الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(509) باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها وكراهة الإمارة بغير ضرورة
4148 -
عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة. فإنك إن أعطيتها عن مسألة أكلت إليها. وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها".
4149 -
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال أحد الرجلين: يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل. وقال الآخر مثل ذلك فقال "إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه".
4150 -
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين أحدهما عن يميني والآخر عن يساري. فكلاهما سأل العمل. والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك فقال "ما تقول يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس؟ " قال: فقلت والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما وما شعرت أنهما يطلبان العمل. قال: وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت. فقال "لن أو لا نستعمل على عملنا من أراده. ولكن اذهب أنت يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس" فبعثه على اليمن. ثم أتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه قال: انزل. وألقى له وسادة. وإذا رجل عنده موثق. قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود. قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله. فقال: اجلس نعم. قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله. ثلاث مرات. فأمر به فقتل. ثم تذاكرا القيام من الليل. فقال أحدهما معاذ. أما أنا فأنام وأقوم وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي.
4151 -
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده
على منكبي، ثم قال "يا أبا ذر إنك ضعيف. وإنها أمانة. وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها".
4152 -
عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يا أبا ذر إني أراك ضعيفا. وإني أحب لك ما أحب لنفسي. لا تأمرن على اثنين. ولا تولين مال يتيم".
-[المعنى العام]-
يقول صلى الله عليه وسلم "إنكم ستحرصون على الإمارة" وستتكالبون وتتقاتلون عليها، ويرفع أحدكم السيف على أخيه من أجلها، وفي ذلك ضعفكم وهلاكم، إنكم لا تدركون مخاطرها، ولا تدرون عواقبها، إنكم ستكونون كالفراش يتهافت على الضوء، وفيه احتراقه، أو كالطفل يتعلق بعد الحولين بالرضاعة، ويصعب بعدهما فطامه، ونعمت المرضعة، وبئست الفاطمة، الولاية تبعات، وقل من يتحمل تبعاتها، إنها سلطة وشهوة، وقل من لا يصل إلى الطغيان والجبروت، إنها امتلاك لمصالح العباد ومنافعهم وأضرارهم، وقل من يعدل فيها، ويقيم القسط، ويعطي الحق، ويمنع ما ليس بحق ولو على نفسه، أو الوالدين والأقربين، إنها قوة وقدرة، وقل من يتحكم في قدرته، ويكبح شهوة انتقامه، متذكرا قدرة الله عليه، إنها عرض لا محالة زائل ومنتقل إلى الغير، وقل من يحسب حسابا لما بعدها دنيا وأخرى، إنها هالة من الأضواء، تعمي من بداخلها عن رؤية ما حولها، إنها دائرة محاطة ببطانة الخير وبطانة الشر، تمد كل منهما الأمير بما تريد، فيتحرك على ضوء معلوماتها وبحركتها لا بمعلوماته وحركته وحريته، إنها هدف لآمال قريبة وبعيدة، حقة وباطلة، ورضى الناس غاية لا تدرك، ولهذا جاء في الحديث "الإمارة أولها ملامة" يلومها من لم تتحق له آماله فيها "وثانيها ندامة" حيث يحس بالأخطار حوله "وثالثها عذاب يوم القيامة" حيث إن النجاة من أخطارها صعبة وعسيرة، والعادل فيها من يرجو أن يخرج منها كفافا، لا له ولا عليه، وفي رواية "أولها ندامة" حين يرى نفسه عاجزا عن تحقيق آمال الناس، وحين يرى ثقل حملها "وأوسطها غرامة" إذا أراد أن يؤدي الحقوق، ويتحمل التبعات "وآخرها عذاب يوم القيامة" حين تكون عليه حسرة، حيث لم يقم بحقها، وقل من يقوم بحقها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"القضاة ثلاثة، قاضيان في النار، وقاض في الجنة" فالناجي من أخطارها واحد من ثلاثة.
والكيس من حسب المكسب والخسارة حسابا صحيحا، فلم يحرص عليها، ولم يجر وراءها ولم يسألها، ولم يلح في طلبها، ولم يشترها بدينه، أو بماله، أو بعرضه، أو بكرامته، فإن هو عف عنها، وكان كفأ لها، جاءته وحدها وأعانه الله، وإن سألها، وكان ضعيفا عن أحمالها، فأعطيها، حجبت عنه إعانته عليها، وتركه الله في عثراتها، ومن هنا كانت وصيته صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن
سمرة: لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها" ووصيته لأبي ذر الغفاري، ضعيف البدن، ضعيف الخبرة "إني أراك ضعيفا، وأحب لك ما أحب لنفسي" من جلب الخير ودفع الشر فلا تحرص على الإمارة ولو على اثنين، ولا تكن وليا على مال يتيم.
وكانت سياسته صلى الله عليه وسلم أن لا يولي من يسأل الإمارة، لأن سؤاله جهل بتبعاتها، واستهتار بمسئولياتها، ومثله لا يولى؛ ولأنه لن يعان عليها، ومن لا يعان من الله عليها لا يصلح لها، وطبق صلى الله عليه وسلم هذه السياسة على أبي موسى الأشعري وابني عمه، إذ جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطلب كل من ابني عمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوليه، فقال لهما: "إنا لا نولي من سأل، ولا من حرص، ثم قال: ما تقول يا أبا موسى. قال: والذي بعثك بالحق ما علمت أنهما سيطلبان الولاية، ولو علمت ما وافقت على صحبتهما إليك، فقال له: أنت الأهل بالولاية، والأحق بها منهما. اذهب إلى اليمن بلد قومك واليا عليهم، يقاسمك في ولايتها معاذ بن جبل، فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا. فسارا على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذا يتزاوران، ويقيمان حدود الله وشرائعه، ويعبدان الله في السر والعلن، يصومان النهار، ويقومان الليل، ويرطبان لسانهما في أغلب الأحيان بقراءة القرآن، صورة حية للوالي المسلم المطيع لربه، الدارج على نهج رسوله وتعاليمه، صلى الله عليك وسلم يا رسول الله، ورضي عن أصحابك أجمعين.
-[المباحث العربية]-
(والحرص عليها) أي والحرص على طلب تحصيلها.
(لا تسأل الإمارة) هذا الذي في أكثر طرق الحديث، وفي رواية بلفظ "لا تتمنين" بصيغة النهي عن التمني، مؤكدا بالنون الثقيلة، والنهي عن التمني أبلغ من النهي عن الطلب، والإمارة تشمل الإمارة العظمى، وهي الخلافة والصغرى وهي الولاية على بعض البلاد، والمراد هنا الثاني.
(فإنك إن أعطيتها عن مسألة) الفاء للتعليل، و"أعطيتها" بضم الهمزة، مبني للمجهول، و"عن مسألة" أي عن سؤال.
(أكلت إليها) قال النووي: هكذا هو في كثير من النسخ، أو أكثرها "أكلت" بضم الهمزة، وفي بعضها "وكلت" بالواو المضمومة، قال القاضي: والصواب بالواو، أي أسلمت إليها، ولم يكن معك إعانة، بخلاف ما إذا حصلت بغير مسألة. اهـ. قال الحافظ ابن حجر:"وكلت" بضم الواو، وكسر الكاف مخففا ومشددا، مع سكون اللام، ومعنى المخفف صرفت إليها، ومن وكل إلى نفسه هلك، ومنه في الدعاء "ولا تكلني إلى نفسي" ووكله بالتشديد استحفظه.
(وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) ومن المعلوم أن كل ولاية لا تخلو من مشقة،
فمن لم يكن له من الله عون تورط فيما دخل فيه، وخسر دنياه وعقباه، والأصل في ذلك، "من تواضع لله رفعه الله".
(دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي) من الأشعريين، وجلس بينهما، كما في الرواية الثالثة.
(أمرنا على بعض ما ولاك الله)"أمرنا" بفتح الهمزة وتشديد الميم المسكورة، أي اجعلنا أمراء.
(وقال الآخر مثل ذلك) في الرواية الثالثة "فكلاهما سأل العمل" وعند أحمد "جئناك لتستعين بنا على عملك".
(فقال: ما تقول يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس)؟ شك من الراوي بأيهما خاطبه صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن قيس اسم أبي موسى.
(إنا لا نولي على هذا العمل أحدا سأله، ولا أحدا حرص عليه) يقال: حرص بفتح الراء وكسرها، والفتح أفصح، وبه جاء القرآن، قال تعالى:{وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [يوسف: 103].
(فقلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما وما شعرت أنهما يطلبان العمل) وفي رواية "فاعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قالوا، وقلت: لم أدر ما حاجتهم، فصدقني وعذرني" وفي رواية "لم أعلم لماذا جاءا" وفي رواية "إنهم قالوا لي: انطلق معنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لنا حاجة، فقمت معهم".
(وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت) يقال: قلصت الشفة، بفتح اللام تقلص بكسرها، إذا شمرت وارتفعت. وقصده من ذكر هذه العبارة التوثيق بتذكر الظروف المحيطة بالحديث.
(لن -أو لا- نستعمل على عملنا من أراده) شك من الراوي، وفي الرواية الثانية "إنا لا نولي على هذا العمل أحدا سأله أو حرص عليه" وفي رواية "فقال: إن أخونكم عندنا من يطلبه، فلم يستعن بهما في شيء حتى مات".
(ولكن اذهب أنت يا أبا موسى. فبعثه على اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل)"معاذ بن جبل" بالنصب، أي بعثه بعده، وظاهره أنه ألحقه به بعد أن توجه، وفي الصحيح "بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذا إلى اليمن، فقال: يسرا ولا تعسرا .... " الحديث، ويحمل على أنه أضاف معاذا إلى أبي موسى، بعد سبق ولايته، لكن قبل توجهه، فوصاهما عند التوجه بذلك، ويمكن أن يكون المراد أنه وصى كلا منهما، واحدا بعد الآخر، وفي الصحيح "أنه صلى الله عليه وسلم بعث كل واحد منهما على
مخلاف" أي على إقليم واليمن مخلافان، وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب عدن، وكانت جهة أبي موسى السفلى.
(فلما قدم عليه) في الكلام طي، والفاء عاطفة على محذوف، ففي الصحيح "فانطلق كل واحد منهما إلى عمله، وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه وكان قريبا من صاحبه أحدث به عهدا -أي جدد به العهد بزيارته، فجعلا يتزاوران، فزار معاذ أبا موسى، فلما قدم عليه .... إلخ.
(قال: انزل. وألقى له وسادة) أي انزل عن دابتك، واجلس على الوسادة، ومعنى "ألقى له وسادة" فرشها له، ليجلس عليها، والوسادة ما يجعل تحت رأس النائم، وكانت عادتهم أن من أرادوا إكرامه وضعوا الوسادة تحته، مبالغة في إكرامه.
(وإذا رجل عنده موثق) وعند الطبراني "فإذا عنده رجل موثق بالحديد".
(قال: لا أجلس حتى يقتل) كأن معاذا نزل عن دابته، ووقف، ولم يجلس على الوسادة.
(قضاء الله ورسوله)"قضاء" بالرفع خبر مبتدأ محذوف، ويجوز نصبه بفعل محذوف، أي الزم قضاء الله ورسوله.
(فقال: اجلس نعم، قال: لا أجلس
…
إلخ) أي نعم سنجيب طلبك فاجلس. قال: لا أجلس حتى يقتل.
(ثلاث مرات) أي كررا هذا الكلام ثلاث مرات، أبو موسى يقول: اجلس، ومعاذ يقول: لا أجلس فقوله "ثلاث مرات" من كلام الراوي، لا تتمة كلام معاذ.
(ثم تذاكرا القيام من الليل) في رواية "قال معاذ لأبي موسى: كيف تقرأ القرآن"؟ أي في صلاة الليل؟ وفي رواية "فقال أبو موسى: أقرؤه قائما وقاعدا وعلى راحلتي وأتفوقه" أي ألازم قراءته في جميع الأحوال، شيئا بعد شيء، وحينا بعد حين، مأخوذ من فواق الناقة، وهو أن تحلب، ثم تترك ساعة حتى تدر، ثم تحلب، "كيف تقرأ أنت يا معاذ"؟
(فقال أحدهما معاذ)"معاذ" بدل من "أحدهما".
(أما أنا فأنام وأقوم) أي أجزئ الليل أجزاء، جزءا للنوم، وجزءا للقراءة والقيام.
(وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي) معناه إني أنام بنية القوة، واستجماع النفس للعبادة، وتنشيطها للطاعة، فأرجو في ذلك الأجر، كما أرجو في قومتي، أي في صلاتي وقراءتي، وحاصله أنه يرجو الأجر في ترويح نفسه بالنوم، ليكون أنشط عند القيام، وفي رواية "فاحتسبت نومتي، كما احتسبت قومتي" فهو يطلب الثواب في الراحة، كما يطلبه في التعب.
(ألا تستعملني؟ ) أي ألا تتخذني عاملا على ولاية؟ طلب برفق عن طريق العرض.
(فضرب بيده على منكبي) كأنه يربت على كتفه بيده، علامة على الرفق والحنو والعطف.
(ثم قال: يا أبا ذر: إنك ضعيف) البدن، هزيل الجسم، لا تقوى على متاعب الولاية ومشاقها.
(وإنها أمانة) شاقة التكاليف والتبعات.
(وإنها يوم القيامة خزي وندامة) أي لمن لم يعمل فيها بما ينبغي.
(لا تأمرن على اثنين) بفتح التاء والهمزة، وتشديد الميم المفتوحة وفتح الراء، وتشديد النون المفتوحة، وأصله لا تتأمرن، أي لا تكن أميرا على قوم وإن قلوا.
(ولا تولين مال يتيم) أصله ولا تتولين مال يتيم، فتتحمل بذلك تبعات تعرضك لأثقال الذنوب.
-[فقه الحديث]-
في الحديث النهي عن سؤال الإمارة وطلبها، ومثل الإمارة القضاء والحسبة والوظائف العليا في الدولة، إذا كانت المهمة ولاية أمور المسلمين "لا تسأل الإمارة" وهذا النهي للكراهة، لا للتحريم، وقد علل الحديث هذا الحكم بأن من طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته عليها، من أجل حرصه، ومن المعلوم أن كل ولاية لا تخلو من مشقة، وكل وال معرض للخطأ واتباع الهوى، فمن تولى أمرا ولم يكن له من الله إعانة أساء التصرف، وقد وعد صلى الله عليه وسلم من أعطى الولاية من غير مسألة بالعون من الله عليها، وأوعد من طلبها بحجب الإعانة، وقد جاء تفسير الإعانة وعدمها في حديث أنس رفعه "من طلب القضاء، واستعان عليه" أي على الوصول له "بالشفعاء" والوسطاء "وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه" أو أعطيه لكفاءته بدون مسألة "أنزل الله عليه ملكا يسدده" أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه، وفي معنى الإكراه عليه أن يدعي إليه، فيهابه، خوفا من الوقوع في المحذور، فإنه يعان عليه إذا دخل فيه، ويسدده الله.
فمن كان ذا عقل لم يتعرض للطلب أصلا.
أما الحكمة في عدم تولية من سأل الولاية أن سؤالها غالبا ينشأ عن الحرص على تحصيلها.
وما ذلك إلا لمصلحة شخصية، كثيرا ما تكون على حساب المصلحة العامة، فهو بهذا الوضع متهم، وسؤاله شبهة عدم كفاءته، ولو كان واثقا من كفاءته لجاءته دون سؤال، ثم إن من سألها -كما قلنا- لا يعان عليها، ومن لا يعان عليها من الله لا يكون كفأ، ولا يولي غير الكفء.
وهذا إذا كانت أمور الولايات تجري في مجراها الصحيح، وولي الأمر الأعلى يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، أما إذا اختلت الموازين، وأبعد الأكفاء عن مواقعهم، وقدمت الأحساب والوسائط فللأكفاء أن يطلبوا، وأن يلحوا في الطلب، وأن يكافحوا من أجل وصولهم، فوصولهم حينئذ مصلحة عامة، قبل أن تكون خاصة.
ويمكن حمل حديث أبي داود عن أبي هريرة رفعه "من طلب قضاء المسلمين حتى يناله، ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار" يمكن حمل هذا الحديث على مثل هذه الحالة، وقال الحافظ ابن حجر في الجمع بين حديث أبي هريرة وبين حديث الباب: والجمع بينهما أنه لا يلزم من كونه لا يعان بسبب طلبه أن لا يحصل منه العدل إذا ولي. اهـ. فأطلق عدم العون لكل من سألها. وفي ذلك نظر، كما أوضحنا، ويميل ابن التين إلى هذا، فيقول عن حديث الباب: هو محمول على الغالب، وإلا فقد قال يوسف عليه السلام {اجعلني على خزائن الأرض} [يوسف: 55] اهـ.
والرواية الرابعة "يا أبا ذر. إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها" تؤيد ما ذهبنا إليه، فقد مدحت من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها، والحقوق في مثل زماننا تؤخذ ولا تعطى، أما الضعيف غير الكفء فإن تعرضه لحمل ما يثقل عليه يؤدي به إلى الخزي والندامة، الخزي أمام الخلائق يوم القيامة، حيث يقف ذليلا بعد أن عرفوه عزيزا، والندامة على تفريطه في جنب الله. قال النووي: وهذا أصل عظيم في اجتناب الولاية، ولا سيما لمن كما فيه ضعف، وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية، ولم يعدل، وأما من كان أهلا وعدل فيها فأجره عظيم، كما تظاهرت الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر منها. اهـ.
ومن الأخبار المتظاهرة التي أشار إليها النووي حديث "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل
…
" والحديث الآتي في الباب التالي "إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل
…
".
وفي إرسال أبي موسى إلى اليمن من غير أن يسأل دليل على كفاءته لمهام الأمور والولايات، وأنه كان عالما فطنا حاذقا، ولذلك اعتمد عليه عمر ثم عثمان ثم علي، وأما الخوارج والروافض فطعنوا فيه، ونسبوه إلى الغفلة وعدم الفطنة، لما صدر منه في التحكيم بصفين، قال ابن العربي وغيره: والحق أنه لم يصدر منه ما يقتضي وصفه بذلك، وغاية ما وقع منه أن اجتهاده أداه إلى أن يجعل الأمر شورى بين من بقي من أكابر الصحابة، من أهل بدر ونحوهم، لما شاهد من الاختلاف الشديد بين الطائفتين بصفين، وآل الأمر إلى ما آل إليه. اهـ.
وفي إلقاء أبي موسى الوسادة لمعاذ ليجلس عليها تكريم العلماء، وإكرام الضيف بمثل هذا الاحتفاء.
وفي الرواية الثالثة وجوب قتل المرتد، قال النووي: وقد أجمعوا على قتله، لكن اختلفوا في استتابته، هل يستتاب؟ أو لا؟ فقال مالك والشافعي وأحمد والجماهير من السلف والخلف: يستتاب، ونقل ابن القصار المالكي إجماع الصحابة عليه. وقال طاووس والحسن والماجشون وأبو يوسف وأهل الظاهر: لا يستتاب، ولو تاب نفعته توبته عند الله تعالى، ولا يسقط قتله، لقوله صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه" وقال عطاء: إن كان ولد مسلما لم يستتب، وإن كان كافرا فأسلم ثم ارتد يستتاب، وليس في حديث الباب حجة لمن قال: يقتل المرتد بلا استتابة، لأن عدم الذكر لا يقتضي
عدم الوقوع، حتى رواية "فلم ينزل حتى ضرب عنقه، وما استتابه" فهذه فضلا عن أنها معارضة برواية مثبوتة أن معاذا استتابه يحتمل أنه اكتفى بما تقدم من استتابة أبي موسى له، فقد جاء في بعض الروايات "أن أبا موسى دعاه إلى الإسلام، فأبى عشرين ليلة، أو قريبا منها"، واختلف القائلون بالاستتابة. هل هي واجبة؟ أم مستحبة؟ والأصح عند الشافعي وأصحابه أنها واجبة.
كما اختلفوا في قدرها، والأصح عند الشافعي وأصحابه أنها في الحال فقط، وله قول أنها ثلاثة أيام، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق، وعن علي أنه يستتاب شهرا، واختلفوا في المرأة، وهل هي كالرجل في ذلك؟ أم لا؟ قال الجمهور: والمرأة كالرجل في أنها تقتل إذا لم تتب، ولا يجوز استرقاقها. هذا مذهب الشافعي ومالك والجماهير، وقال أبو حنيفة وطائفة: تسجن المرأة، ولا تقتل، وعن الحسن وقتادة أنها تسترق، وروي عن علي.
قال القاضي عياض: وفي الحديث أن لأمراء الأمصار إقامة الحدود في القتل وغيره، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والعلماء كافة، وقال الكوفيون: لا يقيمه إلا فقهاء الأمصار، ولا يقيمه عامل السواد.
قال: واختلفوا في القضاة، إذا كانت ولا يتهم مطلقة، ليست مختصة بنوع من الأحكام، فقال جمهور العلماء: تقيم القضاة الحدود، وينظرون في جميع الأشياء إلا ما يختص بضبط البيضة من إعداد الجيوش وجباية الخراج، وقال أبو حنيفة: لا ولاية في إقامة الحدود.
وفي بعث معاذ إلى اليمن مع أبي موسى جواز تولية أميرين على البلد الواحد، وقسمة البلدين بين أميرين.
ومما حدث بينهما يستفاد استحباب التزاور بين الإخوان والأمراء والعلماء.
ومن موقف معاذ، وعدم نزوله يستفاد استحباب المبادرة إلى إنكار المنكر.
وإقامة الحدود على من وجبت عليه.
ومن ابتغاء معاذ الأجر في نومه يستفاد أن المباحات يؤجر عليها بالنية، إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة أو المندوبة، أو تكميلا لشيء منهما.
ويستفاد من الرواية الخامسة الحذر من أخطار الإمارة ولو على اثنين.
والحذر من أخطار ولاية مال اليتيم.
وعنون النووي لهذه الرواية الخامسة بباب كراهة الإمارة بغير ضرورة.
والله أعلم.