الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[تَعْرِيفُ الصَّحَابِيِّ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا]
[تَعْرِيفُ الصَّحَابِيِّ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا] إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَفِي هَذَا الْبَابِ عَشَرَةُ مَسَائِلَ:
الْأُولَى: فِي تَعْرِيفِ الصَّحَابِيِّ. وَفِيهِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رُشَيْدٍ: (إِيضَاحُ الْمَذَاهِبِ فِيمَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّاحِبِ) . وَهُوَ لُغَةً: يَقَعُ عَلَى مَنْ صَحِبَ أَقَلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ صُحْبَةٍ، فَضْلًا عَمَّنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ، وَكَثُرَتْ مُجَالَسَتُهُ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ:(رَائِي النَّبِيِّ) صلى الله عليه وسلم، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ رَأَى، حَالَ كَوْنِهِ (مُسْلِمًا) عَاقِلًا (ذُو صُحْبَةِ) عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، اكْتِفَاءً بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ وَلَوْ لَحْظَةً، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مَعَهَا مُجَالَسَةٌ وَلَا مُمَاشَاةٌ وَلَا مُكَالَمَةٌ ; لِشَرَفِ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; فَإِنَّهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ إِذَا رَآهُ مُسْلِمٌ أَوْ رَأَى مُسْلِمًا لَحْظَةً طُبِعَ قَلْبُهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ ; لِأَنَّهُ بِإِسْلَامِهِ مُتَهَيِّئٌ لِلْقَبُولِ، فَإِذَا قَابَلَ ذَلِكَ النُّورَ الْعَظِيمَ أَشَرَفَ عَلَيْهِ، فَظَهَرَ أَثَرُهُ عَلَى قَلْبِهِ وَعَلَى جَوَارِحِهِ.
وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِهَا أَحْمَدُ ; فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ صَحِبَهُ سَنَةً أَوْ شَهْرًا أَوْ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً، أَوْ رَآهُ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْ رَآهُ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَتَبِعَهُمَا تِلْمِيذُهُمَا الْبُخَارِيُّ فَقَالَ: مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْ رَآهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ. قِيلَ: وَيَرِدُ عَلَى ذَلِكَ تَوَقُّفُ مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَدُورُ ; لِأَنَّ (صَحِبَ) يَتَوَقَّفُ عَلَى الصَّحَابِيِّ، وَالْعَكْسُ. لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُمْ بِصَحِبَ: الصُّحْبَةُ اللُّغَوِيَّةُ، وَبِالصَّحَابِيِّ: الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ. عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيَّ قَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الصَّحَابِيَّ مُشْتَقٌّ مِنَ الصُّحْبَةِ جَارٍ عَلَى كُلِّ مَنْ صَحِبَ غَيْرَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، يُقَالُ: صَحِبَهُ شَهْرًا أَوْ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً. قَالَ: وَهَذَا يُوجِبُ فِي حُكْمِ اللُّغَةِ إِجْرَاءَ هَذَا عَلَى مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ سَاعَةً، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ. قَالَ: وَمَعَ هَذَا فَقَدْ
تَقَرَّرَ لِلْأُمَّةِ عُرْفٌ فِي أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَهُ إِلَّا فِيمَنْ كَثُرَتْ صُحْبَتُهُ، وَذَكَرَ الْمَذْهَبَ الثَّانِيَ.
وَكَذَا قَالَ صَاحِبُهُ الْخَطِيبُ أَيْضًا: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الصُّحْبَةَ الَّتِي اشْتُقَّ مِنْهَا الصَّحَابِيُّ لَا تُحَدُّ بِزَمَنٍ، بَلْ يَقُولُ: صَحِبْتُهُ سَنَةً، وَصَحِبْتُهُ سَاعَةً. وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ (شَرْحِ مُسْلِمٍ) عَقِبَ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ: وَبِهِ يُسْتَدَلُّ عَلَى تَرْجِيحِ مَذْهَبِ الْمُحَدِّثِينَ ; فَإِنَّ هَذَا الْإِمَامَ قَدْ نَقَلَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ صُحْبَةَ سَاعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ قَدْ نَقَلُوا الِاسْتِعْمَالَ فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ عَلَى وَفْقِ اللُّغَةِ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. قُلْتُ: إِلَّا أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُشْتَرَطُ فِي اللُّغَةِ، وَالْكُفَّارُ لَا يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الصُّحْبَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ رَأَوْهُ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الصُّحْبَةُ تُطْلَقُ وَيُرَادُ مُطْلَقُهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي التَّعْرِيفِ، وَتَأْكِيدُهَا بِحَيْثُ يَشْتَهِرُ بِهِ، وَهِيَ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْمُخَالَطَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، فَإِذَا قُلْتَ: فُلَانٌ صَاحِبُ فُلَانٍ، لَمْ يَنْصَرِفْ - يَعْنِي: عُرْفًا - إِلَّا لِلْمُؤَكَّدَةِ ; كَخَادِمِ فُلَانٍ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْأَشْبَهُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ مَنْ رَآهُ. وَحَكَاهُ عَنْ أَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ أَيْضًا ; لِأَنَّ الصُّحْبَةَ تَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، فَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَصْحَبَهُ حَنِثَ بِلَحْظَةٍ.
وَيَشْمَلُ الصَّحَابِيُّ الْأَحْرَارَ وَالْمَوَالِيَ، الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ. ثُمَّ إِنَّ التَّعْبِيرَ فِي التَّعْرِيفِ بِالرُّؤْيَةِ هُوَ فِي الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَالضَّرِيرُ الَّذِي حَضَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَغَيْرِهِ، مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ بِلَا تَرَدُّدٍ. وَلِذَا عَبَّرَ غَيْرُ وَاحِدٍ بِاللِّقَاءِ بَدَلَ الرُّؤْيَةِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تَكُونُ مِنَ الرَّائِي بِنَفْسِهِ وَكَذَا بِغَيْرِهِ، لَكَانَ مَجَازًا، وَكَأَنَّهُ لَحَظَ شُمُولَهَا بِالْقُوَّةِ أَوْ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَأَمَّا الصَّغِيرُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ ; كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ، وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ حَنَّكَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَدَعَا لَهُ، وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الْمَوْلُودِ قَبْلَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ بِثَلَاثَةِ
أَشْهُرٍ وَأَيَّامٍ، فَهُوَ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ نِسْبَةُ الرُّؤْيَةِ إِلَيْهِ، صَدَقَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَآهُ، وَيَكُونُ صَحَابِيًّا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ خَاصَّةً. وَعَلَيْهِ مَشَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الصَّحَابَةِ ; خِلَافًا لِلسَّفَاقُسِيِّ شَارِحِ الْبُخَارِيِّ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَسَحَ وَجْهَهُ عَامَ الْفَتْحِ مَا نَصُّهُ: إِنْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا عَقَلَ ذَلِكَ أَوْ عَقَلَ عَنْهُ كَلِمَةً كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَإِلَّا كَانَتْ لَهُ فَضِيلَةٌ، وَهُوَ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنَ التَّابِعِينَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْعَلَائِيُّ ; حَيْثُ قَالَ فِي بَعْضِهِمْ: لَا صُحْبَةَ لَهُ، بَلْ وَلَا رُؤْيَةَ، وَحَدِيثُهُ مُرْسَلٌ. وَهُوَ إِنْ سَلِمَ الْحُكْمُ لِحَدِيثِهِمْ بِالْإِرْسَالِ ; فَإِنَّهُمْ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ أَتْبَاعٌ، فَهُوَ فِيمَا نَفَاهُ مُخَالِفٌ لِلْجُمْهُورِ. وَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا فِي (الْفَتْحِ) : إِنَّ أَحَادِيثَ هَذَا الضَّرْبِ مَرَاسِيلُ. قَالَ: وَالْخِلَافُ الْجَارِي بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَبَيْنَ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى رَدِّ الْمَرَاسِيلِ مُطْلَقًا، حَتَّى مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، لَا يَجْرِي فِي أَحَادِيثِ هَؤُلَاءِ ; لِأَنَّ أَحَادِيثَهُمْ مِنْ قَبِيلِ مَرَاسِيلَ كِبَارِ التَّابِعِينَ لَا مِنْ قَبِيلِ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ سَمِعُوا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا يُلْغَزُ بِهِ فَيُقَالُ: صَحَابِيٌّ حَدِيثُهُ مُرْسَلٌ، لَا يَقْبَلُهُ مَنْ يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ. انْتَهَى.
وَلِأَجْلِ اخْتِيَارِ عَدِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِينَ فِي الصَّحَابَةِ كَانَتْ فِي بَيْتِ الصِّدِّيقِ أَرْبَعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي نَسَقٍ، وَهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ ; كَمَا سَيَأْتِي مَعَ مَا يُلَائِمُهُ فِي رِوَايَةِ الْآبَاءِ عَنِ الْأَبْنَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَكَذَا يَدْخُلُ فِيهِمْ مَنْ رَآهُ وَآمَنَ بِهِ مِنَ الْجِنِّ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ إِلَيْهِمْ قَطْعًا، وَهُمْ مُكَلَّفُونَ، فِيهِمُ الْعُصَاةُ وَالطَّائِعُونَ ; وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْأَقْضِيَةِ مِنَ (الْمُحَلَّى) :
قَدْ أَعْلَمَنَا اللَّهُ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ آمَنُوا وَسَمِعُوا الْقُرْآنَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَهُمْ صَحَابَةٌ فُضَلَاءُ. وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ ذِكْرُ مَنْ عُرِفَ مِنْهُمْ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَا الْتِفَاتَ لِإِنْكَارِ ابْنِ الْأَثِيرِ عَلَى أَبِي مُوسَى الْمَدِينِيِّ تَخْرِيجَهُ فِي الصَّحَابَةِ لِبَعْضِ مَنْ عَرَفَهُ مِنْهُمْ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَنِدْ فِيهِ إِلَى حُجَّةٍ.
وَهَلْ يَدْخُلُ مَنْ رَآهُ مَيِّتًا قَبْلَ أَنْ يُدْفَنَ؟ كَمَا وَقَعَ لِأَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ الشَّاعِرِ إِنْ صَحَّ. قَالَ الْعِزُّ بْنُ جَمَاعَةَ: لَا عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ مَحَلُّ نَظَرٍ. وَالرَّاجِحُ عَدَمُ الدُّخُولِ، وَإِلَّا لَعُدَّ مَنِ اتَّفَقَ أَنْ يَرَى جَسَدَهُ الْمُكَرَّمَ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ الْمُعَظَّمِ وَلَوْ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كُشِفَ لَهُ عَنْهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فَرَآهُ كَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْكَرَامَةِ ; إِذْ حُجَّةُ مَنْ أَثْبَتَ الصُّحْبَةَ لِمَنْ رَآهُ قَبْلَ دَفْنِهِ أَنَّهُ مُسْتَمِرُّ الْحَيَاةِ، وَهَذِهِ الْحَيَاةُ لَيْسَتْ دُنْيَوِيَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ أُخْرَوِيَّةٌ، لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامُ الدُّنْيَا ; فَإِنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِمْ بَعْدَ الْقَتْلِ جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَوْتَى. انْتَهَى.
وَسَبَقَهُ شَيْخُهُ الْمُؤَلِّفُ فَمَالَ أَيْضًا إِلَى الْمَنْعِ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي التَّقْيِيدِ الظَّاهِرِ اشْتِرَاطَ الرُّؤْيَةِ وَهُوَ حَيٌّ، لَكِنَّهُ عَلَّلَهُ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ ; حَيْثُ قَالَ: فَإِنَّهُ قَدِ انْقَطَعَتِ النُّبُوَّةُ بِوَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم. وَلِذَا لَمَّا أَشَارَ ابْنُ جَمَاعَةَ إِلَى حِكَايَتِهِ مَعَ إِبْهَامِ قَائِلِهِ تَوَقَّفَ فِيهِ وَقَالَ: إِنَّهُ مَحَلُّ بَحْثٍ وَتَأَمُّلٍ. بَلْ أَضْرَبَ الْمُؤَلِّفُ نَفْسُهُ فِي شَرْحِهِ عَنِ التَّعْلِيلِ بِهِ مُقْتَصِرًا عَلَى الْحُكْمِ فَقَطْ، وَكَأَنَّهُ رُجُوعٌ مِنْهُ عَنْهُ.
وَقَالَ الْعَلَائِيُّ: إِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُعْطَى حُكْمَ الصُّحْبَةِ ; لِشَرَفِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ
رُؤْيَتِهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ دَفْنِهِ وَصَلَاتِهِ عَلَيْهِ. قَالَ: وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ عَدِّ الْمُعَاصِرِ الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَصْلًا فِيهِمْ، أَوِ الصَّغِيرِ الَّذِي وُلِدَ فِي حَيَاتِهِ. وَقَالَ الْبَدْرُ الزَّرْكَشِيُّ: ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ نَعَمْ ; لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الصُّحْبَةَ لِمَنْ أَسْلَمَ فِي حَيَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ، يَعْنِي فَيَكُونُ مَنْ رَآهُ قَبْلَ الدَّفْنِ أَوْلَى. وَجَزَمَ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّهُ يُعَدُّ صَحَابِيًّا ; لِحُصُولِ شَرَفِ الرُّؤْيَةِ لَهُ، وَإِنْ فَاتَهُ السَّمَاعُ، قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ الذَّهَبِيُّ فِي التَّجْرِيدِ. وَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا مِنْ تَرْجِيحِ عَدَمِ دُخُولِهِ قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ، فَقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ صَحَابِيٍّ. انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا فَيُزَادُ فِي التَّعْرِيفِ: قَبْلَ انْتِقَالِهِ مِنَ الدُّنْيَا.
وَكَذَا لَا يَدْخُلُ مَنْ رَآهُ فِي الْمَنَامِ ; كَمَا جَزَمَ بِهِ الْبُلْقِينِيُّ ثُمَّ شَيْخُنَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَآهُ، فَذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، لَا الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ، حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. بَلْ جَزَمَ الْبُلْقِينِيُّ بِعَدَمِ دُخُولِ مَنْ رَآهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، يَعْنِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ عليهم السلام مِمَّنْ لَمْ يَبْرُزْ إِلَى عَالَمِ الدُّنْيَا. وَبِهَذَا الْقَيْدِ دَخَلَ فِيهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام ; وَلِذَا ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ فِي تَجْرِيدِهِ، وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا وَوَجَّهَهُ بِاخْتِصَاصِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِكَوْنِهِ رُفِعَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ حَيًّا، وَبِكَوْنِهِ يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ وَيَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَبِهَذِهِ الثَّلَاثِ يَدْخُلُ فِي تَعْرِيفِ الصَّحَابَةِ.
وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ دُخُولَ الْمَلَائِكَةِ فِيهِمْ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّهُ هَلْ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَيْهِمْ أَمْ لَا؟ وَعَلَى الثَّانِي مَشَى الْحَلِيمِيُّ وَأَقَرَّهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ. بَلْ نَقَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي (أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ) الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ وَالْبُرْهَانُ النَّسَفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِمَا، وَنُوزِعَا فِي ذَلِكَ. وَرَجَّحَ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ مُقَابِلَهُ ; مُحْتَجًّا بِمَا يَطُولُ شَرْحُهُ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَفِي صِحَّةِ بِنَاءِ دُخُولِهِمْ فِي الصَّحَابَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى. وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ، لَكِنَّهُ خَالَفَهُ فِي الْفَتْحِ ; حَيْثُ مَشَى عَلَى الْبِنَاءِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ.
وَهَلْ يَدْخُلُ مَنْ رَآهُ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الشَّرِيفَةِ ; كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ( «إِنَّهُ يُبْعَثُ أُمَّةً وَحْدَهُ» ) ؟ الظَّاهِرُ: لَا. وَبِهِ جَزَمَ شَيْخُنَا فِي (مُقَدِّمَةِ الْإِصَابَةِ)، وَزَادَ فِي التَّعْرِيفِ الْمَاضِي: بِهِ ; لِيُخْرِجَهُ ; فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَقِيَهُ مُؤْمِنًا بِغَيْرِهِ. عَلَى أَنَّ لِقَائِلِ ادِّعَاءَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّقْيِيدِ بِهِ بِإِطْلَاقِ وَصْفِ النُّبُوَّةِ ; إِذِ الْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْكَامِلِ. هَذَا مَعَ أَنَّ شَيْخَنَا قَدْ تَرْجَمَ لَهُ فِي إِصَابَتِهِ تَبَعًا لِلْبَغَوِيِّ وَابْنِ مَنْدَهْ وَغَيْرِهِمَا، وَتَرْجَمَ ابْنُ الْأَثِيرِ لِلْقَاسِمِ ابْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بَلْ وَلِلطَّاهِرِ وَعَبْدِ اللَّهِ أَخَوَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنَ الْإِصَابَةِ.
وَمُقْتَضَاهُ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ رُؤْيَةٌ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ أَخَاهُمُ الطَّيِّبَ فِي الثَّالِثِ مِنْهَا. وَفِيهِ نَظَرٌ، خُصُوصًا وَقَدْ جَزَمَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ بِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَالطَّاهِرَ وَالطَّيِّبَ وَاحِدٌ، اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَالطَّاهِرُ وَالطَّيِّبُ لَقَبَانِ.
ثُمَّ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِهِ مُؤْمِنًا بِهِ أَنْ تَقَعَ رُؤْيَتُهُ لَهُ بَعْدَ الْبَعْثَةِ فَيُؤْمِنُ بِهِ حِينَ يَرَاهُ، أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ؟ أَوْ يَكْفِي كَوْنُهُ مُؤْمِنًا بِهِ أَنَّهُ سَيُبْعَثُ كَمَا فِي بَحِيرَا الرَّاهِبِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْإِسْلَامِ؟ .
قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ مَحَلُّ احْتِمَالٍ. وَذَكَرَ بَحِيرَا فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنَ الْإِصَابَةِ ; لِكَوْنِهِ كَانَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَأَمَّا وَرَقَةُ فَذَكَرَهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ; لِكَوْنِهِ كَانَ بَعْدَهَا قَبْلَ الدَّعْوَةِ، مَعَ أَنَّهُ أَيْضًا لَمْ يَجْزِمْ بِصُحْبَتِهِ، بَلْ قَالَ: وَفِي إِثْبَاتِهَا لَهُ نَظَرٌ. عَلَى أَنَّ شَرْحَ النُّخْبَةِ ظَاهِرُهُ اخْتِصَاصُ التَّوَقُّفِ بِمَنْ لَمْ يُدْرِكِ الْبَعْثَةَ ; فَإِنَّهُ قَالَ: وَقَوْلُهُ: (بِهِ)، هَلْ يُخْرِجُ مَنْ لَقِيَهُ مُؤْمِنًا بِأَنَّهُ سَيُبْعَثُ وَلَمْ يُدْرِكِ الْبَعْثَةَ؟ فِيهِ نَظَرٌ. وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: مُسْلِمًا، مَنْ رَآهُ بَعْدَهَا لَكِنْ حَالَ كَوْنِهِ كَافِرًا، سَوَاءٌ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ أَمْ بَعْدَهَا إِذَا لَمْ يَرَهُ بَعْدُ، وَعُدُّوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُخَضْرَمِينَ، وَمَرَاسِيلُهُمْ يَطْرُقُهَا احْتِمَالُ أَنْ تَكُونَ مَسْمُوعَةً لَهُمْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ رُؤْيَتِهِمْ لَهُ. عَلَى أَنَّ أَحْمَدَ خَرَّجَ فِي مُسْنَدِهِ حَدِيثَ رَسُولِ قَيْصَرَ، مَعَ كَوْنِهِ إِنَّمَا رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي حَالِ كُفْرِهِ.
وَكَذَا تَرْجَمَ ابْنُ فَتْحُونٍ فِي ذَيْلِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيَّادٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الدَّجَّالَ، وَقَالَ: إِنَّ الطَّبَرِيَّ وَغَيْرَهُ تَرْجَمَ لَهُ هَكَذَا، وَهُوَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم. نَعَمْ، قَالَ شَيْخُنَا: يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِهِ زَمَنَ الْإِسْرَاءِ، إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كُشِفَ لَهُ فِي لَيْلَتِهِ عَنْ جَمِيعِ مَنْ
فِي الْأَرْضِ فَرَآهُ، فِي الصَّحَابَةِ، وَإِنْ لَمْ يَلْقَهُ ; لِحُصُولِ الرُّؤْيَةِ مِنْ جَانِبِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَيَرِدُ عَلَى التَّعْرِيفِ مَنْ رَآهُ مُؤْمِنًا بِهِ ثُمَّ ارْتَدَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى الْإِسْلَامِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ اتِّفَاقًا ; كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَمِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ وَابْنِ خَطَلٍ، وَحِينَئِذٍ فَيُزَادُ فِيهِ: وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمُ انْتَزَعَ مِنْ قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ مَنْ مَاتَ مُرْتَدًّا، تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ كَافِرًا ; لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْخَاتِمَةِ، صِحَّةَ إِخْرَاجِهِ ; فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَرَهُ مُؤْمِنًا. لَكِنَّ فِي هَذَا الِانْتِزَاعِ نَظَرٌ، وَإِنْ تَضَمَّنَ مُخَالَفَةَ شَيْخِنَا الْمَحَلِّيِّ الْمُؤَلِّفِ فِي التَّقْيِيدِ بِمَوْتِهِ مُؤْمِنًا مُوَافَقَةَ الِانْتِزَاعِ ; لِأَنَّهُ حِينَ رُؤْيَاهُ كَانَ مُؤْمِنًا فِي الظَّاهِرِ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَيُسَمَّى صَحَابِيًّا، وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ. وَمَا وَقَعَ لِأَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ ذِكْرِهِ حَدِيثَ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ، وَهُوَ مِمَّنْ أَسْلَمَ فِي الْفَتْحِ وَشَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ لَحِقَهُ الْخِذْلَانُ فَلَحِقَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بِالرُّومِ وَتَنَصَّرَ بِسَبَبِ شَيْءٍ أَغْضَبَهُ، يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ بِعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى قِصَّةِ ارْتِدَادِهِ. وَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا مَا نَصُّهُ: وَإِخْرَاجُ حَدِيثٍ مِثْلِ هَذَا - يَعْنِي مُطْلَقًا - فِي الْمَسَانِيدِ وَغَيْرِهَا مُشْكِلٌ، وَلَعَلَّ مَنْ أَخْرَجَهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى قِصَّةِ ارْتِدَادِهِ، فَلَوِ ارْتَدَّ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ لَكِنْ لَمْ يَرَهُ ثَانِيًا بَعْدَ عَوْدِهِ. فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ ; لِإِطْبَاقِ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى عَدِّ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ وَنَحْوِهِ ; كَقُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، مِمَّنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَإِخْرَاجِ أَحَادِيثِهِمْ فِي الْمَسَانِيدِ وَغَيْرِهَا، وَزَوَّجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أُخْتَهُ لِلْأَشْعَثِ. وَقِيلَ: لَا ; إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ الصُّحْبَةَ وَفَضْلَهَا، فَالرِّدَّةُ تُحْبِطُ الْعَمَلَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ; كَأَبِي حَنِيفَةَ. بَلْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي (الْأُمِّ) ، وَإِنْ حَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْهُ تَقْيِيدَهُ بِاتِّصَالِهَا بِالْمَوْتِ. وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ كَوْنَهُ حِينَ الرُّؤْيَةِ بَالِغًا
عَاقِلًا، حَكَاهُ الْوَاقِدِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالَ: رَأَيْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: كُلُّ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَدْرَكَ الْحُلُمَ فَأَسْلَمَ وَعَقَلَ أَمْرَ الدِّينِ وَرَضِيَهُ فَهُوَ عِنْدَنَا مِمَّنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ.
وَالتَّقْيِيدُ بِالْبُلُوغِ - كَمَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ - شَاذٌّ، وَهُوَ يُخْرِجُ نَحْوَ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ الَّذِي عَقَلَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَجَّةً، وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ، مَعَ عَدِّهِمْ إِيَّاهُ فِي الصَّحَابَةِ. وَلَمْ يُتَعَقَّبْ تَقْيِيدُهُ بِالْعَقْلِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْمَجْنُونِ الْمُطْبَقِ، سَوَاءٌ الْبَالِغُ السَّابِقُ إِسْلَامُهُ دُونَ رُؤْيَتِهِ، أَوِ الصَّغِيرُ الْمَحْكُومُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ ; وَلِذَا زِدْتُهُ، وَكَانَ عَدَمُ التَّصْرِيحِ بِهِ لِفَقْدِهِ. نَعَمْ، الْمُتَقَطِّعُ لَا مَانِعَ مِنَ اتِّصَافِهِ بِهَا إِذَا رَآهُ فِي حَالِ إِفَاقَتِهِ ; لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَوَصْفِهِ بِالْعَدَالَةِ إِذَا لَمْ يُؤَثِّرِ الْخَلَلُ فِي إِفَاقَتِهِ، وَبَعْضُهُمْ كَوْنُهُ مُمَيِّزًا كَمَا تَقَدَّمَ.
(وَقِيلَ) : إِنَّهُ لَا يَكْفِي فِي كَوْنِهِ صَحَابِيًّا مُجَرَّدُ الرُّؤْيَةِ، بَلْ لَا يَكُونُ صَحَابِيًّا إِلَّا (إِنْ طَالَتْ) صُحْبَتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَثُرَتْ مُجَالَسَتُهُ مَعَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لَهُ وَالْأَخْذِ عَنْهُ. وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي (الْعُدَّةِ) فَقَالَ: الصَّحَابِيُّ هُوَ الَّذِي لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَقَامَ مَعَهُ وَاتَّبَعَهُ دُونَ مَنْ وَفَدَ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَانْصَرَفَ مِنْ غَيْرِ مُصَاحَبَةٍ وَلَا مُتَابَعَةٍ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي (الْمُعْتَمَدِ) : هُوَ مَنْ طَالَتْ مُجَالَسَتُهُ لَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لَهُ وَالْأَخْذِ عَنْهُ، أَمَّا مَنْ طَالَتْ بِدُونِ قَصْدِ الِاتِّبَاعِ أَوْ لَمْ تَطُلْ كَالْوَافِدِينَ فَلَا. وَقَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: هُوَ مَنْ ظَهَرَتْ صُحْبَتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، صُحْبَةُ الْقَرِينِ قَرِينَهُ حَتَّى يُعَدَّ مِنْ أَحْزَابِهِ وَخَدَمِهِ الْمُتَّصِلِينَ بِهِ.
قَالَ صَاحِبُ (الْوَاضِحِ) : وَهَذَا قَوْلُ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ: هُوَ مَنْ أَكْثَرَ مُجَالَسَتَهُ وَاخْتَصَّ بِهِ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ الْوَافِدُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ، فِي آخَرِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، بَلْ حَكَاهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ عَنْهُمْ، وَادَّعَى أَنَّ اسْمَ الصَّحَابِيِّ يَقَعُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُحَدِّثِينَ تَوَسَّعُوا فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الصُّحْبَةِ عَلَى مَنْ رَآهُ رُؤْيَةً ; لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِ صلى الله عليه وسلم، حَيْثُ أَعْطَوْا لِكُلِّ مَنْ رَآهُ حُكْمَ الصُّحْبَةِ ; وَلِهَذَا يُوصَفُ مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَيْ: الْمُجَالَسِ.
وَمَا
حَكَاهُ عَنِ الْأُصُولِيِّينَ إِنَّمَا هُوَ طَرِيقَةٌ لِبَعْضِهِمْ، وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى الْأَوَّلِ. وَكَذَا دَعْوَاهُ ذَلِكَ لُغَةً يَرُدُّهُ حِكَايَةُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ عَنْهُمْ بِدُونِ اخْتِلَافٍ، لَكِنَّهُ قَالَ: وَمَعَ هَذَا - يَعْنِي إِيجَابَ حُكْمِ اللُّغَةِ - إِجْرَاءُ الصُّحْبَةِ عَلَى مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ سَاعَةً، فَقَدْ تَقَرَّرَ لِلْأَئِمَّةِ عُرْفٌ فِي أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَهُ إِلَّا فِيمَنْ كَثُرَتْ صُحْبَتُهُ وَاتَّصَلَ لِقَاؤُهُ، وَلَا يُجْرُونَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَقِيَ الْمَرْءَ سَاعَةً، وَمَشَى مَعَهُ خُطًا، وَسَمِعَ مِنْهُ حَدِيثًا، فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ لَا يَجْرِيَ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ إِلَّا عَلَى مَنْ هَذَا حَالُهُ. انْتَهَى.
وَصَنِيعُ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ يُشْعِرُ بِالْمَشْيِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ ; فَإِنَّهُمَا قَالَا فِي طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ: لَهُ رُؤْيَةٌ وَلَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ. وَكَذَا قَالَ عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ. بَلْ قَالَ مُوسَى السَّيَلَانِيُّ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي (الطَّبَقَاتِ) بِسَنَدٍ جَيِّدٍ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَأَنْتَ آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ بِنَاءً عَلَى مَا فِي ظَنِّهِ: (قَدْ بَقِيَ قَوْمٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَأَمَّا أَصْحَابُهُ فَأَنَا آخِرُهُمْ) .
لَكِنْ قَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ أَرَادَ إِثْبَاتَ صُحْبَةٍ خَاصَّةٍ لَيْسَتْ لِتِلْكَ الْأَعْرَابِ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلْمَسْأَلَةِ. وَكَذَا إِنَّمَا نَفَى أَبُو زُرْعَةَ وَمَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ صُحْبَةً خَاصَّةً دُونَ الْعَامَّةِ، وَمَا تَمَسَّكُوا بِهِ لِهَذَا الْمَذْهَبِ مِنْ خِطَابِهِ صلى الله عليه وسلم لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي حَقِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَوْ غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ:( «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي» ) ، مَرْدُودٌ بِأَنَّ نَهْيَ الصَّحَابِيِّ عَنْ سَبِّ آخَرَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنِ السَّبِّ غَيْرَ صَحَابِيٍّ، فَالْمَعْنَى: لَا يَسُبَّ غَيْرُ أَصْحَابِي أَصْحَابِي، وَلَا يَسُبَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
(وَ) عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَهَذَا الْقَوْلُ (لَمْ يُثَبَّتِ)
بِضَمِّ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ، وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ ; أَيْ: لَيْسَ هُوَ الثَّبْتَ ; إِذِ الْعَمَلُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ عَلَى الْأَوَّلِ. ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِالثَّانِي لَمْ يَضْبُطْ أَحَدٌ مِنْهُمُ الطُّولَ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ ; كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، لَكِنْ حَكَى شَارِحُ الْبَزْدَوِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ تَحْدِيدَهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ.
(وَقِيلَ) : إِنَّمَا يَكُونُ صَحَابِيًّا (مَنْ أَقَامَ) مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (عَامًا) أَوْ عَامَيْنِ، (وَغَزَا مَعْهُ) غَزْوَةً أَوْ غَزْوَتَيْنِ، (وَذَا لِـ) سَعِيدِ (ابْنِ الْمُسَيَّبِ) بِكَسْرِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا، وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَأَنَّهُ لِمَا حُكِيَ عَنْ سَعِيدٍ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِلْفَتْحِ. (عَزَا) ; أَيْ: ابْنُ الصَّلَاحِ وَأَسْنَدَهُ أَبُو حَفْصِ بْنُ شَاهِينَ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَبُو مُوسَى فِي آخِرِ الذَّيْلِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَحْكِيِّ عَنِ الْأُصُولِيِّينَ، وَلَكِنْ فِي عِبَارَتِهِ ضِيقٌ يُوجِبُ أَنْ لَا يُعَدَّ مِنَ الصَّحَابَةِ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ وَمَنْ شَارَكَهُ فِي فَقْدِ ظَاهِرِ مَا اشْتَرَطَهُ فِيهِمْ مِمَّنْ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي عَدِّهِ مِنَ الصَّحَابَةِ. انْتَهَى.
وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي تَوَقُّفِهِ فِي صِحَّتِهِ عَنْ سَعِيدٍ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ، مَعَ أَنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ:(أَوْ غَزَا مَعَهُ غَزْوَةً أَوْ غَزْوَتَيْنِ) ، بِـ (أَوْ) ، وَهُوَ أَشْبَهُ فِي تَرْجِيعِهِ إِلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي.
وَحَكَى ابْنُ سَعْدٍ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَيَذْكُرُونَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَإِسْلَامَهُ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ أَوْ نَحْوِهَا. انْتَهَى.
وَإِسْلَامُ جَرِيرٍ مُخْتَلَفٌ فِي وَقْتِهِ، فَفِي (الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ) لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ:(بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي إِثْرِ الْعُرَنِيِّينَ) . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِهِ، لَكِنَّ فِيهِ
الرَّبَذِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَفِي (الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ) لَهُ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا قَالَ:( «لَمَّا بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَتَيْتُهُ فَقَالَ لِي: (يَا جَرِيرُ، لِأَيِّ شَيْءٍ جِئْتَنَا؟) قُلْتُ: لِأُسْلِمَ عَلَى يَدَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَلْقَى إِلَيَّ كِسَاءَهُ.» الْحَدِيثَ. وَفِي سَنَدِهِ حُصَيْنُ بْنُ عُمَرَ الْأَحْمَسِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَتْرُوكَ الظَّاهِرِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ ; أَيْ: لَمَّا بَلَغَنَا خَبَرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. أَوْ عَلَى الْحَذْفِ ; أَيْ: لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ دَعَا إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ حَارَبَ قُرَيْشًا وَغَيْرَهُمْ، ثُمَّ فَتَحَ مَكَّةَ، ثُمَّ وَفَدَتْ عَلَيْهِ الْوُفُودُ. فَقَدْ رَوَى أَيْضًا فِي (الْكَبِيرِ) بِلَفْظِ:(فَدَعَانِي إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ) ، وَالزَّكَاةُ إِنَّمَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَعِنْدَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثٍ شَرِيكٍ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ» ) الْحَدِيثَ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَخْدِشُ فِي جَزْمِ الْوَاقِدِيِّ بِأَنَّهُ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ عَشْرٍ ; لِأَنَّ وَفَاةَ النَّجَاشِيِّ كَانَتْ قَبْلَ سَنَةِ عَشْرٍ. وَكَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (اسْتَنْصِتِ النَّاسَ) . وَبِهِ يُرَدُّ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا ; لِأَنَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ كَانَتْ قَبْلَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ يَوْمًا.
وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ مَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ الْأَخْذَ، حَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْجَاحِظُ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ، الَّذِي قَالَ فِيهِ ثَعْلَبٌ: إِنَّهُ غَيْرُ ثِقَةٍ وَلَا مَأْمُونٍ. وَتَسْمِيَتُهُ لِأَبِيهِ بِيَحْيَى تَصْحِيفٌ مِنْ بَحْرٍ، وَعِبَارَتُهُ: ذَهَبَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى إِلَى أَنَّ هَذَا الِاسْمَ إِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخَذَ عَنْهُ الْعِلْمَ. وَحَكَاهُ
ابْنُ الْحَاجِبِ أَيْضًا قَوْلًا غَيْرَ مَعْزُوٍّ لِأَحَدٍ، لَكِنْ بِإِبْدَالِ الْأَخْذِ بِالرِّوَايَةِ. وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، قَالَ: وَلَمْ أَرَ هَذَا الْقَوْلَ لِغَيْرِ عَمْرٍو. وَكَأَنَّ ابْنَ الْحَاجِبِ أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ الْآمِدِيِّ.
وَعَنْ بَعْضِهِمْ: هُوَ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَاخْتَصَّ بِهِ اخْتِصَاصَ الصَّاحِبِ، وَإِنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْهُ. قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَعَنْ بَعْضِهِمْ: هُوَ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ مَعَ الصُّحْبَةِ الِاتِّصَافُ بِالْعَدَالَةِ، فَمَنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ ذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصُّحْبَةِ. قَالَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَهَا. وَقِيلَ: هُوَ مَنْ أَدْرَكَ زَمَنَهُ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا وَإِنْ لَمْ يَرَهُ. وَهُوَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيِّ ; فَإِنَّهُ قَالَ: وَمِمَّنْ دُفِنَ ; أَيْ: بِمِصْرَ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ أَدْرَكَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ: أَبُو تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيُّ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ. وَكَذَا ذَكَرَهُ الدَّوْلَابِيُّ فِي الْكُنَى مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ إِنَّمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السِّيَرِ. عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُمَا لَهُ فِي الصَّحَابَةِ لِإِدْرَاكِهِ ; لِكَوْنِ أَمْرِهِ عِنْدَهُمَا عَلَى الِاحْتِمَالِ، وَلَمْ يَطَّلِعَا عَلَى تَأَخُّرِ قُدُومِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَصْرِيحِ أَوَّلِهِمَا بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ أَنَّهُ رَآهُ. وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ الْقَرَافِيُّ فِي (شَرْحِ التَّنْقِيحِ) . وَعَلَيْهِ عَمَلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (الِاسْتِيعَابِ) وَابْنِ مَنْدَهْ فِي (الصَّحَابَةِ) ; حَيْثُ ذَكَرَ الصَّغِيرَ الْمَحْكُومَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَقِفَا لَهُ عَلَى رُؤْيَةٍ، وَكَأَنَّ حُجَّتَهُمَا تَوَفُّرُ هِمَمِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى إِحْضَارِ مَنْ يُولَدُ لَهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَدْعُوَ لَهُ ; كَمَا سَيَأْتِي نَقْلُهُ بَعْدُ. بَلْ صَرَّحَ أَوَّلُهُمَا بِأَنَّهُ رَامَ بِذَلِكَ اسْتِكْمَالَ الْقَرْنِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:( «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» ) . وَمِمَّا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ بَعْضِهِمْ عَنِ الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ مِنْهُمْ، أَوْ إِدْخَالُ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فِيهِمْ ; كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ التَّابِعِينَ.