدينة قاله في النهاية

(1)

، وكانت هذه الوقعة بعد الهجرة في أول السنة الرابعة، وفي هذا الحديث فضل الصدقة وفضل الاكتساب من الحلال لها، وفيه: جواز الصفة في المسجد، وفيه: جواز المبيت فيه بلا كراهة وهو مذهبنا ومذهب الجمهور.

قوله صلى الله عليه وسلم: "إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا اللهم أبلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا" الحديث؛ قوله "إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا" بكسر إن للحال أو للعطف في هذا الحديث أيضًا فضيلة ظاهرة للشهداء وثبوت الرضى منهم ولهم وهو موافق لقول الله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}

(2)

قال العلماء: أي بطاعته ورضوا عنه بما أكرمهم به وأعطاهم إياه من الخيرات والرضي من الله تعالى إفاضة الخير والإحسان والرحمة فيكون من صفات الأفعال وهو أيضًا بمعنى إرادته فيكون من صفات الذات

(3)

.

قال أنس أنزل في الذين قتلوا ببئر معونة قرآن قرأناه ثم نسخ بعد بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه، رفع بعد ذلك أي نسخ تلاوته،

(1)

النهاية (4/ 344).

(2)

سورة المائدة، الآية:119.

(3)

شرح النووي على مسلم (13/ 47 - 48).

ص: 667

قال الكرماني

(1)

: قلت القرآن المنسوخ يجوز نقله بالمعنى والله أعلم.

2149 -

وَعَن مَسْرُوق رضي الله عنه قَالَ سَأَلنَا عبد الله عَن هَذِه الْآيَة {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)}

(2)

فَقَالَ أما أَنا فقد سَأَلنَا عَن ذَلِك رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَرْوَاحهم فِي جَوف طير خضر لَهَا قناديل معلقَة بالعرش تسرح من الْجنَّة حَيْثُ شَاءَت ثمَّ تأوي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيل فَاطلع عَلَيْهِم رَبهم اطلاعة فَقَالَ هَل تشتهون شَيْئا قَالُوا أَي شَيْء نشتهي وَنحن نَسْرَح من الْجنَّة حَيْثُ شِئْنَا فَفعل ذَلِك بهم ثَلَاث مَرَّات فَلَمَّا رَأَوْا أَنهم لن يتْركُوا من أَن يسْأَلُوا قَالُوا يَا رب نُرِيد أَن ترد أَرْوَاحنَا فِي أَجْسَادنَا حَتَّى نقْتل فِي سَبِيلك مرّة أُخْرَى فَلَمَّا رأى أَن لَيْسَ لَهُم حَاجَة تركُوا رَوَاه مسلم وَاللَّفْظ لَهُ وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيرهمَا

(3)

.

قوله: وعن مسروق رضي الله عنه، مسروق هو ابن [الأجدع، بالجيم ودال مهملة، ابن مالك بن أمية بن عبد الله الهمدانى الكوفى التابعى المخضرم. روى عن أبي بكر الصديق، وعثمان، وعلى. وسمع عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وخباب بن الأرت، وزيد بن ثابت، وابن عمرو، والمغيرة، وعائشة، رضى الله عنهم. روى عنه أبو وائل، وهو أكبر منه، وسليم بن أسود، وابن الضحى، والشعبي، والنخعي، والسبيعي، وعبد الله بن مرة،

(1)

الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (12/ 116).

(2)

سورة آل عمران، الآية:169.

(3)

مسلم (1887)، والترمذي (3011)، وابن ماجه (2801)، والحميدي (120)، والدرامي (2454).

ص: 668

وعبيد الله ابن عبد الله بن عقبة، وآخرون. واتفقوا على جلالته، وتوثيقه، وفضيلته، وإمامته، قال الشعبي: ما علمت أحدا كان أطلب للعلم من مسروق. وقال مرة: ما ولدت همدانية مثل مسروق. وقال علي بن المديني: لا أقدم على مسروق أحدا من أصحاب ابن مسعود، وصلى خلف أبي بكر، ولقى عمر وعليا، ولم يرو عن عثمان شيئا. وقال أبو داود: كان أبو مسروق أفرس فارس باليمن، وهو ابن أخت عمرو بن معدى كرب، وقال عمر بن الخطاب لمسروق: ما اسمك؟ قال: مسروق بن الأجدع، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الأجدع شيطان"، أفت مسروق بن عبد الرحمن. قال الشعبي: فرأيته في الديوان مسروق بن عبد الرحمن، وكان مسروق يصلى حتى تورمت قدماه. قال أبو سعد السمعانى: كان مسروق سرق في صغره، فغلب عليه ذلك. توفى سنة ثنتين، وقيل: سنة ثلاث وستين، رحمه الله تعالى

(1)

].

[قوله:] سألنا عبد الله عن هذه الآية {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}

(2)

[قال المازري] كذا جاء، عبد الله غير منسوب قال أبو علي الغساني: من الناس من ينسبه فيقول عبد الله بن عمرو، وذكره [أبو مسعود] الدمشقي في مسند ابن مسعود، قال القاضي عياض

(3)

: ووقع في بعض النسخ من صحيح مسلم عبد الله بن مسعود [قال]

(1)

تهذيب الأسماء واللغات (2/ 88 ترجمة 567).

(2)

سورة البقرة، الآية:154.

(3)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/ 69).

ص: 669

النووي

(1)

: وكذا وقع في نسخ [بلادنا] المعتمدة ولكن لم يقع منسوبا إلى معظمها، وذكر خلف الواسطي والحميدي وغيرهما في مسند ابن مسعود وهو الصواب، وهذا الحديث مرفوع لقوله إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: "فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت" هذا الحديث في صحيح مسلم، وفي غير مسلم بطير خضر، وفي حديث آخر لحواصل طير، وفي الموطأ "إنما نسمة المؤمن طير" والنسمة تطلق على ذات الإنسان جسما وروحا وتطلق على الروح مفردة وهو المراد بها هنا لتفسيرها في الحديث بالروح ولعلمنا بأن الجسم يفنى ويأكله التراب، وفي حديث آخر عن قتادة:"الروح في صورة طير أبيض" قال القاضي: كل هذا من المجوزات فإذا أراد الله تعالى أن يجعل هذه الروح إذا خرجت من المؤمن أو الشهيد في قناديل أجواف طير أو حيث شاء كان ذلك ووقع ولم يبعد لاسيما مع القول بأن الأرواح أجسام لطيفة

(2)

.

قوله "تسرح من الجنة حيث شاءت" أي: الأرواح تتنعم وتردد في ثمار الجنة كما تسرح الإبل في مراعيها

(3)

انتهى.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فاطلع عليهم ربهم إطلاعة" فقال: "هل تشتهون شيئا؟ " ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب

(1)

شرح النووي على مسلم (12/ 31).

(2)

شرح النووي على مسلم (13/ 32).

(3)

مطالع الأنوار (5/ 476).

ص: 670

نريد أن ترد أرواحنا أي: الأرواح، في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى" الحديث، هذا مبالغة في إكرامهم وتنعيمهم إذ قد أعطاهم ما لا يخطر على قلب بشر ثم رغبهم في سؤال الزيادة فلم يجدوا مزيدا على ما أعطاهم فسألوا حين رأوا أنه لابد من سؤال أن ترجع أرواحهم إلى أجسادهم ليجاهدوا نفوسهم في الله تعالى ويستلذوا بالقتل في سبيله

(1)

والله أعلم.

2150 -

(2)

وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه سَأَلَ جِبْرَائِيل عليه السلام عَن هَذِه الآيَة {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}

(3)

من الَّذين لم يشإ الله أَن يصعقهم قَالَ هم شُهَدَاء الله رَوَاهُ الْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد

(4)

.

قوله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه، تقدم الكلام عليه.

قوله: أنه سأل جبرائيل عليه السلام عن هذه الآية {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم قال هم شهداء الله، الصعق [أن يغشى على الإنسان من صوت شديد يسمعه، وربما مات منه، ثم استعمل في الموت كثيرًا].

2152 -

وَعَن عَامر بن سعد رضي الله عنه عَن أَبيه أَن رجلا جَاءَ إِلَى الصَّلاة وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فَقَالَ حِين انْتهى الصَّفّ اللَّهُمَّ آتني أفضل مَا تؤتي عِبَادك

(1)

شرح النووي على مسلم (13/ 33).

(2)

وقع هنا خطأ بالترقيم. (المحقق).

(3)

سورة الزمر، الآية:68.

(4)

الحاكم (2/ 253)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

ص: 671

الصَّالِحين فَلَمَّا قضى النَّبِي صلى الله عليه وسلم الصَّلَاة قَالَ من الْمُتَكَلّم آنِفا فَقَالَ الرجل أَنا يَا رَسُول الله قَالَ إِذا يعقر جوادك وتستشهد رَوَاهُ أَبُو يعلى وَالْبَزَّار وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَالْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح على شَرط مُسلم

(1)

.

قوله: وعن عامر بن سعد رضي الله عنه عن أبيه [هو عامر بن سعد بن أبي وقاص القريشي الزهري المدني التابعي، سمع أباه، وعثمان بن عفان، وابن عمر، وأسامة، وأبا سعيد، وأبا هريرة، وعائشة، وغيرهم، رضى الله عنهم. روى عنه ابنه داود، وسعيد بن المسيب، وخلق من التابعين. واتفقوا على توثيقه. توفى بالمدينة سنة ثلاث، وقيل: سنة أربع ومائة، وقيل غير ذلك

(2)

].

قوله: أن رجلا جاء إلى الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي فقال حين انتهى الصف اللهم آتني أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين، فلما قضى الضبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال من المتكلم آنفا فقال الرجل أنا يا رسول الله، آنفا أي قريبا.

قوله: "إذا يعقر جوادك وتستشهد" تقدم معنى الجواد، وتقدم الكلام على الشهيد وفضائل الشهادة، ذهب بعض العلماء إلى أن الميت [في سبيل الله والمقتول سواء].

(1)

أبو يعلى (693)، وابن حبان (4640)، والحاكم (1/ 207)، والنسائي (9921)، وابن السني (107)، وابن خزيمة (453)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 295)، رواه أبو يعلى والبزار بإسنادين، وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح.

(2)

تهذيب الأسماء واللغات (1/ 256 ترجمة 278).

ص: 672