الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زُرْعَةَ. قُلْتُ: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو مُوسَى: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا - يَعْنِي: قَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ - فَكُلٌّ حَكَى عَلَى قَدْرِ مَا تَتَبَّعَهُ وَمَبْلَغِ عِلْمِهِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى وَقْتٍ خَاصٍّ وَحَالٍ، فَإِذَنْ لَا تَضَادَّ بَيْنَ كَلَامِهِمْ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
[تَفْضِيلُ الصَّحَابَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ]
[تَفْضِيلُ الصَّحَابَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ] وَالتَّاسِعَةُ: فِي تَفَاوُتِهِمْ فِي الْفَضِيلَةِ إِجْمَالًا ثُمَّ تَفْصِيلًا. وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ سِوَى الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَمَا ذَكَرَ بَعْدَهُمْ إِلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ.
فَمِنَ الْأَوَّلِ: (وَهُمْ) بِاعْتِبَارِ سَبْقِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْهِجْرَةِ أَوْ شُهُودِ الْمَشَاهِدِ الْفَاضِلَةِ (طِبَاقٌ إِنْ يُرَدْ تَعْدِيدُ) ; أَيْ: عَدُّهَا. وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِهِ، فَـ (قِيلَ) كَمَا لِلْحَاكِمِ فِي (عُلُومِ الْحَدِيثِ) : هِيَ (اثْنَتَا عَشْرَةَ) طَبَقَةً. فَالْأُولَى: مَنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ بِمَكَّةَ ; كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ. الثَّانِيَةُ: أَصْحَابُ دَارِ النَّدْوَةِ الَّتِي خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِسْلَامَهُ، فَبَايَعُوهُ حِينَئِذٍ فِيهَا. الثَّالِثَةُ: الْمُهَاجِرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ. الرَّابِعَةُ: مُبَايِعَةُ الْعَقَبَةِ الْأُولَى. الْخَامِسَةُ: أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ. السَّادِسَةُ: الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقُبَاءٍ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ وَيَبْنِيَ الْمَسْجِدَ. السَّابِعَةُ: أَهْلُ بَدْرٍ. الثَّامِنَةُ: الْمُهَاجِرَةُ بَيْنَ بَدْرٍ وَالْحُدَيْبِيَةِ. التَّاسِعَةُ: أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ. الْعَاشِرَةُ: الْمُهَاجِرَةُ بَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَفَتْحِ مَكَّةَ. الْحَادِيَةُ عَشَرَ: مُسْلِمَةُ الْفَتْحِ. الثَّانِيَةُ عَشَرَ: صِبْيَانٌ وَأَطْفَالٌ رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَغَيْرِهِمَا، يَعْنِي مَنْ عَقَلَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ.
وَقِيلَ كَمَا لِابْنِ سَعْدٍ فِي (الطَّبَقَاتِ) لَهُ: خَمْسٌ. فَالْأُولَى: الْبَدْرِيُّونَ. الثَّانِيَةُ: مَنْ أَسْلَمَ قَدِيمًا مِمَّنْ هَاجَرَ عَامَّتُهُمْ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَشَهِدُوا أُحُدًا فَمَا بَعْدَهَا. الثَّالِثَةُ: مَنْ شَهِدَ الْخَنْدَقَ فَمَا بَعْدَهَا. وَالرَّابِعَةُ: مُسْلِمَةُ الْفَتْحِ فَمَا بَعْدَهَا. الْخَامِسَةُ: الصِّبْيَانُ وَالْأَطْفَالُ مِمَّنْ لَمْ يَغْزُ، سَوَاءٌ حَفِظَ عَنْهُ - وَهُمُ الْأَكْثَرُ - أَمْ لَا. (أَوْ تَزِيدُ) عَلَى الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ، فَضْلًا عَمَّا دُونَهَا.
وَمِنَ الثَّانِي: (وَالْأَفْضَلُ) مِنْهُمْ مُطْلَقًا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَبُو بَكْرٍ (الصِّدِّيقُ) خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بَلْ هُوَ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; لِأَدِلَّةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا، مِنْهَا «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي الدَّرْدَاءِ وَقَدْ رَآهُ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ:(يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، أَتَمْشِي أَمَامَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ) » . وَقِيلَ لَهُ: الصِّدِّيقُ ; لِمُبَادَرَتِهِ إِلَى تَصْدِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:( «مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِيمَانِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ كَبْوَةٌ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَمْ» ) .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ بِمُقْتَضَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تَعْرِيفِ الصَّحَابِيِّ يُلْغَزُ فَيُقَالُ لَنَا: صَحَابِيٌّ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَهُوَ عِيسَى الْمَسِيحُ عليه الصلاة والسلام. وَإِلَيْهِ أَشَارَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ بِقَوْلِهِ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي فِي أَوَاخِرِ الْقَوَاعِدِ.
مَنْ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْخَلْقِ أَفْضَلُ مِنْ
…
خَيْرِ الصِّحَابِ أَبِي بَكْرٍ وَمِنْ عُمَرْ
وَمِنْ عَلِيٍّ وَمِنْ عُثْمَانَ وَهْوَ فَتًى
…
مِنْ أُمَّةِ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرْ
(ثُمَّ) يَلِي أَبَا بَكْرٍ (عُمَرُ) بْنُ الْخَطَّابِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَيْضًا. وَمِمَّنْ حَكَى إِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ، فَقَالَ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَلَا الْخَلَفِ، قَالَ: وَلَا مُبَالَاةَ بِأَقْوَالِ أَهْلِ التَّشَيُّعِ وَلَا أَهْلِ الْبِدَعِ.
وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الِاعْتِقَادِ لَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَيْضًا قَالَ: مَا اخْتَلَفَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي
تَفْضِيلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَتَقْدِيمِهِمَا عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ.
وَكَذَا جَاءَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَدْرَكْتُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَفَضْلِهِمَا.
وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله كَمَا سَيَأْتِي: أَوَفِي ذَلِكَ شَكٌّ؟ ! (وَبَعْدَهُ) ; أَيْ: بَعْدَ عُمَرَ، إِمَّا (عُثْمَانُ) بْنُ عَفَّانَ، (وَهْوَ الْأَكْثَرُ) ; أَيْ: قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، كَمَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَنَّ تَرْتِيبَهُمْ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ. (أَوْ فَعَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ (قَبْلَهُ) ; أَيْ: قَبْلَ عُثْمَانَ وَبَعْدَ عُمَرَ، (خُلْفٌ) ; أَيْ: خِلَافٌ (حُكِي) . وَإِلَى الْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ عَلِيٍّ ذَهَبَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَجَمْعٌ، كَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَطَائِفَةٌ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، كَمَا نَقَلَهُ شَيْخُنَا.
وَرَوَى الْخَطَّابِيُّ عَنِ الثَّوْرِيِّ حِكَايَتَهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عَلَى الْأَوَّلِ، فَقِيلَ لِلثَّوْرِيِّ: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَجُلٌ كُوفِيٌّ. ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَكِنْ قَدْ ثَبَتَ عَنِ الثَّوْرِيِّ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ. زَادَ غَيْرُهُ: وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ صَاحِبِهِ وَكِيعٍ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ - أَيْ: هَذَا الْمَذْهَبُ - ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ وَإِنْ نَصَرَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْخَطَّابِيُّ. وَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَسَبَقَهُ إِلَيْهِ الثَّوْرِيُّ كَمَا حَكَيْتُهُ فِي الثَّامِنَةِ فِي
إِحْصَائِهِمْ.
وَصَدَقَ رحمه الله وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ ; فَإِنَّ عُمَرَ لَمَّا جَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ انْحَصَرَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، فَاجْتَهَدَ فِيهِمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، حَتَّى سَأَلَ النِّسَاءَ فِي خُدُورِهِنَّ وَالصِّبْيَانَ فِي الْمَكَاتِبِ، فَلَمْ يَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ أَحَدًا، فَقَدَّمَهُ عَلَى عَلِيٍّ، وَوَلَّاهُ الْأَمْرَ قَبْلَهُ. «وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:(كُنَّا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا نَعْدِلُ بِأَبِي بَكْرٍ أَحَدًا، ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ عُثْمَانَ، ثُمَّ نَتْرُكُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ) » .
وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ غَرِيبٌ: « (كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ) » .
وَفِي آخَرَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ أَصْرَحُ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ اطِّلَاعِهِ صلى الله عليه وسلم: « (كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ: أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَيَسْمَعُ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يُنْكِرُهُ) » .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الشُّيُوخَ وَذَوِي الْأَسْنَانِ مِنْهُمْ، الَّذِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَرَّكَهُ أَمْرٌ شَاوَرَهُمْ فِيهِ، وَكَانَ عَلِيٌّ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَثَ السِّنِّ. وَلَمْ يُرِدِ ابْنُ عُمَرَ الْإِزْرَاءَ بِعَلِيٍّ وَلَا تَأَخُّرَهُ وَدَفْعَهُ عَنِ الْفَضِيلَةِ بَعْدَ عُثْمَانَ، فَفَضْلُهُ مَشْهُورٌ لَا يُنْكِرُهُ ابْنُ عُمَرَ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيمِ عُثْمَانَ عَلَيْهِ. انْتَهَى.
وَإِلَى الْقَوْلِ بِتَفْضِيلِ عُثْمَانَ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي اعْتِقَادِهِ عَنْهُمَا، وَحَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَكَافَّةِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ كَمَا قَالَ الْقَاضِي
عِيَاضٌ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَلَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي التَّفْضِيلِ، أَهُوَ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ؟ فَالَّذِي مَالَ إِلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُ مَالِكٍ الْآتِي نَقْلُهُ مِنَ (الْمُدَوَّنَةِ) . وَالَّذِي مَالَ إِلَيْهِ الْبَاقِلَّانِيُّ وَاخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي (الْإِرْشَادِ) الثَّانِي، وَعِبَارَتُهُ: لَمْ يَقُمْ عِنْدَنَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ عَلَى بَعْضٍ ; إِذِ الْعَقْلُ لَا يَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي فَضَائِلِهِمْ مُتَعَارِضَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ تَلَقِّي التَّفْضِيلِ مِنْ مَنْعِ إِمَامَةِ الْمَفْضُولِ.
وَلَكِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ الْخَلَائِقِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ عُمَرُ أَفْضَلُهُمْ بَعْدَهُ، وَتَتَعَارَضُ الظُّنُونُ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. وَبِكَوْنِهِ ظَنِّيًّا جَزَمَ صَاحِبُ (الْمُفْهِمِ) .
(قُلْتُ: وَقَوْلُ الْوَقْفِ) عَنْ تَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ (جَا) بِالْقَصْرِ (عَنْ مَالِكِ) حَسْبَمَا عَزَاهُ الْمَازَرِيُّ لِنَصِّ (الْمُدَوَّنَةِ) ، يَعْنِي فِي آخِرِ الدِّيَاتِ مِنْهَا، وَأَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ.
زَادَ عِيَاضٌ فِيمَا عَزَاهُ إِلَيْهَا: ثُمَّ عُمَرُ. ثُمَّ قَالَ فِيمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ: أَوَفِي ذَلِكَ شَكٌّ؟ قِيلَ لَهُ: فَعَلِيٌّ وَعُثْمَانُ؟ قَالَ: مَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا مِمَّنْ أَقْتَدِي بِهِ يُفَضِّلُ أَحَدَهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَنَرَى الْكَفَّ عَنْ ذَلِكَ. وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ ; مِنْهُمْ يَحْيَى الْقَطَّانُ، وَمِنِ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ حَزْمٍ. وَقَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْمَاضِي: وَتَتَعَارَضُ الظُّنُونُ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، يَمِيلُ أَيْضًا إِلَى التَّوَقُّفِ. لَكِنْ قَدْ حَكَى عِيَاضٌ أَيْضًا قَوْلًا عَنْ مَالِكٍ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْوَقْفِ إِلَى تَفْضِيلِ عُثْمَانَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ عِيَاضٌ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَفُّهُ وَكَفُّ مَنِ اقْتَدَى بِهِ لِمَا كَانَ شَجَرَ فِي ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّعَصُّبِ. بَلْ حَكَى الْمَازَرِيُّ قَوْلًا بِالْإِمْسَاكِ عَنِ التَّفْضِيلِ مُطْلَقًا، وَعَزَاهُ الْخَطَّابِيُّ لِقَوْمٍ، وَحَكَى هُوَ قَوْلًا آخَرَ بِتَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ جِهَةِ الصَّحَابَةِ، وَعَلِيٍّ مِنْ جِهَةِ الْقَرَابَةِ، قَالَ: وَكَانَ
بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ خَيْرٌ، وَعَلِيٌّ أَفْضَلُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهَذَا تَهَافُتٌ فِي الْقَوْلِ. وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: يُمْكِنُ حَمْلُ الْأَفْضَلِيَّةِ عَلَى الْعِلْمِ، فَلَا تَهَافُتَ، خُصُوصًا وَقَدْ مَشَى عَلَيْهِ الْمُؤَلِّفُ، لَكِنْ فِي التَّابِعِينَ كَمَا سَيَأْتِي، حَيْثُ وَجَّهَ قَوْلَ أَحْمَدَ بِتَفْضِيلِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ مَعَ النَّصِّ فِي أُوَيْسٍ بِقَوْلِهِ: فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْأَفْضَلِيَّةِ فِي الْعِلْمِ، لَا الْخَيْرِيَّةِ، كَمَا سَلَكَهُ بَعْضُ شُيُوخِ الْخَطَّابِيِّ. انْتَهَى.
وَبَقِيَّةُ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ: وَبَابُ الْخَيْرِيَّةِ غَيْرُ بَابِ الْفَضِيلَةِ، قَالَ: وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: إِنَّ الْحُرَّ الْهَاشِمِيَّ أَفْضَلُ مِنَ الْعَبْدِ الرُّومِيِّ أَوِ الْحَبَشِيِّ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَبْدُ الْحَبَشِيُّ خَيْرًا مِنْ هَاشِمِيٍّ فِي مَعْنَى الطَّاعَةِ وَالْمَنْفَعَةِ لِلنَّاسِ، فَبَابُ الْخَيْرِيَّةِ مُتَعَدٍّ، وَبَابُ الْفَضِيلَةِ لَازِمٌ، وَنَحْوُهُ مَنْ كَانَ يُقَدِّمُ عَلِيًّا لِفَضِيلَتِهِ وَفَضْلِ أَهْلِ بَيْتِهِ، مَعَ اعْتِرَافِهِ بِفَضْلِ الشَّيْخَيْنِ ; كَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ ; فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ أَتَانِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ لَبَدَأْتُ بِحَاجَةِ عَلِيٍّ قَبْلَهُمَا ; لِقَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقَدِّمَهُ عَلَيْهِمَا.
وَكَمَا حُكِيَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ ; وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: كَانَتِ الْخَوَارِجُ يَرْمُونَهُ بِاتِّصَالِهِ بِعَلِيٍّ وَقَوْلِهِ بِفَضْلِهِ وَفَضْلِ أَهْلِ بَيْتِهِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ كَانَ يَعْتَرِفُ بِفَضْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، لَكِنَّهُ يُقَدِّمُ عَلِيًّا. وَقَدْ قَالَ السِّرَّاجُ: ثَنَا خُشَيْشٌ الصُّوفِيُّ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ قَالَ: كَانَ رَأْيُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَأْيَ أَصْحَابِهِ الْكُوفِيِّينَ، يُفَضِّلُ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ رَجَعَ وَهُوَ يُفَضِّلُ عُمَرَ عَلَى عَلِيٍّ، وَيُفَضِّلُهُ عَلَى عُثْمَانَ. أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ الثَّوْرِيِّ مِنَ (الْحِلْيَةِ) . وَكَذَا حَكَى الْمَازَرِيُّ عَنْ
الشِّيعَةِ تَفْضِيلَهُ، وَعَنِ الْخَطَّابِيَّةِ تَفْضِيلَ عُمَرَ، وَعَنِ الرَّاوِنْدِيَّةِ تَفْضِيلَ الْعَبَّاسِ، وَالْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ وَطَائِفَةً ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِمَّنْ بَقِيَ بَعْدَهُ ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِهِمْ:(أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ) ، وَعَيَّنَ بَعْضَهُمْ ; مِنْهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَكُلُّ هَذَا مَرْدُودٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكَايَةِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى سَائِرِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ عُثْمَانَ ثُمَّ عَلِيٍّ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمَجَامِعِ وَالْمَشَاهِدِ وَعَلَى الْمَنَابِرِ. وَلِبَعْضِهِمْ:
أَبُو بَكْرٍ عَلَى السُّنَّهْ
…
وَفَارُوقٌ فَتَى الْجَنَّهْ
وَعُثْمَانُ بِهِ الْمِنَّهْ
…
عَلِيٌّ حُبُّهُ جُنَّهْ.
وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا عَقِبَ الْقَوْلِ بِتَفْضِيلِ عُمَرَ تَمَسُّكًا بِالْحَدِيثِ فِي الْمَنَامِ الَّذِي فِيهِ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ مَا نَصُّهُ: وَهُوَ تَمَسُّكٌ وَاهٍ. وَعَقِبَ الْقَوْلِ بِتَفْضِيلِ الْعَبَّاسِ أَنَّهُ مَرْغُوبٌ عَنْهُ، لَيْسَ قَائِلُهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، بَلْ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ عَقِبَ آخِرِهَا: وَهَذَا الْإِطْلَاقُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ وَلَا مَقْبُولٍ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي (الدَّلَائِلِ) وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: ذَكَرَ رِجَالٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ، فَكَأَنَّهُمْ فَضَّلُوهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، يَعْنِي بَعْدَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: وَاللَّهِ وَدِدْتُ لَوْ أَنَّ عَمَلِي كُلَّهُ مِثْلُ عَمَلِهِ يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ أَيَّامِهِ وَلَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ لَيَالِيهِ، أَمَّا لَيْلَتُهُ فَذَكَرَ قِصَّةَ الْغَارِ، وَأَمَّا يَوْمُهُ فَذَكَرَ الرِّدَّةَ.
وَثَبَتَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ رَجُلٌ آخَرُ. فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: ثُمَّ أَنْتَ يَا أَبَتِ؟ فَقَالَ: مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ أَبُو الْأَزْهَرِ: سَمِعْتُ
عَبْدَ الرَّزَّاقِ يَقُولُ: أُفَضِّلُ الشَّيْخَيْنِ بِتَفْضِيلِ عَلِيٍّ إِيَّاهُمَا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ لَمْ يُفَضِّلْهُمَا مَا فَضَّلْتُهُمَا، كَفَى بِي إِزْرَاءً أَنْ أُحِبَّ عَلِيًّا ثُمَّ أُخَالِفَ قَوْلَهُ.
وَلَا يَخْدِشُ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيٌّ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» ) .
وَكَذَا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ حُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: ( «عَلِيٌّ مِنِّي، وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ، لَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا أَنَا أَوْ عَلِيٌّ» ) . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «أَنَا دَارُ الْحِكْمَةِ، وَعَلِيٌّ بَابُهَا» ) . فَمَا انْفَرَدَ بِهِ الصِّدِّيقُ أَعْلَى وَأَغْلَى وَأَشْمَلُ وَأَكْمَلُ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَقَدْ قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ حَسْبَمَا أَوْرَدَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي (نَوَادِرَ الْأُصُولِ) لَهُ عَنْهُ، بَلْ أَوْرَدَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْعِلْمِ مِنَ (الْإِحْيَاءِ) مَرْفُوعًا:( «مَا فَضَلَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ بِكَثْرَةِ صَلَاةٍ وَلَا بِكَثْرَةِ صِيَامٍ، وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ» ) .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أَفْرَدَ مَنَاقِبَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَأَسَدُ بْنُ مُوسَى، وَمِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ. وَمَنَاقِبَ أَبِي بَكْرٍ وَحْدَهُ أَبُو طَالِبٍ الْعُشَارِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَهِيَ فِي مُجَلَّدٍ لَطِيفٍ مِنْ تَارِيخِ ابْنِ عَسَاكِرَ. وَلِأَبِي بَكْرٍ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْفِرْيَابِيِّ جُزْءٌ فِيهِ سَوَابِقُ الصِّدِّيقِ وَفَضَائِلُهُ، وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ دُونَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَمَرَ وَحْدَهُ أَبُو عُمَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ ذِي زَيْلٍ الدِّمَشْقِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ. وَمَنَاقِبَ عُثْمَانَ ابْنُ حَبِيبٍ. وَمَنَاقِبَ عَلِيٍّ النَّسَائِيُّ فِي (الْخَصَائِصِ) . وَمَنَاقِبَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ ابْنُ زَنْجُوَيَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ، فِي الْآخَرِينَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ. وَفَضَائِلَ الْعَشَرَةِ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ. وَفَضَائِلَ الصَّحَابَةِ مُطْلَقًا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، وَبَكْرٌ الْقَاضِي، وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَأَبُو الْمُطَرِّفِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ فُطَيْسٍ قَاضِي قُرْطُبَةَ، وَهُوَ فِي مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ جُزْءًا حَدِيثِيَّةً. وَهَذَا بَابٌ لَا انْتِهَاءَ لَهُ.
(فَـ) يَلِي الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ (السِّتَّةُ الْبَاقُونَ) مِنَ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ بَشَّرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ، وَهُمْ: طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَسَعِيدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.
وَقَدْ نَظَمَهُمْ شَيْخُنَا مَعَ الْأَرْبَعَةِ فِي بَيْتٍ مُفْرَدٍ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، فَقَالَ فِيمَا أَنْشَدَنِيهِ غَيْرَ مَرَّةٍ:
لَقَدْ بَشَّرَ الْهَادِي مِنَ الصَّحْبِ زُمْرَةً
…
بِجَنَّاتِ عَدْنٍ كُلُّهُمْ فَضْلُهُ اشْتَهَرْ
سَعِيدٌ، زُبَيْرٌ، سَعْدٌ، طَلْحَةٌ، عَامِرٌ
…
أَبُو بَكْرٍ، عُثْمَانُ، ابْنُ عَوْفٍ، عَلِيٌّ، عُمَرْ
وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ:
خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ
…
هُمُ الْعَشْرُ طُرًّا بُشِّرُوا بِجِنَانِ
زُبَيْرٌ، وَطَلْحٌ، وَابْنُ عَوْفٍ، وَعَامِرٌ
…
وَسَعْدَانِ وَالصِّهْرَانِ وَالْخَتَنَانِ
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَاهِرِ التَّمِيمِيُّ الْبَغْدَادِيُّ: أَصْحَابُنَا مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، ثُمَّ السِّتَّةُ الْبَاقُونَ إِلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ. (فَـ) يَلِيهِمِ الطَّائِفَةُ (الْبَدْرِيَّهْ) أَيْ: الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، فَالْمُهَاجِرُونَ نَيِّفٌ
عَلَى سِتِّينَ، وَالْأَنْصَارُ نَيِّفٌ وَأَرْبَعُونَ وَمِائَتَانِ ; فَقَدْ «قَالَ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ فِي بَعْضِ مَنْ شَهِدَهَا:(أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ; فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ، أَوْ: قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) ، فَدَمَعَتْ عَيْنُ عُمَرَ» .
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالتَّرَجِّي فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْوُقُوعِ. وَيَتَأَيَّدُ بِوُقُوعِهِ بِالْجَزْمِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ. . . . . وَذَكَرَهُ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: ( «لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا» ) .
(فَـ) يَلِيهِمْ (أُحُدٌ) ; أَيْ: أَهْلُ أُحُدٍ الَّذِينَ شَهِدُوهَا. وَكَانُوا فِيمَا قَالَهُ عُرْوَةٌ حِينَ خُرُوجِهِمْ أَلْفًا، فَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِثَلَاثِمِائَةٍ، وَبَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْعُمِائَةٍ، اسْتُشْهِدَ مِنْهُمُ الْكَثِيرُ. (فَـ) يَلِيهِمْ (الْبَيْعَةُ الْمَرْضِيَّهْ) ; أَيْ: أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ بِالْحُدَيْبِيَةَ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) الْآيَةَ [الْفَتْحِ: 18] .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي أَوَاخِرِ خُطْبَةِ الِاسْتِيعَابِ: وَلَيْسَ فِي غَزَوَاتِهِ مَا يَعْدِلُ بِهَا - يَعْنِي بَدْرًا - فِي الْفَضْلِ وَيَقْرُبُ مِنْهَا إِلَّا غَزْوَةُ الْحُدَيْبِيَةِ، حَيْثُ كَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ، وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:( «أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ» ) .
(قَالَ) ابْنُ الصَّلَاحِ: (وَفَضْلُ السَّابِقِينَ) الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ (قَدْ وَرَدْ) فِي الْقُرْآنِ إِيمَاءً لَا نَصًّا. نَعَمْ، النَّصُّ الصَّرِيحُ فِي تَفْضِيلِ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي السَّابِقِينَ (فَقِيلَ) كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ:(هُمْ) ; أَيْ: الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، رَوَاهُ سُنَيْدٌ وَعَبْدٌ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ. (وَقِيلَ) كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ:(بَدْرِيٌّ) ; أَيْ: أَهْلُ بَدْرٍ. حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ سُنَيْدٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ إِلَيْهِمَا. (وَقَدْ قِيلَ: بَلَ اهْلُ) بِالنَّقْلِ (الْقِبْلَتَيْنِ) الَّذِينَ صَلَّوْا إِلَيْهِمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ. وَرَوَاهُ سُنَيْدٌ وَعَبْدٌ أَيْضًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَابْنِ سِيرِينَ وَقَتَادَةَ. وَهُوَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ عَبْدٌ عَنْ قَتَادَةَ وَحْدَهُ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ. بَلْ عَنِ الْحَسَنِ كَمَا رَوَاهُ سُنَيْدٌ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ أَنَّهُمُ الَّذِينَ كَانَ إِسْلَامُهُمْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَصَحَّحَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا قَبْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الْفَتْحِ: 1] ; وَلِذَا لَمَّا سُئِلَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنِ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَبِلَالٍ رضي الله عنهما، قَالَ: بِلَالٌ وَأَمْثَالُهُ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْعَبَّاسِ وَأَمْثَالِهِ مِنَ التَّابِعِينَ لَهُ بِإِحْسَانٍ ; لِأَنَّهُ قَيَّدَ التَّابِعِينَ بِشَرْطِ الْإِحْسَانِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ قَاتَلَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ فِي زَمَانِهِ بِأَمْرِهِ، أَوْ أَنْفَقَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بِسَبَبِهِ، لَا يَعْدِلُهُ فِي الْفَضْلِ أَحَدٌ بَعْدَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَلَكِنْ لَمْ يُوَافَقِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ بِلَالٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ: كَانَ الْعَبَّاسُ أَعْظَمَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالصَّحَابَةُ يَعْتَرِفُونَ لِلْعَبَّاسِ بِفَضْلِهِ، وَيُشَاوِرُونَهُ وَيَأْخُذُونَ بِرَأْيِهِ، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:( «عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» ) ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَاقِبِ الْمُفْرَدَةِ فِي عِدَّةِ تَآلِيفَ ; كَاسْتِسْقَاءِ عُمَرَ بِهِ رضي الله عنهما، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا أَسْلَمَ وَهَاجَرَ قُبَيْلَ الْفَتْحِ، وَكَمْ لَهُ رضي الله عنه مِنْ مَآثِرَ حَسَنَةٍ قَبْلَ إِسْلَامِهِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: (مَرَّ عُمَرُ بِرَجُلٍ يَقْرَأُ:
{وَالسَّابِقُونَ} [التوبة: 100] الْآيَةَ. فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَقَالَ: لَا تُفَارِقْنِي حَتَّى أَذْهَبَ بِكَ إِلَيْهِ. فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ لَهُ عُمَرُ: أَأَنْتَ أَقْرَأْتَ هَذَا هَذِهِ الْآيَةَ هَكَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: سَمِعْتَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَنَّا رُفِعْنَا رِفْعَةً لَا يَبْلُغُهَا أَحَدٌ بَعْدَنَا. فَقَالَ أُبَيٌّ: تَصْدِيقُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 3]، وَفِي سُورَةِ الْحَشْرِ:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]، وَفِي الْأَنْفَالِ:{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 75] الْآيَةَ.
(وَ) الْعَاشِرَةُ: فِي أَوَّلِهِمْ إِسْلَامًا وَآخِرِهِمْ مَوْتًا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَـ (اخْتُلِفْ أَيَّهُمُ) بِالنَّصْبِ (أَسْلَمَ قَبْلُ مِنْ سَلَفْ) ; أَيْ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي أَيِّ الصَّحَابَةِ أَوَّلُ إِسْلَامًا، عَلَى أَقْوَالٍ. (فَقِيلَ) كَمَا لِابْنِ عَبَّاسٍ وَالنَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ سَأَحْكِي عَنْهُ:(أَبُو بَكْرٍ) الصِّدِّيقُ ; لِقَوْلِهِ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْهُ: (أَلَسْتُ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) . «وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ حِينَ سَأَلَهُ مَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ: (حُرٌّ وَعَبْدٌ) ; يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَبِلَالًا» . وَلِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانَ:
إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ
…
فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا
خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلُهَا
…
بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا
وَالثَّانِي وَالتَّالِي الْمَحْمُودُ مَشْهَدُهُ
…
وَأَوَّلُ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا
وَلِقَوْلِ أَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ:
وَسُمِّيتَ صِدِّيقًا وَكُلُّ مُهَاجِرٍ
…
سِوَاكَ يُسَمَّى بِاسْمِهِ غَيْرَ مُنْكَرِ
سَبَقْتَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ شَاهِدٌ
…
وَكُنْتَ جَلِيسًا فِي الْعَرِيشِ الْمُشْهَرِ
(وَقِيلَ: بَلْ) أَوَّلُهُمْ إِسْلَامًا (عَلِي) بْنُ أَبِي طَالِبٍ ; لِقَوْلِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ: (اللَّهُمَّ لَا أَعْرِفُ عَبْدَكَ قَبْلِي غَيْرَ نَبِيِّكَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - لَقَدْ صَلَّيْتُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ سَبْعًا) . وَسَنَدُهُ حَسَنٌ. وَلِقَوْلِهِ مِمَّا أَنْشَدَهُ الْقُضَاعِيُّ:
سَبَقْتُكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا
…
صَغِيرًا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حُلُمِي
وَلِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ وَجَابِرٍ وَخَبَّابٍ وَخُزَيْمَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَسَلْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَعَفِيفٍ الْكِنْدِيِّ وَمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَالْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَيَعْلَى بْنِ مُرَّةَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَأَبِي ذَرٍّ وَأَبِي رَافِعٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فِي آخَرِينَ، مِنْهُمْ مُسْلِمٌ الْمُلَائِيُّ. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَرْزُبَانِيِّ لِخُزَيْمَةَ:
مَا كُنْتُ أَحْسَبُ هَذَا الْأَمْرَ مُنْصَرِفًا
…
عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهَا عَنْ أَبِي حَسَنٍ
أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِهِمْ
…
وَأَعْلَمَ النَّاسِ بِالْفُرْقَانِ وَالسُّنَنِ
وَأَنْشَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِبَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ التَّاهَرْتِيِّ:
قُلْ لِابْنِ مُلْجِمٍ وَالْأَقْدَارُ غَالِبَةٌ
…
هَدَّمْتَ وَيْلَكَ لِلْإِسْلَامِ أَرْكَانَا
قَتَلْتَ أَفْضَلَ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمٍ
…
وَأَوَّلَ النَّاسِ إِسْلَامًا وَإِيمَانَا
وَأَنْشَدَ الْفَرْغَانِيُّ فِي الذَّيْلِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ يَذْكُرُ عَلِيًّا وَسَابِقَتَهُ مَعَ كَوْنِهِ يُرْمَى
بِأَنَّهُ نَاصِبِيٌّ:
فَأَوَّلُ مَنْ ضَلَّ فِي مَوْقِفٍ
…
يُصَلِّي مَعَ الطَّاهِرِ الطَّيِّبِ
(وَ) لَكِنْ (مُدَّعِي إِجْمَاعِهِ) ; أَيْ: الْإِجْمَاعِ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ ; حَيْثُ قَالَ فِي (عُلُومِ الْحَدِيثِ) لَهُ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِ التَّوَارِيخِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي بُلُوغِ عَلِيٍّ، (لَمْ يُقْبَلِ)، بَلِ اسْتُنْكِرَ مِنْهُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى إِطْلَاقِ الْأَوَّلِيَّةِ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْحَاكِمَ قَالَ بَعْدَ حِكَايَتِهِ الْإِجْمَاعَ: وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ ; لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ الْمَاضِي.
(وَقِيلَ) حَسْبَمَا ذَكَرَهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَوَّلُهُمْ إِسْلَامًا (زَيْدٌ) هُوَ ابْنُ حَارِثَةَ، (وَادَّعَى) حَالَ كَوْنِهِ (وِفَاقَا) ; أَيْ: مُوَافِقًا لِمَنْ سَبَقَهُ إِلَى مُطْلَقِ الْقَوْلِ بِهِ ; كَقَتَادَةَ وَابْنِ إِسْحَاقَ صَاحِبِ (الْمَغَازِي) . بَلْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعَائِشَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَنَافَعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ (بَعْضٌ) ; كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالثَّعْلَبِيِّ، (عَلَى خَدِيجَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَنَّهَا أَوَّلُ الْخَلْقِ إِسْلَامًا (اتِّفَاقَا) . زَادَ الثَّعْلَبِيُّ: وَإِنَّ الِاخْتِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ بَعْدَهَا. وَزَادَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حِكَايَةَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ إِسْلَامَ عَلِيٍّ بَعْدَهَا.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَكَوْنُهَا أَوَّلَ النَّاسِ إِسْلَامًا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقَاتِ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ الصَّوَابُ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْمُحَقِّقِينَ.
وَجَمَعَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَيْنَ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ بِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّ
عَلِيًّا أَخْفَى إِسْلَامَهُ مِنْ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَظْهَرَ أَبُو بَكْرٍ إِسْلَامَهُ ; وَلِذَلِكَ شُبِّهَ عَلَى النَّاسِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ شَيْخِنَا فِي قَوْلِ عَمَّارٍ:( «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَا مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ» ) ، مُرَادُهُ مِمَّنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ حِينَئِذٍ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ، لَكِنَّهُمْ كَانُوا يُخْفُونَهُ مِنْ أَقَارِبِهِمْ.
وَكَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ خَدِيجَةُ، ثُمَّ عَلِيٌّ. قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ ذَكَرٍ آمَنَ، وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ زَيْدٌ، فَكَانَ أَوَّلَ ذَكَرٍ أَسْلَمَ بَعْدَ عَلِيٍّ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ فَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَدَعَا إِلَى اللَّهِ، فَأَسْلَمَ بِدُعَائِهِ عُثْمَانُ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَطَلْحَةُ، فَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ الثَّمَانِيَةَ أَسْبَقُ النَّاسِ بِالْإِسْلَامِ. وَقِيلَ فِيمَا نَقَلَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَسْعُودِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَوَّلُهُمْ إِسْلَامًا بِلَالٌ ; لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ الْمَاضِي.
وَقَدْ جَمَعَ ابْنُ الصَّلَاحِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَقَالَ: وَالْأَوْرَعُ أَنْ يُقَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ أَبُو بَكْرٍ، وَمِنَ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ، وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِنَ الْمَوَالِي زَيْدٌ، وَمِنَ الْعَبِيدِ بِلَالٌ. وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قِيلَ ; لِاجْتِمَاعِ الْأَقْوَالِ بِهِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُبِقَ بِهِ مَا عَدَا بِلَالًا، فَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ إِسْحَاقَ ابْنَ رَاهَوَيْهِ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي أَوَّلِ مَنْ أَسْلَمَ، فَقَالَ: الْخَبَرُ فِي كُلِّ ذَلِكَ صَحِيحٌ، أَمَّا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النِّسَاءِ فَخَدِيجَةُ، وَأَمَّا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ فَأَبُو بَكْرٍ، وَأَمَّا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمَوَالِي فَزَيْدٌ، وَأَمَّا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الصِّبْيَانِ فَعَلِيٌّ.
وَكَذَا جَاءَ بِدُونِهِ وَبِدُونِ
زَيْدٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ حَمْزَةَ الْوَاعِظِ مِنْ تَارِيخِ نَيْسَابُورَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِسْهَرٍ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ، وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِنَ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ. وَكَانَ الْبُرْهَانُ التَّنُوخِيُّ يَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: وَمِنْ غَيْرِ الْبَالِغِينَ عَلِيٌّ، وَهُوَ حَسَنٌ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ، فَعِنْدَ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَالَ: أَسْلَمْتُ قَبْلَ عَلِيٍّ، لَكِنِّي كُنْتُ أَفْرَقُ أَبَا أُحَيْحَةَ، يَعْنِي وَالِدَهُ، وَكَانَ لَا يَفْرَقُ أَبَا طَالِبٍ. وَعَنْ ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ إِسْلَامَ خَالِدٍ كَانَ مَعَ إِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ.
وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ فِي (الْأَفْرَادِ) بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنَتِهِ أُمِّ خَالِدٍ قَالَتْ: (أَبِي أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ) . لَكِنْ فِي رِوَايَةٍ عَنْهَا: (كَانَ أَبِي خَامِسًا، سَبَقَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) .
وَعَنْ بَعْضِهِمْ كَمَا حَكَاهُ الْمَسْعُودِيُّ: أَوَّلُهُمْ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ، وَكَأَنَّهُ تَمَسَّكَ بِمَا قِيلَ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ. لَكِنْ رَوَى الْبَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ أَسْلَمَ سَادِسَ سِتَّةٍ. وَعَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِيمَا نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي (أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ) لَهُ: أَوَّلُهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَسْعَدَ الْحِمْيَرِيُّ. وَيَحْتَاجُ هَذَا النَّقْلُ إِلَى تَحْرِيرٍ. وَنَقَلَ ابْنُ سَبُعٍ فِي الْخَصَائِصِ النَّبَوِيَّةِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: (كُنْتُ أَوَّلَهُمْ إِسْلَامًا) . وَهُوَ غَرِيبٌ. وَالْمَعْرُوفُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْأَوَّلُ، لَكِنْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي (التَّقْيِيدِ) : يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مِنَ