الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(463) باب استحباب إصلاح الحاكم بين الخصمين
3947 -
عن همام بن منبه رضي الله عنه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشترى رجل من رجل عقارا له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب. فقال له الذي اشترى العقار خذ ذهبك مني إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب. فقال الذي شرى الأرض إنما بعتك الأرض وما فيها. قال: فتحاكما إلى رجل فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد؟ فقال: أحدهما لي غلام. وقال الآخر: لي جارية. قال: أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسكما منه وتصدقا".
-[المعنى العام]-
رأينا في الباب السابق صورة من التنازع على ما ليس بحق ونرى في هذا الحديث صورة من الورع عن أخذ ما هو بحق وهكذا نجد الإنسانية تنحرف بها الأهواء نحو الظلم والافتراء والبغي تارة وينحو بها الضمير والروح نحو السمو والعلو والترفع والرقي والأمانة الغالية تارة أخرى.
رجلان يبيع أحدهما للآخر دارا بمبلغ من المال قبضه وسلمه الدار وأراد المشتري هدم جدار في الدار فوجد تحته جرة فيها كمية كبيرة من الذهب فذهب المشتري للبائع يقول له: تعال فخذ الجرة وما فيها من ذهب فإنها حقك وملكك لأنني اشتريت منك الدار ولم أشتر منك جرة فيها ذهب قال له البائع ليست الجرة حقي فأنا لم أدفنها ولم أعلم عنها شيئا وقد بعتك الدار وما فيها أرضها ومبانيها وما عساه يكون بداخلها.
فكان لا بد من حكم يقضي من يستحق جرة الذهب فاتجها إلى حكم وعرضا عليه القضية وتحير الحكم لكل من الخصمين وجهة نظر وهما مشكوران على إيثارهما وورعهما وبالغ أمانتهما ومن كان كذلك استحق التقدير والجزاء ماذا يفعل هذا الحكم؟ أيقسم الذهب بينهما؟ وما حيثيات هذا الحكم؟ إذن فليلجأ إلى وسيلة يكافأ بها الرجلان على ورعهما بطريق غير مباشر فسألهما عن أولادهما فوجد أحدهما عنده ولد ووجد الآخر عنده بنت فطلب منهما أن يزوجا الولد للبنت وأن يصرف من المال على العرس وأن يعطي العروسان ما يبقى ينفقان منه حياتهما.
المباحث العربية
(اشترى رجل من رجل عقارا له) أي عقارا يملكه ليس وكيلا عن غيره في البيع والعقار بفتح العين -في اللغة المنزل والضيعة وخصه بعضهم بالنخل ويقال للمتاع النفيس الذي للمنزل عقار أيضا وقال عياض: العقار الأصل من المال وقيل: المنزل والضيعة وقيل: متاع البيت فجعله خلافا والمعروف في اللغة أنه مقول بالاشتراك على الجميع.
والمراد به هنا الدار صرح بذلك في بعض الروايات.
(فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني) هكذا هو في الأصول وفي البخاري فضمير "له" يعود على البائع وقد بعد المرجع لكنه مغتفر حيث حدده المقام.
(ولم أبتع منك الذهب) أي ولم أشتر منك الذهب.
(فقال الذي شرى الأرض) أي الذي باعها كما في قوله تعالى {وشروه بثمن بخس} [يوسف: 20] وهكذا هو في أكثر نسخ مسلم "شرى" وفي بعضها "اشترى" ووهمها القرطبي قال: إلا إن ثبت أن لفظ "اشترى" من الأضداد كشري فلا وهم.
(إنما بعتك الأرض وما فيها) الظاهر أن العقد إنما وقع بينهما على الأرض خاصة فاعتقد البائع دخول ما فيها ضمنا واعتقد المشتري أنه لا يدخل.
(فتحاكما إلى رجل) ظاهره أنهما حكما رجلا غير المنصبين للقضاء لكن في بعض الروايات أنه كان حاكما منصوبا للناس وجزم الغزالي في "نصيحة الملوك" أنهما تحاكما إلى كسرى.
(ألكما ولد) بفتح الواو واللام والمراد الجنس لأنه يستحيل أن يكون للرجلين ولد واحد والمعنى: ألكل منكما ولد؟ ويجوز أن يكون بضم الواو وسكون اللام جمع ولد ويجوز كسر الواو مع سكون اللام أي أولاد.
(فقال أحدهما: لي غلام) في بعض الروايات أن الذي قال: لي غلام هو الذي اشترى العقار.
(أنكحوا الغلام الجارية) في بعض الروايات "اذهبا. فزوج ابنتك من ابن هذا".
(وأنفقوا على أنفسكما منه وتصدقا) هكذا هو في مسلم "على أنفسكما" وعند البخاري "وأنفقوا على أنفسهما منه" وهي أوجه وفي بعض الروايات "وجهزوهما من هذا المال وادفعا إليهما ما بقي يعيشان به".
-[فقه الحديث]-
ذكر البخاري هذا الحديث في كتاب الأنبياء تحت "باب" لم يحدد عنوانه وذكر معه أمورا حدثت قبل الإسلام وقد اختلف العلماء في شرع من قبلنا. هل هو شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يعارضه؟ أو ليس شرعا لنا حتى يرد في شرعنا ما يؤيده؟
أما حكم الإسلام في مثل هذه القضية فيقول الحافظ ابن حجر: لفظ الحديث صريح في أن العقد إنما وقع على الأرض خاصة وأما صورة الدعوى بينهما فوقعت على هذه الصورة وأنهما لم يختلفا في صورة العقد التي وقعت والحكم في شرعنا على هذا في مثل ذلك أن القول قول المشتري وأن الذهب باق على ملك البائع ويحتمل أنهما اختلفا في صورة العقد بأن يقول المشتري لم يقع تصريح ببيع الأرض وما فيها بل بيع الأرض خاصة والبائع يقول: وقع التصريح بذلك والحكم في هذه الصورة أن يتحالفا ويستردا المبلغ وهذا كله بناء على ظاهر اللفظ أنه وجد فيه جرة من ذهب لكن في رواية أن المشتري قال: إنه اشترى دارا فعمرها فوجد فيها كنزا وأن البائع قال له لما دعاه إلى أخذه: ما دفنت ولا علمت وأنهما قالا للقاضي: ابعث من يقبضه وتضعه حيث رأيت فامتنع وعلى هذا فحكم هذا المال حكم الركاز في هذه الشريعة إن عرف أنه من دفين الجاهلية وإلا فإن عرف أنه من دفين المسلمين فهو لقطة وإن جهل فحكمه حكم المال الضائع يوضع في بيت المال. ولعلهم لم يكن في شرعهم هذا التفصيل فلهذا حكم القاضي بما حكم به.
ثم قال: فإن ثبت أنهما تحاكما إلى كسرى ارتفعت هذه المباحث الماضية والمتعلقة بالتحكيم لأن الكافر لا حجة فيما يحكم به. اهـ.
وقد احتج بهذا الحديث من جوز للمتداعين أن يحكما بينهما رجلا وينفذا حكمه فإن ثبت أنه كان حاكما منصوبا للناس فلا حجة فيه لهم وهي مسألة مختلف فيها فأجاز ذلك مالك والشافعي بشرط أن يكون فيه أهلية الحكم وأن يحكم بينهما بالحق سواء وافق ذلك رأي قاضي البلد أم لا واستثنى الشافعي الحدود وشرط أبو حنيفة أن لا يخالف ذلك رأي قاضي البلد وجزم القرطبي بأنه لم يصدر منه حكم على أحد منهما وإنما أصلح بينهما لما ظهر له أن حكم المال المذكور حكم المال الضائع فرأى أنهما أحق بذلك من غيرهما لما ظهر له من ورعهما وحسن حالهما وارتجى طيب نسلهما وصلاح ذريتهما.
ويثور هنا سؤال: أي الرجلين أكثر أمانة؟ البائع؟ أم المشتري؟
وقع في بعض الروايات عن أبي هريرة: لقد رأيتنا يكثر تمارينا -أي جدالنا- ومنازعتنا عند النبي صلى الله عليه وسلم أيهما أكثر أمانة؟
والله أعلم