الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الترغيب في الورع وترك الشبهات وما يحوك في الصدور]
2681 -
عَن النُّعْمَان بن بشير رضي الله عنهما قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين وَبَينهمَا مُشْتَبهَات لا يعلمهُنَّ كثير من النَّاس فَمن اتَّقى الشُّبُهَات اسْتَبْرَأَ لدينِهِ وَعرضه وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات وَقع فِي الْحَرَام كَالرَّاعِي يرْعَى حول الْحمى يُوشك أَن يرتع فِيهِ أَلا وَإِن لكل ملك حمى أَلا وَإِن حمى الله مَحَارمه أَلا وَإِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله أَلا وَهِي الْقلب رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم
(1)
وَالتِّرْمِذِيّ
(2)
وَلَفظه الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين وَبَين ذَلِك أُمُور مُشْتَبهَات لَا يدْرِي كثير من النَّاس أَمن الْحَلَال هِيَ أم من الْحَرَام فَمن تَركهَا اسْتَبْرَأَ لدينِهِ وَعرضه وقد سلم وَمن وَاقع شَيْئا مِنْهَا يُوشك أَن يواقع الْحَرَام كَمَا أَنه من يرْعَى حول الْحمى أوشك أَن يواقعه أَلا وَإِن لكل ملك حمى أَلا وَإِن حمى الله مَحَارمه وَأَبُو دَاوُد بِاخْتِصَار
(3)
وَابْن مَاجَه وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ
(4)
أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين وَبَينهمَا أُمُور مُشْتَبهَات وسأضرب لكم فِي ذَلِك مثلا إِن الله حمى حمى وَإِن حمى الله مَا
(1)
أخرجه البخاري (52)، ومسلم (107 و 108 - 1599).
(2)
أخرجه الترمذي (1205). وقال الألباني: صحيح.
(3)
أخرجه أبو داود (3330) وابن ماجه (3984). وصححه الألباني.
(4)
أخرجه أبو داود (3329) والنسائى في المجتبى 7/ 180 (4494) و 8/ 490 (5756). وصححه الألباني.
حرم وَإنَّهُ من يرتع حول الْحمى يُوشك أَن يخالطه وَإِن من يخالط الرِّيبَة يُوشك أَن يخسر وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ
(1)
الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين وَبَينهمَا أُمُور مشتبهة فَمن ترك مَا شبه عَلَيْهِ من الْإِثْم كَانَ لما استبان أترك وَمن اجترأ على مَا يشك فِيهِ من الْإِثْم أوشك أَن يواقع مَا استبان والمعاصي حمى الله وَمن يرتع حول الْحمى يُوشك أَن يواقعه وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس
(2)
وَلَفظه الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين وَبَين ذَلِك شُبُهَات فَمن أوقع بِهن فَهُوَ قمن أَن يَأْثَم وَمن اجتنبهن فَهُوَ أوفر لدينِهِ كمرتع إِلَى جنب حمى وَحمى الله الْحَرَام.
رتع الْحمى إِذا رعى من حوله وَطَاف بِهِ. أوشك بِفَتْح الْألف والشين أَي كَاد وأسرع. واجترأ مَهْمُوز أَي أقدم. وقمن فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس هُوَ بِفَتْح الْقَاف وَكسر الْمِيم أَي جدير وحقيق.
(1)
أخرجه البخاري (2051). قال الألباني: أما النسائي فلم يخرجها، كما جزم بذلك الحافظ الناجي (162/ 2). قلت كلام الناجى في عجالة الإملاء (5/ 663): وليس للنسائي غير الرواية التي قبلها، لا الأخيرة التي عزاها تَوَهُّمًا إليه وإلى البخاري، وإنما هي للبخاري فقط، ولكن في آخرها: من يرتع بلا واو.
(2)
أخرجه الطبرانى في الكبير (10/ 333 رقم 10824). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 293): رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ سَابِقٌ الْجَزَرِيُّ وَلَمْ أَعْرِفْهُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ.
وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1732) وقال في الصحيحة (3361): وهذا إسناد عزيز صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال الصحيح، غير سابق الجزري - وهو ابن عبد الله الرقي -، وثقه ابن حبان (6/ 433)، وقال: روى عنه الأوزاعي وأهل الجزيرة.
قوله: عن النعمان بن بشير
(1)
كنيته: أبو عبد الله النعمان بن بشير الصحابي ابن الصحابي والصحابية، ابن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي الكوفي هذا هو الذي نسبت إليه معرة النعمان لأنه كان مقيما بها أو والياء عليها وأمه عمره بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة وهو أول مولود في الأنصار بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهو أحد الأمراء الذين قتلوا بمؤتة، روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة حديث وأربعة عشر حديثا ذكر البخاري منها ستة وهو ممن تحمل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيا وأدى بالغا استعمله معاوية على حمص ثم على الكوفة ثم استعمله يزيد فلما مات يزيد صار زبيريا فخالفه أهل حمص فأخرجوه منها واتبعوه فقتلوه بقرية من قرى حمص غلية وذلك أربع وستين قاله الكرماني
(2)
وأبوه بشير بفتح الباء الموحدة وشين معجمه مكسورة ابن سعد الذي قال: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم فكيف نصلي عليك شهد بشير العقبة الثانية وبدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أول أنصاري بايع أبا بكر واستشهد مع خالد بن الوليد بعين التمر سنة اثنتي عشرة من الهجرة بعد انصرافه من اليمامة.
(1)
ترجمته في طبقات ابن سعد 6/ 53، التاريخ الكبير 8/ ترجمة 2223، الجرح والتعديل 8/ ترجمة 2033، الاستيعاب 4/ 1496، أسد الغابة 5/ 326، الكاشف 3/ ترجمة 5947، تجريد أسماء الصحابة 2/ ترجمة 1216، تهذيب التهذيب 10/ ترجمة 816، الإصابة 3/ ترجمة 8728، خلاصة الخزرجي 3/ ترجمة 8725.
(2)
الكواكب الدرارى (1/ 202 - 203).
قوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين والحرام بين" الحديث قال النووي
(1)
: أجمع العلماء على عظم موقع هذا الحديث وكثرة فوائده وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقال جماعة: هو ثلث الإسلام وأن الإسلام يدور عليه وعلى حديث "الأعمال بالنية" وحديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وقال أبو داود السجستاني: يدور على أربعة أحاديث هذه الثلاثة وحديث "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" قال أبو داود: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث الثابت منها أربعة ألف حديث وهي ترجع إلى هذه الأحاديث وحديث "ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس" وقد جمعها أبو منصور فقال:
عمدة الدين عندنا كلمات
…
أربع من كلام خير البرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما
…
ليس يعنيك واعمل بنية
قال في المفهم
(2)
: بل في هذا الحديث علوم الشريعة كلها ظاهرها وباطنها فبين ذلك مجملا وفيه تأليف كامل قال العلماء رضي الله عنهم: وسبب عظم موقعه أنه صلى الله عليه وسلم نبه فيه على صلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها وأنه ينبغي أن يكون حلالا وأرشد إلى معرفة الحلال وأنه ينبغي ترك الشبهات فإنه سبب لحماية دينه وعرضه وحذر من مواقعه الشبهات وأوضح ذلك فضرب المثل بالحمى ثم يراهم الأمور وهو مراعاة القلب صلى الله عليه وسلم إلا أن في الجسد مضغة إلى
(1)
شرح النووى على مسلم (11/ 27).
(2)
المفهم لما أشكل من كتاب مسلم للقرطبى (14/ 119).
آخر فبين صلى الله عليه وسلم أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد بفساده يفسد باقية ا. هـ، فمعنى قوله:"الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات" أن الأشياء ثلاثة أقسام.
القسم الأول: حلال بين واضح لا يخفى حله كأكل الطيبات من الزرع كالخبز والفواكه والزيت والعسل والسمن وبهيمة الأنعام ولبن مأكول اللحم وبيضة وشرب الماء شربه لطيبة وغير ذلك من المطعومات ولباس ما يحتاج إليه من القطن أو الكتان أو العوف أو الشعور أو كالنكاح والتسري وكذلك الكلام والنظر والمشي وغير ذلك من التصرفات إذا كان اكتسابه بعقد صحيح كالبيع أو بميراث أو هبة أو غنيمة فهذا حلال بين واضح لا شك في حلة القسم الثاني الحرام المحض البين مثل أكل الميتة، و الدم المسفوح ولحم الخنزير والبول وشرب الخمر والزنى و نكاح المحارم، والكذب والغيبة والنميمة والنظر إلى الأجنبية ولباس الحرير للرجال ومثل الاكتساب المحرم كالربى والميسر وثمن ما لا يحل بيعه وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب وإشهاده ذلك فهذا حرام بين واضح لا يخفي تحريمه.
القسم الثالث: المشتبهات فمثل أكل ما اختلف في حله وتحريمه أما من الأعيان كالخيل والبغال والحمير والضب وشرب ما أختلف في تحريمه من الأنبذة التي تسكر فكثيرها ولبس ما اختلف في إباحة لبسه من جلود السباع ونحوها وأما من المكاسب المختلف فيها كسائل العينة ونحو ذلك وبنحو هذا المعنى فسر الشبهات أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة
وحاصل الأمر أن الله تعالى أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم الكتاب وفيه للأمة ما تحتاج إليه من حلال وحرام كما قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}
(1)
أمروا به ونهوا عنه قاله ابن رجب الحنبلي في شرح الأربعين النواوية
(2)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس" والمشتبهات ما تردد بينهما فقامت فيه شبهة الحل وشبهة الحرمة
(3)
ومعناه أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة فلهذا لا يعرفها كثير من الناس ولا يعلمون حكمها وأما العلماء الراسخون في العلم فلا يشتبه عليهم ذلك فيعرفون حكمهما بنص أو قياس أو استصحاب وغير ذلك فإن تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيه نص ولا إجماع اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي فإذا ألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي فإذا ألحقه بأحدهما صار حلالا وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال البين فيكون الورع تركه ويكون داخلا في قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن توقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" فيه شيء وهو مشتبه فهل يؤخذ بحله أم بحرمته أم يتوقف فيه ثلاثة مذاهب حكاها القاضي عياض وغيره والظاهر أنها مخرجة على الخلاف المعروف في حكم الأشياء قبل ورود الشرع وفيه أربعة مذاهب الأصح أنه لا يحكم
(1)
سورة النحل، الآية:89.
(2)
جامع العلوم والحكم (1/ 202 - 203).
(3)
التعيين (ص 97).
فيها بحل ولا بحرمة ولا إباحة ولا غيرها لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع، والثاني أن حكمها التحريم والثالث: الإباحة، والرابع: التوقف
(1)
.
تنبيه: قوله صلى الله عليه وسلم: "وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس" أي ليست أحكام تلك المشتبهات مفصلة لا تعلم بل يعلمها بعض الناس وهم أولوا العلم والنظر في أحكام الشرع كما تقدم ذكره وفيه إشارة إلى تفضيل العلماء لعلمهم بما لم يعلم غيرهم وحلهم ما أشكل على غيرهم ا. هـ قاله الطوفى
(2)
.
فائدة: وقد يقع الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر
(3)
وأما ما لا يعلم له أصل ملك كما يجده الإنسان في بيته ولا يدري هو له أو لغيره فهذا مشتبه ولا يحرم عليه تناوله لأن الظاهر أن ما في بيته ملكه لثبوت يده عليه والورع اجتنابه ا. هـ قاله ابن رجب
(4)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن اتقى الشبهات" أي اجتنب الشبهات جمع شبهة وهو ما
(1)
شرح النووى على مسلم (11/ 27 - 28).
(2)
التعيين في شرح الأربعين (1/ 98) للطوفى.
(3)
تتمة كلامه كما في جامع العلوم والحكم (1/ 205): وهو أنَّ مِن الأشياء ما يعلم سببُ حِلِّه وهو الملك المتيقن. ومنها ما يُعلم سببُ تحريمه وهو ثبوتُ ملك الغير عليه، فالأوَّل لا تزولُ إباحته إلا بيقين زوال الملك عنه، اللهمَّ إلا في الأبضاع عندَ من يُوقعُ الطلاقَ بالشك فيه كمالكٍ، أو إذا غلب على الظن وقوعُه كإسحاق بن راهويه. والثاني: لا يزول تحريمُه إلا بيقينِ العلم بانتقال الملك فيه.
(4)
المصدر السابق (1/ 205).
يخيل للناظر أنه حجة وليس هو كذلك
(1)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "استبرأ لدينه وعرضه" استبرأ مهموز وقد يخفف ومعناه احتاط لنفسه وطلب البراءة لدينه من الذم الشرعي وصان عرضه عن كلام الناس فيه أن يتهم بعدم المبالاة، والعرض بكسر العين فسره في النهاية
(2)
بأنه موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره، وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويحل في عنه أن ينقص ويثلب وقال ابن قتيبة: عرض الرجل نفسه وبدنه لا غير قاله في التنقيح
(3)
ومما يستحب التورع عنه أخذ الأجرة على قراءة القرءان واقرائه وعلى تعليم العلم ومن الشبهة الطعام الذي يغلب على الظن نجاسته كالأطعمة التي تعمل في الأسواق ولعلها لا يتحرزون وعن النجاسة فتركها أفضل كما ذكره بعضهم وكذلك تتعدى الشبهات إلى أبواب الأنكحة حتى لو أخبرته امرأة أنها أرضعته مع زوجته استحب له مفارقة الزوجة وكذلك في الثياب وغيرها والضابط كل موضع قامت فيه علامة ظاهرة فهو موضع الورع وما لم تقم فيه علامة ظاهرة فهو وسواس وتنطع
(4)
ا. هـ
فالمتدين المتورع إذا أكل على سماط الظلمة نسب إلى قلة تحفظ ووقع
(1)
التعيين (ص 97).
(2)
النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 209).
(3)
كشف المناهج والتناقيح (2/ 412) للمناوى.
(4)
إحياء علوم الدين (2/ 98 - 112) باختصار.
الناس في عرضه وكذلك إذ يخالط شربه الخمر أو أهل الكتاب ويعاملهم ينسب إلى قلة التحفظ لأن معاملة الذمي تكره لعدم تحرزه عن الربا ومخالطة السكران مكروه ولعدم تحرزه عن النجاسة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" الحديث أي من هون على نفسه الوقوع في الشبهات أي السقوط فيها حتى تعود ذلك أي عود نفسه عدم التحرز مما يشتبه فإنه يقع في الحرام لأن الشيطان يستدرج الإنسان ولأنه حام حول حريم الحرام فيقرب أن يواقعه وإنما قال وقع في الحرام تحقيقا لمد أنا ته الوقوع كما يقال من اتبع نفسه هواها فقد هلك، ويحتمل أيضا وجهين.
أحدهما: أن من كثرة تعاطيه الشبهات يصادف الحرام وإن لم يتعمده وقد يأثم به بذلك إذ أنسب إلى تقصير.
والثاني: أن يعتاد التساهل ويتمرن عليه ويحسد على شبهة ثم شبهة أغلظ منها ثم أخرى أغلظ وهكذا حتى يقع في الحرام عمدا، وهذا نحو قول السلف المعاصي بريد الكفر أي تسوق إليه عافانا الله من الشر وأهله ا. هـ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "كالراعي يرعى حول الحمى" الحديث وهو المرعى الذي حماه السلطان فمنع منه وهذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لمحارم الله تعالى وأصله أن ملوك العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها الخاصة بها وهكذا محارم الله تعالى لا ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها، وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وسأضرب لكم مثلا" ثم ذكر هذا الكرم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مثل
المحرمات كالحمى الذي تحمي الملوك ويمنعون غيرهم من إتيانه قربان وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حول المدينة اثنتي عشر ميلا حمى محرما لا يقطع شجرة ولا يصاد صيده
(1)
وحمى عمر وعثمان رضي الله عنهما أماكن ينبت فيها الكلأ لأجل رعي إبل الصدقة والله عز وجل حمى هذه المحرمات منع عباده من قربانها وسماها حدوده فقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}
(2)
وجعل من يرعى حول الحمى أو قريبا منه جديرا بأن يدخل الحمى ويرتع فيه فكذلك من تعدى الحلال ووقع في الشبهات فإنه قد قارب الحرام غاية المقاربة فما أخلفه بأن يخالط الحرام المحض ويقع فيه ا. هـ قاله ابن رجب
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (2370) وأبو داود (3083)، والنسائي في الكبرى (8624) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ الصعب بن جثامة، قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا حمى إلا لله ورسوله". وقال بلغنا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأنَّ عمر حمى السرف والربذة.
وأخرجه: ابن أبي شيبة (23193) من حديث ابن عمر: أنَّ عمر حمى الربذة لنعم الصدقة.
وأخرجه: ابن أبي شيبة (37690)، والبيهقي 6/ 147 من حديث أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري، قال: سمع عثمان بن عفان رضي الله عنه أنَّ وفد أهل مصر قد أقبلوا فاستقبلهم فلما سمعوا به أقبلوا نحوه، قال: وكره أنْ يقدموا عليه بالمدينة فأتوه فقالوا له: ادع المصحف وافتح السابعة وكانوا يسمون سورة يونس السابعة فقرأها حتّى أتى على هذه الآية {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} ، وقالوا له: قف. أرأيت ما حميت من الحمى، آلله أذن لك أم على الله تفترون؟ فقال: امضه، نزلت في كذا وكذا، فأما الحمى، فإنَّ عمر حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة، فزدت في الحمى لما زاد في الصدقة. بلفظ البيهقي.
(2)
سورة البقرة، الآية:187.
(3)
جامع العلوم والحكم (1/ 219 - 217).
قوله: "يوشك أن يقع فيه" بضم الياء وكسر الشين المعجمه مضارع أوشك بفتحها وهو من أفعال المقاربة والملابسة أي يسرع ويقرب كذا فسره المنذري ومعناها هنا يقع في الحرام بسرعة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "أن يرتع فيه" ويرتع مضارع رتع ومعناها أكل الماشية من الرعي وأصله إقامتها وتبسطها في الأكل ومنه قوله تعالى: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ}
(1)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا وإن لكل ملك حمى ألا إن حمى الله محارمه" الحديث والحمى الشيء الممنوع وحمى الملك ما يحجزه لخيله ونحوها من آلات مصالحه ومنع منه غيره ومنه حمى كليب
(2)
قال الشاعر:
أبحت حمى تهامة بعد نجد
…
وما شيء حميت بمستباح
(3)
ذكره الطوفي
(4)
معناه أن الملوك من العرب وغيرهم يكون لكل ملك منهم حمى يحميه عن الناس ويمنعهم دخوله فمن دخل أوقع به العقوبة ومن
(1)
سورة يوسف، الآية:12.
(2)
هو كُليب بن ربيعة بن الحارث، وكان سيِّد ربيعةَ في زمانه، وقد بلغَ مِن عِزِّه أنه كان يحمي الكلأ فلا يُقرَبُ حِماه، ويُجير الصَّيد فلا يُهاج! وكان إذا مرَّ بروضةٍ أعجبتهُ أو غديرٍ ارتَضَاهُ أَخَذَ كُليبًا ورَمَى به هناك فحيثُ بلغَ عواؤهُ كان حِمى لا يُرْعَى، وكان اسم كليب بن ربيعة وائِلًا؛ فلَمَّا حَمَى كُلَيْبَهُ المَرْمِيُّ الكلأَ قيل: أعزُّ مِن كُلَيْبِ وائلٍ، ثم غلب هذا الاسم عليه حتى ظنُّوه اسمه، ويقال: حمى كليب. انظر: مجمع الأمثال للميداني (2/ 388).
(3)
نسبه السرقسطى في الدلائل في غريب الحديث (2/ 503) وابن فارس في حلية الفقهاء (1/ 27) لجرير.
(4)
التعيين في شرح الأربعين (1/ 97).
احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى خوفا من الوقوع فيه ولله تعالى أيضا حمى وهو محارمه أي المعاصي التي حرمها كالقتل والزنى والسرقة والقذف والخمر والغيبة والنميمة وأكل المال بالباطل وأشباه ذلك فكل هذه حمى الله تعالى من دخله بإرتكابه شيئا من المعاصي استحق العقوبة قاربه يوشك أن يقع فيه فمن احتاط لنفسه لم يقاربه فلا يتعلق بشيء بقربه من المعصية ولا يدخل في شيء من الشبهات.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله" الحديث قال أهل اللغة: يقال: صلح الشيء وفسد بفتح اللام والسين وضمهما والفتح أفصح وأشهر والمضغة القطعة من اللحم سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغوها يعني بذلك صغر جرمها وعظم قدرها هذا تعظيم الشارع لأمر القلب لصدور الأفعال الاختيارية عنه وعما يقوم به من الاعتقادات والعلوم ورتب الأمر فيه على المضغة والمراد التعلق بها ولا شك أن صلاح الجسد مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب وفيه الحث الأكيد على السعي في صلاح القلب وحمايته من الفساد واحتج جماعة بهذا الحديث على أن العقل في القلب لا في الرأس وفيه خلاف مشهور للسلف ومذهب أصحابنا وجماهير المتكلمين أنه في القلب، وقال أبو حنيفة: هو في الدماغ وقد حكي لأول أيضًا عن الفلاسفة، والثاني: عن الأطباء، واحتج القائلون بأنه في القلب بقوله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}
(1)
، وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ
(1)
سورة الحج، الآية:46.
لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}
(1)
وبهذا الحديث فإنه صلى الله عليه وسلم جعل صلاح الجسد وفساده تابعًا للقلب مع أن الدماغ من جملة الجسد فيكون صلاحه وفساده تابعا للقلب فعلم أنه ليس محلًا للعقل، واحتج القائلون بأنه في الدماغ بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل ويكون من فساد الدماغ الصرع في زعمهم، قال النووي
(2)
: ولا حجة لهم في ذلك لأن الله تعالى أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ مع أن العقل ليس فيه ولا امتناع في ذلك، وفي الحديث تنبيه على أن طيب المكاسب مصلح للقلب وخبيث المكاسب مفسد له والمراد بإفساده عدم حفظة من الآفات لتجرده عن لباس التقوى الذي هو حمى له من آفات الدنيا وعذاب الآخرة.
فائدة: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله" الحديث، فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتقائه للشهوات بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان قلبه سليما ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها وتوقى الشبهات حذرا من الوقوع في المحرمات وإن كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع هواه وطلب ما يحبه ولو كرهه الله فسدت حركات الجوارح كلها ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها وتوقي
(1)
سورة ق، الآية:37.
(2)
شرح النووى على مسلم (11/ 29).
الشبهات حذرا من الوقوع في المحرمات وان كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع هواه وطلب ما يحبه ولو كرهه الله فسدت حركات الجوارح كلها وانبعث إلى كل المعاصي والشبهات بحسب اتباع هوى القلب ولهذا يقال القلب ملك الأعضاء وبقية الأعضاء جنوده وهم مع هذا جنود طائعون له منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره ولا يخالفونه في شيء من ذلك فإن كان الملك صالحا كانت هذه الجنود صالحة وإن كان فاسدا كانت جنوده بهذا المثابة فاسدة ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات كلها وهو القلب الذي ليس فيه محبة الله تعالى وما يحبه الله وخشية الله وخشية ما يباعد منه ا. هـ قاله ابن رجب الحنبلي
(1)
.
فائدة: صلاح القلب يكون بغلبة التقوى عليه وفساده بغلبة المعاصي، واعلم أن ما يرد على القلب من الخاطر الداعي إلى فعل المعصية يسمى وسواسا وهو من جهة الشيطان كما قال الله أنه يوسوس في صدور الناس [والتى يقع في القلب من دواعى طلب الشهوات المؤذية وعلى الوقوع في الشبهات يسمى] هواجس وهي من جهة النفس والفرق بين الهواجس والوساوس هو أن الشيطان إذا وسوس بمعصية ولم يطاوع عليها وسوس بأخرى غيرها لأن قصده حصول المخالفة بأي معصية كانت والهاجس إذا وقع ولم تطاوع النفس إليه نازعت وطلبت ذلك بعينه والنفس إذا اشتهت شيئا ولم تحصل عليه طلبته طول دهرها حتى يحصل ولما كان الشيطان
(1)
جامع العلوم والحكم (1/ 218 - 219).
والنفس يأمران بالشر والقلب يأمر بالخير فإن صلح القلب - وصلاحه بغلبة التقوى ومخالفة النفس والشيطان - صلح الجسد كله واشتغلت أعضاء الإنسان كلها بالطاعة وصلاحه إنما يكون بتوفيق الله تعالى وإن لم يصلح القلب وعدم صلاحه بحرمان التوفيق والخذلان استولى الشيطان والنفس على القلب وفسد الجسد كله فصارت الأعضاء كلها عاملة بالمعصية والمخالفة وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، وكان يقول يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك ا. هـ قاله ابن العماد، وعن أبي موسى الأشعري قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل القلب مثل الريشة تقلبها الرياح بفلاة" انفرد به ابن ماجه
(1)
وفي رواية آخرى "مثل القلب مثل ريشة ملقاه بفلاة من الأرض يقلبها الريح ظهرا لبطن"
(2)
وفي الترمذي مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
(3)
(4)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه (88). وصححه الألباني في صحيح الظلال (227 - 228)، المشكاة (103).
(2)
أخرجه أحمد 4/ 419 (19972) وابن أبي عاصم في السنة (227) و (228). وقال الألباني في ظلال الجنة: إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات على شرط مسلم.
(3)
سورة المطففين، الآية:14.
(4)
أخرجه الترمذي (3334). وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وقال الألباني: حسن صحيح الترمذي وصحيح الترغيب (1620) و (2469).
وقال مجاهد
(1)
: القلب كالكف يقبض منه بكل ذنب إصبع ثم يطبع وإلى هذا المعنى للإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله" الحديث فيه أشعار بأن أكل الحلال ينوره ويصلحه وأكل الحرام والشبهة يفسده ويقسيه ويظلمه وقد وجد ذلك اهل الورع حتى قال بعضهم: استسقيت جنديا فسقاني شربه ماء فعاد قسوتها على قلبي أربعين صباحا
(2)
.
فرع: من حلف لا يأكل لحما فأكل قلبا حنث ولأصحابنا فيه وجهان قالوا لا يحنث لأنه لا يسمى في العرف لحما وكذلك لا يحنث من حلف لا يأكل لحما فأكل لحم حوت وإن كان الله تعالى سماه لحمًا في قوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا}
(3)
ولا يحنث من حلف لا يجلس على بساطا وكذلك من حلف لا يجلس في سراج فجلس في الشمس لا يحنث وإن كان الله تعالى سماها سراج بقوله: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}
(4)
وكذلك لو حلف لا يدخل بيتا فدخل مسجدا لم يحنث وإن كان الله تعالى سماها بيوتا بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ}
(5)
والله أعلم.
(1)
أسنده الطبرى في التفسير (24/ 201) و (24/ 202).
(2)
ذكره القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (14/ 117).
(3)
سورة فاطر، الآية:12.
(4)
سورة نوح، الآية:16.
(5)
سورة النور، الآية:36.
تنبيه: القلب عضو باطن في الجسد عليه مدار حال الإنسان قيل سمي قلبا لتقلبه كما قال الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لِنَسْيِهِ
…
ولا القلب إلا لأنه يتقلب
وهو عضو صغير الجرم ولذلك سماه مضغة، ولكونه عظيم الجرم قاله الطوفي.
فائدة: قال بعضهم: القلب كالملك والجسد وأعضاؤه كالرعية ولا شك أن الرعية تصلح بصلاح الملك وتفسد بفساده، وتقدم ذلك، وأيضا القلب كالعين والجسد كالمزرعة إن عذب ماء العين عذب الزرع وإن ملح ملح، وأيضا القلب كالأرض وحركات الجسد كالنبات:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}
(1)
وشاهد ما ذكرناه من أمر القلب والجسد وأن النبي صلى الله عليه وسلم شق عن قلبه مرتين واستخرج منه غفلة سوداء، قيل: هذه حظ الشيطان منك
(2)
، ثم غسل بالماء المبارك الطهور فلما طاب قلبه طاب جسده ثم صار إماما للمتقين ورحمة للعالمين وخاتما للنبيين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين قاله الطوفي
(3)
.
تنبيه: قوله: "ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة" هو افتتاح كلام يقصد به تنبيه السامعين لفهم الكلام وشاهده في القرآن في قوله تعالى:
(1)
سورة الأعراف، الآية:58.
(2)
أخرجه مسلم في الصحيح (261 - 162) عن أنس.
(3)
التعيين في شرح الأربعين (ص 102).
(1)
، {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}
(2)
قاله الطوفي
(3)
.
قوله صلى الله عليه وسلم في رواية للبخاري والنسائي "كان لما استبان أترك" بمعنى أن من يترك الإثم مع اشتباهه عليه وعدم تحققه فهو أولى بتركه إذا استبان أنه إثم، وهذا إذا كان تركه تحرزا من الإثم، فأما من يقصد التصنع للناس فإنه لا يترك إلا ما يظن أنه ممدوح عندهم والله أعلم.
وقوله: "من يخالط الريبة يوشك أن يجسر" أي قرب أن يقدم على الحرام المحض والجسور المقدام الذي لا يهاب شيئا ولا يراقب أحدًا، ورواه بعضهم بالشين المعجمة أي يرتع والجَشْر: الرعي، وجشرتُ الدابة: إذا رعيتها، قاله ابن رجب في شرح النواوية
(4)
.
وقوله: "ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم" الحديث، اجترأ مهموز أي أقدم قاله المنذري.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: "فهو قمن أن يأثم" الحديث، قمن هو بفتح القاف وكسر الميم أي جدير وخليق قاله المنذري، وقال غيره: هو بفتح القاف وفتح الميم وكسرها لغتان مشهورتان، فمن فتح فهو عنده مصدر لا
(1)
سورة هود، الآية:8.
(2)
سورة فصلت، الآية:54.
(3)
التعيين (ص 102).
(4)
جامع العلوم والحكم (1/ 214).
يثنى ولا يجمع، ومن كسر فهو وصف يثنى ويجمع وفيه لغة ثالثة، قمين بزيادة ياء وفتح القاف وكسر الميم ومعناه حقيق وجدير، أ. هـ، وهذا الحديث أصل في الورع وهو ترك المشتبه من الأفعال إلى غيره، وإن شئت قل هو الأخذ في الأفعال بيقين الإباحة وبراءة الذمة، وقد نقل عن الحسن البصري أنه قال: أدركنا قوما كانوا يتركون سبعين بابا من الحلال خشية الوقوع في باب من الحرام، وقد ثبت عن أبي بكر الصديق سأله أكل شبهة غير عالم بها فلما علم أدخل يده في فمه فقاءها
(1)
، أ. هـ.
2682 -
وَعَن النواس بن سمْعَان رضي الله عنه عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْبر حسن الْخلق وَالْإِثْم مَا حاك فِي صدرك وكرهت أَن يطلع عَلَيْهِ النَّاس رَوَاهُ مُسلم.
(2)
حاك بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْكَاف أَي جال وَتردد.
قوله: وعن النَوّاس بن سمعان
(3)
رضي الله عنه، النواس بفتح النون وتشديد الواو، وسمعان بكسر السين وفتحها والكسر أشهر، الأنصاري هكذا وقع في نسخ صحيح مسلم: الأنصاري، قال أبو علي الجيانى: هذا وهم وقد وفد أبوه على النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له وأعطاه نعليه فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجه [أخته]
وهي الكلابية التي تعوذت من النبي صلى الله عليه وسلم فتركها وهو معدود في أهل الشام
(1)
أخرجه البخاري (3842).
(2)
أخرجه مسلم (14 و 15 - 2553).
(3)
طبقات ابن سعد: 7/ 430، 535، وأسد الغابة: 5/ 44، وتهذيب التهذيب: 10/ 480 - 481، والإصابة: 3/ الترجمة 8822.
وصوابه الكلابي فإن النواس كلابي مشهور، قال الإمام المازري والقاضي عياض رحمهما الله
(1)
: المشهور أنه كلابي وهو النواس بن سمعان بن خالد بن عمرو بن قرط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب كذا نسبه الغلابى
(2)
عن يحيى بن معين ولم يخرج البخاري في صحيحه شيئا عن النواس بن سمعان وإنما خرج له مسلم في صحيحه ثلاثة أحاديث هذا أحدها وأطولها وهو قوله ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال فقال: "وإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم"
(3)
الحديث، والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك"، والثالث: في فضائل البقرة وآل عمران
(4)
وتقدم ذلك في كتاب قراءة القرآن والله أعلم. ذكره صاحب التنقيح
(5)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" الحديث، البر ضد الفجور والإثم، ولذلك قابله به فالبر تارة يقابل الفجور والإثم فيكون عما اقتضاه الشرع وجوبا أو ندبا كما أن الإثم عبارة عنا نهى الشرع عنه، أ. هـ، وحسن الخلق بذل الندي وكف الأذى وأن يحب للناس ما يحب لنفسه.
(1)
إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 17) للقاضي عياض، والمعلم بفوائد مسلم (3/ 286) للمازرى.
(2)
المفضل بن غسان الغلابى.
(3)
أخرجه مسلم (110 - 2937).
(4)
أخرجه مسلم (253 - 805).
(5)
كَشْفُ المنَاهِجِ وَالتَّنَاقِيحِ في تَخْرِيجِ أحَادِيثِ المَصَابِيحِ للمناوى (4/ 510).
قوله صلى الله عليه وسلم: "والإثم ما حاك في النفس" حاك بالحاء المهملة والكاف، أي: أثر فيها ورسخ ولم ينشرح له الصدر وحصل في القلب منه الشك وخوف كونه ذنبا
(1)
يقال ما يحيك كلامك في فلان أي يؤثر ومنه أيضا قولهم: ضربته فما حاك فيه السيف أي ما أثر فيه
(2)
، أ. هـ.
قوله: "وكرهت أن يطلع عليه الناس" اعلم أن النفس لها شعور من أصل الفطرة ما تحمد عاقبته وما لا تحمد عاقبته ولكن الشهوة غلابة عليها بحيث توجب لها الإقدام على ما يضرها كاللص تغلبه الشهوة على السرقة وهو خائف من الوالي أن يقطعه والزاني ونحو ذلك فكراهية إطلاع الناس على الشيء يدل على أنه إثم لأن النفس بطبعها تحب إطلاع الناس على خيرها وبرها ومن ثم هلك كثير من الناس بالرياء فإذا كرهت إطلاع الناس على بعض أفعالها علمنا أنه ليس خيرا وبرا فهو شر وإثم والله أعلم قاله الطوفي
(3)
.
2683 -
وَعَن وابصة بن معبد رضي الله عنه قَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنا أُرِيد أَن لَا أدع شَيْئا من الْبر وَالْإِثْم إِلَّا سَأَلت عَنهُ فَقَالَ لي ادن يَا وابصة فدنوت مِنْهُ حَتَّى مست ركبتي ركبته فَقَالَ لي يَا وابصة أخْبرك عَمَّا جِئْت تسْأَل عَنهُ قلت يَا رَسُول الله أَخْبرنِي قَالَ جِئْت تسْأَل عَن الْبر وَالْإِثْم قلت نعم فَجمع أَصَابِعه
(1)
شرح النووى على مسلم (16/ 111).
(2)
التعيين (ص 203).
(3)
التعيين في شرح الأربعين (1/ 203 - 204).
الثَّلَاث فَجعل ينكت بهَا فِي صَدْرِي وَيَقُول يَا وابصة استفت قَلْبك وَالْبر مَا اطمأنت إِلَيْهِ النَّفس وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقلب وَالْإِثْم مَا حاك فِي الْقلب وَتردد فِي الصَّدْر وَإِن أَفْتَاك النَّاس وأفتوك رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد حسن
(1)
.
قوله: وعن وابصة بن معبد
(2)
رضي الله عنه، ووابصة بباء موحدة مكسورة ثم صاد مهملة [بن معبد أبو سالم الأَسَدِي، وَفَدَ سنةَ تسعٍ في عشرةٍ مع قومِهِ].
قوله: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا
(1)
أخرجه أحمد في المسند 4/ 227 (18282). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 175): رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ، وَفِيهِ أَبُو عَبْدِ اللّهِ السُّلَمِيُّ، وَقَالَ فِي الْبَزَّارِ: الْأَسَدِيُّ عَنْ وَابِصَةَ، وَعَنْهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، وَلَمْ أَجِدْ مَنْ تَرْجَمَهُ. وقال في (10/ 294): رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بِاخْتِصَارٍ عَنْهُ، وَرِجَالُ أَحَدِ إِسْنَادَيِ الطَّبَرَانِيِّ ثِقَاتٌ. وقال النووي: حديث حسن الأربعون (حديث رقم 27) - رياض الصالحين ص 220 - المجموع 9/ 138. وقال ابن رجب: ففي إسناد هذا الحديث أمران يُوجب كلٌّ منهما ضعفه:
أحدهما: انقطاعه بين الزبير وأيوب؛ فإنَّه رواه عن قوم لم يسمعهم.
والثاني: ضعف الزبير هذا، قال الدارقطني: روى أحاديث مناكير، وضعفه ابن حبان أيضًا جامع العلوم والحكم (2/ 730).
وقال البوصيري ت مدار إسناد الحديث على أيوب بن عبد الله بن مكرز وهو ضعيف مختصر الإتحاف 1/ 170. وقال في الإتحاف (1/ 309): وهو مجهول.
(2)
طبقات ابن سعد: 7/ 476، وطبقات خليفة: 35، 128 و 318، وتاريخ البخاري الكبير: 8/ الترجمة 2647، وتاريخ أبي زرعة الدمشقي: 686 و 687، والجرح والتعديل: 9/ الترجمة 203، وثقات ابن حبان: 3/ 431، والمعجم الكبير: 22/ 140، وحلية الأولياء: 2/ 32، والاستيعاب: 4/ 1523، وأسد الغابة: 5/ 76، والكاشف: 3/ الترجمة 6125، والتجريد: 2/ الترجمة 1424، وتهذيب التهذيب: 11/ 100، والإصابة: 3/ الترجمة 9085، والتقريب، الترجمة 7378.
سألت عنه، فذكره إلى أن قال:"يا وابصة استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر" الحديث، اطمأن سكن، ومنه قوله تعالى:{فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ}
(1)
الآية أي سكنتم من انزعاج الحرب وحركته، فقوله صلى الله عليه وسلم:"استفت قلبك البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب" وهو كقوله أولا: "البر حسن الخلق" لأن حسن الخلق تطمئن إليه النفس والقلب.
اعلم أنه جاء في حديث وابصة: "البر ما اطمأنت إله النفس واطمأن إليه القلب" وهو في معنى قوله: "البر حسن الخلق" لأن النفس والقلب يطمئنان إليه، وفي حديث آخر:"إن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة، والكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار"
(2)
ويمكن حمله على معنى هذا ويكون أراد الصدق صدق في الأقوال والأفعال وهو الإخلاص وعكسه في الكذب.
فإن قيل: بين هذا الحديث وبين حديث الحلال بين تعارض من جهة أن المتردد في الصدر المشتبه سماه إثما وهناك قال: "فمن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه" فدل على أنه من الورع ولا إثم فيه؟ فالجواب: من وجهين، أحدهما: إنا نسلم أن قوله "استبرأ" يدل على عدم الإثم فإنه واجب واتقاء الشبهات طريق إليه والطريق إلى الواجب واجب وتركه إثم، الثاني: سلمنا
(1)
سورة النساء، الآية:103.
(2)
أخرجه البخاري (6094)، ومسلم (102 - 2606) عن ابن مسعود.
عدم الإثم لكن إذا ضعفت الشبهة فينبني على [أن] الأصل الحل فيكون تركه ورعا، وحديث وابصة محمول على ما قويت الشبهة فيه وتمكنت من النفس فيكون إثما ويكون من باب ترك الأصل للظاهر وهو على الخلاف وقد عمل به في مواضع والله أعلم.
قوله: "والإثم ما حاك في صدرك" قال في المفهم
(1)
: وإنما أحاله عليه السلام على هذا الإدراك القلبي لما علم من جودة فهمه وحسن قريحته وتنوير قلبه وأنه يدرك ذلك من نفسه وهذا كما قال في حديث آخر: "الإثم حواز القلوب"
(2)
أي القلوب المنشرحة للإسلام المنورة بالعلم بخلاف الغليظ الطبع الكليل الفهم فإنه بحال على الأوامر والنواهي الشرعية.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر" وهو شبيه بقوله: "الإثم ما كرهت أن يطلع عليه الناس" لأن ما تردد في الصدر هو إثم أو محل شبهة ولا بدو ذلك مما يكره إطلاع الناس عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا وابصة، أخبرك بما جئت تسأل عنه" قلت: يا رسول الله أخبرني، الحديث، هو من باب الكشف لذلك، وجاء في بعض الروايات أن وابصة جاء يتخطى الناس حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا وابصة تحدثني
(1)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (21/ 69).
(2)
أخرجه هناد في الزهد (2/ 465)، وأبو داود في الزهد (125)، والطبرانى في الكبير (9/ 149 رقم 8748 و 8749) موقوفًا عن ابن مسعود. وأخرجه البيهقى في الشعب (7/ 307) عن ابن مسعود مرفوعًا. وصحح الألباني وقفه في الصحيحة (2613).
بما جئت فيه أو أحدثك فقال: بل أنت حدثني يا رسول الله فهو أحب إليّ، قال:"جئت تسأل عن البر والإثم" قال نعم انتهى، قاله الطوفي
(1)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن أفتاك الناس وأفتوك" أي قد أعطيتك علامة الإثم فاعتبرها في اجتنابه ولا تقلد من أفتاك في مقاربته
(2)
، أ. هـ، فدل حديث وابصة وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه فما سكن إليه القلب وانشرح له الصدر فهو البر والحلال وما كان بخلاف ذلك فهو الإثم والحرام
(3)
، أ. هـ.
2684 -
وَعَن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي رضي الله عنه قَالَ قلت يَا رَسُول الله أَخْبرنِي مَا يحل لي وَيحرم عَليّ قَالَ الْبر مَا سكنت إِلَيْهِ النَّفس وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقلب وَالْإِثْم مَا لم تسكن إِلَيْهِ النَّفس وَلم يطمئن إِلَيْهِ الْقلب وَإِن أَفْتَاك الْمفْتُون رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد جيد
(4)
.
قوله: وعن أبي ثعلبة الخشني
(5)
رضي الله عنه، جرثوم بن ناشر [بضَمِّ الجيم ثم
(1)
التعيين في شرح الأربعين (1/ 208).
(2)
التعيين (ص 209).
(3)
جامع العلوم والحكم (2/ 101).
(4)
أخرجه أحمد 4/ 194 (18019). قال ابن رجب: هذا إسناد جيد، وعبد الله بن العلاء بن زبر ومسلم بن مشكم ثقتان مشهوران جامع العلوم 2/ 732. وقال الهيثمي: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَفِي الصَّحِيحِ طَرَفٌ مِنْ أَوَّلِهِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ المجمع 1/ 176. وصححه الألباني في صَحِيح الْجَامِع: 2881 صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 1735.
(5)
طبقات ابن سعد: 7/ 416، الاستيعاب: 4/ 1618، أسد الغابة: 6/ 44، تهذيب الكمال: 1589، الإصابة: 11/ 54.
وقال ابن الملقن في المعين على تفهم الأربعين (ص 357 - 358): وقد اختُلِفَ في اسمه =
راءٌ مهمَلَةٌ ثم تاءٌ مثلَّثة له صحبةٌ وروايةٌ، بايع تحتَ الشَّجرةِ، وضُرِبَ له سهمهُ في حُنَيْن، ماتَ سنةَ خمس وسبعين بالشَّام و"الخُشَني" - بضم الخاء المعجمة، وفتح الشين المعجمة أيضًا ثم نون - نسبة إلى خُشَيْنَةَ - قبيلة معروفة].
قوله صلى الله عليه وسلم: "البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون" أي: جعلوا لك رخصة وتقدم الكلام على معنى هذا الحديث.
2685 -
وَعَن أنس رضي الله عنه أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وجد تَمْرَة فِي الطَّرِيق فَقَالَ لَوْلَا أَنِّي أَخَاف أَن تكون من الصَّدَقَة لأكلتها رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم
(1)
.
قوله: وعن أنس رضي الله عنه، تقدم الكلام عليه.
قوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق فقال "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها" الحديث، هذا منه صلى الله عليه وسلم ورع وتنزه وإلا فالغالب أنها تمر غير الصدقة لأنه الأصل وتمر الصدقة قليل، والحكم للغالب في القواعد الشرعية، ففيه: التحرز من الشبهة فإن الأصل عدم كونها من الصدقة فتركها
= واسم أَبيه اختلافًا كثيرًا نحو أربعين قولًا؛ منها ما ذَكَرَهُ المُصَنِّف (يعنى جرثوم بن ناشر)، وهو: بضَمِّ الجيم ثم راءٌ مهمَلَةٌ ثم تاءٌ مثلَّثة، وقد أوضحتُها في الكنى من كتابي رجال الكتب الستة فراجِعهَا منهُ؛ فإنها تُسَاوي رحلةً، له صحبةٌ وروايةٌ، بايع تحتَ الشَّجرةِ، وضُرِبَ له سهمهُ في حُنَيْن، ماتَ سنةَ خمس وسبعين بالشَّام، وهو من الأفراد، والخُشَني - بضم الخاء المعجمة، وفتح الشين المعجمة أيضًا ثم نون - نسبة إلى خُشَيْنَةَ - قبيلة معروفة.
(1)
أخرجه البخاري (2431) و (2432)، ومسلم (164 و 165 و 166 - 1071).
ورعا، وقيل: إن القليل مما لا بال له كالتمرة والجوزة والعنابة والحبة من [الفضة] لا تُعَرَّف ولأنه مما يسامح فيه، ولأنه عليه السلام جوز أكلها أولا خشية أن تكون من الصدقة، وفيه: تحريم الصدقة عليه صلى الله عليه وسلم وقد تقدم سواء كان زكاة أو تطوعا، وقد جاء أن الحسن التقط تمرة فوضعها في فيه فقال عليه السلام:"كخ" فنزعها
(1)
، والظاهر أنه لم يتركها ساقطة لأنها نهى عن ذلك فقال:"إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط ما عليها من الأذى ولا يدعها للشيطان"
(2)
فلعله أمر بها لم تحل له والله أعلم، وفيه: أن التمرة ونحوها من محقرات الأموال لا يجب تعريفها بل يباح أكلها والتصرف فيها في الحال لأن النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن تكون من الصدقة لا لكونها لقطة والصدقة أوساخ الناس فصان الله نبيه صلى الله عليه وسلم عنها فحرمها عليه.
وفيه: دليل على أن اللقطة اليسيرة التي لا يتعلق بها نفس فاقدها إنها لا تحتاج إلى تعريف وأنها تستباح من غير ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم علل امتناعه من أكلها بخوفه أن يكون من الصدقة، وظاهر دليل خطابه أنها لو سلمت من ذلك المانع لأكلها، وها الحكم متفق عليه، وعلله أصحابنا وغيرهم بأن صاحبها في العادة لا يطلبها ولا يبقى له فيها مطمع هذا حكم اليسير من اللقطة ذكره النووي
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (1491) و (3072)، ومسلم (161 - 1069) عن أبي هريرة.
(2)
أخرجه مسلم (134 و 135 - 2033) عن جابر.
(3)
شرح مسلم للنووى (7/ 177 - 178).
فائدة: وأما الكثير من اللقطة إذا لم يجد ربها بعد تعريفها سنة على أبواب المساجد وفي الأسواق كما هو معروف في كتب الفقه ولم يرد أن يتملكها تصدق بها عنها فإن ظهر مالكها خيره بين الأجر والضمان قالوا: وهذا لأن المجهول في الشرع كالمعدوم فإذا جهل المالك صار بمنزلة المعدوم وهذا مال لم يعلم له مالك معين ولا سبيل إلى تعطيل الانتفاع لما فيه من المفسدة والضرر بمالكه والفقراء ومن هو في يده أما المالك فلعدم وصول نفقة إليه وكذا الفقراء وأما من هو في يده فلعده تمكنه من الخلاص من إثمه فيقدمه يوم القيامة منم غير انتفاع به ومثل هذا لا تبيحه شريعة فضلا عن أن تأمر به أو توجبه
(1)
، أ. هـ.
فائدة: إذا اجتمع في شخص أربع خصال: الإسلام، والحرية، والأمانة، والتكليف، فله أن يلتقط ويعرف ويتملك لأنه أهل لأمانة والولاية والاكتساب
(2)
، وقد أمر الله تعالى بالمعاونة على البر والتقوى والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، والله أعلم.
وللقطة أمور معروفة في كتب الفقه فمن أراد شيئا من ذلك فليطلبه من مظانه والله الموفق لا رب غيره.
2686 -
وَعَن الْحسن بن عَليّ رضي الله عنهما قَالَ حفظت من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَقَالَ
(1)
مدارج السالكين (1/ 392).
(2)
روضة الطالبين (5/ 392).
التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن صَحِيح
(1)
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِنَحْوِهِ من حَدِيث وَاثِلَة بن الْأَسْقَع
(2)
وَزَاد فِيهِ قيل فَمن الْوَرع قَالَ الَّذِي يقف عِنْد الشُّبْهَة.
قوله: وعن الحسن بن علي
(3)
رضي الله عنهما، وكنيته: أبو محمد علي بن أبي طالب سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته، فسبط الرجل ابن ابنته، وريحانته إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام في الحسن والحسين:"هما ريحانتاي من الدنيا" أي يسر بهما ويتروح، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيه:"إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" فأصلح الله به بين أهل العراق والشام، وسلم الأمر لمعاوية صلحا، وكان الحسن رضى الله عنه من الحكماء الكرماء الأسخياء، وكان مطلاقا، يقال إنه أحصن مائة امرأة أو أكثر، وكنية الحسين: أبو عبد الله، وكنية علي: أبو الحسن كنى بالحسن أكبر أولاده، وأبو تراب كناه به النبي صلى الله عليه وسلم إذ وجده نائما في المسجد على التراب.
قوله: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" الحديث، يريبك: بفتح الياء وضمها لغتان، والفتح أفصح يقال راب يريب ثلاثيا وأراب يريب رباعيا من الريبة وهي الشك والتردد، وأما معناه فاترك ما فيه شك من الأفعال والأقوال إلى ما شك فيه منهما، أي: دع ما شك فيه واعدل
(1)
أخرجه الترمذي (2518). وقال الترمذي: وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وصححه الألباني في صحيح الترمذي و"الإرواء"(2074)، "المشكاة"(2773) وغاية المرام (179).
(2)
أخرجه الطبرانى في الكبير (22/ 91 رقم 197). وضعفه الألباني في الضعيفة (5890).
(3)
ترجمته والاستيعاب 1/ 383، تاريخ بغداد 1/ 138، وأسد الغابة 2/ 9، تهذيب الأسماء واللغات 1/ 158 - 160، الإصابة 1/ ترجمة 1719.
إلا ما لا تشك فيه، وهذا أصل في الورع وهو موافق لقوله صلى الله عليه وسلم:"الحلال بين والحرام بين" إلى قوله "فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه"، ويروي عن زيد بن ثابت
(1)
أنه قال: ما من شيء أسهل من الورع، إذا رابك شيء فدعه، قلت: هذا سهل على من سهله الله عليه وهو على كثير من الناس أصعب من ثقل الجبال، وإنما هذا شبيه بقول بعض سليمي الصدور لا شيء أسهل من صيد الأسد، قيل: وكيف ذلك، قال: واحد يفتح رأس الجوالق وآخر يكشكش، واعلم أن الأشياء إما واضح الحل وإما واضح الحرمة أو مرتاب فيه، والريبة قد تقع في العبادات والمعاملات والمنكاحات وسائر أبواب الأحكام فترك الريبة في ذلك كله إلى غيرها أمر عميم النفع كثير الفائدة وتفاصيل ذلك تكثر وهذه قاعدته قاله الطوفي
(2)
.
2687 -
وَعَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت كَانَ لأبي بكر الصّديق رضي الله عنه غُلَام يخرج لَهُ الْخراج وَكَانَ أَبُو بكر يَأْكُل من خراجه فجَاء يَوْمًا بِشَيْء فَأكل مِنْهُ أَبُو بكر فَقَالَ لَهُ الْغُلَام أَتَدْرِي مَا هَذَا فَقَالَ أَبُو بكر وَمَا هُوَ قَالَ كنت تكهنت لإِنْسَان فِي الْجَاهِلِيَّة وَمَا أحسن الكهانة إِلَّا أَنِّي خدعته فلقيني فَأَعْطَانِي لذَلِك هَذَا الَّذِي أكلت مِنْهُ فَأدْخل أَبُو بكر يَده فقاء كل شَيْء فِي بَطْنه رَوَاهُ البُخَارِيّ
(3)
.
(1)
لم أجده من قول زيد بن ثابت وإنما هو معروف من قول حسان بن أبي سنان أخرجه ابن أبى الدنيا في الورع (46) و (47).
(2)
التعيين (ص 120).
(3)
أخرجه البخاري (3842).
الْخراج شَيْء يفرضه الْمَالِك على عَبده يُؤَدِّيه إِلَيْهِ كل يَوْم مِمَّا يكتسبه وَبَاقِي كسبه يَأْخُذهُ لنَفسِهِ.
قوله: وعن عائشة رضي الله عنها، تقدم الكلام عليها.
قولها: كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام يخرج له الخراج وكان أبو بكر يأكل من خراجه، الحديث، الخراج: شيء يفرضه السيد على عبده في كل يوم من كسبه وباقي كسبه يأخذه لنفسه.
قوله: فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني لذلك هذا الذي أكلت منه فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه، الحديث، وإنما قاء أبو بكر لأن حلوان الكاهن منهي عنه والمحصل من المال بطريق الخديعة حرام
(1)
وحلوان الكاهن هو ما يعطاه على كهانته وهو حرام لما فيه من أخذ العوض على أمر باطل وفي معنى ذلك كل ما يمنع الشرع منه من الرجم بالغيب كالقيامة والزجر وغير ذلك وحلوان الكاهن، قال الهروي وغيره: أصله من الحلاوة شبه بالشيء الحلو من حيث أنه يأخذه سهلا بلا كلفة ولا في مقابلة مشقة يقال: حلوته إذا أطعمته الحلو كما يقال عسلته إذا أطعمته العسل، قال الخطابي: وحلوان العراف أيضا حرام، قال والفرق بين الكاهن والعراف أن الكاهن إنما يتعاطي الإخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة
(1)
الكواكب الدرارى (15/ 70).
الأسرار والعراف هو الذي يدعي معرفة الشيء ومكان الضلالة ومكان الضالة ونحوهما من الأمور وكان في العرب كهنة منهم من يزعم أن له رئيبا من الجن وتابعا يلقى إليه الأخبار ومنهم من يدعي أنه يستدرك الأمور بفهم أعطيه وكان فيهم عرافون يزعمون معرفة الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على التهمة والسرقة ومنهم من يسمي المنجم كاهنا وحديث النهي عن إتيان الكهان يشمل الجميع من أتاهم وصدقهم دخل في الوعيد
(1)
، وأما أولياء الله ومكاشفاتهم فذلك مما يجب الإيمان به
(2)
، وأما الفراسة فنوع آخر ليس من
(1)
معالم السنن (3/ 104 - 105)، وشرح النووى على مسلم (10/ 231 - 232).
(2)
الإيمان بكرامات الصالحين من الدين ولكن ما يسمى بالكشف هو باب من التلبيس كما عده ابن الجوزى فقال في تلبيس إبليس (ص 334): إبليس إنما يتمكن من الإنسان عَلَى قدر قلة العلم فكلما قل علم الإنسان كثر تمكن إبليس مِنْهُ وكلما كثر العلم قل تمكنه مِنْهُ ومن العباد من يرى ضوءا أَوْ نورا فِي السماء فَإِن كان رمضان قَالَ رأيت ليلة القدر وإن كان فِي غيره قَالَ قد فتحت لي أبواب السماء وَقَدْ يتفق لَهُ الشيء الذي يطلبه فيظن ذلك كرامة وربما كان اتفاقا وربما كان اختبارا وربما كان من خدع إبليس والعاقل لا يساكن شيئًا من هَذَا ولو كان كرامة.
وقال (ص 338): وقد لبس إبليس عَلَى قوم من المتأخرين فوضعوا حكايات فِي كرامات الأولياء ليشيدوا بزعمهم أمر القوم والحق لا يحتاج إِلَى تشييد بباطل فكشف الله تعالى أمرهم بعلماء النقل.
وقال ابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص 48 - 49): وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى، ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، وامتنع أن يكون وليا لله، فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله، لا سيما أن تكون حجته على ذلك، إما مكاشفة سمعها منه، أو نوع من تصرف، مثل أن يراه قد أشار إلى أحد، فمات أو =
المنهي عنه أيضًا.
واعلم أن الأخذ كما يحرم على الكاهن كذلك يحرم إعطاؤه على المعطي ويمنع المحتسب من ذلك ويؤدب عليه الآخذ والمعطي، قاله الماوردي
(1)
. وسيأتي الكلام على هذه الأشياء في باب الطيرة مبسوطا إن شاء الله تعالى وهذا الحديث أصل في الورع.
2688 -
وَعَن عَطِيَّة بن عُرْوَة السَّعْدِيّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يبلغ العَبْد أَن يكون من الْمُتَّقِينَ حَتَّى يدع مَا لَا بَأْس بِهِ حذرا لما بِهِ بَأْس" رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث حسن وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد
(2)
.
= صرع، فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين من المشركين وأهل الكتاب، لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية، كالكهان والسحرة وعباد المشركين، وأهل الكتاب، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليا لله، وإن لم يعلم منه ما يناقض ولاية الله، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله، مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة، أو يعتقد أن لأولياء الله طريقًا إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو يقول: إن الأنبياء ضيقوا الطريق، أو هم قدوة على العامة، أنه ولي لله، ولكن إن كان له حالة في إفاقته، كان فيها مؤمنا بالله متقيا، كان له من ولاية الله بحسب ذلك، وإن كان له حال إفاقته فيه كفر أو نفاق، أو كان كافرًا أو منافقا، ثم طرأ عليه الجنون، فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه، وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق.
(1)
الأحكام السلطانية (ص 373)، وشرح النووى على مسلم (10/ 232).
(2)
أخرجه الترمذي (2451) وابن ماجه (4215)، والطبراني في الكبير (17/ 168 رقم 446)، والحاكم (4/ 319).
وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الوَجْهِ.
قوله: وعن عطية بن عروة
(1)
[بضم المهملة وسكون الراء السعدي ويُقال: ابن سعد، ويُقال: ابن عَمْرو بن عروة بن القين، ويُقال: ابن قيس بن عامر بن عميرة بن ملان بن ناصرة بن قصبة بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن السعدي، جد عروة بن محمد السعدي، لهُ صُحبَةٌ، نزل الشام وكان ولده بالبلقاء].
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس" الحديث، تقدم معناه، وقال بعض الصحابة: كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن يقع في باب من الحرام، وقال الحسين ب: مثقال ذرة عن الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة، وقال أبو هريرة: جلساء الله غدا أهل الورع والزهد
(2)
.
2689 -
وَعَن أبي أُمَامة رضي الله عنه قَالَ سَأَلَ رجل النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا الْإثْم قَالَ إِذا حاك فِي نَفسك شَيْء فَدَعْهُ قَالَ فَمَا الْإِيمَان قَالَ إِذا ساءتك سيئتك وسرتك حسنتك فَأَنت مُؤمن رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد صَحِيح
(3)
.
= وقال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ووافقه الذهبي.
وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه والترمذى، ورياض الصالحين (ص 269) وغاية المرام (178). وحسنه في مشكاة المصابيح (2775).
(1)
ترجمته في الاستيعاب: 3/ الترجمة 1070، وأسد الغابة: 3/ 412، وتهذيب التهذيب: 7/ 227 - 228، والإصابة: 2/ الترجمة 5573.
(2)
الرسالة القشيرية (1/ 236) عن الحسن البصرى.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 5/ 252 (22596)، والحاكم 1/ 14 و 2/ 13 و 4/ 99. وقال =
قوله: وعن أبي أمامة رضي الله عنه، تقدم الكلام عليه.
قوله: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم ما الإثم؟ قال: "إذا حاك في نفسك شيء فدعه" تقدم الكلام على ذلك.
2690 -
وَرُوِيَ عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثَلَاث من كن فِيهِ اسْتوْجبَ الثَّوَاب واستكمل الْإِيمَان خلق يعِيش بِهِ فِي النَّاس وورع يحجزه عَن محارم الله وحلم يرد بِهِ جهل الْجَاهِل رَوَاهُ الْبَزَّار
(1)
.
قوله: وعن أنس رضي الله عنه، تقدم الكلام عليه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه" فذكره إلى أن قال "وورع يحجزه عن محارم الله" الحديث، قال الله تعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)}
(2)
قال مجاهد وقتادة
(3)
: نفسك فطهر عن دنس الذنب والورع يطهر دنس القلب ونجاسته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة فقال:"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"
(4)
فهذا يعم الترك لما لا يعني
= الحاكم: صحيح متصل على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في الصحيحة (550) والسراج المنير (15) وصحيح الجامع (600).
(1)
أخرجه البزار (6443). قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 75: رواه البزار، وفيه: عبد الله بن سليمان، قال البزار: حدث بأحاديث لم يتابع عليها. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2547) وضعيف الترغيب (1082).
(2)
سورة المدثر، الآية:4.
(3)
تفسير الطبرى (23/ 407).
(4)
أخرجه أحمد 1/ 201 (1761) من حديث الحسين بن علي. وأخرجه ابن ماجه في السنن (3976) والترمذى (2317) من حديث أبى هريرة. وصححه الألباني في صحيح ابن =
من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الباطنة والظاهرة فهذه الكلمة شافية في الورع فصلوات الله وسلامه على من أوتي جوامع الكلم وخص بنفائس الحكم، قال إبراهيم بن أدهم: الورع ترك كل شبهة وترك ما لا يعنيه هو ترك الفضلات
(1)
.
تنبيه: الورع على أربع درجات ورع العدول وهو العمل بما يفتي المفتي في ظاهر الشرع وورع الصالحين وهو الورع من الشبهات مثل معاملة من أكثر ماله حرام وورع المتقين وهو ترك ما لا بأس به حذارا مما به بأس كما روي عمر رضي الله عنه كان له زوجة يحبها فلما ولي الخلافة طلقها خوفا من أن تحمله على ما لا يجوز فيميل إلى ذلك لحبه إياها وورع الصديقين وهو الإعراض عما سوى الله تعالى وإليه الإشارة بقوله: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ}
(2)
(3)
وقال قائلهم: الله ونس والباقي هوس، وجد من خط جد الحافظ محب الدين الطبري ودخل الحسن مكة فرأى غلاما من أولاد علي بن أبي طالب وقد أسند ظهره إلى الكعبة يعظ الناس فوقف عليه الحسن البصري، قال له ما ملاك الدين، قال الورع قال: فما آفته قال الطمع، فتعجب منه الحسن
= ماجه وصحيح الترمذي والإيمان لابن تيمية (ث 49) ومشكاة المصابيح (4839) السراج المنير (6187) وقال في صحيح الترغيب (2881). حسن لغيره.
(1)
مدارج السالكين (2/ 23 - 24).
(2)
سورة الأنعام، الآية:91.
(3)
إحياء علوم الدين (2/ 94 - 98) باختصار.
وأوحي الله إلى موسى عليه السلام ما تقرب إلي المتقربون بمثل الورع وسئل أبو عثمان الحيري عن الورع، فقال: كان أبو صالح حمدون عند صديق له وهو في النزع فلما مات أطفأ أبو صالح السراج قيل له في ذلك فقال كان الدهن له في الحياة فلما مات صار للورثة وكان رجل يكتب كتابا وهو في بيت مستأجر فأترب الكتاب من تراب ذلك البيت سمع هاتفا يقول: سيعلم المستخف بالتراب ما يلقي غدًا من طول الحساب، ورهن الإمام أحمد بن حنبل سطلا له عند بقال فلما أراد فكاكه أخرج البقال سطلين [فقال خذ] أيهما لك، فقال أحمد أشكل علي سطلي فهو لك والدراهم لك فقال البقال سطلك هذا وإنما أردت أن أختبرك فقال: لا آخذه ومضى وترك السطل عنده واستأجر النخعي دابة فوقع سوطه من يده فنزل وربط الدابة ورجع وأخذ اتلسوط فقيل له لو حولت الدابة إلى الموضع الذي سقط فه السوط فأخذته فقال: إنما استأجرتها لا مضي هكذا لا هكذا
(1)
، أ. هـ قاله في الديباجة.
لطيفة: قال إبراهيم بن أدهم: بت ليلة تحت الصخرة ببيت المقدس فلما كان بعض الليل نزل ما كان فقال أحدهما لصاحبه من ههنا فقال إبراهيم بن أدهم فقال: الذي حط الله درجة من درجاته، قال: ولم قال لأنه اشترى بالبصرة تمرًا فوقع من الدكان على تمرة تمرة من تمر البقال قال إبراهيم: فلما أصبح سافرت إلى البصرة فاشتريت التمر من ذلك الرجل وألقيت على تمرة تمرة
(1)
الرسالة (1/ 236 - 237).
واحدة ورجعت إلى بيت المقدس وبت تحت الصخرة فلما كان بعض الليل إذا أنا بملكين نزلا فقال أحدهما من ها هنا فقال إبراهيم: الذي ردت درجته إلى ما كان عليه، وفي بعض النسخ الذي رد إلى مكانه ورفعت درجته
(1)
، أ. هـ.
2691 -
وَعَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الْعِبَادَة الْفِقْه وَأفضل الدّين الْوَرع رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي معاجيمه الثَّلَاثَة وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن أبي ليلى
(2)
.
قوله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما، تقدم الكلام عليه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الدين الورع" تقدم الكلام على الورع.
2692 -
وَعَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فضل الْعلم خير من فضل الْعِبَادَة وَخير دينكُمْ الْوَرع رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَالْبَزَّار بِإِسْنَاد حسن
(3)
.
(1)
الرسالة للقشيرى (1/ 230).
(2)
أخرجه الطبرانى في الصغير (2/ 251 رقم 1114) والأوسط (9/ 107 رقم 9264) والكبير (13/ 73 رقم 13706). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 120: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الثَّلَاثَةِ، وَفِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي لَيْلَى، ضَعَّفُوهُ لِسُوءِ حِفْظِهِ. وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1083)، وضعيف الجامع (1024).
(3)
أخرجه البزار (2969)، والطبرانى في الأوسط (4/ 196 - 197 رقم 3960). وقال البزار: وَهَذَا الْكَلَامُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ كَلَامِ مُطَرِّفٍ، وَلَا نَعْلَمُ رَوَاهُ، عَنِ الْأَعْمَشِ إِلَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ، وَلَمْ نَسْمَعْهُ إِلَّا مِنْ عَبَّادِ بْنِ يَعْقُوبَ. وقال الهيثمي في المجمع 1/ 120: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْبَزَّارُ، وَفِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ، وَثَّقَهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ =
قوله: وعن حذيفة هو ابن اليمان رضي الله عنه، تقدم الكلام عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وخير [دينكم] دنياكم الورع" الورع في الأصل الكف عن المحارم والتحرج منه يقال ورع الرجل يرع بالكسر فيهما ورعا ورعة فهو ورع وتورع من كذا ثم استعير للكف عن المباح والحلال، قال البخاري في البيوع
(1)
: قال حسان بن أبي سنان: ما رأيت شيئا أهون من الورع دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، قال القشيري
(2)
: وكان حسان بن أبي سنان: لا ينام مضطجعا ولا يأكل سمينا ولا يشرب باردا ستين سنة فرئي في المنام بعد ما مات فقيل له ما فعل الله بك، فقال خيرا غير أني محبوس عن الجنة بإبرة استعرتها فلم أردها كان حسان بن أبي سنان البصري معدودا من العباد الروعين روى عنه الحسن البصري وكان يقول: لولا المساكين ما اتجرت، قال جعفر بن سليمان: سمعت جليسا لوهب بن منبه يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت يا رسول الله أين الأبدال من أمتك فأومأ بيده قلب الشام قلت يا نبي الله أما بالعراق منهم أحد قال: بلى محمد بن واسع وحسان بن أبي سنان ومالك بن دينار، وقال: إن حسان مر يوما بغرفة فقال مذ كم بنيت هذه ثم رجع إلى نفسه فقال: يا نفس تسألي عما لا يعنيك فعاقبها بصوم
= مَعِينٍ وَجَمَاعَةٌ. وصححه الألباني في السراج المنير (245) وصحيح الترغيب (1740)، والروض النضير 1/ 440، العلم لأبي خيثمة 13.
(1)
صحيح البخاري (3/ 53).
(2)
الرسالة (1/ 238).
سنة وافتتح القشيري في رسالته في باب الورع بحديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" ثم قال: أما الورع فإنه ترك الشبهات، قال إبراهيم بن أدهم: الورع ترك كل شبهة وترك ما لا يعنيك هو ترك الفضلات، وقال أبو بكر الصديق: كنا عند سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام، وقيل: إن مالك بن دينار مكث أربعين لم يأكل من تمر البصرة ولا من رطبها حتى مات ولم يذقه وكان إذا انقضى وقت الرطب قال: يا أهل البصرة هذا بطني ما نقص منه شيء ولا زاد فيكم وفعل السلف وورعهم أجل من أن يذكر
(1)
أ. هـ.
2693 -
وَرُوِيَ عَن وَاثِلَة عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كن ورعا تكن أعبد النَّاس وَكن قنعا تكن أشكر النَّاس وَأحب للنَّاس مَا تحب لنَفسك تكن مُؤمنا وَأحسن مجاورة من جاورك تكن مُسلما وَأَقل الضحك فَإِن كَثْرَة الضحك تميت الْقلب رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الزّهْد الْكَبِير وَهُوَ عِنْد التِّرْمِذِيّ بِنَحْوِهِ من حَدِيث الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة وَلم يسمع مِنْهُ
(2)
.
وروي عن واثلة عن أبي هريرة تقدم الكلام عليهما.
(1)
الرسالة للقشيرى (1/ 235 - 238).
(2)
أخرجه ابن ماجه (4217) والبيهقى في الآداب (ص 134 رقم 323) و (ص 335 رقم 831) والزهد (1/ 309 رقم 822) والشعب (7/ 499 رقم 5366)، والترمذى (2458). قال البوصيرى في مصباج الزجاجة (4/ 420): هذا إسناد حسن وأبو رجاء اسمه محرز بن عبد الله رواه الترمذي في الجامع بغير هذا اللفظ. وقال الألباني: صحيح لغيره صحيح الترغيب (1741) وصحيح الجامع (4580) والصحيحة (930).
قوله لأبي هريرة: "كن ورعا تكن أعبد الناس" الحديث، قال الشبلي: الورع أن يتورع عن كل ما سوى الله، وقال يحيى بن معاذ: الورع على وجهين ورع في الظاهر وهو أن لا يتحرك إلا لله، وورع في الباطن وهو أن لا يدخل قلبك سواه، وقال سفيان الثوري: ما رأيت أسهل من الورع ما حاك في صدرك تركته
(1)
. أ. هـ
2694 -
وَرُوِيَ عَن نعيم بن همار الْغَطَفَانِي رضي الله عنه أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ بئس العَبْد عبد تجبر واختال وَنسي الْكَبِير المتعال، بئس العَبْد عبد يخْتل الدُّنْيَا بِالدّينِ بئس العَبْد عبد يسْتَحل الْمَحَارِم بِالشُّبُهَاتِ بئس العَبْد عبد هوى يضله بئس العَبْد عبد رغبته تذله رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ
(2)
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ
(3)
من حَدِيث
(1)
الرسالة (1/ 234 - 235).
(2)
أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (9)، وابن عدي في الكامل (4/ 110)، والذهبي في تذكرة الحفاظ (3/ 792 - 793). ومن طريق ابن عدي أخرجه البيهقي في الشعب (10/ 480 رقم 7833). قال أبو حاتم في العلل (1838) هَذَا حديثٌ مُنكَرٌ، وطَلْحَةُ ضعيفُ الْحَدِيث، ويزيدُ لم يُدْرِكْ نُعَيْمَ بنَ هَمَّار. وقال ابن عديّ: وهذا الحديث يعرف بأسماء بنت عميس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومن هذا الطّريق لم يروه إلّا طلحة بن زيد اهـ. وضعّفه البيهقيّ في: الشّعب، والألبانيّ في: تخريجه للسنّة لابن أبي عاصم. وقال الذهبي: غريب جدًّا، وطلحة ضعيف ويزيد لم يدرك نعيمًا. وضعفه الألبانيّ في السنة (9) وضعيف الترغيب (1084) وقال ضعيف جدًّا.
(3)
أخرجه الترمذي (2448). وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الوَجْهِ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالقَوِيِّ. وضعف الألباني في ضعيف الترمذي وضعيف الترغيب (1742)، وتخريج المشكاة (5115 - التحقيق الثاني)، والضعيفة (2026).
أَسمَاء بنت عُمَيْس أطول مِنْهُ وَيَأْتِي لَفظه فِي التَّوَاضُع إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وروي عن نعيم بن همار الغطفاني سيأتي الكلام عليه وعلى الحديث إن شاء الله تعالى.