الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس
الأسبابُ التِي أدّت إِلى تأخُّر الكتابةِ المُتخِصّصةِ في فَضائِلِ القُدسِ، وردُّ بعضِ شُبَهِ المُستَشرِقينَ حولَ قُدسيَّةِ بيتِ المقدِسِ
للدُّكتُورِ: مَحمُود إِبرَاهِيم ـ الأُستَاذِ بِالجَامِعةِ الأُردُنِيّةِ ـ بَحثٌ نَفيسٌ في كِتَابِه (فَضَائلُ بَيتِ المَقدِسِ في مَخطُوطَاتٍ عَرَبِيَّةٍ قَدِيمَةٍ)، أَنقُلُه بِطُولِهِ لِأَهَمّيّتِهِ في هَذِه الدّرَاسَةِ.
يَقُولُ رحمه الله:
«ثَمّةَ أَسئِلةٌ تُطرحُ عن السّبَبِ في تَأَخُّرِ الكِتَابةِ المُتَخصِّصَةِ عن فَضَائِلِ القُدسِ، مَع أَنَّ الذِي يتَوقَّعُه الدّارِسُ لِمَوضُوعِ الكِتَابَةِ في فَضَائِلِ المُدُنِ أَن تَكُونَ القُدسُ، وَهِي ثَالِثُ مَكَانٍ مُقَدّسٍ في الإِسلَامِ، مِن أَوَائِل المُدُنِ التِي يُكتَبُ عن فَضَائِلِهَا. وَسَأطرَحُ فِيمَا يِلِي تَساؤُلَاتٍ وَافتِراضَاتٍ وَرَدَت حَولَ هَذا المَوضُوعِ مِن عَدَدٍ مِنَ الدَّارِسينَ، ثُمّ أُقَدِّمُ بَعضَ اجتِهَادَاتٍ حَولَ تَأَخُّرِ الكِتَابةِ في فَضَائِلِ هَذِه المَدِينَةِ بِصُورَةٍ تَخصُّصِيَّةٍ:
1 -
يَرَى كِستَرُ M. J. Kister أَنّهُ كَانت، قَبلَ القَرنِ الثّانِي الهِجرِيِّ، اتّجَاهَاتٌ لِتَأكِيدِ قُدسِيَّةِ مَكّةَ وَالمَدِينَةِ وَالتّقلِيلِ مِن قُدسِيَّةِ القُدسِ، وَهَذِهِ الاتّجَاهَاتُ، كَمَا قَالَ، تَبدُو في بَعضِ أَحَادِيثَ مُبَكِّرةٍ، لَم تُحفَظ إِلَّا جُزئِيًّا في كُتبِ الحَدِيثِ، ثُمّ يَعزُو إِلَى عَائِشَةَ زَوجِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا يَتَعَلَّقُ بِزِيَارَةِ مَسجِدَي مَكّةَ وَالمَدِينَةِ فَقَط. إِلّا أَنَّ كِستَرَ نَفسَهُ يُقِرُّ أَنّ التَّحَوُّطَ بِالنِّسبَةِ إِلَى
قَدَاسَةِ القُدسِ إِنَّمَا قُصِدَ مِنهُ أَلَّا تَكُونَ مَحَجًّا لِلنَّاسِ مِثلَ مَكَّةَ؛ لِأنَّ بَعضَ المُسلِمِينَ كَادُوا يُسَاوُونَ بَينَ المَسجِدِ الحَرَامِ في مَكّةَ وَالمَسجِدِ الأَقصَى في القُدسِ، وَيستَشهِدُ عَلَى ذَلكَ بِبيتٍ للفَرَزدَقِ يَقُولُ فِيهِ:
وَبَيتَانِ، بَيتُ اللهِ نَحنُ حُمَاتُهُ
…
وَبَيتٌ بِأَعلَى إِيلِيَاءَ مُشَرَّفُ
(1)
ثُمّ يُحاوِلُ أَن يَعزُوَ الأَحَادِيثَ المُتَضَارِبَةَ حَولَ قَدَاسةِ القُدسِ عِندَ المُسلِمِينَ إِلَى جَدَلٍ حَولَ أَفضَلِيَّةِ إِحدَى المَدِينَتَينِ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، وَيَعتَرِفُ بِأنَّ الأَحَادِيثَ التِي تُقَلّلُ مِن أَهَمّيَّةِ القُدسِ لَم تُدَوَّن في كُتُبِ الحَدِيثِ. وَقَد استَعَانَ في عَددٍ مِن الأَحَادِيثِ التِي أَورَدَهَا لِلتّشكِيكِ في مَكانَةِ القُدسِ عِندَ المُسلِمِينَ بِأَحَادِيثَ نَسَبَ رُوَاتَهَا إِلَى الشِّيعَةِ
(2)
.
وَالجَدِيرُ بِالذِّكرِ أَنَّ هَذَا الكَاتِبَ، الذِي أَورَدَ مَا ذَكرنَاهُ في حَولِيَّةٍ بَلجِيكِيَّةٍ، هُوَ مِن مَعهَدِ الدِّرَاسَاتِ الآسيَوِيَّةِ وَالأَفرِيقِيَّةِ في الجَامِعَةِ العِبرِيَّةِ بِالقُدسِ المُحتَلَّةِ.
وَفِي كِتَابَةٍ لَاحِقَةٍ حَدِيثَةٍ لَهُ، يقولُ كِستَرُ إِنّ أحَادِيثَ فَضَائِلِ القُدسِ كَانَت مَعرُوفَةً وَشَائِعةً مُنذُ بِدَايةِ القَرنِ الثَّانِي الهِجرِيِّ؛ إِذ إِنَّ هَذِهِ الأَحَادِيثَ وَرَدت في تَفسِيرِ مُقَاتِلٍ المُتَوفَّى سَنةَ 150 هـ، ـ ثُمّ يقُولُ ـ إِنّ عَددَ هذِه الأَحَادِيثِ سِتُّونَ، وَهِي تَحتَوِي مُعظَمَ العَنَاصرِ المَعرُوفَةِ لَدينَا فِيمَا كُتِبَ عن فَضَائلِ القُدسِ، وَقَد أَورَدَ ابنُ الفَقِيهِ في كِتَابِ (البُلدَانُ) هَذِهِ الأَحَادِيثَ بِرِوَايَةِ مُقَاتِلٍ. وَهُو يَرَى أَنّ مَادّةَ فَضَائِلِ القُدسِ انبَثَقَت في النِّصفِ الثَّانِي مِن القَرنِ
(1)
انظر: (نقائض جرير والفرزدق) ط. ليدن (1907)، (2/ 571).
(2)
انظر: Le Museon، LXXXII، Louvian، 1969، M. J. Kister:"You shall only set out for three mosques": a study of an early tradition، PP 178، 182، 187، 191.
الأَوَّلِ الهِجرِيِّ، وَكُتِبت في النِّصفِ الأَوَّلِ مِن القَرنِ الهِجرِيِّ الثَّانِي، وَأَنّه يُمكِنُ العُثُورُ عَلَى أَحَادِيثِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم في فَضَائلِ القُدسِ في أَوّلِ مَجمُوعَاتِ الأَحَادِيثِ وَالتّفَاسِيرِ القُرآنِيّةِ
(1)
.
2 -
وَيقُولُ إِسحَاقُ حَسُّون Isaac Hasson في المُقَدّمَةِ التِي وَضَعَهَا لِكِتَابِ الوَاسِطِيِّ الذِي قَامَ بِتَحقِيقِهِ في الجَامِعَةِ العِبرِيّةِ مَا مُؤَدَّاهُ أَنَّ حُرمَة القُدسِ لَم يَكُن عَليهَا إِجمَاعٌ عِندَ المُسلِمينَ إِلَّا مُنذُ مَطلَعِ القَرنِ الثَّانِي الهِجرِيِّ، وَيُحاوِلُ كَذلكَ أَن يُظهِرَ أَنهُ كَانت ثَمَّةَ اتِّجَاهَاتٌ لِتَعظِيمِ حُرمَةِ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ وَالتّقلِيلِ مِن حُرمَةِ القُدسِ
(2)
.
ثُمّ يَقُولُ حَسُّونُ في كِتَابَةٍ لَاحِقَةٍ لهُ، إِنَّ عُلَماءَ المُسلِمِينَ لَم يَتّفِقُوا جَمِيعًا عَلَى أَنّ المَسجِدَ الأَقصَى هُو مَسجِدُ القُدسِ، إِذ رَأَى بَعضُهُم أَنَّهُ مَسجِدٌ في السّمَاءِ يَقَعُ مُبَاشَرَةً فَوقَ القُدسِ أَو مَكَّةَ، وَيستَعِينُ في هَذَا الصّدَدِ بِأَقوَالِ كَاتِبٍ فَرَنسِيٍّ هُو دِيمُوبِينَ: M. G. Demmombynes: El-Isra، Mahomet، Paris: 1969، P. 93 ، ثُمّ يَنسِبُ إِلَى بَعضِ الشِّيعَةِ عَدمَ إِضفَاءِ أَيَّةِ قِيمَةٍ خَاصّةٍ عَلَى القُدسِ، وَيُحَاوِلُ بَعدَ ذَلكَ أَن يَعزُوَ الاهتِمامَ بِالقُدسِ وَبِفَضَائِلِهَا إِلَى حُكَّامِ الأُمَوِيِّينَ سَعيًا وَرَاءَ مَكَاسِبَ سِيَاسِيَّةٍ، فَيقُولُ إِنّهُ بُويِعَ لِمُعَاوِيَةَ بِالخِلَافةِ في القُدسِ، وَإِنّهُ هُو الذِي أَسمَى القُدسَ وَبِلَادَ الشَّامِ الأَرضَ المُقَدَّسَةَ، وَإِنّ عَبدَ المَلِكِ بنَ مَروَانَ، بِبنَائِهِ الصّخرَةِ، إِنّمَا كَانَ يَسعَى وَرَاءَ تَحوِيلِ الحَجِّ مِن مَكّةَ إِلَى القُدسِ، وَيقُولُ إِنّ الأَحَادِيثَ الخَاصّةَ بِفَضَائلِ القُدسِ قَد ازدَهَرَت
(1)
انظر: Symposium: Muslim Literature in Praise of Jerusalem، Jerusalem، 1981، PP 185، 186
(2)
انظر (فضائل البيت المقدَس) لأبي بكر محمد بن أحمد الواسطي، تحقيق إسحاق حسون، بمعهد الدراسات الآسيوية والإفريقية في الجامعة العبرية، القدس 1979، (ص: 10).
في هَذِهِ الفَترَةِ، وَإِنَّ هَذِه الأَحَادِيثَ تَستَنِدُ عَلَى أَقوَالِ أَهلِ الكِتَابِ، سَواءٌ مَا كَان مِنهَا نَصًّا مَروِيًّا أَم أُسطُورَةً، كَمَا أَنّ زِيَارَةَ أَمَاكِنَ خَاصَّةٍ في القُدسِ ابتَدَأَت في هذِهِ الفَترَةِ.
وَيَقُولُ بَعدَ ذَلكَ إِنَّ أَوّلَ كِتابٍ مِن كُتبِ الفَضَائلِ خُصِّصَ لِلقُدسِ كَانَ كِتَابَ الخَطِيبِ أَبِي بَكرٍ الوَاسِطِيِّ خَطِيبِ المَسجِدِ الأَقصَى
(1)
، وَقَد ظَهَرَ الكِتَابُ عَامَ 410 هـ، بَينَمَا ظَهرَت كُتبُ فَضَائلَ خَاصَّةٍ بِمُدُنٍ أُخرَى قَبلَ هَذَا التّارِيخِ، وَمِن هَذِه الكُتُبِ: فَضَائِلُ قَزوِينَ، وَعَبَادَانَ، وَوَاسِطٍ، والبَصرَةِ، وَالكُوفَةِ، وجُرجَانَ، وَغَيرِهَا، مَع أَنَّ أَحَادِيثَ مُتَفَرِّقَةً عن فَضَائلِ القُدسِ كَانَت مَعرُوفَةً مِن أَيّامِ الزُّهرِيِّ الذِي تُوُفِّيَ سنةَ 124 هـ.
وَيُفَسّرُ حَسُّونُ هَذَا التَّأخرَ في الكِتَابَةِ المُفرَدَةِ عن فَضَائِلِ القُدسِ، بِأَنّهُ كَانَ نَتيجَةً لِلمَعرَكَةِ التِي قَالَ إِنّهَا كَانت مُحتَدِمَةً بَينَ مُؤَيِّدِي قَدَاسَةِ المَدِينَةِ وَمُنكِرِيهَا. فَبَعدَ سُقوطِ الأُمَويِّينَ، انتَقَلت العَاصِمةُ مِن الشَّامِ إِلَى العِرَاقِ، وتَضَاءَلت مَع هَذَا الانتِقَالِ، كَمَا يَقُولُ حَسُّونُ، أَهَمِيّةُ القُدسِ، وَيَستَشهِدُ عَلَى ذَلكَ بِأَنّ المَنصُورَ عِندَمَا طُلِبَ إليهِ إِرسَالُ الأَموَالِ لِترمِيمِ مَسجِدِ الصَّخرَةِ أَمَرَ بِأَن تُضرَبَ صَفَائِحُ الذّهَبِ والفِضّةِ التِي عَلَى أَبوَابِ المَسجِدِ لِيُنفَقَ مِنهَا عَلَى التّرمِيمِ. ثُم يُسَلِّمُ هَذا الكَاتِبُ اليَهُودِيُّ دُونَ تَرَدُّدٍ بِأَنّ تَاجَ كِسرَى وَقَرنَي كَبشِ إِبرَاهِيمَ كَانَت في المَسجِدِ الأَقصَى، ثُمّ نُقِلت زَمَنَ العَبّاسِيِّينَ مِنَ القُدسِ إِلَى الكَعبَةِ!
وَيُوَافِقُ حَسُّونَ عَلَى مَا قَالَ بِهِ أَحَدُ بَنِي قَومِهِ سِيفَانُ Sivan ، مِن أَنَّ كِتَابَي الوَاسِطِيِّ وَأَبِي المَعَالِي المَقدِسِيِّ عن فَضَائِلِ القُدسِ قَد كُتِبَا بَعدَ حَملةِ اضطِهَادٍ
(1)
سبق الرد على ذلك بأن الوليد بن حماد الرملي (توفي قبل الثلاث مئة) له كتاب في الفضائل. (عمرو)
قَامَ بِهَا الحَاكِمُ بِأَمرِ اللهِ الفَاطِمِيُّ ضِدّ المَسِيحِيِّينَ، وَقَد استَعَانَ كَذَلكَ في هَذَا الصَّدَدِ بِفَرضِيَّةِ جُوِيتِينَ Goitein القَائِلَةِ بِأَنّ مَسجِدَ الصّخرَةِ قَد بُنِيَ لِيُنَاظِرَ مَبَانِيَ الكَنَائسِ المَسِيحِيَّةِ. ثُمَ يَجنَحُ إِلَى فَرضِيَّةٍ غَرِيبةٍ جِدًّا، مُؤَدَّاهَا أَنّهُ في سَنَةِ 407 هـ وَقَعت قُبّةُ الصّخرَةِ، وَأنَّ خَطِيبَ المَسجِدِ
(1)
قَد جَمَعَ عَلَى أَثرِ ذَلكَ الأَحَاديثَ وَالرّوَايَاتِ المُتَعَلّقَةَ بِفَضَائِلِ القُدسِ مِن أَجلِ جَمعِ الأَموَالِ بُغيَةَ إِعَادَةِ بِنَاءِ المَسجِدِ وَتَرمِيمِهِ، وَأَنّهُ قَد تَشَجّعَ عَلَى الرّبطِ بَينَ القُدسِ وَكُلٍّ مِن مَكّةَ وَالمَدِينَةِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ لِلرُّكنِ اليَمَانِيّ في الكَعبَة مِن تَصَدُّعٍ وَمَا أَصَابَ أَحدَ الأَسوَارِ الخَارِجِيّةِ لقَبرِ الرّسُولِ عليه السلام مِن سُقُوطٍ في السّنَةِ نَفسِهَا 407 هـ.
وَيَدَّعِي حَسُّونُ بَعدَ ذَلكَ أَنّ مُعَاوِيَةَ هُو الذِي أَشَاعَ عن القُدسِ أَنّهَا أَرضُ المَحشَرِ وَالمَنشَرِ، ثُمّ يَتَصَوّرُ أَنّ رَدّ صَعصَعَةَ بنِ صُوحَانٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ ـ عِندَمَا قَالَ مُعَاوِيَةُ لَهُ وَلأَصحَابِهِ: «
…
وَقَدِمتُم الأَرضَ المُقدّسَةَ، وقَدِمتُم أَرضَ المَحشَرِ وَالمَنشَرِ»، بِقَولِهِ: «إِنّ الأَرضَ لَا تُقَدَّسُ، لَكِنَّ أَهلَهَا يُقَدِّسُونَهَا
…
وَإِنّ بُعدَ الأَرضِ لَا يَنفَعُ كَافِرًا وَلَا يَضُرُّ مُؤمِنًا». ـ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ هُو الذِي ابتَدَعَ هَذا الوَصفَ لِأرضِ القُدسِ وَفِلسطِينَ.
ثُمّ يُورِدُ مِن أَجلِ التّقلِيلِ مِن مَكَانَةِ القُدسِ عِندَ المُسلِمِينَ قِصَّةَ حَدِيثِ أَبِي عُبَيدَةَ قَبلَ وَفَاتِه، عِندَمَا طَلَبَ هَذَا الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ أَوّلًا أَن يُدفَنَ في الأَرضِ المُقَدّسةِ غَربَي النَّهرِ ـ فِلسطِين ـ، ثُمّ عَادَ وَطَلبَ أَن يُدفَنَ حَيثُ يَمُوتُ؛ لِكَيلَا يُصبِحَ دَفنُ قَادَةِ المُسلِمينَ في أَرضِ فِلسطِين سُنَّةً مُتَّبَعَةً.
(1)
يقصد بذلك أبا بكر الواسطي صاحب كتابنا هذا فقد كان خطيب المسجد الأقصى. (عمرو)
وَفِي سَبِيلِ بُلُوغِ الهَدفِ ذَاتِهِ ـ التَّقليلِ مِن مِكَانَةِ القُدسِ في الإِسلَامِ ـ، يَقُولُ حَسُّونُ إِنّ كُتبَ الجَرحِ وَالتَّعدِيلِ، وَكُتبَ الرِّجَالِ، وُكُتبَ المَوضُوعَاتِ مِن الأَحَادِيثِ لَم تَتَقَبّل الأَحَاديثَ المُتَعَلِّقَةَ بَفَضَائلِ المُدُنِ وَالأَمصَارِ.
وَبَعدَ ذَلكَ يُورِدُ بِصُورَةٍ مُطَوّلَةٍ مَوَادَّ مِن رِسَالَةِ ابنِ تَيمِيَةَ المُسَمَّاةِ (قَاعِدَةٌ في زِيَارَةِ بَيتِ المَقدِسِ) لِيَستَخلِصَ مِنهَا أَنَّهُ لَم تَكُن لِلقُدسِ تِلكَ المَكَانَةُ العَظِيمَةُ عِندَ المُسلِمِينَ
(1)
.
وَهُنَا يَنبَغِي أَن يُذكَرَ أَنّ صَاحِبَ هَذِه الأَقوَالِ هُو أَيضًا مِن العَامِلِينَ في مَعهَدِ الدِّرَاسَاتِ الآسيَوِيَّةِ وَالأَفرِيقِيَّةِ في الجَامِعَةِ العِبرِيَّةِ بِالقُدسِ في أَرضِ فِلسطِينَ المُحتَلَّةِ.
3 -
أَمّا تَشَارلز مَاثيُوز الأَمرِيكِيُّ فَإِنّهُ لَم يُحَاوِل أَن يَنفِيَ صِفَةَ القَدَاسَةِ عِندَ المُسلِمِينَ لِمَدينَةِ القُدسِ في أَيِّ وَقتٍ مِن الأَوقَاتِ أَو أَن يُوحِيَ بِأَنّ الأُمَوِيِّينَ هُمُ الذِينَ أَضفَوا عَلَيهَا مَكَانَةَ قَدَاسَةٍ خَاصَّةٍ، إِلّا أَنّه مَعَ ذَلكَ ذَكَرَ أَنّ مِمّا زَادَ مِن تَقدِيسِ المُسلِمِينَ لِفِلسطِينَ مَا فَعلَهُ عبدُ المَلِكِ بنُ مَروَانَ، وَذَلكَ عِندَمَا بَنَى قُبَّةَ الصَّخرَةِ لِمَنعِ الحُجَّاجِ مِنَ الحَجّ إِلَى مَكّةَ زَمَنَ ابنِ الزُّبَيرِ، وَيَستَشهِدُ مَاثيُوز بِمَا أَورَدَهُ المُؤَرِّخُ اليَعقُوبِيُّ مِن أَنّ الحُجّاجَ أخَذُوا يَطُوفُونَ بِالصّخرَةِ كَمَا كَانُوا يَطُوفُونَ بِالكَعبَةِ، وَأنَّ هَذِه العَادَةَ بَقِيت طِيلَةَ حُكمِ الأُمَوِيِّينَ، وَلَو أَنّه يَستَدرِكُ بَعدَ ذَلكَ فَيقُولُ إِنّهُ لَم يَكُن بِالإِمكَانِ تَحوِيلُ الحَجِّ عن مَكّةَ وَعَن زِيَارَةِ الَمدِينَةِ، غَيرَ أنَّ الكَثِيرِينَ مِن المُؤمِنِينَ بَقوا يَنجَذِبُونَ نَحوَ فِلسطِينَ لِزِيَارَةٍ أقَلَّ شَأنًا مِن الحَجِّ. ثُم يُضِيفُ أَنّ تَعَلُّقَ المُسلِمينَ بِفِلسطِينَ قَد ازدَاد
(1)
انظر: Symposium: Muslim Literature in Praise of Jerusalem، PP 169 - 176.
بَعدَ أَن احتَلَّهَا الصَّلِيبِيُّونَ مُؤَقّتًا، وَذَلكَ بِسبَبِ جِهَادِ المُسلِمِينَ مِن أَجلِ استِعَادتِها، وَأَنّ رَدّةَ الفِعلِ الإِسلَامِيّةِ لِحَمَلاتِ الصَّلِيبِيِّينَ، كَانَت عَامِلًا في تَطَوُّرِ أَدَبِ الفَضَائلِ الخَاصِّ بِالقُدسِ وَفِلسطِينَ
(1)
.
4 -
وَيَتسَاءَلُ إِيمَانيِوُل سِيفَانُ Emanuel Sivan عن سَبَبِ تَجَاوزِ القُدسِ في التَّوَارِيخِ المَحَلّيّةِ لِلمُدنِ وَكُتبِ الفَضَائِلِ التِي أُلِّفَت في فَترَةٍ مُبَكِّرَةٍ، وَلَاسِيّمَا أَنّ القُدسَ قَد أَحَاطت بِهَا هَالَةٌ منَ القَدَاسَةِ مُنذُ عَهدِ الأُمَويِّينَ، كَمَا يَقُولُ هُو، بِصَفَتِهَا ثَالِثِ مُدنِ الإِسلَامِ قَدَاسةً بَعدَ مَكّةَ وَالمَدِينَةِ، وَيَنتَهِي إِلَى القَولِ بِأنّ القُدسَ لَم تَحتلّ في ضَمِيرِ العَالَم الإِسلَامِيِّ المَكَانَةَ التِي يُمكِنُ أَن يَخلُصَ إِليهَا المَرءُ مِن خِلَالِ الأَحَادِيثِ النَّبَوِيّةِ التِي تُروَى في امتِدَاحِهَا، وَالتِي تَرجِعُ إِلى القَرنِ الثَّانِي الهِجرِيِّ وَمَا بَعدَهُ، وَيَقُولُ إِنّ قَدَاسَةَ القُدسِ كَانت شَائِعَةً فَقَط بَينَ سُكّانِ القُدسِ وَالمنطِقَةِ المُحِيطَةِ بِها مُبَاشَرةً، وَإِلَى حَدٍّ مَا، بَينَ سُكّانِ فِلسطِينَ وَبِلَادِ الشَّامِ، ـ ثُمّ يَقُولُ ـ إِنّ مَا يُؤيِّدُ وِجهَةَ نَظَرِهِ هَذِهِ مَا لَاحَظَهُ الرَّحَّالَةُ الفَارِسِيُّ نَاصِر خِسرُو، مِن رِجَالِ القَرنِ الخَامسِ الهِجرِيِّ، فِيمَا يَتعَلّقُ بِنَوعِيّةِ الحُجَّاجِ الذِينَ كَانُوا يَأتُونَ إِلَى القُدسِ. وَيزعُمُ بَعدَ ذَلكَ أَنَّ الأَوسَاطَ السُّنِّيَّةَ في الإِسلَامِ لَم تُبدِ حَمَاسًا لتَحرِيرِ المَدِينَةِ مِنَ الفِاطِمِيِّينَ عَلَى أَيدِي السَّلَاجِقَةِ السُّنِّيِّينَ، كَمَا لَم يَكُن ثَمَّةَ صَدًى لِإِعَادةِ احتِلَالِ الفَاطِمِيِّينَ لَهَا سَنةَ 1098 م، ثُمّ احتِلَالِ الفِرنجَةِ لَهَا سنةَ 1099 م!!
(1)
انظر: Charles Matthews: "The Moslem World - رضي الله عنه ، Vol. XXXIII، No .. 4، October، 1943، - رضي الله عنه Palestine - رحمه الله Mohammedan Holy Land - رضي الله عنه الله PP 245، 246 تحية طيبة وبعد
وَالغَرِيبُ أَنَّ سِيفَانَ يَعودُ بَعدَ ذَلكَ لِيَقُولَ إِنّ احتِلالَ الصَّلِيبِيِّين لِلقُدسِ أَثَّرَ عَلَى كِتَابةِ كِتَابِ الفَضَائِلِ خِلَالَ النّصفِ الأَوّلِ مِن القَرنِ السَّادسِ الهِجرِيِّ، وَأَنهُ لَم يَكن مِن قَبيلِ المُصَادَفةِ أَنَّ سَماعَ قِرَاءَاتِ الكُتبِ المُتَعلِّقَةِ بِفَضَائلِ القُدسِ قَد بَدَأَ يَظهَرُ بَعدَ رَدَّةِ الفِعلِ الإِسلَامِيّةِ زَمنَ الزِّنكِيِّينَ. ثُم يَقولُ إِنَّ عِمادَ الدِّينِ زِنكِيّ قَامَ بِحملَةِ دِعَايةٍ قَوِيّةٍ بِشأنِ القُدسِ، وأَنّ استعَادَتَهَا كَانت تُمَثّلُ الهَدفَ النِّهائِيَّ لِرَدَّةِ الفِعلِ الإِسلَامِيّةِ. وَقَد ازدَادت هَذِه الحَملةُ زَمنَ ابنِه نُورِ الدِّينِ، مِمّا نَشأَ عَنهُ زِيادَةُ الاهتِمَامِ بِكُتبِ فَضَائلِ القُدسِ في دَوائِرِ الحُكَّامِ وَفِي الرّأيِ العَامِّ عَلَى السَّوَاءِ، وَلِذَا فَقد أُضفِيَت
(1)
كُتبٌ جَديدَةٌ إِلى كُتبِ القَرنِ السّادسِ الهِجرِيّ، وزَادَ في الحَفزِ عَلَيهَا حَرَكةُ الجِهادِ، مِمّا تَأَتَّى عَنهُ ازدِهارُ هَذا النَّوعِ مِن الأَدبِ في جَمِيعِ أَرجَاءِ الشَّرقِ الأَوسَطِ، وَقد اضطَلَعَ هَذَا الأدبُ بِدورٍ مُهِمٍّ خِلالَ قَرنٍ وَنِصفٍ مِن بدءِ رَوَاجِهِ
(2)
.
ويُترَكُ لِلقَارِئِ مُلاحَظَةُ التَّنَاقضِ فِيمَا أَورَدَهُ هَذَا الكَاتِبِ في المَجَلّةِ اليَهُودِيّةِ المَعنِيَّةِ بِالدّرَاساتِ الشّرقِيّةِ.
بَل ثَمّةَ دَليلٌ آخرُ عَلَى التّناقُضِ في أقوالِ هَذَا الكَاتِبِ، عِندَمَا نُقَارنُ مَا قَالَه حَولَ عَدمِ استِثَارَةِ الحَمَاسِ لَدَى المُسلِمِينَ بَعدَ أَن احتَلَّ الفِرِنجُ القُدسَ، وَقولَهُ في مَكانٍ آخرَ مِن بحثِهِ في المجَلّةِ اليَهُودِيّةِ في مَعرِضِ حَدِيثِهِ عن كِتَابِ الوَاسِطِيِّ عن فَضَائِلِ القُدسِ إِنَّ إِجَازَةَ السّمَاعِ التِي وُجدَت عَلَى مَخطُوطَةِ هَذَا الكِتَابِ في مَكتَبةِ أَحمد بَاشَا الجَزّارِ في عَكّا ـ وَالنُّسخَةُ تَرجِعُ إِلَى مَا قَبلَ شَهرٍ
(1)
كذا، والصواب: أضيفت. والله أعلم. (عمرو)
(2)
انظر: " Israel Oriental Studies"، Jan . 1971، "The Beginnings of The Fadail al-Quds Literature"، P 265.
مِن فَتحِ صَلَاحِ الدّينِ لِلقُدسِ ـ تُظهِرُ أَنّ فُقَهاءَ دِمَشقَ قَد استَعمَلُوا مَسجِدَ عَكَّا لِتنمِيةِ الإِحسَاسِ بِقدَاسَةِ القُدسِ وَلِإِعدَادِ الرَّأيِ العَامِّ الإِسلَامِيِّ للاستِعادَةِ الوَشِيكَةِ للمَدِينَةِ المُقَدّسَةِ
(1)
.
5 -
أمَّا المُستَشرِقُ الرُّوسِيُّ أَغنَاطيُوس كرَاتشُكُوفِسكِي، فَإنّهُ يُلمّحُ إِلَى أَنَّ مَا أَسمَاهُ الأَدبَ الجُغرافِيَّ المُرتَبطَ بِفِلسطِينَ وَبِلادِ الشَّامِ ـ وَعَلى رَأسِ هَذَا الأَدبِ أَدبُ فَضَائلِ القُدسِ طَبعًا ـ يَرتَبطُ ارتِبَاطًا وَثيقًا في جَميعِ مَراحِلِه بِمَا أَسمَاهُ حَركةَ التّحرِيرِ التِي تَرجِعُ إِلَى عَهدِ صَلاحِ الدِّينِ أَو إِلَى مَا قَبلِ ذَلكَ بِقليلٍ، وَتَنتَهِي الفَترةُ الأُولَى لِهَذهِ الحَركةِ بِاستِردادِ عَكَّا وَطَرَابُلسَ في أَوَاخِرِ القَرنِ الثَّالِثِ عَشرَ المِيلَادِيِّ = أَوَاخِرِ القَرنِ السّابعِ الهِجرِيِّ. ثُم يَقولُ إِنّ هَذا الأَدبَ انتَعشَ فَترةً أُخرى بَعد أَن قَضَى المَمَاليكُ عَلى دَولَةِ أَرمِينيَا وَضَمُّوهَا إِلَى مِصرَ سَنةَ 1375 م. ثُمّ نَمَا الأَدبُ الجُغرافِيُّ عن فِلسطِينَ نُمُوًّا غَيرَ عَادِيٍّ في القَرنَينِ الرّابِعِ عَشرَ وَالخَامِسِ عَشرَ المِيلَادِيّينِ = القَرنَينِ الثّامِنِ وَالتّاسِعِ الهِجرِيّينِ، وَهُو لَيسَ بِجَديدٍ إِذ أَنّه يَرتبِطُ بتَقَاليدَ أَدبِيّةٍ قَديمَةٍ جِدًّا
(2)
.
6 -
يَنقُلُ جُوِيتِينَ Goitein عن جُولد زِيهَر المُستَشرِقُ المَجَرِيُّ ـ دُونَ أَن يُقِرَّهُ عَلَى مَا كَتَبه ـ أَنّ عَبدَ المَلكِ بنَ مَروَانَ قَد أَرادَ بِبِنَائِه قُبّةَ الصّخرَةِ أَن يُحوّلَ الحَجّ إِلَى القُدسِ بَدَلًا مِن مَكّةَ زَمنَ ثَورةِ عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ وَذلكَ اتّكَاءً عَلَى حَديثٍ رَواهُ الزُّهرِيُّ عن قُدسِيَّةِ مَكّةَ وَالمَدِينَةِ وَالقُدسِ. وَيَنقُلُ كَذلكَ مَا ادَّعَاه هَذا المُستَشرِقُ المَجَرِي مِن أنّ الأَحَاديثَ الخَاصّةَ بِقَداسَةِ القُدسِ لَم
(1)
انظر: " Israel Oriental Studies"، Jan. 1971، PP. 263، 264.
(2)
انظر: «تاريخ الأدب الجغرافي العربي» ، تأليف أغناطيوس كراتشكوفسكي، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، القاهرة 1965، (2/ 507).
تَكُن إِلّا أَسلِحةً في الحَربِ التِي كَانَت دَائرَةً بَينَ عَبدِ المَلكِ وَعبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ، وَمِن أَنّ استدَارةَ مسجِدِ الصَّخرَةِ إِنّما قُصِدَ بِهَا أَن يكُونَ المَسجِدُ مُلائمًا لِلطَّوَافِ بِه
(1)
.
7 -
وَالرِّوَايةُ التِي اعتَمَدَ عَليهَا جُولد زِيهَر بِقصدِ الإِيحَاءِ أَنَّ الأُمَويّينَ هُم الذِينَ أَرادُوا أَن يُشِيعُوا في النّاسِ قَدَاسةَ القُدسِ لأَسبابٍ سِياسِيّةٍ تَعتَمدُ عَلَى مَا أَورَدَه المُؤَرّخُ اليَعقُوبِيُّ، مِن أبناءِ القَرنِ الثّالِثِ الهِجرِيِّ، ـ وَهيَ رِوَايَةٌ سَيَتبيّنُ بُطلانُهَا فِيمَا نَستقبِلُ مِن الصّفَحاتِ اللّاحقةِ ـ. قَالَ اليَعقُوبِيُّ:«وَمَنَعَ عبدُ الملكِ أهلَ الشَّامِ مِن الحَجّ؛ وِذلكَ أنّ عبدَ اللهِ بنَ الزُّبيرِ كَانَ يَأخُذُهُم إِذَا حَجُّوا بِالبَيعَةِ، فَلَمّا رَأى عبدُ الملكِ ذَلكَ مَنَعَهُم مِن الخُرُوجِ إِلَى مَكّةَ، فَضَجّ الناسُ وقَالُوا: تَمنَعُنَا مِن حَجّ بَيتِ اللِه الحَرَامِ وَهُو فَرضٌ عَلَينَا؟! فَقالَ لَهُم: «هَذَا ابنُ شِهابٍ الزُّهريُّ يُحَدّثُكُم، أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسجِدِ الحَرَامِ، وَمَسجِدِي، وَمَسجِدِ بَيتِ المَقدِسِ» . ـ ثُمَّ قَالَ عبدُ المَلكِ: ـ وَهُوَ ـ أَي: بيتُ المَقدِسِ ـ يَقومُ لَكُم مَقامَ المَسجِدِ الحَرَامِ، وَهذِه الصَّخرةُ التِي يُروَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ وَضعَ قَدمَه عَليهَا لَمّا صَعَدَ إِلى السَّماءِ تَقُومُ لَكُم مَقامَ الكَعبةِ». فَبنَى عَلَى الصّخرَةِ قُبَّةً، وَعلَّق عَليهَا سُتُورَ الدِّيبَاجِ، وَأقَام لَهَا سَدَّنَةً، وَأخذَ النَّاسَ بِأَن يَطُوفُوا حَولَهَا كَما يَطُوفُونَ حَولَ الكَعبَةِ، وأَقامَ بذَلكَ أيّامَ بَنِي أُميَّة»!
(2)
.
(1)
انظر:" Journal Of the American Oriental Society،" Vol. LXX 1950: "The Historical Background Of The Erection of the Dome Of The Rock"، P. 104.
(2)
انظر: تاريخ اليعقوبي، لمؤلفه أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب الكاتب، المعروف بابن واضح الأخباري، المتوفّى بعد 292 هـ، نشر النجف 1358 هـ. (3/ 827).
8 -
جَاءَ في الموسُوعَةِ الإِسلامِيّةِ Encyclopaedia Of Islam تَحتَ كَلِمَةِ Al-Kuds أنّه رُبّما كَانَ الرّسُولُ صلى الله عليه وسلم يَظُنّ أَنّ المَسجِدَ الأَقصَى مَكَانٌ في السّمَاء! وَفِي هَذَا بِالطّبعِ مُحاوَلَةٌ مِن كَاتِبِ المَادّة في المَوسُوعَةِ لِأَن يُشَكّكَ في أَنّ المَسجِدَ الأَقصَى المَذكُورَ في الآيةِ الأُولَى مِن سُورَةِ الإِسرَاءِ هُو مَكَانٌ في القُدسِ، وَبالتّالِي فَهُو يُحاوِلُ أَن يَنفِيَ عن القُدسِ سَببًا مِن أَهَمّ أَسبَابِ نَظرَةِ القَدَاسَةِ الإِسلَامِيّة إِليها. ثُمّ يُورِدُ الكَاتِبُ نفسُهُ بَعدَ ذَلكَ قِصّةَ مَنعِ عَبدِ المَلكِ بنِ مَروَانَ الشّامِيِّينَ مِنَ الحَجِّ إِلَى مَكّةَ خِلَالَ ثَورَةِ عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ، وَأنّه أَمَرَهُم بِالحَجّ إِلَى القُدسِ اتِّكَاءً عَلى حَدِيثِ الزُّهرِيِّ الآنِفِ الذِّكرِ، وَيُضيفُ أَنّ عبدَ المَلكِ بَنَى قُبّةَ الصّخرَةِ مِن أجلِ أَن يُطَافَ حَولَهَا وَلِإضفَاءِ سِمَةِ القَدَاسَةِ عَلَى المَدِينَةِ وَلِكَي تُضَاهِي القُدسُ مَكَّةَ في شَرعِيَّة الحَجِّ إِليها. ثُمّ أعَادَ الكَاتِبُ ـ وَهُو بُوهلُ F. Buhl ـ قِصّةَ مُبَايَعَةِ الخَلِيفَةِ الأُمَوِيِّ الأَوّلِ مُعَاوِيةَ في
…
القُدسِ
(1)
.
إِذ يُكتَفَى بِهَذا الذِي أُورِدَ مِن أَقوَالٍ ـ وَمُعظَمُهَا لِكُتَّابٍ مِن اليَهُودِ، تُحاوِلُ أَن تُفَسِّرَ بِصُورَةٍ مُبَاشِرةٍ أَو غَيرِ مُبَاشِرَةٍ تَأَخُّرَ الكِتَابةِ عن فَضَائِلِ القُدسِ في كُتبٍ مُستَقِلَّةٍ ـ فَقد يَكونُ مِن المُفِيدِ أَن تُوجَزَ حُجَجُ أَصحَابِهَا في العَنَاصِرِ التّالِيَةِ المُكَثَّفَةِ:
أ- إِنَّ مَكَانةَ القُدسِ في الإِسلَامِ كَانت مَوضِعَ خِلَافٍ بَينَ المُسلِمِينَ الأَوَائِلَ.
ب- إِنَّ مَا رُويَ مِن أحَاديثَ عن قَداسَةِ القُدسِ كَانت مَوضِعَ شَكٍّ عِندَ كَثيرٍ مِن المُسلِمِينَ.
(1)
انظر:" Encyclopnedin of Islam،" 2 pt. 2، PP. 1079، 1098
جـ- إِنَّ عَوامِلَ سِيَاسِيّةٍ دَاخِليّةٍ وَخَارِجِيّةٍ هِي التِي حَفّزَت عَلى إِضفَاءِ صِفَةِ القَدَاسَةِ عَلَى المَدِينةِ، وَمِن هَذهِ العَوَامِلِ مَثَلًا حِرصُ بَنِي أُمَيّةَ عَلَى أَن يُجَنِّبُوا النّاسَ الحَجَّ إِلى مَكّةَ خِلَالَ ثَورَةِ عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ لِكَيلَا يَنحَازُوا إِلَيهِ. وَمِنهَا الاحتِلَالُ الصَّلِيبِيُّ للقُدسِ، وَمَا نَشَأَ عَنهُ مِن رَدَّةِ فِعلٍ لَدى المُسلِمِينَ، وَكَذلكَ استِعَادةُ القُدسِ عَلَى يَدِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَمَا تَركَتهُ مِن استِثَارَةٍ شُعُورِيَّةٍ في نُفوسِ أَبناءِ العَالَمِ الإِسلَامِيِّ.
د- وَقَد يُضَافُ إِلَى ذَلكَ، وَمِمّا يَرتبطُ بِه أَيضًا، أَنَّ دُوَلًا إِسلَامِيّةً، أَو مَذَاهِبَ إِسلَامِيّةً مُعَيّنةً، هِي التِي أَنزلَت القُدسَ مَنزِلَةً عَظِيمَةً في الإِسلَامِ، دُونَ دُولٍ إِسلَامِيّةٍ أُخرَى أَو مَذَاهِبَ إِسلَامِيةٍ أُخرَى لَم تَعتَرف لِلمَدينَةِ بِهذِهِ المَنزِلَة.
أَمّا بِالنّسبَةِ إِلَى مَنزِلَة القُدسِ التِي أُنزِلَتهَا مَدينةُ القُدسِ عِندَ المُسلِمِينَ في أَبكَرِ عُهُودِ الإِسلامِ، فَإِنّ اتّخَاذَ هَذه المَدِينةِ قِبلَةً لِلمُسلِمينَ مُدّةَ سِتَّةَ عَشرَ شَهرًا أَو سَبعةَ عَشرَ شَهرًا بَعدَ هِجرةِ المُسلِمينَ إِلَى المَدِينةِ
(1)
يَقومُ دَلِيلًا لَا يُنقَضُ عَلَى مَكَانَتِهَا لَدَى المُسلِمينَ مُنذُ زَمنِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام.
وَمِمّا يَتّصلُ بِهذِه الحِقبَةِ المُبَكّرةِ جِدًّا مِن تَارِيخِ الإِسلامِ بِالنِّسبَةِ إِلَى مَكَانةِ القُدسِ عِندَ المُسلِمينَ حَادِثُ الإِسرَاءِ بِرسُولِ الإِسلَامِ - صَلواتُ اللهِ عليهِ - مِن مَكّةَ إِلَى القُدسِ، ثُمّ مِعرَاجِه مِن القُدسِ إِلى السّمَاءِ. وَقَد وُثِّقَت هَذِه الرِّحلَةُ العَجِيبَةُ تَوثِيقًا خَالِدًا في الآيةِ الأُولَى مِن سُورَةِ الإِسرَاءِ:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ .. الآية} .
(1)
انظر في ذلك: مخطوطة «فضائل بيت المقدس والخليل عليه الصلاة والسلام وفضائل الشام» للمشرّف بن المرجّى المقدسيّ، صورة مخطوطة توبنجن (ص: 94).
فَالمَسجِدُ الأَقصَى مِن القُدسِ قَد أُسريَ بِالنّبِيِّ إِلَيهِ، وَالأَرضُ التِي ضَمَّت الأَقصَى وَامتَدّت حَولَهُ هِيَ أَرضٌ مُبَارَكَةٌ في الإِسلَامِ بِحُكمِ نَصِّ القُرآنِ الكَرِيمِ مُنذُ أَن تَنَزّلت آيةُ الإِسراءِ.
أَمّا مَا وَردَ مِن أَقوَالٍ سَابِقَةٍ ـ مِن أَنّ المَسجِدَ الأَقصَى لَم يَكُن في القُدسِ، وَإنَّما هُو مَكانٌ تَصَوّرهُ الرسولُ في السّمَاءِ ـ فَقَولٌ لَم يَأخُذ بِه أَو يَتَقَبَّلهُ أَو يَقُلهُ أَحدٌ مِن المَسلِمينَ مُنذُ أَن تَنزّلت آيةُ الإِسرَاءِ وَإِلَى يَومِنَا هَذَا، وَمَا فُسّرت بِه الآيةُ القُرآنِيّةُ، وَمَا أَخذَ بِه المُسلِمونَ مُنذُ أَن تَنَزّلت في تَفسِيرَاتِهم وَفِي نَظرَتهِم إِلَى القُدسِ وَإِلى صَخرَةِ القُدسِ التِي عُرجَ بِالرَّسُولِ مِنهَا يَنفِيَانِ بِصُورَةٍ قَاطِعَةٍ أَيَّ تَصَوُّرٍ لِلرّسُولِ عليه السلام أَو لِأتبَاعِهِ بِأَنّ المَسجِدَ الأَقصَى مُجَرّدَ تَخَيُّلٍ في السّمَاءِ، وَلَيسَ عَلَى الأَرضِ وَفِي مَدِينةِ القُدسِ عَلَى وَجهِ التَّحدِيدِ.
عَلَى أَنّ عَددًا مِن مُفَسّري القُرآنِ الكَريمِ لَم يَقتَصِرُوا عَلَى آيةِ الإِسرَاءِ الأُولَى فِيمَا يَتعَلّقُ بِقدَاسَةِ القُدسِ، بَل ضَمُّوا إِلى هَذِه الآيةِ التِي لَا خِلَاف عَلَى دَلالَتِهَا آياتٍ قُرآنِيَّةٍ أُخرَى مِثلَ الآيةِ 13 مِن سُورَةِ الحَديدِ:{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} ، فَقَالُوا إِنّ السُّورَ المَقصُودَ هُو سُورُ بَيتِ المَقدسِ الشَّرقِيُّ، وَمثلَ الآيةِ 14 مِن سُورَةِ النَّازِعَاتِ:{فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} ، فقالوا إِنّ المَقصُودَ بِالسّاهِرةِ البَقِيعُ المُوجُودُ جَانبَ الطُّورِ شَمَالَي سُورِ القُدسِ اليَومَ، وَمِثلَ الآيةِ 36 مِن سُورَةِ النُّورِ:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ، فَقَالُوا إِنّ المَقصُودَ هُو بَيتُ المَقدِسِ، وَغيرَ هَذه الآياتِ
(1)
.
(1)
جرت الإشارة إلى هذه الآيات في عدد كثير من المراجع، انظر مثلا كتاب «الأنس الجليل» (1/ 227) = = وانظر معجم البلدان لياقوت، تحقيق وسنفيلد، نشر مكتبة الأسدي بطهران 1965، المجلد الرابع (ص: 591)، حيث ينقل ياقوت تفسير مقاتل بن سليمان لخمس آيات قرآنية، يرى مقاتل أن الأمكنة المذكورة فيها يقصد بها بيت المقدس. هذا، وقد نشر تفسير مقاتل بن سليمان.
وَأَمّا بِالنِّسبَةِ إِلَى الأَحادِيثِ التِي تُؤَكدُ مَكَانةَ القُدسِ في الإِسلَامِ فَهيَ كَثِيرةٌ جِدًّا، وَقَد وَردَ مِنهَا في كُتبِ الفَضائِلِ، مَوضُوعِ هَذهِ الدِّرَاسةِ، عَشَراتُ الأَحَادِيثِ، بَل هِي تَتَعَدّى العَشَراتِ إِلَى الِمئَاتِ، وَإِذَا كَانَ ثَمّةُ اختلَافٍ في الآرَاءِ حَولَ مَدَى صِحّةِ هَذهِ الأَحَاديثِ فَلا خِلَافَ، عَلَى الإِطلاقِ، عَلَى حَديثٍ مُجمَعٍ عَلَى صِحّتِهِ، وَقَد وَردَ في كُتبِ الصِّحَاحِ وَفِي كُلِّ كُتبِ فَضائِلِ القُدسِ، وَجَرت رِوايَتُه بِطُرقٍ مُختَلفَةٍ، مِنهَا رِوايَةُ أَبِي هُريرَةَ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسجِدِ الحَرَامِ، وَالمَسجِدِ الأَقصَى، وَمَسجِدِي هَذَا: مَسجِدِ المَدِينَةِ» ، وَهِيَ الرِّوايَةُ التِي أَورَدَهَا أَبُو المَعَالِي المَقدِسِيُّ، صَاحِبُ أُولَى المَخطُوطَاتِ التِي اختَرنَا نُصُوصًا مِنهَا في هَذَا
…
الكِتابِ
(1)
، وَقد وَصفَ ابنُ تَيمِيَةَ هَذَا الحَديثَ بِأَنّهُ ثَبتَ في الصّحِيحَينِ عن النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأنَّهُ حَديثٌ مُستَفِيضٌ مُتَلَقًّى بِالقَبُولِ، أَجمعَ أَهلُ العِلمِ عَلَى صِحّتِه وَتَلقّيهِ بِالقَبُولِ وَتَصدِيقِهِ
(2)
.
وَلَم يَغِب عن مُؤلِّفي كُتبِ الفَضائِلِ أَن الأَحَاديثَ التِي تُنسبُ إِلى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم في فَضلِ القُدسِ لَيسَت كُلُّهُا عَلَى مُستَوًى وَاحدٍ مِن الصِّحَّةِ وَالقَبُولُ، فَهَاهُوَ شِهابُ الدِّينِ أَبو مَحمُودٍ أَحمدُ بنُ مُحمدٍ المَقدِسِيُّ، صَاحِبُ كِتابِ (مُثِيرُ الغَرَامِ إِلَى زِيَارَةِ القُدسِ وَالشَّامِ)، يَقُولُ في خَاتمةِ كِتابِهِ ـ مُبَيِّنًا مَا يَمتَازُ بِهِ
(1)
انظر: فضائل بيت المقدس والخليل عليه الصلاة والسلام، وفضائل الشام، لأبي المعالي، المشرف بن المرجّى المقدسي. صورة مخطوطة توبنجن (ص: 84).
(2)
انظر: «قاعدة في زيارة بيت المقدس» ، تصنيف أحمد بن تيمية، نشر وتحقيق تشارلز ماثيوز، حولية:" Journal of the American Oriental Society"، LVI، 1936، under:"A Muslim Iconoclast (Ibn Taymiyya) on the "Merits of Jerusalem and Palestine"، P. 7.
[وانظر: مجموع الفتاوى (27/ 6 - 7)](عمرو)
الكِتابُ عن كُتبِ الفَضائِلِ الأُخرَى ـ: «وَصَنّفَ آخَرُونَ أَيضًا في فَضائِلِ الشَّامِ، وَهذَا المُصَنَّفُ، بِحَمدِ اللهِ تَعالَى، مُشتَمِلٌ عَلَى الفَصلَينِ مَعًا فَضائِلِ الشَّامِ وَفضَائِلِ القُدسِ، قَد احتَوى عَلَى الآياتِ الوَارِدَةِ في القُرآنِ العَظيمِ في فَضلِهِمَا، وَالأحَادِيثِ الوَاردَةِ في ذَلكَ: الصّحِيحِ، وَالحَسنِ، وَالغَريبِ، وَالضّعيفِ المُحتَملِ، وَالوَاهِي التَّألِيف والموضُوعِ، وَالآثارِ القَويَّةِ وَالواهِيةِ، وَإِنّما أَتيتُ بِهذِهِ الأَقسامِ في هَذَا الكِتَابِ لِأجلِ بَيانِهَا لَا غَيرَ، وَقَد تَركتُ أَشيَاءَ مِن الفَضائِلِ مِن أَوائِلِ مَا يُروَى عن كَعبِ الأَحبَارِ وَوهبِ بنِ
…
مُنبِّهٍ»
(1)
.
وَفِي عِبارَةِ شِهابِ الدِّينِ المَقدِسِيِّ هَذهِ إِشَارةٌ وَاضِحةٌ إِلَى أَنّ مَا كَانَ يُروَى عن كَعبِ الأَحبَارِ وَوهبِ بنِ مُنبِّهٍ كَانَ مَوضعَ شَكٍّ كَبيرٍ عِندَ مُؤلِّفِي كُتبِ الفَضائلِ، وَمعرُوفٌ أَنّ الكَثيرَ مِن الأَحادِيثِ وَالرِّوايَاتِ التِي يُطلَقُ عَليهَا اسمُ الإِسرَائِيلِيّاتِ كَانت تُنسَبُ إِلَى هَذينِ الرَّجُلَينِ ـ اللذَينِ كَانَا يَدِينَانِ بِاليَهُودِيّةِ قَبلَ أَن يَتحَوّلَا إِلى الإِسلَامِ ـ وَبِذَا، فَإنّ النَّقدَ المُوجَّهَ مِن الكُتَّابِ المُحدَثِيَن، وَلاسِيّمَا مِن غَيرِ المُسلمِينَ مِنهُمِ، إِلَى أَحادِيثَ غَيرِ صَحيحَةٍ وَرِوايَاتٍ مَشكُوكٍ فِيهَا عن القُدسِ، تَسرّبت في كَثيرٍ مِن الأَحيَانِ إِلَى المُسلِمينَ مِن مَصَادِرَ أَجنَبيَّةٍ، وَمِن أَهلِ الكِتابِ بِصُورَةٍ خَاصَّةٍ
(2)
، لَم يَكُن بِالأَمرِ الخَافِي عَلَى الكَثِيرينَ مِن مُؤَلِّفِي كُتبِ الفَضَائلِ. وَهَاهُوَ شِهابُ الدِّينِ أَبُو مَحمُودٍ المَقدِسِيُّ نَفسُهُ ـ وَهوَ صَاحبُ وَاحدٍ مِن أَهَمّ كُتبِ فَضائلِ
…
(1)
انظر كتاب: «مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام» صورة مخطوطة مكتبة جوتا، الورقة 143.
(2)
انظر مثلا ما يقوله اسحاق حسون عن تغلغل الأقاويل اليهودية والنصرانية في الإسلام في الأحاديث المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وفي قصص الأنبياء والتاريخ: Symposium، PP. 170، 171.
القُدسِ ـ، يَقُولُ لَنَا مَرَّةً أُخرَى ـ وَهُوَ يَرفُضُ التَّجَاوُزَ في تَقدِيسِ المَسجِدِ الأَقصَى وَالوُصولَ بِه إِلَى مَا فَوقَ المَنزِلةِ المَقبُولَةِ في عَقِيدةِ الإِسلَامِ ـ:«قَاتَلَ اللهُ القَصَّاصِينَ وَالوَضَّاعِينَ! كَم لَهُم مِن إِفكٍ عَلَى وَهبٍ وَكَعبٍ! وَلَا شَكَّ في فَضلِ هَذَا المَسجِدَ، وَلكِنّهُم قَد غَلَوا»
(1)
.
وَإِذَا كَانَت مُلاحَظَاتُ صَاحِبِ (مُثِيرُ الغَرَامِ) عَلَى الأَحَادِيثِ التِي أَورَدهَا ـ وَهِيَ مُلاحَظَاتٌ نَافِذةٌ حَولَ مُستَوَى صِحّةِ هَذهِ الأَحادِيثِ وَأحوَالِ رُوَاتِهَا ـ تُعِينُ القَارِئ دُونَما شَكٍّ عَلَى التَّميِيزِ بَينَ مَا هُوَ مَقبُولٌ وَمَا هُو غَيرُ مَقبُولٍ مِن الأَحادِيثِ المُورَدَةِ في كُتبِ الفَضَائِلِ، فَإنّ المَأمُولَ أَن تَكُونَ التَّرجَماتُ المُختَصَرةُ التِي أُورِدَت في حَواشِي هَذَا الكِتابِ لِشخصيَّاتٍ وَردَت أَسمَاؤُهَا في كُتبِ الفَضائِلِ وَتَدخُلُ في سِلسِلةِ رُواةِ الأَحادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مِمّا يُعِينُ القَارِئَ عَلَى الحُكمِ عَلَى الأَحادِيثِ المُورَدَةِ في نُصوصِ هَذِه الكُتُبِ، وَلاسِيَّما أَنّنِي كَثِيرًا مَا اعتَمَدتُ في إِيرَادِ هَذهِ التّرَاجِمِ عَلَى كُتبِ عَددٍ مِن المُؤَلِّفِينَ القُدامَى، الذِينَ اهتَمُّوا خَاصًا بِأَحوَالِ رُواةِ الحَديثِ وَتَوثِيقِهِم أَو التّشكِيكِ فِيهِم. هَذَا، وَقد وَقَفتُ عَلَى عِبَارَةٍ لِلخَطيبِ البَغدَادِيِّ تَستَرعِي النَّظَر فِيمَا يَتعَلّق بِالأَحادِيثِ المَكتُوبَةِ، إِذ يَنقُلُ عن يَحيَى بنِ مَعِينٍ قَولَهُ:«إِذَا كَتَبتَ فَقَمِّش، وَإِذَا حَدَّثتَ فَفَتِّش» ، بِمَعنَى أَنّ كِتابَةَ الأَحادِيثِ قَد يَكُونُ فِيهَا تَساهُلٌ، في حِينِ أَنّ رِوايَتَهُ مُشافَهَةً لِلآخَرِينَ لَابُدّ فِيهَا مِن التَّمحِيصِ وَالتّدقِيقِ، وَقَد عَلَّلَ الخَطِيبُ البَغدَادِيُّ ذَلكَ بِأنَّ الرِّوَاياتِ الضَّعِيفَةَ تُكتَبُ لِلتنقيرِ عن وَاضِعِيهَا وَبَيَانِ حَالِ مَن أَخطَأَ فِيهَا
(2)
.
وَمِمّا لَا رَيبَ فِيهِ أَن عِبَارَةَ
(1)
انظر صورة مخطوطة: «مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام» عن نسخة جوتا، الورقة (89 - 90).
(2)
انظر: «تاريخ بغداد» ط. الخانجي القاهرة 1349 هـ =1931 م، المجلد الأول (ص: 43).
البَغدَادِيِّ هَذهِ لَا تَنطَبقُ عَلَى كُلِّ مَن دَوّنُوا الحَديثَ النَّبَويَّ؛ إِذ إِنّ الكَثِيرِينَ مِنهُم بَذَلُوا جُهُودًا مُضنِيةً لِلاستِيثَاقِ مِن الأَحَاديثِ التِي يُدَوِّنُونَها قَبلَ أَن يُدَوِّنُوهَا.
وَمَكانَةُ القُدسِ في الإِسلَامِ لَم تَرتَبط مُنذُ عُهودِ الإِسلَامِ الأُولَى بِفترَةٍ زَمنِيّةٍ دُونَ غَيرِهَا، وَلَا بِدَولَةٍ إِسلَامِيّةٍ دُونَ دَولَةٍ أُخرَى، وَلَا بِمَذهَبٍ إِسلَامِيٍّ دُونَ غَيرِهِ، وَإِن كَانت الأَحدَاثُ التِي تَمرُّ بِها المُدنُ، شَأنُهَا في ذَلكَ شَأنُ الأحدَاثِ التِي تَمرُّ بِها الشُّعُوبُ، قَد تُوقِظُ استِثَارَاتٍ غَيرِ عَادِيةٍ في النُّفوسِ، وَلَاسِيَّما إِذَا كَانت هَذهِ المُدنُ لَهَا في الأَصلِ مَنزِلةٌ خَاصَّةٌ في نُفوسِ النَّاسِ.
فَالقُدسُ كَانَت تَعنِي لِجُيوشِ عُمرَ بنِ الخَطَّابِ التِي أُرسِلت لِفتحِ الشَّامِ أَكثَرَ مِمّا كَانَت تَعنِيهِ بُلدَانُ الشَّامِ الأُخرَى، حَتَّى قَبلَ أَن تُفتَحَ المَدِينَةُ المُقدَّسةُ بِالفِعلِ. فَهَاهُو الوَاقِدِيُّ المُتَوَفَّى سَنةَ 207 هـ، يَقُولُ لَنَا في حَديثِهِ عن القُدسِ عِندَمَا أَقبَلَ المُسلِمونَ عَليهَا لِحصَارِهَا وَقِتالِ أَهلِهَا: «وَلقَد بَلغَني أَنّ المُسلِمينَ بَاتُوا تِلكَ اللّيلَةَ ـ السَّابقَةَ لِلاشتبَاكِ مَع جَيشِ الرُّومِ المَوجُودِ في القُدسِ ـ كَأنَّهم يَنتَظرُونَ قَادِمًا يَقدُمُ عَليهِم مِن شِدَّةِ فَرحِهِم بِقتَالِ أَهلِ بَيتِ المَقدِسِ. وكُلٌّ أَميرٍ يُريدُ أَن يُفتَحَ عَلَى يَديهِ، فَيتَمتَّعُ بِالصَّلَاةَ فِيهِ وَالنَّظَرِ إِلَى آثَارِ الأَنبِيَاءِ
…
فَلَمّا أَضَاءَ الفَجرُ أُذِّن، وَصلَّت النَّاسُ صَلاةَ الفَجرِ. ـ قال: ـ فَقرَأَ يَزيدُ [ابنُ أَبي سُفيَانَ] لِأَصحَابِهِ: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا
…
الآية} [المائدة: 21]. فَيُقَالُ إِنّ الأُمَراءَ أَجرَى اللهُ عَلَى أَلسِنتِهم في تِلكَ الصَّلاةِ أَن قَرَؤُوا هَذهِ الآيَةَ، كَأَنّهُم عَلَى مِيعَادٍ وَاحِدٍ.»
(1)
.
(1)
انظر: «فتوح الشام» المنسوب لأبي عبد الله عمر الواقدي، نشر دار الجيل (لا تاريخ)(1/ 231).
وَهذِهِ الرِّوايَةُ عن أَحدَاثٍ وَقعَت في السَّنةِ الخَامِسةَ عَشرَةَ لَلهِجرَةِ عَلَى الأَرجَحِ ـ قَبلَ أَن تَكُونَ لِبنِي أُمَيَّةَ دَولَةٌ وَفِي إِبَّانِ خِلَافَةِ عُمرَ رضي الله عنه ـ تُبَيِّنُ أَنّ المُسلِمينَ الأَوائِلَ كَانُوا يُدرِكونَ أَنّ الأَرضَ المُقدَّسةَ المَذكُورَةَ في القُرآنِ الكَريمِ هِيَ أَرضُ القُدسِ وَفِلسطِينَ.
وَيُورِدُ هَذَا المُؤرِّخُ نَفسُهُ ـ الوَاقِدِيُّ ـ في صَفَحَاتٍ لَاحِقةٍ مِن كِتابِهِ عَلَى لِسانِ أَبِي عُبيدةَ بنِ الجَراحِ ـ وَهُوَ مُحَاصِرٌ القُدسَ ـ في مَعرِضِ حِوارٍ لَهُ عن طَريقِ تُرجُمانٍ مَع نَاطِقٍ بِاسمِ الرُّومِ مِن القُدسِ تَحدَّثَ لِأبِي عُبيدَةَ عن قَدَاسَةِ المَدينَةِ عِندَ المَسيحِيينَ، قَولَهُ لِلتُّرجُمَانِ:«قُل لَهُم: نَعم. إِنّها [القُدسُ] شَريفةٌ، وَمِنهَا أُسرِيَ بِنَبِيِّنَا إِلَى السَّماءِ، وَدنَا مِن رَبهِ كَقَابِ قَوسَينِ أَو أَدنَى، وَأَنَّها مَعدِنُ الأَنبِيَاءِ، وَقُبورُهُم فِيهَا، وَنَحنُ أَحَقُّ مِنكُم بِهَا»
(1)
.
أَمّا وَصفُ مُعاوِيَةَ لِفِلسطِينَ بِأنَّها أَرضٌ مُقَدّسةٌ، وَبِأنَّها أَرضُ المَحشَرِ وَالمَنشَرِ، فَقد رَواهُ ابنُ الفَقيهِ كَمَا يَلِي:«قَالَ المَدَائِنِيُّ: قَدمَ وَفدٌ مِن العَراقِ عَلَى مُعاوِيةَ بنِ أَبي سُفيَانَ فِيهِم صَعصَعةُ بنُ صُوحَانَ العَبدِيُّ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: «مَرحَبًا بِكم وَأهلًا! قَدِمتُم عَلَى خَيرِ خَليفَةٍ، وَهُو جُنّةٌ لَكُم، وَقَدِمتُم الأَرضَ المُقدّسَةَ، وَقَدِمتُم أرضَ المَحشَرِ وَالمَنشَرِ، وَقَدِمتُم أَرضًا بِهَا قُبورُ الأَنبِيَاءِ»
(2)
.
وَأَرضُ المَحشَرِ وَالمَنشَرِ، المَقصُودُ بِهَا فِلسطِينُ، وَمدِينَةُ القُدسِ بِالذَّاتِ، إِنّمَا عُرفَت بِهذَهِ الصِّفَةِ عِندَ المُسلِمينَ الأَوائِلِ مِن خِلَالِ آيةٍ قُرآنِيّةٍ في سُورَةِ
(1)
«فتوح الشام» للواقدي (1/ 234).
(2)
انظر: «كتاب البلدان» تأليف أبي بكر بن محمد الهمذاني المعروف بابن الفقيه، ط. ليدن 1967 (ص: 115).
الحَشرِ، هي:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ .. الآية} [الحشر: 2]، وَقد فُهِمَ مِن الآيَةِ أَنّ أَوّلَ الحَشرِ أَو المَحشَرِ إِنّمَا هُوَ في أَرضِ فِلسطِينَ وَفِي القُدسِ بِالذَّاتِ؛ لِأنَّ الرَّسُولَ عليه السلام أَخرَجَ اليَهُودَ مِن المَدينَةِ، وَقَالَ لَهُم حِينَ سَألُوهُ إِلَى أَينَ يَتوَجَّهُونَ ـ كَمَا نُقلَ عن ابنِ عبَّاسٍ ـ:«إِلَى أَرضِ المَحشَرِ، ثُمَّ الخَلقُ يَومَ القِيَامَةِ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ»
(1)
. وَقد فَهمَ مُقاتِلُ ابنُ سُليمَانَ هَذهِ الآيَةَ عَلَى هَذَا النَّحوِ في مَعرِضِ تَفسِيرِهِ لِآيَاتٍ مِن القُرآنِ الكَريمِ، وَرَبطَ هَذهِ الآيَاتِ بِالقُدسِ، كَقولِهِ تَعالَى:{إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128]، قال: هِي بَيتُ المَقدِسِ. وَكَآيَةِ الحَشرِ التِي سَبقَ إِيرَادُهَا، وَقَالَ مُقَاتلٌ في تَفسِيرِهَا: وَيَحشُرُ اللهُ عز وجل الخَلائِقَ إِليهَا [القُدسِ].
(2)
.
وَإِذ يَرُدُّ صَعصَعَةُ بنُ صُوحَانَ عَلَى عِبارَاتِ مُعاوِيَةَ فَيقُولُ فِيمَا قَالَ: «وَأَمَّا قَولُكَ: «قَدِمتُم الأَرضَ المُقدَّسَةَ» فَإِنّ الأَرضَ لَا تُقَدِّسُ أَهلَهَا، وَلكِنّ أَهلَهَا يُقدِّسُونَهَا، وَأمَّا قَولُكَ:«قَدِمتُم أَرضَ المَحشَرِ وَالمَنشَرِ» ، فَإنّ بُعدَ الأَرضِ لَا يَنفَعُ كَافِرًا، وَلَا يَضرُّ مُؤمِنًا.»
(3)
، فَإنّهُ لَا يُمكِنُ بِحالٍ مِن الأَحوَالِ أَن يُفهَمَ بِأنَّهُ رَفضٌ لِوصفِ الأَرضِ بِالقَدَاسَةِ أَو لِوَصفِهَا بِأنَّها أَرضُ المَحشَرِ وَالمَنشَرِ؛ إِذ إِنّ مِن الوَاضِحِ أنَّ المَقصُودَ بِالقَولِ إِنهُ لَا يَكفِي أَن تَكُونَ الأَرضُ مُقَدّسةً وَأَن تَكُونَ أَرضَ المَحشَرِ وَالمَنشَرِ حَتّى يَنجُو سُكّانُهَا؛
(1)
انظر: «مخطوطة الأنس لزائر القدس» لعبد الله بن هشام الأنصاري، صورة مخطوطة مكتبة الإسكندرية، ورقة:58.
(2)
انظر: «كتاب البلدان» ، ط. ليدن، 1967 (ص: 93، 94).
(3)
المصدر نفسه (ص: 115).
إِذ لَابُدَّ لِلإِنسَانِ القَاطِنِ في مِثلِ هَذهِ الأَرضِ أَن يَكُونَ إِنسَانًا صَالِحًا، وَهَذا بِالطّبعِ مِمّا لَا خِلَافَ عَليهِ عِندَ المُسلِمينَ عَامَّةً.
أَمّا القَولُ بِأنّ الخَلِيفَةَ الأُمَوِيَّ عَبدَ المَلكِ بنَ مَروَانَ قَد أَرَادَ أَن يُضفِي عَلَى القُدسِ طَابعَ قَدَاسَةٍ خَاصَّةٍ بِبِنَائِهِ قُبَّةَ الصَّخرَةِ، أَو مَسجِدَ الصَّخرَةِ، مِن أَجلِ أَن يَتحَوّلَ النَّاسُ في حَجِّهم مِن مَكّةَ إِلَى القُدسِ فَقَولٌ مَرفُوضٌ في إِطَارِ العَقِيدَةِ الإِسلَامِيّةِ وَفِي إِطَارِ النُّصُوصِ الصَّحيحَةِ المَنقُولَةِ.
فَالخَلِيفَةُ الأُمَوِيُّ عِندَمَا عَزَمَ عَلَى بِناءِ مَسجِدِ قُبَّةِ الصَّخرَةِ لَم يَنطَلِق مِن فَراغٍ بِالنَّسبَةِ إِلَى مَكَانِ البِناءِ وَقَداسَتِهِ المُعتَرَفِ بِهَا أَصلًا، فَهوَ إِنَّما أَرَادَ أن يُقِيمَ مَسجِدًا وَقُبّةً فَوقَ الصَّخرَةِ التِي يَعتَقِدُ جَميعُ المُسلِمينَ بِأَنَّهُ قَد عُرِجَ بِالرَّسُولِ عليه السلام مِنهَا إِلى السَّمَاءِ، وَاستَشَارَ رَعيَّتَهُ في ذَلكَ قَبلَ أَن يَبدَأَ البِنَاءَ
(1)
. فَالبِنَاءُ الذِي أقَامَه اكتَسبَ قَدَاسَتَه مِن المَوقِعِ الذِي بُنِي عَليهِ، وَليسَ العَكسُ. وَالرَّجُلُ الذِي اعتَمَدَ عَلَيهِ عَبدُ المَلكِ اعتِمادًا أسَاسِيًّا في بِناءِ مَسجِدِ الصَّخرَةِ، وَهُوَ رَجَاءُ بنُ حَيوَةَ، كَانَ مِن عُلَماءِ المُسلِمينَ، وَكَانَ صَدِيقًا لِعُمرَ بنِ
…
عَبدِ العَزيزِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَلَم يَكُن هَذَا لِيشَارِكَ أَبَدًا في بِنَاءٍ يُقصَدُ بِه خَدِيعَةُ المُسلِمِينَ وَغِشُّهُم بِأن يَتحَوَّلُوا إِلَى الحَجِّ إِلَيهِ بَدَلًا مِن مَكّةَ. وَمِن البَدِيهِيّاتِ كَذلكَ أَنّ عَبدَ المَلكِ مَا كَانَ لِيُفَكِّرَ مُجرَّدَ التَّفكِيرِ في إِحلَالِ صَخرَةِ القُدسِ مَحلَّ الكَعبَةِ؛ وَذَلكَ لِأنَّهُ مَا مِن خَطَرٍ عَلَيهِ يُمكِنُ أَن يَكُونَ أَشدَّ مِن مُحاوَلَتِهِ تَحوِيلَ الحَجِّ عن مَكَّةَ، وَهُو رُكنٌ مِن أَركَانِ الإِسلَامِ المَفرُوضَةِ وَالمُبَيَّنَةِ في القُرآنِ الكَريمِ، وَلَو أَنّهُ فَعَلَ ذَلكَ لوُصِمَ بَالكُفرِ وَلَحلّ قِتالُهُ، بَل
(1)
انظر: «فضائل بيت المقدس والخليل عليه الصلاة والسلام وفضائل الشام» ، للمشرّف المقدسي، صورة مخطوطة توبنجن (ص: 58).
لَأَصبَحَت مُجاهَدَتُهُ فَرضًا وَاجِبًا عَلَى المُسلِمِينَ.
وَقَد تَنبَّهَ لِهذِهِ الأُمورِ كُلِّهَا كَاتِبٌ غَيرُ مُسلِمٍ هُو جُوِيتِينُ كَمَا هُو وَاضِحٌ مِن المَادَّة التِي كَتَبَهَا عن الخَلفِيّةِ التّارِيخِيّةِ لبِنَاءِ قُبّةِ الصَّخرَةِ
(1)
.
أمَّا رِوَايَةُ مَنعِ عَبدِ المَلكِ النَّاسَ مِن الحَجِّ إِلَى مَكّةَ إِبّانَ ثَورَةِ ابنِ الزُّبَيرِ فَهِيَ رِوايَةٌ مُتهَافِتَةٌ مَنقُوضَةٌ، حَتّى في كِتَابَةِ المُؤَرِّخِ الذِي كَانَ أَوَّلَ مَن أَورَدَهَا وَهُوَ اليَعقُوبِيُّ. فِرِوَايَةُ اليَعقُوبِيِّ التِي سَبَقَ أَن أَورَدنَاهَا في صَفحَةٍ سَابِقَةٍ تَقُولُ إِنّه مَنعَ النَّاسَ مِن الحَجِّ إِلَى مَكَّةَ خَشيَةَ أَن يَأخُذَهُم ابنُ الزُّبَيرِ بِالبَيعَةِ، وَأَنَّه أَقَامَ بِذَلكَ أَيّامَ بَنِي أُمَيَّة
(2)
.
وَلكِنّ اليَعقُوبِيَّ نَفسُهُ يَقُولُ بَعدَ صَفحَتَينِ فَقط مِن إِيرَادِهِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِنَّهُ فَي سنةِ 68 هـ وَقَفَت أَربعَةُ أَلوِيَةٍ بِعَرَفَاتٍ: مُحمَّدِ بنِ الحَنفِيَّةِ في أَصحَابِهِ، وَابنِ الزُّبيرِ في أَصحَابِهِ، وَنَجدَةِ بنِ عَامِرٍ الحَرُورِيِّ، وَلِواءِ بَني أُمَيَّةَ. ثُمَّ يَنقِلُ عِن المُسَاوِرِ بنِ هِندِ بنِ قَيسٍ قَولَهُ:«وَتَشعَّبُوا شُعَبًا، فَكُلُّ قَبيلَةٍ فِيهَا أَميرُ المُؤمِنينَ.»
(3)
، وَمعرُوفٌ أَنّ حُكمَ ابنِ الزُّبيرِ في مَكَّةَ امتَدَّ مِن عَامِ 66 إِلَى عَامِ 73 هـ، وَهُو عَامِ مَقتَلِهِ.
بَل إِنَّ اليَعقُوبِيَّ يُورِدُ بَعدَ ذَلكَ أنَّ عَبدَ المَلكِ نَفسَهُ قَد حَجّ سَنةَ 75 هـ، مِمّا يُخَالفُ رِوَايتَهُ الأُولَى عن مَنعِ حُكّامِ الأُمَوِيِّينَ النَّاسَ مِن الحَجِّ أيَّامَ بَنِي أُمَيَّةَ.
(1)
انظر: " Journal of the American Oriental Society" VOI. LXX 1950، P. 1050.
وانظر كذلك في منزلة رجاء بن حيوة العلمية وعلاقته بالخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز، مخطوطة «مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام» ، صورة عن نسخة جوتا ورقة 131، حيث ذكر مؤلف المخطوطة أن رجاء حيوة وزر لعمر بن عبد العزيز بعد أن أصبح عمر خليفة.
(2)
انظر: تاريخ اليعقوبي (3/ 7، 8).
(3)
المصدر نفسه: (ص: 10). وانظر كذلك في موضوع ألوية الحجاج، تاريخ الطبري، ط. دار المعارف، القاهرة 1964 (ص: 138، 139). وانظر في موضوع حج الأمويين كذلك: الكامل لابن الأثير، ط. بيروت 1979 (4/ 151، 532، 533).
وَيَقُولُ اليَعقُوبِيُّ وَهوَ يَتحَدَّثُ عن حَجِّ عَبدِ المَلكِ في السَّنَةِ المَذكُورَةِ إِنّهُ بَدَأَ بِالمَدِينَةِ، وَلَما أَرَادَ الانصِرَافَ بَعدَ الحَجِّ وَقَفَ عَلَى الكَعبَةِ وَقَالَ:«واللهِ! إِنِّي وَدِدتُ أَنِّي لَم أَكُن أَحدَثتُ فِيهَا شَيئًا وَتَركتُ ابنَ الزُّبَيرِ وَمَا تَقَلَّدَ.»
(1)
، فَهُوَ هُنَا إِذَن يَشعُرُ بِالنَّدَمِ لِأنَّهُ أَباحَ لِقَائِدِه الحَجَّاجِ أَن يَضرِبَ الكَعبَةِ بالمَجَانِيقِ خِلَالَ اعتِصامِ عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ بِها.
وَيُعدِّدُ لَنَا اليَعقُوبِيُّ نَفسُه بَعدَ ذَلكَ الذِينَ أَقامُوا الحَجَّ لِلنَّاسِ مِن رِجَالِ الأُمَوِيِّينَ خِلَالَ السَّنَواتِ مِن 72 حَتَّى 85 هـ، وَمِنهُم عَبدُ المَلكِ نَفسُهُ، وَابنُهُ سُلَيمَانُ، وَأبَانُ بنُ عُثمَانَ بنِ عَفّانَ، وَالحَجَّاجُ بنُ يُوسُفَ
(2)
.
وَلَا نَشُكُّ في أَنّ تَشَيُّع اليَعقُوبِيِّ الصَّرِيحِ هُو الذِي دَفَعَهُ إِلَى مُحَاولَةِ تَشوِيهِ سُمعَةِ الأُمَويِّينَ، وَلكِنّهُ لَم يَكُن مُتَحرِّزًا فِيمَا أَورَدَهُ وَلَا مُنسِجِمًا مَعَ نَفسِهِ في رِوَايَاتِهِ المُتَنَاقِضَةِ.
وَالمَصدَرُ القَدِيمُ الثَّانِي الذِي يُورِدُ قِصةَ مَنعِ الحَجِّ إِلَى مَكَّةَ خِلَالَ الحُكمِ الأُمَوِيِّ هُو ابنُ البِطرِيقِ، وَلَو أَنّهُ حَصَر هَذَا المَنعَ بِخِلَافَتَي عَبدِ المَلكِ وَالوَليدِ دُونَ غَيرِهِمَا مِن خُلَفاءِ بَنِي أُمَيَّة
(3)
. وَإِذَا كَانَ مَا أَورَدنَاهُ في الأَسطِرِ السَّابِقَةِ كَافِيًا لِدَحضِ رِوايَةِ ابنِ البِطرِيقِ هَذهِ، فَإِنّ مَا أَورَدهُ اليَعقُوبِيِّ نَفسُه يَنفِي عن الوَلِيدِ، مِثلَ مَا نَفَى عن وَالِدِهِ، أَن يَكُونَ مَا نُسبَ إِليهِ صَحِيحًا.
فَاليَعقُوبِيُّ يُقَدِّمُ لَنَا في تَارِيخِهِ قَائِمَةً بِرجَالِ بَنِي أُمَيَّةَ الذِينَ أَقَامُوا الحَجَّ زَمَنَ الوَلِيدِ
(4)
، وَيُحدِّثُنَا عن اهتِمَامٍ خَاصٍّ لِلوَلِيدِ بنِ عبدِ المَلكِ بِمُقدَّسَاتِ الحِجَازِ
(1)
تاريخ اليعقوبي (3/ 19).
(2)
المصدر نفسه (ص: 26).
(3)
انظر: " Journal of the American Oriental Society" VOI. LXX 1950، P.104.
(4)
انظر: «تاريخ اليعقوبي» (3/ 35).
في مَكّةَ وَالمَدِينَةِ، مِمّا يَتنَاقَضُ مَعَ القَولِ بِأنَّهُ أَرادَ أَن يَصرِفَ النَّاسَ عن مَدِينَتَي الحِجَازِ المَقدَّسَتَينِ إِلَى مَدِينَةِ القُدسِ في فِلسطِينَ. فَقد ذَكَر اليَعقُوبِيُّ أَنّ الوَلِيدَ كَتبَ إِلَى عُمرَ بنِ عبدِ العَزيزِ، الذِي كَانَ عَامِلَهُ عَلَى المدِينَةِ، بَأن يُوسِّعَ مَسجِدَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَأن يُدخِلَ فِيهِ المَنازِلَ التِي حَولَهُ، وَيُدخِلَ فِيهِ حُجرَاتِ أَزوَاجِ النَّبِيِّ، كَمَا بَعثَ إِلَى خَالِدِ بنِ عَبدِ اللهِ القَسرِيِّ وَالِيهِ إِذ ذَاكَ عَلَى مَكَّةَ بِثَلَاثِينَ أَلفِ دِينَارٍ، فَضُربَت صَفَائِحَ وَجُعِلَت عَلَى بَابِ الكَعبَةِ، وَعَلَى الأَسَاطِينِ التِي دَاخِلَهَا، وَعَلى الأَركَانِ وَالمِيزَابِ، فَكَانَ أَوّلَ مَن ذَهَّبَ البَيتَ في الإِسَلامِ
(1)
.
وَرَوايَةُ اليَعقُوبِيِّ هَذِهِ تُؤَكِّدُهَا رَوَايةُ مُؤَرِّخٍ يُعتَبرُ مِن أَقدَمِ مَن أرَّخُوا لمَكَّةَ، ذَلكَ هُو أَبُو الوَلِيدِ مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ ـ أَو ابنُ عبدِ الكرِيمِ ـ بنِ أحمدٍ الأَزرَقِيُّ. فَقد ذَكرَ الأَزرَقِيُّ في كِتابِهِ (أَخبَارُ مَكَّةَ) أَنَّ الوَليدَ بنَ عَبدِ المَلكِ عَمَّرَ المَسجِدَ الحَرامَ وَكَانَ إِذَا عَمِلَ المَساجِدَ زَخرَفَهَا، وَقَالَ:«فَنقَضَ عَملَ عَبدِ المَلكِ وَعَمِلَ عَملًا مُحكَمًا، وَهوَ أَوّلُ مَن نَقلَ إِليهِ أَساطِينَ الرُّخَامِ، فَعمَلَهُ بِطَاقٍ وَاحِدٍ بِأسَاطِينِ الرُّخَامِ، وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ المُزخرَفِ، وَجَعلَ عَلَى رُؤُوسِ الأَساطِينِ الذَّهَبَ عَلَى صَفَائِحِ الشَّبَهِ، وَأَزَرَّ المَسجِدَ بِالرُّخَامِ مِن دَاخِلِهِ، وَجَعلَ عَلَى وَجهِ الطِّيقَانِ في أَعلَاهَا الفُسَيفِسَاءُ، وَهُوَ أَوّلُ مَن عَمِلَهُ في المَسجِدِ الحَرامِ، وَجَعلَ لِلمَسجِدِ شُرَافَاتٍ، وَكَانت هَذهِ عِمَارَةُ الوَليدِ بنِ عَبدِ المَلكِ.»
(2)
.
وَمِنَ الحُججِ الغَريبةِ التِي أَورَدَهَا كُتَّابُ اليَهودِ لِلتّدلِيلِ عَلَى أنَّ قَدَاسَةَ القُدسِ إِنَّمَا كَانَت مُرتَبطَةً بِعوَامِلَ سِياسِيَّةٍ زَمنَ بَنِي أُمَيَّةِ مَا أَورَدَهُ إِسحَاقُ
(1)
تاريخ اليعقوبي (3/ 29).
(2)
انظر: «أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار» ط. مكة المكرمة 1965، (2/ 71، 72).
حَسُّونُ مِن تَضَاؤُلِ أَهَمِّيَةِ القُدسِ بَعدَ سُقوطِ الأُمَويِّينَ وَانتِقَالِ العَاصِمةِ مِن الشَّامِ إِلَى العِرَاقِ، وَيَستشهِدُ عَلَى ذَلكَ بِأنَّ الخَليفةَ العَباسِيَّ المَنصُورَ عِندَمَا طُلِبَ إِليهِ إِرسَالَ الأَموَالِ لِتَرمِيمِ الصَّخرَةِ أَمرَ بِأن تُضرَبَ صَفَائِحُ الذَّهبِ وَالفِضةِ التِي عَلَى أَبوَابِ المَسجِدِ لِيُنفَقَ عَلَى التَّرمِيمِ، وَبأَنَّ تَاجَ كِسرَى وَقَرنَي كَبشِ إِبرَاهِيمِ نُقلَت زَمنَ العَبَّاسِيّينَ مِن المَسجِدِ الأَقصَى إِلَى الكَعبَةِ
(1)
.
أَمّا اهتِمَامُ خُلفَاءِ العَبّاسِيِّينَ بَالقُدسِ وَإِنزَالُهَا المَنزِلةَ التِي تَستَحقُّهَا في الإِسلَامِ فَتقُومُ عَليهِ عِدَّةُ أَدلَّةٍ تَنقُضُ رِوايَةَ حَسُّونَ مِن أَسَاسِهَا، فَالخَلِيفَةُ المَنصُورُ الذِي ذَكرَهُ إِسحَاقُ حَسُّونُ زَارَ القُدسَ شَخصِيًّا وَلَم يُكتَب إِليهِ كِتابَةً بَعدَ أَن كَانَ شَرقِيُّ المَسجِدِ وَغَربِيُّهُ قَد وَقعَا، مِمّا يَدلُّ عَلَى اهتِمَامِ الخَليفةِ العَبّاسِيِّ الخَاصِّ بِالقُدسِ وَالمَسجِدِ الأَقصَى. وَيُحدِّثنَا أَبُو المَعالِي المُشرَّفُ بنُ المُرَجَّى المَقدِسيُّ عن هَذهِ الزِّيارَةِ، فَيقُولُ:«فَلَمَّا قَدمَ أَبُو جَعفَرٍ، وَكَانَ شَرقَيُّ المَسجِدِ وَغَربِيُّهُ قَد وَقعَا فَرُفِعَ إِليهِ: يَا أَميرَ المُؤمِنينَ! قَد وَقعَ شَرقِيُّ المَسجِدِ وَغَربِيُّهُ ـ وَكَانَت الرَّجفَةُ سَنةَ ثَلاثِينَ وَمِئَةٍ في شَهرِ رَمضَانَ ـ. فَقَالُوا لَهُ: لَو أَمرتَ بِبنَاءِ هَذَا المَسجِدِ وَعِمارَتِه؟ فَقَالَ: مَا عِندِي شَيءٌ مِن المَالِ. فَأمَرَ بِقَلعِ الصَّفَائِحِ الذِّهَبِ وَالفِضَّةِ التِي كَانَت عَلَى الأَبوَابِ، فَضُرِبَت دَنَانِيرَ وَدَراهِمَ وَأُنفِقَ عَليهِ.»
(2)
.
وَمَعنَى ذَلكَ أَنّ الخَليفَةَ العَباسِيَّ، الذِي زَارَ القُدسَ شَخصِيًّا بَعدَ أَن تَولَّى الخِلَافَةَ بِوقتٍ قَصيرٍ، لَم يَمتَنع عن التَّرمِيمِ، بَل أَمَرَ بِهِ، وَإِلَّا لَكَانَ بِإمكَانِهِ أَن يَضرِبَ صَفائِحَ الذَّهبِ وَالفِضَّةِ التِي عَلَى أَبوَابِ المَسجِدِ دَنَانيرَ وَدَراهِمَ
(1)
انظر: Symposium، P.173.
(2)
انظر: مخطوطة: «فضائل بيت المقدس والخليل عليه الصلاة والسلام وفضائل الشام» ، صورة توبنجن:(63، 64).
لِيُودِعَهَا في خِزَانَةِ دَولَتِهِ، وَلنتَذَكَّر أَنّ هَذِهِ الزِّيارَةَ لَابُدَّ أَن تَكُونَ قَد حَصَلَت في أَوائِلِ حُكمِ العَباسِيِّينَ، مَا دَامَ أَنّ العَبّاسِيّينَ قَد تَوَلَّوا الحُكمَ سَنةَ 132 هـ، إِذ أَنَّ المَنصُورَ كَانَ الخَليفةَ الثَّانِي الذِي تَولَّى الحُكمَ بَعدَ أَخيهِ أَبِي العَبَّاسِ السَّفَاحِ، إِثرَ وَفاةِ أَخيهِ سَنةَ 136 هـ
(1)
. وَكُلُّ هَذَا يُظهِرُ أَنّ الدَّولَةَ كَانت في أَوائِلِ سِنِيِّ حُكمِهَا، مِمّا قَد يُبَرِّرُ الافترَاضَ بِأنَّ الأَموَالَ اللَّازِمةَ لِلبِنَاءِ قَد لَا تَكُونُ مُتوَافِرةً في خِزانَةِ الدَّولَةِ في تِلكَ الحِقبَةِ مِن أَعوَامِ حُكمِهَا الأُولَى.
وَلَم يَكُن المَنصُورُ الخَليفَةَ العَباسِيَّ الوَحِيدَ الذِي زَارَ القُدسَ أَو اهتَمَّ بِشُؤُونِهَا وَبشَأنِ المَسجِدِ الأَقصَى عَلَى وَجهِ الخُصوصِ، فَالخَلِيفَةُ المَهدِيُّ بنُ المَنصُورِ زَارَ القُدسَ كَذلِكَ، وَهُناكَ رِوايَةٌ عن إِسرَارِهِ لِمُرَافِقهِ في هَذهِ الزِّيارِةِ بِأقوَالٍ لَهَا دِلَالَتُهَا، وَلَاسِيّمَا بِالنّسبَةِ إِلَى تَقدِيرِهِ لِبيتِ المَقدِسِ وَالمَسجِدِ الأَقصَى. وَخُلَاصةُ هَذهِ الرِّوايَةِ أَنهُ لَمّا قَدمَ المَهدِيُّ الشَّامَ يُرِيدُ بَيتَ المَقدِسِ دَخلَ مَسجِدَ دِمَشقَ وَمَعهُ أَبُو عَبدِ اللهِ الأَشعَرِيُّ، فَقَالَ:«يَا أَبا عَبدِ اللهِ! سَبقَنَا بَنُو أُمَيَّةَ بِثَلَاثٍ» ، قَالَ:«وَمَا هِيَ يَا أَمِيرَ المُؤمِنينَ؟» ، قَالَ:«هَذَا البَيتَ ـ يَعنِي مَسجِدَ دِمَشقَ ـ وَلَا أَعلَمُ عَلَى ظَهرِ الأَرضِ مِثلَهُ، وَبِنَيلِ المَوَالِي، فَإِنَّ لَهُم مَوَالِيَ لَيسَ لَنَا مِثلَهُم، وَبِعُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ لَا يَكُونُ فِينَا وَاللهِ مِثلُهُ أَبَدًا» ، ثُمَّ أَتَى بَيتَ المَقدِسِ، فَدَخلَ الصَّخرَةَ، فَقالَ:«يَا أَبَا عَبدِ اللهِ! وَهذِهِ رَابِعَةٌ»
(2)
.
وَلَمَّا كَانَت الرَّجفَةُ الثَّانِيةُ في القُدسِ وَقعَ البِناءُ الذِي بَنَاهُ وَالِدُهُ
…
أَبُو جَعفَرٍ، فَرُفِعَ ذَلكَ إِلَى المَهدِيِّ لَدَى زِيَارَتِهِ القُدسَ، فَأَمَرَ بِإِعَادَةِ بِنَائِهِ، فَتَمَّ البِناءُ في خِلَافَتهِ
(3)
.
(1)
انظر: «البداية والنهاية» ط. القاهرة 1933، (1/ 57).
(2)
انظر: مخطوطة «مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام» (ورقة: 136).
(3)
انظر: مخطوطة «فضائل بيت المقدس والخليل عليه الصلاة والسلام، وفضائل الشام» (ص: 64).
وَتَوَالَى اهتمَامُ بَني العَبّاسِ بِالمَسجِدِ الأَقصَى بَعدَ المَهدِيِّ، مِمّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنزِلَةَ القُدسِ وَالأَقصَى لَم تَتضَاءَل بَعدَ الحُكمِ الأُمَويِّ، فَقد قَامَ الخَلِيفَةُ المَأمُونُ سَنةَ 216 هـ بِإِصلَاحَاتٍ في قُبةِ الصَّخرَةِ بِإشرَافِ أَخيهِ أَبِي إسحاقَ ـ الخَلِيفَةِ المُعتَصِمِ فِيمَا بَعدُ ـ الذِي كَانَ إِذ ذَاكَ نَائِبَهُ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَعَلى يَدِ عَامِلِهِ صَالحِ بنِ يَحيَى، وَقد بَلَغَت التَّرمِيمَاتُ التِي أَجرَاهَا الخَلِيفَةُ المَأمُونُ مِنَ الضَّخَامَةِ حَدًّا دَفعَ بَعضَ أَتبَاعِهِ إِلَى أَن يَعزُوَ البِنَاءَ كُلَّهُ إِلَى هَذَا الخَلِيفَةِ العَبّاسِيِّ
(1)
.
وَفِي مَطلَعِ القَرنِ الرَّابِعِ الهِجرِيِّ أَصلَحت أُمُّ المُقتِدِرِ العَبّاسِيِّ جَانِبًا مِن سَقفِ الصَّخرَةِ، وَأمَرت بِوضعِ أَبوابٍ لِلمَسجِدِ الأَقصَى، وَقَد ذَكرَ المَقدِسِيُّ البِشَارِيُّ ذَلكَ في إِطَارِ وَصفٍ تَفصِيلِيٍّ لَهُ لِلمَسجِدِ
(2)
.
وَلَعلَّ مِن أَغرَبِ مَا احتَجَّ بِهِ إِسحَاقُ حَسُّونُ لِلتَّدلِيلِ عَلَى انتِقاصِ قِيمَةِ القُدسِ وَالأَقصَى زَمنَ العَباسِيِّينَ مَا ذَكرَهُ مِن أَنَّ العَبَّاسِيِّينَ نَقَلُوا قَرنَي كَبشِ إِبرَاهِيمَ وَتَاجَ كِسرَى مِن المَسجِدِ الأَقصَى إِلَى الكَعبَةِ، وَوجهُ الغَرابَةِ في الأَمرِ أَن يَأخُذَ حَسُّونُ مَأخذَ الجِدِّ وَالتَّسلِيمِ قِصَّةَ وُجُودِ قَرنَي كَبشِ إِبرَاهِيمَ وَتَاجِ كِسرَى في المَسجِدِ الأَقصَى وَبَقَاءَ هَذهِ الآثَارِ في المَسجِدِ حَتَّى نِهَايَةِ الثُّلُثِ الأَوَّلِ مِن القَرنِ الثَّانِي الهِجرِيِّ! وَلَم يَتَساءَل هَذَا البَاحِثُ عن كَيفِيَّةِ نَقلِ قَرنَي هَذَا الكَبشِ المُوغِلِ في القِدَمِ أَصلًا إِلَى المَسجِدِ الأَقصَى، وَكَيفَ ثَبتَ القَرنَانِ
(1)
انظر في الترميمات زمن المامون، «معجم البلدان» لياقوت تحقيق وستنفيلد (4/ 597) و: A. L. Tibawi: Jerusalem: Its Place In Islam and Arab History، Beirut، 1969، P.10.
(2)
انظر: «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» لشمس الدين أبي عبدا لله محمد بن أحمد بن أبي بكر المقدسي البشاري، ط 2، ليدن، 1967 (ص: 169)، وانظر كذلك «معجم البلدان» تحقيق وستنفيلد ط. طهران 1965 (4/ 597).
لِعَوَادِي الزَّمَانِ وَتَقَلُّبَاتِ الطَّبِيعَةِ هَذِه المُدَّةَ الطَّوِيلَةَ جِدًّا، ثُمَّ مَا وَجهُ أَن يُوضَعَ تَاجٌ استُلِبَ مِن مَلِكٍ فَارِسِيٍّ وَثَنِيٍّ في أَحدِ المَساجِدِ الثَّلاثَةِ التِي تُشَدِ إِليهَا الرِّحَالُ في الإِسلَامِ!!
لَقد قَرأَ حَسُّونُ بِالطَّبعِ رِوايَةً كَهذِهِ في إِحدَى مَخطُوطَاتِ فَضَائِلِ القُدسِ
…
ـ كَمَا قَرأَ كَاتِبُ هَذهِ السُّطُورِ هذِهِ الرِّوايَةَ أَيضًا ـ، وَلكِنَّ الرِّوَايَةَ، شَأنُهَا شَأنُ رِوَايَاتٍ أُخرَى شَبِيهَةٍ لَهَا في كُتبِ الفَضائِلِ، لَا تَعدُو أَن تَكُونَ مِن قَبِيلِ الأَساطِيرِ وَالحِكَايَاتِ الشَّعبِيّةِ المُتوَارَثَةِ، وَلَا يُمكِنُ أَن تُؤخَذَ مَأخَذَ الجِدِّ وَالتَّسلِيمِ في كِتَابَةٍ رَصِينَةٍ.
وَإِذَا كَانَ كِتابٌ مُتأخِّرٌ نِسبِيًّا مِن كُتبِ الفَضائِلِ يَتحَدَّثُ عن وُجُودِ هَذِه الآثَارِ في مَسجِدِ القُدسِ، فَإِنّ كِتابًا أَقدَمُ عَهدًا مِنهُ، وَيدخُلُ في نِطاقِ كُتبِ التَّارِيخِ، قَد ذَكرَ أَنَّ قَرنَي الكَبشِ هَذينِ ـ وَيُسمِّيهِمَا قَرنَي كَبشِ إِسمَاعِيلَ لَا كَبشِ إِبرَاهِيمَ ـ قَد وُجِدَا في بِناءِ الكَعبَةِ حِينَ أَعادَ ابنُ الزُّبَيرِ بِناءَهَا ـ وَثَورَةُ ابنِ الزُّبَيرِ كَانَت بَينَ سَنَتَي 66 و 73 هـ ـ، ثُمّ يُضيفُ في الصَّفحَةِ نَفسِهَا التِي أَورَدَ فِيهَا خَبرَ القَرنَينِ أَنّ عَبدَ المَلكِ بنَ مَروَانَ وابنَهُ الوَلِيدَ وَالوَلِيدَ بنَ يَزيدَ قَد أَرسَلَا هَدايَا إِلَى الكَعبَةِ، مِمّا يُستَبعَدُ مَعهُ أَن يَكُونَ خُلَفاءُ الأُمَوِّيينَ هُم الذِينَ نَقلُوا أَوّلًا القَرنَينِ المَوهُومَينِ مِنَ الكَعبَةِ أَقدَسِ مُقَدَّسَاتِ الإِسلَامِ إِلَى القُدسِ، إِن كَانَ القَرنَانِ قَد وُجِدَا بِالفِعلِ في الكَعبَةِ لَدى إِعَادَةِ ابنِ الزُّبَيرِ بِناءَهَا!! أَمّا هَذَا الكِتَابُ القَديمُ فَهوَ كِتابُ (أَخبَارُ مَكَّةَ وَمَا جَاءَ فِيهَا مِنَ الآثَارِ) لِأَبِي الوَلِيدِ مُحمدِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ أحمدَ الأَزرَقِيِّ
(1)
.
(1)
انظر: «أخبار مكة» للأزرقي (1/ 224).
وَمِما يَنبَغِي إِيرَادُهُ هُنَا، أَنّ بَعضًا مِن مُؤَلِّفِي كُتبِ الفَضَائِلِ ـ وَمِنهُم جَمَالُ الدِّينِ أَبُو مُحمَّدٍ عَبدُ اللهِ بنُ هِشَامٍ الأَنصَارِيُّ، صَاحِبُ مَخطُوطَةِ (تَحصِيلُ الأُنس لِزَائِرِ القُدس)، وَمِن رِجَالِ القَرنِ الثَّامِنِ الهِجرِيِّ ـ أَبَت عُقُولُهُم أَن تَتقَبَّلَ الأَقاوِيلَ وَالأَساطِيرَ غَيرَ المَعقُولَةِ عن القُدسِ وَمِنهَا مَا يَرتَبطُ بِقَرنَي كَبشِ إِسمَاعِيلَ هَذَينِ. وَيَسخَرُ ابنُ هَشامٍ في مُؤلَّفِهِ المَذكُورِ مِن هَذِه الأَقَاوِيلِ وَيقُولُ:«وَمِنهَا سِكّينٌ مُلصَقةٌ بِالقُربِ مِن الصَّخرَةِ، يَزعُمُونَ أَنَّها التِي أرَادَ الخَلِيلُ عليه السلام ذَبحَ وَلَدَهُ بِهَا» ، ثُمَّ يَقُولُ: «وَأَخبرَنِي مَن كُنتُ أَظُنُّ لَهُ عَقلًا أَنَّ المَسجِدَ وَمَا يَقرُبُ مِنهُ مُسَامِتٌ لِلعَرشِ
…
وَكَأنَّهُ تَوهَّمَ بِخَيَالِهِ الفَاسِدِ أَنَّ العَرشَ عِبارَةٌ عن سَرِيرٍ كَسَرِيرِ بَيتِهِ أَو أَكبَرُ مِنهُ تَخيِيلًا!»
(1)
.
أَمَّا القَولُ بِأنَّ الشِّيعَةَ، أَو بَعضَهم، لَم يُضفُوا أَيَّةَ قِيمَةٍ خَاصَّةٍ عَلَى القُدسِ فَيتَناقَضُ مَعَ الوَاقِعِ التَّارِيخِيِّ عَلَى النِّطَاقِ الرَّسمِيِّ وَالشَّعبِيِّ عَلَى السَّوَاءِ لَدَى الشِّيعَةِ. أَمَّا عَلَى النِّطَاقِ الرَّسمِيِّ، فَيكفِي أَن نَذكُرَ مَا أَظهَرَهُ خُلفَاءُ الفَاطِمِيِّينَ مِن اهتمَامٍ بِالمَسجِدِ الأَقصَى وَعِمَارَتِهِ، فَبَعدَ أَن وَقعَ زِلزَالٌ كَبِيرٌ عَامَ 424 هـ تَهَدَّمَ بِسبَبِهِ المَسجِدُ الأَقصَى قَامَ الخَلِيفةُ الفَاطِمِيُّ ـ وَهُو شِيعِيٌّ طَبعًا ـ بِإِعَادَةِ بِنَاءِ المَسجِدِ سَنَةَ 426 هـ، وَلَا يَزَالُ قِسمٌ مِن بِنَائِه قَائِمًا
(2)
.
وَيُحدِّثُنَا نَاصِرُ خِسرُو ـ الذِي زَارَ القُدسَ في القَرنِ الخَامِسِ الهِجرِيِّ ـ عن قَنَادِيلَ كَثِيرَةٍ مِن فِضَّةٍ كُتبَ عَليهَا وَزنُهَا، مِمّا أَمَرَ بِصُنعِهِ سُلطَانُ مِصرَ الفَاطِميُّ لِيُعلَّقَ فَوقَ الصَّخرَةِ. وَقَد قَدَّرَ هَذَا السَّائحُ الفَارِسِيُّ وَزنَ الفِضَّةِ
(1)
انظر: مخطوطة: «تحصيل الأنس لزائر القدس» (ص: 63، 64).
(2)
انظر: الدوري: «المؤتمر الدولي الثالث لتاريخ بلاد الشام» : فلسطين، 1980، بحث على ورق استانسل، (ص: 27).
المُستَعمَلةِ في القَنَادِيلِ بِألفِ مَنٍّ. ثُمَّ يُحدِّثُنَا عن شَمعَةٍ هَائِلةٍ في الصَّخرَةِ، يُرسِلُهَا سُلطَانُ مِصرَ الفَاطِميِّ كُلَّ سَنةٍ، وَيَكتبُ عَليهَا اسمَهُ بِالذَّهبِ، ثُمَّ يَقُولُ إِنَّ الأَمِيرَ لَيثَ الدَّولَةِ أَبَا مَنصُورٍ أُوشتِيكِينَ الغُورِيَّ ـ الذِي كَانَ حَاكِمًا لِلشَّامِ مِن قِبَلِ الظَّاهِرِ لِإِعزَازِ دِينِ اللهِ الفَاطِميِّ ـ أَقامَ إِيوَانًا في المَسجِدِ الأَقصَى
(1)
.
أَمَّا عَلَى الصَّعِيدِ الشَّعبِيِّ وَمَا كَانَ يَجرِي عَلَى أَلسِنَةِ النَّاسِ، فَثَمَّةَ أَقوَالٌ مِن مِثلِ:«يَنزِلُ المَهدِيُّ بِبَيتِ المَقدِسِ، ثُمَّ يَكُونُ خَلَفٌ مِن أَهلِ بَيتِهِ بَعدَهُ وَتَطُولُ مُدَّتُهُم»
(2)
، وَمِن مِثلِ مَا رَاجَ بَينَ النَّاسِ مِن قَولٍ نَسبُوهُ إِلَى
…
الزُّهرِيِّ: «لَمَّا قُتِلَ الحُسينُ بنُ عَلِيٍّ، لَم تُرفَع بِبيتِ المَقدِسِ حَصَاةٌ إِلَّا وُجدَ تَحتَهَا دَمٌ»
(3)
.
أَمَّا رَبطُ كِتَابَي الوَاسِطِيِّ وَأَبِي المَعَالِي المَقدِسِيِّ ـ وَهُمَا أَقدَمُ كِتَابَينِ في فَضَائِلِ القُدسِ وَصَلَا إِلَينَا ـ بِاضطِهَادِ الحَاكِمِ الفَاطِمِيِّ لِلمَسِيحِيِّينَ وَبِأضرَارٍ أَصَابَت المَسجِدَ الأَقصَى وَمَسجِدَ الرَّسُولِ عليه السلام وَالكَعبَةَ عَامَ 407 هـ، فَهُوَ رَبطٌ تَعَسُّفِيٌّ، كَمَا يَتَبينُ مِمَّا يَلِي:
إنَّ مَا تَروِيهِ كُتبُ التَّارِيخِ عن فَترَةِ حُكمِ الخَلِيفَةِ الفَاطِمِيِّ الحَاكِمِ بِأمرِ اللهِ تُبيِّنُ أَنَّ تَصرُّفَاتِ هَذَا الخَليفَةِ اتَّسَمَت بِالشُّذُوذِ وَالجُمُوحِ وَالإِفرَاطِ، وَأَنّ الضَّررَ الذِي نَشأَ عن هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ قَد عَمَّ قِطَاعَاتِ رَعِيَّتِهِ كُلَّهَا مِن مُسلِمِينَ وَغَيرِ مُسلِمِينَ، بَل إِنَّ الضَّررَ قَد وَصلَ إِلَى أَقرَبِ النَّاسِ مِنهُ مِن
(1)
انظر: «سفر نامة» ، ترجمة يحيى الخشاب، ط. بيروت 1970 (ص: 67، 69).
(2)
انظر: «مخطوطات فضائل بيت المقدس» ، (ص: 19) نقلاً عن «كتاب الملاحم والفتن» لنعيم بن حماد (ص: 149).
(3)
«فضائل بيت المقدس» للواسطي، تحقيق إسحاق حسون (ص: 55). [وسيأتي برقم: 82 (عمرو)]
خَاصَّتِهِ وَرجَالِ قَصرِهِ بَل مِن أَبنَاءِ أُسرَتَهِ، وَلِذَا فَإِن مِنَ الصَّعبِ عَلَى المَرءِ أَن يَربِط بَينَ نَوبَةِ اضطِهَادٍ عَابِرَةٍ عَلَى يَدِ الحَاكِمِ بِأمرِ اللهِ وَبَينَ تَألِيفِ كُتبٍ عن فَضَائِلِ القُدسِ، وَكَأنَّمَا كَانَت هَذِهِ الفَضَائِلُ غَيرَ قَائِمَةٍ عِندَ المُسلِمِينَ حَتَّى تِلكَ الفَترَةِ وَتَطَلَّبَت ظُرُوفٌ عَابِرةٌ فَقَط أَن يُعَرَّفَ النَّاسَ بِهَا! ثُمَّ مَا الذِي تُخَفِّفُهُ كُتبٌ كَهَذِهِ عن فَضَائِلِ القُدسِ مِن حَملَةِ الاضطِهَادِ المَنسُوبَةِ إِلَى الحَاكِمِ بِأَمرِ اللهِ، وَمَا الذِي تُقَدِّمُهُ مِن تَبرِيرٍ لِأَعمَالِ الاضطِهَادِ؟ الوَاقِعُ أَنَّ كُتبَ الفَضَائِلِ تَحدَّثَت ضِمنَ مَا تَحدَّثَت بِهِ عن تَسَامُحٍ لَا مَثيلَ لَهُ في أَوَائلِ القَرنِ الأَوَّلِ الهِجرِيِّ = السَّابِعِ المِيلَاديِّ مِن خَلِيفَةِ المُسلِمِينَ عُمرَ بنِ الخَطابِ تِجَاهَ نَصَارَى القُدسِ عِندَ الفَتحِ العُمَرِيِّ، وَمِثلُ هَذِه الكُتبِ إِذَن مِن شَأنِهَا أَن تُعِيدَ إِلَى أَذهَانِ النَّاسِ تَسَامُحَ حُكَّامِ الإِسلَامِ تِجَاهَ الدِّيَانَاتِ الأُخرَى بَدَلًا مِن أَن تُبَرِّرَ تَعَصُّبَ الخَليفَةِ الفَاطِمِيِّ، حَتَّى وَإِن كَانَ نَوبَةً طَارِئَةً عَابِرَةً، مِن نَوبَاتِ إِنسَانٍ كَانَ يَنقُصُهُ الاعتِدَالُ وَالاتِّزَانُ في تَصَرُّفَاتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَم يُعرَف عن
مُؤَلِّفَي الكِتَابَينِ الوَاسِطِيِّ وَأَبِي المَعَالِي المَقدِسِيِّ أَنَّهُمَا كَانَا مِن أَتبَاعِ مَذهَبِ الفَاطِمِيِّينَ الشِّيعِيِّ الإِسمَاعِيلِيِّ لِكَي يَدفَعُهُمَا ذَلكَ إِلَى كِتابَةِ مَا يُمَثِّلُ وَلَو دِفَاعًا ضِمنِيًّا عن تَصَرُّفَاتِ المُمَثِّلِ الرَّسمِيِّ الأَوَّلِ لِهَذَا المَذهَبِ، بَل إِنَّ مِن الوَاضِحِ أَنَّ كِلَا المُؤَلِّفَينِ كَانَ سُنِّيًّا مَن تُعظِّمُّهُ السُّنَّةُ ـ كَمَا يَتَّضِحُ مَثلًا مِن المَكَانَةِ المُتمِيِّزَةِ التِي خُصَّ بِهَا عُمرُ بنُ الخَطَّابِ في نُصُوصِ كِتَابِهِمَا ـ.
وَأَمَّا أَن تَكُونَ أَحدَاثُ 407 هـ قَد أَدَّت إِلَى تَألِيفِ كُتبٍ في فَضَائلِ القُدسِ مِن أَجلِ جَمعِ الأَموَالِ لِتَرمِيمِ المَسجِدِ الأَقصَى فَرِوَايَةٌ غَرِيبًةٌ لَا تَثبُتُ لِلنَّقدِ وَالتَّمحِيصِ.
وَلِلأَمَانةِ العِلمِيَّةِ نُورِدُ فِيمَا يَلِي مَا كَتبَهُ ابنُ كَثيرٍ حَولَ أَحدَاثِ هَذِهِ السَّنَةِ:
(1)
.
أَمَّا أَنَّ أَضرَارًا قَد وَقَعَت في ثَلَاثَةِ مَبَانٍ مُقَدَّسَةٍ في سَنةٍ وَاحِدةٍ فَأَمرٌ تُثبِتُهُ رِوَايَةُ ابنُ كَثِيرٍ كَمَا رَأَينَا. وَأَمَّا الرَّبطُ بَينَ أَحدَاثٍ كَهَذِهِ وَبَينَ تَألِيفِ كُتبٍ في فَضَائِلِ القُدسِ فَهُو تَصَيُّدٌ غَرِيبٌ لِلشَّوَاهِدِ المَأخُوذَةِ قَسرًا مِن الرِّوَايَاتِ التَّارِيخِيَّةِ، وَيَكفِي أَن نُثِيرَ التَّسَاؤُلَاتِ التَّالِيَةَ حَولَ هَذَا الرَّبطِ التَّعَسُّفِيِّ:
1 -
لِمَ يُكتَبُ عن فَضَائِلِ القُدسِ بَعدَ هَذِهِ الأَحدَاثِ مِن أَجلِ جَمعِ الأَموَالِ، وَلَا يُكتبُ في الوَقتِ نَفسِهِ عن فَضَائِلِ المَوَاقِعِ الأُخرَى التِي أَصَابَتهَا هَذِهِ الأَحدَاثُ كَذَلكَ؟
2 -
لِمَاذَا لَم تُؤَلَّف كُتبٌ عن فَضَائِلِ القُدسِ خَاصَّةً بَعدَ الرَّجفَاتِ التِي أَصَابَت المَسجِدَ الأَقصَى مِن قَبلُ ـ كَتِلكَ التِي وَقَعت سَنةَ 130 هـ مَثَلًا وَأُصلِحَ مَا نَشأَ عَنهَا مِن تَهَدُّمٍ زَمَنَ الخَلِيفَةِ المَنصُورِ، أَو تِلكَ التِي حَدَثَت بَعدَ ذَلكَ في زَمنِ ابنِهِ المَهدِيِّ، أَو التِي تَلَت ذَلكَ زَمنَ الخَلِيفَةِ المَأمُونِ وَأُصلِحَت عَلَى نِطَاقٍ وَاسِعٍ عَامَ 216 هـ ـ مِمَا سَبقَ أَن أُشِيرَ إِلَيهِ في صَفَحَاتٍ سَابِقَةٍ؟
(1)
كتاب «البداية والنهاية» ط. دار الفكر العربي، القاهرة 1933، (12/ 4).
3 -
لِمَاذَا يُعمَدُ بَعدَ عَامِ 407 هـ عَلَى وَجهِ الخُصُوصِ إِلَى الاكتِتَابِ لِإِصلَاحِ مَا تَهدّمَ مِنَ المَسجِدِ الأَقصَى، في حِينِ أَنَّنَا رَأَينَا مِن أَحدَاثِ السِّنِينِ السَّابِقَةِ أَنَّ الذِينَ كَانُوا يَتَوَلَّونَ عَمَلِيَّاتِ التَّرمِيمِ وَالإِصلَاحِ هُم حُكَّامُ المُسلِمِينَ لَا أَبنَاءُ الشَّعبِ؟! وَالمَعرُوفُ أَنَّ بِنَاءَ الأَقصَى أَوَّلًا ثُمَّ تَرمِيمَاتُهُ بَعدَ ذَلكَ قَد أُنفِقَ عَلَيهَا مِن أَموَالِ الدَّولَةِ، وَأَنَّ تَكلُفَةَ البِنَاءِ الأُولَى قَد كَلَّفَت الدَّولَةِ خَرَاجَ مِصرَ لِمُدَّةِ سَبعِ سِنِينَ؟!
(1)
.
4 -
نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ الوَاسِطِيَّ ـ صَاحِبَ أَوَّلِ كِتَابٍ خُصِّصَ بِأكمَلِهِ لِفَضَائِلِ القُدسِ مِمّا وَصَلَنَا مِن تِلكَ الكُتُبِ ـ قَد قَرأَ كِتَابَهُ عَلَى النَّاسِ في مَنزِلِهِ في القُدسِ سَنَةَ 410 هـ
(2)
. وَلَنَا أَن نَفتَرِضَ أَنَّ مُؤَلِّفَ الكِتَابِ قَد بَدَأَ في تَألِيفِهِ قَبلَ مُدَّةٍ مَعقُولَةٍ مِن قِرَاءَتِهِ عَلَى النَّاسِ وَمِن الانتِهَاءِ مِن تَألِيفِهِ طَبعًا، فَهَل مِن السَّهلِ التَّسلِيمُ بِأَنَّ الرَّجُلَ قَد تَنَاولَ قَلَمَهُ مُبَاشَرَةً بَعدَ سُقُوطِ قُبَّةِ الصَّخرَةِ سَنَةَ 407 هـ وَبَدَأَ بِالتَّألِيفِ، ثُمَّ انتَهَى مِنهُ وَعَمَّمَ مَادَّتَهُ عَلَى النَّاسِ مِن أَجلِ أَن يَكتَتِبُوا لِإِعَادَةِ بِنَاءِ القُبَّةِ؟
هَذِهِ بَعضُ تَسَاؤُلَاتٍ فَقَط مِن التَّسَاؤُلَاتِ التِي يُمكِنُ أَن تَخطُرَ بِالذِّهنِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّبطِ بَينَ تَشَعُّثِ الرُّكنِ اليَمَانِيِّ مِن المَسجِدِ الحَرامِ وَسُقُوطِ جِدَارٍ بَينَ يَدَي قَبرِ الرَّسُولِ عليه السلام وَسُقُوطِ القُبَّةِ الكَبِيرَةِ عَلَى صَخرَةِ بَيتِ المَقدِسِ، وَبَينَ
(1)
انظر: مخطوطة «مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام» (ورقة: 45) حيث ذكر المؤلف أن ما أنفق على مسجد الصخرة كان قدر خراج مصر سبع سنين. وقد قدَّر الدكتور عبد العزيز الدوري خراج مصر في السنة بـ (60) ألف دينار، ومعنى ذلك أن ما أنفق على بناء المسجد بلغ 420 ألف دينار، وهو مبلغ ضخم إذا أخذت القيمة الشرائية للدينار في ذلك الوقت بعين الاعتبار (انظر: بحث الدكتور الدوري المقدم إلى المؤتمر الدولي الثالث لبلاد الشام: «فلسطين» ، الذي عقد في عمان سنة 1980، ص: 14).
(2)
انظر: «فضائل البيت المقدّس» للواسطي، تحقيق إسحاق حسون:(ص: 1)[ويأتي ص: 132 (عمرو)].
تَألِيفِ كُتبٍ في فَضَائِلِ القُدسِ لِجَمعِ الأَموَالِ، وَكَأَنَّمَا كَانَ النَّاسُ في تِلكَ الفَترَةِ، أَو فِيمَا قَبلَهَا، لَم يَسمَعُوا أَبَدًا عن مَكَانَةِ القُدسِ في الإِسلَامِ، مُنذُ أَن اتُّخِذَت قِبلَةً لِلمُسلِمِينَ وَمُنذُ أَن أُسرِيَ إِلَيهَا بِنَبِيِّ الإِسَلامِ، وَمُنذُ أَن كَانَت المَدِينَةَ الوَحِيدَةَ التِي فُتِحَت عَلَى يِدِ خَلِيفَةِ المُسلِمِينَ الثَّانِي شَخصِيًّا!
وَلَكِنَّ الرَّبطَ التَّعَسُّفِيَّ بَينَ الوَقَائعِ وَالأَحدَاثِ، بَل وَالاستِخلَاصَاتِ المَعكُوسَةِ مِن أَحدَاثٍ مُعَيَّنَةٍ، لَم تَقتَصِر عَلَى مَا سَبَقَ، فَقَد شَاءَ بَعضُ مَن حَاوَلُوا الانتِقَاصَ مِن مَنزِلَةِ القُدسِ عِندَ المُسلِمينَ لِتَبرِيرِ تَأَخُّرِ الكِتَابَةِ في فَضَائِلِهَا أَن يَتَّخِذُوا مِن وَصِيَّةِ أَبِي عُبَيدَةَ قَبلَ مَوتِهِ دَلِيلًا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيهِ، في حَينِ أَنَّهُ في الوَاقِعِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى عَكسِ مَا ذَهَبُوا إِلَيهِ! وَأَمَّا قِصَّةُ هَذِهِ الوَصِيَّةِ فَتَتَلَخَّصُ فِيمَا يَلِي ـ كَمَا أَورَدَهَا أَبُو المَعَالِي المَقدِسِيُّ في مَخطُوطَتِهِ ـ:
(1)
.
إِنَّ أَيَّةَ قِرَاءةٍ لِوَصِيّةِ هَذَا الصَّحَابِيِّ الجَلِيلِ يُقصَدُ بِهَا فَهمُ النَّصِّ في إِطَارِ سِيَاقِهِ الطَّبِيعِيِّ سَتَصِلُ بِالقَارِئِ إِلَى أَنَّ أَبَا عُبَيدَةَ رضي الله عنه كَانَ يُنزِلُ فِلسطِينَ وَالقُدسَ مِن نَفسِهِ مَنزِلَةً عَظِيمَةً، فَهُو أَصلًا كَانَ مُتَوجِّهًا إِلَى القُدسِ لِلصَّلَاةِ فِيهَا، ثُمَّ هُو قَد رَغِبَ عِندَمَا أَحسَّ بِدُنُوِّ أَجلِهِ في أَن يُدفَنَ في الأَرضِ المُقدَّسةِ
(1)
فضائل بيت المقدس والخليل عليه الصلاة والسلام وفضائل الشام (ص: 191، 192).
في القُدسِ، وَلَكِنَّهُ خَشِيَ أَن يَشُقَّ عَلَى الصَّالِحينَ مِن المُسلِمِينَ مِن بَعدِهِ إِذَا هُو نُقِلَ مِن مَكَانِ مَوتِهِ إِلَى المَدينَةِ المُقدَّسَةِ ليُدفَنَ فِيهَا، فَآثرَ أَن يُخفِّفَ عَلَى اللَّاحِقِينَ مِن أَبنَاءِ دِينِهِ، إِذ تَخَوَّفَ مِن أَن يَكُونَ نَقلُ المَيِّتِ مِن ذَوِي المَكَانَةِ في الإِسلَامِ إِلَى القُدسِ مِن أَجلِ أَن يُدفَنَ فِيهَا سُنَّةً تُتَّبَعُ مِن بَعدِهِ بِكُلِّ مَا قَد يَنبَنِي عَلَيهَا مِن مَشَقَّاتٍ في ظُرُوفٍ مُختَلِفَةٍ.
وَحَتَّى مَعَ هَذَا التَّحَوُّطِ وَالشَّفقَةِ عَلَى المُسلِمِينَ مِن أَبِي عُبَيدَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَجِدُ أَنَّ رِجَالًا مِن المُسلِمِينَ في قُرُونٍ لَاحِقَةٍ قَد نُقِلُوا بَعدَ وَفَاتِهِم إِلَى القُدسِ مِن أَجلِ أَن يُدفَنُوا فِيهَا. فَقَد ذَكَرَ مُحمّدُ بنُ يُوسَفَ الكِندِيُّ في كِتَابِهِ (وُلَاةُ مِصرَ) أَنَّ أَبَا الحَسنِ عَليَّ بنَ الإِخشِيدِ تُوُفِّيَ سَنَةَ 355 هـ، فَحُمِلَ في تَابُوتٍ إِلَى البَيتِ المُقَدَّسِ، وَدُفنَ مَعَ أَخِيهِ وَوَالِدِهِ بِبَابِ الأَسبَاطِ
(1)
. وَعِندَمَا استُشهِدَ الأَمِيرُ بَدرُ الدِّينِ الهَكَّارِيُّ عَلَى أَيدِي الفِرِنجِ قَرِيبًا مِن دِمَشقَ نُقِلَ جُثمَانُهُ إِلَى القُدسِ، ودُفِنَ في تُربَةِ مَاملَّا
(2)
.
بَل إِنَّنَا نَجِدُ في قَرنِنَا هَذَا أَنّ اثنَينِ مِن رِجَالِ الإِسلَامِ البَارِزِينَ قَد دُفِنَا في سَاحَةِ المَسجِدِ الأَقصَى، وَهُمَا الشَّرِيفُ حُسَينُ شَرِيفُ مَكَّةَ، وَمُحَمّدُ عَلِيٌّ الهِندِيُّ، بِاعتِبَارِ ذَلكَ نَوعًا مِنَ التَّكرِيمِ لَهُمَا بَعدَ مَوتِهِمَا.
أَمَّا قَولُ سِيفَانَ Emanuel Sivan وَهُوَ يُحَاوِلُ أَن يَخلُصَ إِلَى أَنَّ القُدسَ لَم تَحتَلَّ في ضَمِيرِ العَالَمِ الإِسَلامِيِّ المَكَانَةَ التِي تُوحِي بِهَا الأَحَادِيثُ النَّبَويَّةُ التِي تُروَى في فَضلِهَا، إِنَّ الأَوسَاطَ السُّنِّيَّةَ في الإِسلَامِ لَم تُبدِ حَمَاسًا لِتَحرِيرِ المَدِينَةِ مِن الفَاطِمِيّينَ، كَمَا لَم يَكُن ثَمَّةَ صَدًى لِإِعَادةِ احتِلَالِ الفَاطِمِيِّينَ لَهَا قَبلَ
(1)
كتاب «ولاة مصر» ط. دار صادر، بيروت (ص: 313).
(2)
«ذيل الروضتين» نشر دار الجيل، بيروت 1974، ط 2، (ص: 108).
الغَزوِ الصَّلِيبِيِّ لِلمَدِينَةِ، ثُمَّ احتِلَالِ الصَّلِيبِيِّينَ لَهَا بَعدَ ذَلكَ، فُيُرَدُّ عَلَيهِ في إِطَارَينِ أَوَّلُهُما يَتَعلَّقُ بِتَبَادُلِ المَدِينَةِ في القَرنِ الخَامِسِ الهِجرِيِّ بَينَ السَّلَاجِقَةِ السُّنِّيِّينَ في الشَّامِ وَبَينَ الفَاطِمِيّينَ الشِّيعَةِ في مِصرَ، وَثَانِيهُمَا يِتَعَلَّقُ بِسُقُوطِ المَدِينَةِ في يَدِ الفِرِنجِ ـ الصَّلِيبِيّينَ ـ عَامَ 492 هـ.
أَمَّا دُخُولُ القُدسِ في دَولَةِ السَّلَاجِقَةِ تَارَّةً وَفِي دَولَةِ الفَاطِمِيّينَ تَارَّةً أُخرَى فَي القَرنِ الخَامِسِ الهِجرِيِّ، فَإِن الأَمرَ لَم يَعدُ في ذَلكَ الوَقتِ أَن يَكُونَ
…
ـ بِالنِّسبَةِ إِلَى المُسلِمِينَ الذِينَ كَانُوا يَعِيشُونَ في عَصرٍ غَيرِ مُستَقِرٍّ سِيَاسِيًّا، وَفِي ظِلِّ خِلَافَةٍ عَبَّاسِيَّةٍ فَقدَت سَيطَرَتَهَا الحَقِيقِيَّةِ عَلَى الأَقَالِيمِ ـ صِرَاعًا دَاخِليًّا بَينَ دَولَتَينِ مُسلِمَتَينِ مُتَنَافِسَتَينِ، لَا يَنبَنِي عَلَيهِ خُروجُ مَدينَةٍ مُسلِمَةٍ مِن دِيَارِ الإِسلَامِ إِلَى دِيَارِ الأَعدَاءِ مِن غَيرِ المُسلِمِينَ، وَلَاسِيَّمَا أَنَّ الأَمرَ بَينَ السَّلَاجقَةِ وَالفَاطِمِيِّينَ في تِلكَ الفَترَةِ كَانَ أَمرَ تَنَازُعٍ عَلَى الأَطرَافِ بَينَ دَولَتَينِ دُونَ أَن يُفضِي إِلَى القَضَاءِ كُلِّيَّةً عَلَى أَيٍّ مِنهُمَا، وَدَلِيلُنَا عَلَى ذَلكَ رَدَّةُ الفِعلِ القَوِيَّةُ التِي تَبِعَت قَضَاءَ صَلاحِ الدِّينِ الأَيُّوبِيِّ عَلَى دَولَةِ الفَاطِمِيِّينَ في مِصرَ عَامَ 567 هـ، وَمَا تَرَكَتهُ مِن صَدَى بَهجَةٍ عَظِيمَةٍ بَينَ النَّاسِ في الشَّامِ وَالعِرَاقِ، بَل وَفِي مِصرَ نَفسِهَا، إِذ رَأَوا في القَضَاءِ عَلَى دَولَةِ الفَاطِمِيِّينَ وَعَودَةِ مِصرَ إِلَى الخِلَافَةِ العَبَّاسِيَّةِ السُّنيّةِ في بَغدَادَ حَدَثًا جَلِيلًا كُتِبَ فِيه شِعرٌ كَثِيرٌ وَنَثرٌ كَثِيرٌ يَفِيضَانِ بِمَشَاعرِ السُّرُورِ وَالفَرَحِ
(1)
.
وَأَمَّا ادِّعَاءُ سِيفَانَ بِأَنَّهُ لَم يَكُن ثَمَّةَ صَدًى لِاحتِلَالِ الفِرِنجِ لِلمَدِينَةِ المُقدَّسَةِ سَنَةَ 1099 م = 492 هـ فَهُوَ ادِّعَاءٌ يَنقُضُهُ أَيُّ كِتَابٍ مِن كُتُبِ التَّارِيخِ
(1)
انظر ردة الفعل للقضاء على الدولة الفاطمية في كتاب أبي شامة: «كتاب الروضتين في تاريخ الدولتين: النورية والصلاحية» ، الجزء الأول، القسم الثاني، ط. القاهرة 1962، (ص: 496).
وَالأَدبِ التِي تَحَدَّثَت عن هَذَا الاحتَلالِ. وَسَأُورِدُ فِيمَا يَلي وَاحِدَةً فَقَط مِن الرِّوَايَاتِ التَّارِيخِيَّةِ المُتَعَلِّقِةِ بِصَدَى هَذَا الاحتِلَالِ ـ وَهِي مُجَرَّدُ رِوَايةٍ مِن رِوَاياتٍ كَثِيرَةٍ أُخرَى في كُتُبِ التَّارِيخِ الإِسلَامِيِّ المَعرُوفَةِ ـ. يَقُولُ ابنُ كَثِيرٍ:
«وَفِيهَا [سنةِ 492 هـ] أَخَذَت الفِرِنجُ بَيتَ المَقدِسِ
…
وَذَهَبَ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِم هَارِبِينَ مِن الشَّامِ إِلَى العِرَاقِ مُستَغِيثِينَ عَلَى الفِرِنجِ إِلَى الخَلِيفَةِ وَالسُّلطَانِ، مِنهُم القَاضِي أَبُو سَعِيدٍ الهَرَوِيُّ. فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ بِبَغدَادَ هَذَا الأَمرَ الفَظِيعَ هَالَهُم ذَلكَ وَتَبَاكَوا. وَقَد نَظَمَ أَبُو سَعِيدٍ الهَرَوِيُّ كَلَامًا قُرِئَ في الدِّيوَانِ وَعَلَى المَنَابِرِ، فَارتَفَعَ بُكَاءُ النَّاسِ، وَنَدبَ الخَلِيفَةُ الفُقَهاءَ إِلَى الخُرُوجِ إِلَى البِلَادِ لِيُحرِّضُوا المُلُوكَ عَلَى الجِهَادِ. فَخَرجَ ابنُ عَقِيلٍ وَغَيرُ وَاحِدٍ مِن أَعيَانِ الفُقَهَاءِ، فَسَارُوا في النَّاسِ فَلَم يُفِد ذَلكَ شَيئًا، فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ. فَقَالَ في ذَلكَ أَبُو المُظَفّرِ الأَبيُوردِيُّ:
مَزَجنَا دِمَانَا بِالدُّمُوعِ السَّوَاجِمِ
…
فَلَم يَبقَ مِنَّا عُرضَةٌ لِلمَرَاجِم
وَشَرُّ سِلَاحِ المَرءِ دَمعٌ يُرِيقُهُ
…
إِذَا الحَربُ شَبَّت نَارُهَا بِالصَّوَارِم
فَإِيهًا بَنِي الإِسلَامِ! إِنَّ وَرَاءَكُم
…
وَقَائِعُ يُلحِقنَ الذُّرَى بِالمَنَاسِم
وَكَيفَ تَنَامُ العَينُ مِلءَ جُفُونِهَا
…
عَلَى هَفَوَاتٍ أَيقَظَت كُلَّ نَائِم
وَإِخوَانُكُم بِالشَّامِ يُضحِى مَقِيلُهُم
…
ظُهُورَ المَذَاكِي أَو بُطُونَ القَشَاعِم
تَسُومُهُمُ الرُّومُ الهَوَانَ، وَأَنتُمُ
…
تَجُرُّونَ ذَيلَ الخَفضِ فِعلَ المُسَالِم
وَمِنهَا قَولُهُ:
وَبَينَ اختِلَاسِ الطَّعنِ وَالضَّربِ وَقفَةٌ
…
تَظَلُّ لَهَا الوِلدَانُ شِيبَ القَوَادِم
وَتِلكَ حُرُوبٌ مَن يَغِب عن غِمَارِهَا
…
لِيَسلَمَ يَقرَعُ بَعدَهَا سِنَّ نَادِم
سَلَلنَ بِأَيدِي المُشرِكِينَ قَوَاضِبًا
…
سَتُغمَدُ مِنهُم في الكُلَى وَالجَمَاجِم
يَكَادُ لَهُنَّ المُستَجَنُّ بِطَيبَةٍ
(1)
…
يُنَادِي بِأَعلَى الصَّوتِ: يَا آلَ هَاشِمِ!
أَرَى أُمَّتِي لَا يُشرِعُونَ إِلَى العِدَا
…
رِمَاحَهُمُ، وَالدِّينُ وَاهِي الدَّعَائِم
وَيَجتَنِبُونَ النَّارَ خَوفًا مِنَ الرَّدَى
…
وَلَا يَحسَبُونَ العَارَ ضَربَةَ لَازِم
أَيَرضَى صَنَادِيدُ الأَعَارِيبِ بِالأَذَى
…
وَيُغضِي عَلَى ذُلٍّ كُمَاةُ الأَعَاجِم
فَلَيتَهُمُو إِذ لَم يَذُودُوا حَمِيَّةً
…
عَنِ الدِّينِ ضَنُّوا غَيرَةً بِالمَحَارِم
وَإِن زَهِدُوا في الأَجرِ إِذ حَمِسَ الوَغَى
…
فَهَلَّا أَتَوهُ رَغبَةً في المَغَانِمِ؟
(2)
وَإِذَا كَانَ ذَلكَ لَم يُفِد كُلُّهُ شَيئًا فَإِنَّهُ لَم يَكُن نَتِيجَةَ صَدًى ضَعِيفٍ لِلأَحدَاثِ، وَإِنمَا كَانَ نَتِيجَةَ أَوضَاعٍ سَيِّئَةٍ كَانَتَ قَائِمَةً في المِنطَقَةِ، تَتَمَثَّلُ أَوَّلُ مَا تَتَمَثَّلُ في التَّمَزُّقِ السِّيَاسِيِّ، وَالعَدَاواتِ الصَّغِيرَةِ التِي كَانَت بَينَ مُتَوَلِّي الحُكمِ في تِلكَ الفَترَةِ العَصِيبَةِ مِنَ التَّارِيخِ الإِسلَامِيِّ.
وَخَيرُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ احتِلالَ القُدسِ عَلَى أَيدِي الفِرِنجِ قَد تَرَكَ أَثرًا هَائِلًا بَينَ المُسلِمِينَ، كَانَت لَهُ فِيمَا بَعدُ نَتَائِجُهُ الإِيجَابِيةُ، ذَلكَ الأَدَبُ الغَزِيرُ، وَلَاسِيَّمَا الأَدَبُ المَنظُومُ الذِي جَعَلَ مِن القُدسِ في رَدَّةِ الفِعلِ الأُولَى عِندَ الزِّنكِيِّينَ ثُمَّ عِندَ الأَيُّوبِيِّينَ مِحوَرَ الاستِثَارَةِ لِمُجَاهَدَةِ الصَّلِيبِيِّينَ وَتَخلِيصِ الأَرضِ المُحتَلَّةِ مِنهُم، إِلَى أَن استُعِيدَت القُدسُ فِعلًا، فَقِيلَ في استِنقَاذِهَا عَلَى يَدِ صَلَاحِ الدِّينِ شِعرٌ كَثِيرٌ وَكُتِبَ نَثرٌ كَثِيرٌ
(3)
.
(1)
أي الرسول صلى الله عليه وسلم، المدفون في طيبة، وهي المدينة المنورة.
(2)
البداية والنهاية (12/ 56)، وانظر كذلك في صدى سقوط القدس بيد الفرنج مخطوطة «المستقصى في فضائل المسجد الأقصى» (ص: 34)، حيث عد احتلال الفرنجة للقدس أشد ما ابتلي به الإسلام.
(3)
انظر في ذلك مثلا: كتاب الروضتين في تاريخ الدولتين، ط القاهرة، 1956، الجزء الأول ـ القسم الأول (ص: 102، 154، 180، 187، 199)، والجزء الأول ـ القسم الثاني ط. القاهرة 1962، (ص: 691)، وكذلك كتاب «صدى الغزو الصليبي في شعر ابن القيسراني» لمؤلف هذا الكتاب:(ص: 112، 121،125،144،145). وانظر كذلك ردة الفعل الإسلامية لاستعادة القدس في مخطوطة «المستقصى في = = فضائل المسجد الأقصى» لنصر الدين العليمي (ص: 39، 40).
بَقِيَ أَن نُعَرِّجَ عَلَى كُتيّبِ ابنِ تَيمِيةَ المَوسُومِ (قَاعِدةٌ في زِيارَةِ بَيتِ المَقدِسِ) لأَنَّ مَادّةَ هَذَا الكُتَيّبِ قَد اتُّخِذَ مِنهَا وَسيلِةٌ لِلنّيلِ مِن مَكانَةِ القُدسِ عِندَ المُسلِمِينَ. وَلِحُسنِ الحَظِّ أَن هَذِهِ الرِّسَالَةَ بَينَ أَيدِينَا، إِذ إِنّ تشَارلزِ مَاثيُوز الأَمِيرِكِيَّ وَجَدَ هَذهِ الرِّسالَةَ في المَخطُوطَةِ الَّتِي تُكوِّنُ جُزءًا مِنَ الرَّقمِ 295 مِن مَجمُوعِ يِيلِ Yale لِلمَخطُوطَاتِ العَربِيّةِ فَنشَرهَا بِنصِّهَا العَربِيِّ
(1)
مَعَ تَعلِيقٍ عَليهَا بِالإِنجِليزِيّةِ في مَجَلّةِ: Journal of American Oriental Society، LVI،1936 ، وَصدَرَت مَادّتُهُ المُتعَلّقَةُ بِهَا في المَجلّةِ المَذكُورَةِ بِعُنوَانِ: " A Muslim Iconoclast (Ibn Taymiyyeh) on the - رضي الله عنه Merits - رضي الله عنه of Jerusalem and Palestine - رضي الله عنه. وَلَدى مُرَاجَعتِي لِهذِهِ الرِّسالَةِ تَبيَّنتُ أَنّ كُلّ مَا هَدفَ إِليهَا كَاتِبُهَا هُوَ أَن يَضعَ قَداسَةَ المَدِينَةِ في إِطَارِهَا الإِسلَامِيِّ الصَّحِيحِ دُونَمَا تَجَاوُزَاتٍ أَو مُبَالغَاتٍ لَا تَتَّفِقُ مَع عَقِيدَةِ الإِسلَامِ وَعِبَادَاتِهِ الصَّحِيحَةِ، وَلَو أَنَّهُ قَسَا أَحيَانًا عَلَى الّذِينَ لَا يَلتَزِمونَ بِالقَواعِدِ السَّلِيمَةِ، كَمَا رَآهَا، في النَّظرَةِ إِلى المَدِينَةِ المُقدّسَةِ وَفِيمَا يُزَاوِلُونَ فِيهَا مِن أَعمَالٍ تَعبُّديَّةٍ.
وَيُمكِنُ أَن أُوجِزَ فَحوَى رِسالَتِهِ هَذِهِ (قَاعِدةٌ في زِيَارَةِ بَيتِ المَقدِسِ) في النِّقَاطِ المُكثَّفَةِ التَّالِيةِ:
1 -
يُؤَكِّدُ ابنُ تَيميّةَ صِحّةَ الحَدِيثِ الخَاصِّ بِشدِّ الرِّحَالِ إِلى مَسَاجِدَ مَكّةَ وَالمَدِينَةِ وَالقُدسِ، وَيَرَى فِيهِ استِحبَابًا لِلسَّفرِ إِلَى بَيتِ المَقدِسِ لِلعِبَادَةِ المَشرُوعَةِ فِيهِ كَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكرِ وَقِراءَةِ القُرآنِ وَالاعتِكَافِ. وَيَضعُ مَساجِدَ الإِسلَامِ مِن حَيثُ الفَضلِ في دَرجَاتٍ ثَلاثٍ: الأُولَى لِلمَسجِدِ الحَرامِ في مَكّةَ، وَالثَّانِيَةِ لِمسجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم في المَدِينَةِ، وَالثَّالِثةِ لِلمَسجِدِ الأَقصَى في القُدسِ.
(1)
وهذه المخطوطة تقع في أوَّل المجلد (27) من مجموع الفتاوى له رحمه الله (عمرو).
2 -
يُؤَكِّدُ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قَد صَلّى لَيلَةَ المِعرَاجِ في بَيتِ المَقدِسِ رَكعَتَينِ كَمَا ثَبتَ ذَلكَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلَم يُصَلّ في مَكَانٍ غَيرِهِ.
3 -
يَرَى أَنّ العِبَادَاتِ المَشرُوعَةَ في المَسجِدِ الأَقصَى هِيَ مِن جِنسِ العِبَادَاتِ المَشرُوعَةِ في مِسجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَائِرِ المَساجِدِ، إِلّا المَسجِدِ الحَرامِ الّذِي يُشرَعُ فِيهِ الطَّوافُ بِالكَعبَةِ وَاستِلَامُ الرُّكنَينِ اليَمانِيّينِ وَتقبِيلُ الحَجَرِ الأَسوَدِ، وَلَيسَ في الأَرضِ مَكانٌ يُطافُ بِهِ كَمَا يُطافُ بِالكَعبَةِ، وَمَن اعتَقَدَ أَنّ الطّوافَ بِغيرِ الكَعبَةِ مَشرُوعٌ فَهُوَ شَرٌّ مِمن يَعتَقدُ جَوازَ الصَّلَاةِ إِلَى غَيرِ الكَعبَةِ وَبَعدَ تَحوِيلِ القِبلَةِ إِلَى الكَعبَةِ، فَإِنَّ مَن يَتَّخذُ الصَّخرَةَ قِبلَةً يُصلِّي إِلَيهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرتَدٌّ، يُستَتابُ وَإِلَّا قُتِلَ.
4 -
مَن سَاقَ إِلَى القُدسِ غَنمًا أَو بَقرًا لِيذبحَهَا هُناكَ وَاعتَقدَ أَنَّ الأُضحِيَةَ فِيهَا أَفضَلُ، وَمَن حَلقَ شَعرَهُ فِيهَا في العِيدِ، وَمَن سَافَرَ إِليهَا لِيقِفَ بِهَا عَشِيَّةَ عَرفَةَ مُعتَقِدًا أَنَّ هَذَا قُربَةٌ إِلَى اللهِ، فَإِنَّهُ يُستَتَابُ، فَإِن تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.
5 -
مَا يَذكُرُهُ بَعضُ الجُهّالِ مِن أَنّ هُناكَ أَثرَ قَدمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَو عِمَامتِهِ أَو غَيرَ ذَلكَ، كُلُّهُ كَذبٌ.
6 -
لَيسَ بِبَيتِ المَقدِسِ مَكانٌ يُقصَدُ لِلعِبادَةِ سِوَى المَسجِدُ الأَقصَى، وَلِكن إِذَا زَارَ قُبورَ المَوتَى فَيُسَلِّمُ عَلَيهِم وَيترَحَّمُ عَليهِم.
7 -
لَيسَ بِبَيتِ المَقدِسِ مَكانٌ يُسَمّى حَرَمًا، وَلَا بِتربَةِ الخَلِيلِ وَلَا بِغَيرِ ذَلكَ مِنَ البِقَاعِ. وَالحَرمُ الّذِي أَجمَعَ المُسلِمُونَ عَلَيهِ بِاتّفَاقٍ هُوَ حَرَمُ مَكّةَ فَقَط.
8 -
زِيارَةُ بَيتِ المَقدِسِ مَشرُوعَةٌ في جَمِيعِ الأَوقَاتِ، وَلَكن لَا يَنبَغِي أَن تُؤتَى في الأَوقَاتِ الّتِي يَقصِدُهَا الضُّلَّالُ مِثلِ وَقتِ عِيدِ النَّحرِ لِيقِفُوا هُنَاكَ.
وَالسَّفرُ إِليهِ لِأجلِ الوُقُوفِ بِهِ مَع الاعتقَادِ أَنَّ هَذَا قُربَةٌ مُحَرّمٌ بِلَا رَيبٍ. وَقَولُ القَائِلِ: قَدِّس حَجَّتَكَ بَاطِلٌ لَا أَصلَ لَهُ
(1)
.
وَوَاضِحٌ أَنّ ابنَ تَيمِيَّةَ إِنَّمَا أَرادَ أَن يَجعَلَ قَداسَةَ القُدسِ في إِطَارِ مَا أَقرَّتهُ عَقِيدَةُ الإِسلَامِ وَشرِيعَتُهُ حَتَّى لَا تُساوَى بِمكَّةَ في قَدَاسَتهَا وَفِي الطُّقُوسِ التَّعبُّدِيَّةِ التِي تُؤدَّى فِيهَا. وَلَولَا مَا ذَهبَ إِليهِ هَذَا الفَقِيهُ مِن الأَحكَامِ الصَّارِمةِ جِدًّا في حَقِّ المُتَجَاوِزِينَ لَكَانَ مَا قَالَهُ في القُدسِ هُوَ مَا يَقُولُهُ كُلُّ مُسلِمٍ؛ إِذ إِنَّهُ لَم يُحَاوِل أَبَدًا الانتِقَاصَ مِن قَدَاستِهَا عِندَ المُسلِمِينَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ فَقط دَفعَ المُسلِمِينَ عن تَجَاوُزِ الحُدُودِ المَشرُوعَةِ في النَّظرَةِ إَليهَا.
***
إِذَا كُنَّا قَد خَلُصنَا مِن خِلَالِ الصَّفحَاتِ السَّابقَةِ إِلَى أَنَّ الأَسبَابَ التِي أَعطَاهَا عَددٌ مِن الدَّارِسِينَ لِتَأَخُّرِ الكِتابةِ المُتَخَصّصَةِ في فَضَائِلِ القُدسِ يَتَعذَّرُ قَبُولُهَا، فَإِنّ كَاتِبًا يَهُودِيًّا أَمِيرِكِيًّا ـ هُوَ الآنَ أُستاذٌ في جَامِعَةِ برِنِستُون ـ لَم يَستَطِع هُوَ الآخَرُ أَن يَتقَبَّلَ كَثِيرًا مِن هَذِهِ الفَرضِيَّاتِ وَالتَّصَوُّرَاتِ، بِغَضِّ النَّظرِ عن عِلَاقَتِهَا أَو عَدَمِ عِلَاقتِهَا بتَأَخّرِ الكِتَابَةِ في فِضَائلِ القُدسِ. فَهَذَا الكَاتِبُ ـ وَهُوَ: س. د. جُوِيتِين S. D. Goitein ، الّذِي أَلّفَ كِتَابًا عَامَ 1966 بِعُنوَانِ (دِرَاساتٌ في التَّارِيخِ الإِسلَامِيِّ وَالمُؤسَّسَاتِ الإِسلَامِيةِ Studies in Islamic History and Institutions) ـ نَفَى أَن يَكُونَ عَبدُ المَلكِ بنُ مَروَانَ قَد حَاولَ بِبنَائِهِ قُبَّةَ الصَّخرَةِ أَن يُحوِّلَ الحَجَّ مِن الكَعبَةِ إِلى القُدسِ ـ وَذَلكَ انطلَاقًا مِن كُونِ عَبدِ المَلكِ إِنسَانًا مُسلَمًا مُلتَزمًا بِشَرِيعَةِ الإِسلَامِ ـ وَنفَى أَن يَكُونَ استِعمَالُ عِبَارَةِ «الأَرضِ المُقدَّسةِ» لِلدّلالَةِ عَلَى فِلَسطِينَ استِعمَالًا أُمَوِيًّا
(1)
انظر: «قاعدة في زيارة بيت المقدس» المنشورة في المجلة الأمريكية " Journal of the American Society" LVI، 1936، PP.7 - 12.
حَرَّكَتهُ دَوَافِعُ سِيَاسِيَّةِ، وَأَورَدَ الآيَةَ القُرآنِيَّةَ
(1)
التِي استُعمِلت فِيهَا هَذِهِ العِبَارَةُ لِلدِّلَالَةِ عَلَى فِلَسطِينَ، وَقَالَ إِنّ عُروَةَ بنَ الزُّبَيرِ قَد استَعمِلَ في وَقتٍ مُبَكِّرٍ عِبَارةَ «الأَرضِ المُقدّسةِ» لِلدّلَالةِ عَلَى فِلسطِينَ، وَأَنّ فِلَسطِينَ قَد قُدّسَت لِأنّهَا كَانَت أَرضَ النُّبُوَّاتِ وَمَنزَلَ الوَحيِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قَد حَثَّ أَصحَابهُ عَلَى السَّكَنِ في بِلَادِ الشَّامِ الّتِي تَحتَوِي مَدِينَةَ القُدسِ، وَأَنَّ تَحَوُّلَ بِلَادِ الشَّامِ فِيمَا بَعدُ إِلى أَرضِ جِهادٍ طِيلَةَ أَحقَابٍ مُتعَاقِبةٍ ضِدَّ البِيزَنطِيِّينَ كَانَ سَبَبًا آخَرَ في إِضفَاءِ القُدسِيَّةِ عَلَيهَا بِاعتِبَارِهَا أَرضَ مُرَابَطةٍ وَجِهَادٍ، ثُمَّ ذَكرَ أَنّ الزَّاهِدَ المَعرُوفَ إِبرَاهِيمَ بنَ أَدهَمَ قَد تُوُفّيَ وَهُوَ في حَملَةٍ كَانَت مُوَجّهَةً ضِدّ البِيزَنطِيِّينَ
(2)
.
وَفِي نِهَايةِ دِرَاستِهِ هَذِه عن قُدسِيَّةِ القُدسِ وَفَلسطِينَ يَخلُصُ إِلَى أَنّ الكِتابَاتِ الإِسلَامِيةَ الأُولَى تَحتَوِي قَدرًا كَبِيرًا مُنذُ القَرنِ الأَوَّلِ عن قَدَاسَةِ فِلسطِينَ وَالقُدسِ وَقُبةِ الصَّخرَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُمكِنُ القَبُولُ بِأنَّ هَذِهِ الأَقوَالَ كَانت نَتِيجَةً لِلنّزَاعِ بَينَ الأُمَويِّينَ وَابنِ الزُّبَيرِ، وَأَنَّه لَا أَسَاسَ لِلقَولِ بِأنَّ الصَّخرَةَ قَد بُنِيت لِتَحوِيلِ الحَجِّ إِلَى القُدسِ، وَأَنَّهُ قَد آنَ الأَوانُ لِاختِفَاءِ هَذِهِ الأُسطُورَةِ الشِّيِعيَّةِ مِن الكُتبِ، وَأَنَّ مُعَارَضَةَ عُلَماءِ المُسلِمِينَ لِلإفرَاطِ في تَقدِيسِ القُدسِ وَفَلسطِينَ وَقُبةِ الصَّخرَةِ لَم تَكُن ذَاتَ عِلَاقَةٍ بِأَشيَاءَ سِيَاسِيَّةٍ طَارِئَةٍ بَل كَانَت نَابِعةً مِن حَوَافِزَ دِينِيَّةٍ أَصِيلَةٍ
(3)
.
وَقَبلَ سِتّة عَشَرَ عَامًا مِن تَألِيفِ جُوِيتِينَ هَذَا الكِتَابَ كَانَ قَد نَشرَ مَقَالًا في مَجَلَّةِ الجَمعِيَّةِ الشَّرقِيَّةِ الأَمِيرِكِيّةِ بِعُنَوانِ (الخَلفِيّةِ التَّارِيخِيَّةِ لِبنَاءِ قُبّةِ الصَّخرَةِ " The Historical Background of The Erection of The Dome of
(1)
الآية هي: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21] ..
(2)
انظر: Studies in Islamic History and Intuitions، pp. 138، 143، 146.
(3)
انظر: Studies in Islamic History and Intuitions، pp. 147 - 148.
The Rock") أَورَدَ فِيهِ قِسمًا كَبِيرًا مِمّا وَردَ في كِتَابِهِ اللاحِقِ، وَوصَفَ فِيهِ رِوَايَتَي اليَعقُوبِيِّ وَابنِ البَطِريقِ عن دَوَافِعِ عَبدِ المَلكِ لِبنَاءِ قُبَّةِ الصَّخرَةِ بِأنَّهُ قَد قُصِدَ مِنهُما تَشوِيهُ سُمعَةِ الأُمَوِيِّينَ، ثُمَّ أَورَدَ رِوَايَاتٍ عن الزُّهَّادِ وَالصُّوفِيِّينَ المُسلِمِينَ الّذِينَ أَظهَرُوا تَعَلُّقًا خَاصًّا بِمَدِينَةِ القُدسِ، وَقَالَ إِنَّ جَمِيعَ الزَّهَّادِ القُدَماءِ تَقرِيبًا ـ عَلَى الرَّغمِ مِن أَنَّ مُعظَمَهم مِن إِيرَانَ وَأقطَارٍ إِسلَامِيةٍ أُخرَى ـ مِثلَ سُفيَانَ الثَّورِيَّ، وَإِبرَاهيمَ بنَ أدهَمَ، وَأبَا يَزِيدَ البِسطَامِيَّ، وَبِشراً الحَافِيَّ، كَانُوا مِمّن زَارُوا القُدسَ. وَقَد سَارَ الغَزَاليُّ عَلَى نَهجِ هَؤُلاءِ، فَأَتَى إِلَى القُدسِ وَاعتَكفَ في الصَّخرَةِ، ثُمّ قَالَ عن زَاهدٍ فَارِسيٍّ مِن ذَوِي التَّقوَى وَالصَّلَاحِ أَسماهُ الكَزرُونِيِّ إِنَّهُ كَانَ لَا يَأكُلُ مِن الخُبزِ إِلّا مَا عُملَ مِن قَمحِ القُدسِ؛ لِأنَّ الطَّعامَ ـ كَمَا كَانَ يَعتقِدُ ـ لَم يَكُن حَلَالًا إِلّا هُنَاكَ
(1)
.
***
وَفِيمَا يَلِي اجتِهَاداتُ كَاتبِ هَذِهِ السُّطُورِ في تَعلِيلِ التَّأخِيرِ في تَألِيفِ الكُتبِ المُتخَصِّصَةِ في فَضَائلِ القُدسِ:
أَوّلُ مَا يَخطُرُ في الذِّهنِ أَنّ مِنَ الجَائزِ أَلَّا نَكُونَ حَتَّى الآنَ قَد عَثرنَا عَلَى مُؤَلَّفَاتٍ سَبقَت القَرنَ الخَامِسَ الهِجرِيَّ في فَضَائِل هَذِهِ المَدِينَةِ، إمَّا لِأنَّ هَذِهِ المُؤلَّفَاتِ قَد ضَاعَت كُلِّيَّةً عَبرَ القُرُونِ المُتَلاحِقةِ الّتِي أَعقَبَت تَألِيفَهَا، أَو لِأنَّ بَعضاً منهَا مِنهَا مَوجُودٌ في مَكَانٍ مَا وَلكِن لَم يُعثَر عَلَيهِ بَعدُ. وَبِالنِّسبَةِ إِلَى إِمكَانِيَّةِ الضَّياعِ المُطلَقِ لِهذِهِ الكُتبِ أَو الاختِفَاءِ المُؤَقَّتِ لَهَا فَإِنَّ لَدَينَا أَمثِلَةٌ تُثبِتُ أَنَّ هَذِهِ الإِمكَانِيةِ قَائِمةٌ بِالفِعلِ في إِطَارِ مَا وَقفنَا عَلَيهِ مِن مَعلُومَاتٍ
(2)
.
(1)
انظر: Journal of The American Oriental Society، Vol. LXX، pp. 105، 107، 108.
(2)
مثل كتاب «الوليد بن حماد الرملي» المشار إليه آنفًا (عمرو).
فَثمّةَ مَجمُوعَةٌ مِن الكُتبِ تَعرَّضَ مُؤلِّفُوهَا لِفلسطِينَ وَالقُدسِ ـ مِمّا أُلّفَ قَبلَ القَرنِ الخَامِسِ الهِجرِيِّ وَمِمّا أَشرنَا إِليهِ سَابِقًا تَحتَ عُنوانِ «كُتبُ البَوَاكِيرِ» ـ وَصَلتنَا أَسمَاؤُهَا فَقط مِن خِلَالِ المُؤلَّفاتِ الَّتِي رَصَدَت عَنَاوِينَ تِلكَ الكُتبِ وَأسمَاءَ مُؤلِّفِيهَا، دُونَ أَن تَصِلَنَا الكُتبُ نَفسُهَا لِأَنَّهَا ضَاعَت أَو لَم تُكتَشَف بَعدُ، وَمِن هَذِهِ الكُتبِ:
1 -
كِتابُ (فُتُوحُ بَيتِ المَقدِسِ) لِإِسحَاقَ بنِ بِشرٍ البُخَارِيِّ المُتوَفَّى سَنةَ 206 هـ.
2 -
كِتابُ (مَن نَزلَ فلسطِينَ مِن الصَّحابَةِ) لمُوسَى بنِ سهلِ بنِ القَادِمِ الرَّملِيِّ المُتوفَّى سنةَ 261 هـ.
3 -
(أَخبَارُ بَيتِ المَقدِسِ) لأَحمَدَ بنِ خَلفَ السّبحِيِّ ـ مِن رِجَالِ القَرنِ الثَّالِثِ أَو القَرنِ الرَّابِعِ ـ.
وَكَانَ مِن المُمكِنِ أَن نُضِيفَ كِتَابًا رَابِعًا بِعُنوَانِ: (وَصفُ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللهُ وَعظَّمَهَا، وَوصفُ المَدِينةِ الطَّيِّبَةِ، وَوَصفُ بَيتِ المَقدِسِ المُبَاركِ وَمَا حَولَهُ) لمُحَمدِ بنِ أَبِي بَكرٍ التِّلمِسَانِيِّ ـ مِن أَهلِ القَرنِ الرَّابِعِ الهِجرِيِّ ـ لَولَا أنَّه ذُكِرَ مُؤخَّرًا أَنَّ هَذَا الكِتَابَ قَد عُثرِ عَلَيهِ في خِزَانَةِ الإِسكُوريَالِ بِأَسبَانيَا
(1)
. وَثَمَّةَ كُتبٌ أُخرَى غَيرَ هَذِهِ الّتِي ذُكرَت مِمّا أُلِّفَ قَبلَ القَرنِ الخَامِسِ الهِجرِيِّ.
بَل إِنَّ كُتُبًا أُلِّفت عن فَضَائِلِ القُدسِ في القَرنِ الخَامِسِ الهِجرِيِّ وَمَا بَعدَهُ مَا تَزَالُ مَفقُودَةً إِلَى الآنَ، وَبَعضٌ مِن هَذِهِ الكُتبِ كَانَ مَفقُودًا إِلَى وَقتٍ قَرِيبٍ إِلَى أَن عُثِرَ عَلَيهِ مُؤَخّرًا، فَمِن بَينِ خَمسةٍ وَأَربَعِينَ عُنوَانًا رُصِدَت لِكُتبٍ مِن الفَضَائِلِ الَّتِي أُلِّفت في القَرنِ الخَامِسِ الهِجرِيِّ وَمَا بَعدَهُ مَا يَزَالُ أَربَعةُ عَشرَ
(1)
انظر: «مخطوطات فضائل بيت المقدس» (ص: 26).
كِتَابًا مِنهَا ضَائِعًا مَع أَنّها أُلّفت في فَترَةٍ مُتأخِّرةٍ نِسبِيًّا إِذَا قِيسَت بِالكُتبِ الَّتِي أُلِّفت قَبلَ القَرنِ المَذكُورِ
(1)
.
وَعِندَمَا نَشرَ تشَارلز مَاثيُوز كِتَابَ (بَاعِثُ النُّفُوس إِلَى زِيَارةِ القُدسِ المَحرُوس) لِابنِ الفِركَاحِ عَامَ 1934 ذَكَرَ أَنَّ كِتابَ أَبِي المَعَالِي المُشرَّفِ بنِ المُرَجَّى المَقدِسِيِّ ـ وَهُو بِعُنوَانِ: (فَضَائلُ بَيتِ المَقدِسِ وَالخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام، وَفضَائلُ الشَّامِ) ـ لَم يَكُن مَوجُودًا، وَأَضَافَ:«وَيَبدُو أَنّ كِتَابَ أَبِي المَعَالِي قَد ضَاعَ كُلِّيَّةً»
(2)
، في حِينِ أَن الكِتَابَ قَد وُجِدَ فِيمَا بَعدُ وَهُوَ مِن بَينِ المَخطُوطَاتِ التِي بَينَ أَيدِينَا الآنَ
(3)
.
وَبِالمِثلِ، فَإِنَّ كرَاتشُكُوفِسكِي ـ المُستَشرِقَ الرُّوسِيَّ الذِي نَشرَ كِتابًا قَيِّمًا في أَوَاسِطِ هَذَا القَرنِ عن الأَدبِ الجُغرَافِيِّ العَرَبِيِّ ـ كَانَ يَعتَقدُ أَنَّ مَخطُوطَةَ
…
(الرَّوضُ المُغرَّس في فَضائِلِ البَيتِ المَقدِسِ) لعَبدِ الوَهَّابِ بنِ عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ بنِ أَحمدَ الحُسَينِيِّ غَيرُ مَوجُودَةٍ، مِمَّا دَفَعهُ إِلَى أَن يَأخُذَ مَعلُومَاتِهِ عَنهَا مِن الاقتِبَاسَاتِ الّتِي أَورَدَتهَا كُتبُ الفَضَائِلِ اللّاحِقةُ، في حِينِ أَنّ هَذِهِ المَخطُوطَةِ هِيَ الأُخرَى بَينَ أَيدِينَا الآنَ.
وَمِمّا قَد يَكُونُ سَبَبًا في تَأَخُّرِ الكِتَابَةِ في فَضَائِلِ القُدسِ بِشكلٍ تَخَصُّصِيٍّ تَأَخُّرُ الكِتابَةِ الخَاصَّةِ بِتوَارِيخِ المُدنِ في بِلَادِ الشَّامِ بِصُورةٍ عَامَّةٍ إِذَا قِيسَت بِالمُدنِ الإِسلَامِيَّةِ في أَقَالِيمَ أُخرَى. وَقَد يَصعُبُ إِعطَاءُ تَفسِيرٍ جَازِمٍ لِهذِهِ الظَّاهِرَةِ؛ إِذ إِنَّ مَا يُمكِنُ الاستنَادُ إِلَيهِ ـ في وَصفِهَا لَا في تَفسِيرِهَا ـ هُو مُرَاجَعَةُ كُتبِ التَّارِيخِ المَحَلِّيِّ المُبَكّرةِ في الأَقَالِيمِ الإِسلَامِيةِ وَربطُ كُلِّ كِتابٍ
(1)
المصدر نفسه (ص: 5)، حيث يذكر المؤلف أن عدد الكتب التي ضاعت كليَّا أو جزئيًّا يبلغ ستة عشر كتابًا.
(2)
انظر: The Journal of The Palestine Oriental Society، Vol. XIV، 1934، p. 287.
(3)
وقد طبع هذا الكتاب، طبعته دار الكتب العلمية، بتحقيق أيمن نصر الدين الأزهري. (عمرو).
بِالمَدِينةِ أَو الإِقلِيمِ الّذِي أُلِّفَ عَنهَا أَو عَنهُ. وَالجَدِيرُ بِالذِّكرِ أَنَّ هَذِه الظَّاهِرَةَ قَد استَرعَت نَظَرَ مُؤَلِّفٍ غَربِيٍّ كَتَبَ عن تَارِيخِ المُؤلَّفَاتِ التَّارِيخِيَّةِ الإِسلَامِيَّةِ، ذَلكَ هُوَ فرَانز رُوزِنتَال الّذِي ذَكَرَ أَنّ أَبكَرَ مُؤَلَّفاتِ التَّارِيخِ المَحلِّيِّ قَد ظَهرَت في بِلَادِ مَا بَينَ النَّهرَينِ لَا في بِلَادِ الشَّامِ، مِمّا يَدُلُّ، كَمَا يَقُولُ هُوَ، عَلَى عَدمِ تَأَثُّرِ هَذِهِ المُؤَلِّفَاتِ بِالمُؤَلِّفَاتِ المَسِيحِيّةِ ـ يَقصِدُ المُؤلَّفَاتِ المَسِيحِيةَ في بِلادِ الشَّامِ ـ. وَقَد أَعطَى رُوزِنتَالُ بَعدَ ذَلكَ أَمثِلَةً عَلَى المُؤَلَّفَاتِ المُبَكِّرَةِ في التَّوَارِيخِ المَحَلِّيَّةِ في بِلَادِ العِرَاقِ وَمِصرَ وَالحِجَازِ وَالمُتَأخِّرةِ نِسبِيًّا في بِلَادِ الشَّامِ
(1)
.
وَالتَّفسِيرُ الثَّالِثُ المُحتَملُ لِتَأخِيرِ التَّألِيفِ في فَضَائِلِ القُدسِ يُمكِنُ أَن يَكُونَ ذَا عِلَاقَةٍ بِمَا تَفَرّدت بِهِ القُدسُ مِن خَصَائِصَ وَأوضَاعٍ لَم تَكُن قَائِمَةً في مُدُنٍ إِسلَامِيَّةٍ أُخرَى. فَإِذَا كَانَت مَكَّةُ قَد قُدّست بِالكَعبَةِ قَبلَ الإِسلَامِ، ثُمَّ بِالكَعبَةِ وَبُزُوغِ فَجرِ الإِسلَامِ فِيهَا، وَبِحَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيهِ بَعدَ الإِسلَامِ، وَإِذَا كَانَت المَدِينَةُ قَد قُدِّسَت بِالرَّسُولِ وَمَسجِدِهِ وَالحَيَاةِ الإِسلَامِيَّةِ الأُولَى فِيهَا، وَإِذَا كَانَت البَصرَةُ وَالكُوفَةُ قَد خَطَّطَهُمَا العَربُ المُسلِمُونَ في وَقتٍ مُبَكِّرٍ بَعدَ الفَتحِ، مِمّا يَجعَلُ هَذِهِ المُدنَ وَغَيرَهَا مِن أَمثَالِهَا مُرتَبطَةً بِتَارِيخِ العَربِ وَالإِسلَامِ بِصُورَةٍ خَاصَّةٍ، فَإِنَّ مَدِينَةَ القُدسِ كَانَ لَهَا تَارِيخٌ أَكثَرَ تَعقِيدًا وَتَشَابُكًا مِن غَيرِهَا مِن المُدنِ. فَقَد تَقَلَّبت عَلَى هَذِهِ المَدِينَةِ دُولٌ وَحَضَاراتٌ وَعَقائِدُ مُختَلِفَةٌ، كَمَا رَأَت عَبرَ تَارِيخِهَا السّابِقِ لِلفتحِ الإِسلَامِيِّ وَالَّلاحِقِ لِهَذَا الفَتحِ أَنمَاطًا مُختلِفَةً مِن السُّكَّانِ وَالأَعرَاقِ وَاللُّغَاتِ
…
وَالثَّقَافَاتِ. وَحتَّى بَعدَ الفَتحِ الإِسلَامِيِّ لِلمدِينَةِ لَم يُحظَر عَلَى غَيرِ المُسلِمِينَ مِن النَّصَارَى البَقَاءُ في المَدِينَةِ المُقَدَّسَةِ وَمُمَارَسَةُ حَيَاتِهِم الخَاصَّةِ بِهِم فِيهَا، بَل إِنَّهُ عَلَى الرَّغمِ مِن أَنَّهُ اشتُرِطَ عَدمُ بَقَاءِ اليَهُودُ فِيهَا عِندَ تَسَلُّمِ المُسلِمِينَ لَهَا،
(1)
A History of Muslim Historiography، pp. 31 - 39 .
كَمَا جَاءَ في نَصِّ العُهدَةِ العُمَرِيَّةِ
(1)
،
فَقَد تَسرَّبَ هَؤلاءِ بَعدَ الفَتحِ العُمرِيِّ لِلعَيشِ في القُدسِ بَسبَبٍ مِن تَسَامُحِ المُسلِمِينَ
(2)
. وَهَذَا شَمسُ الدِّينِ المَقدِسِيُّ ـ وَهُوَ مِن رِجَالِ القَرنِ الرَّابِعِ الهِجرِيِّ وَمِن أَشهَرِ جُغرَافِيِّي العَربِ في تِلكَ الفَترَةِ، وَهُوَ كَذلِكَ ابنُ بَيتِ المَقدِسِ ـ يُحَدِّثُنَا عن وُجُودِ النَّصَارَى وَاليَهُودِ في المَدِينَةِ في زَمنِهِ
(3)
.
وَهَذَا كُلُّهُ يَعنِي أَنهُ قَد اجتَمَعَ لِلقُدسِ مِن أَوضَاعٍ مُتَشابِكَةٍ خَاصَّةٍ بِهَا مَا لَم يَجتَمِع لِأيَّةِ مَدِينَةٍ مِن مُدنِ الإِسلَامِ؛ فَهيَ مُقدَّسةٌ لِثَلَاثِ دِيَانَاتٍ، لَا لِدِيَانَةٍ وَاحِدَةٍ. وَآخِرُ هَذِهِ في تَسَلسُلِ العَقَائِدِ التَّارِيخِيِّ الإِسلَامُ يُنزِّلُ المَدِينَةَ مَنزِلَةَ القَدَاسَةِ في إِطَارِ مَا يَدخُلُ في تَارِيخِ الإِسلَامِ، وَكَذلِكَ بِاعتِبَارِ أَنَّ الإِسلَامَ وَرِيثُ الدِّيَانَتَينِ الأُخرَيَينِ السَّابِقَتَينِ لَهُ، وَأَنَّ أَنبيَاءَهُمَا مَوضِعُ إِجلَالٍ وَقَبُولٍ لَدَى المُسلِمِينَ، وَأَنَّ مَا صَحَّ مِن ارتِبَاطٍ بِينَ هَؤُلَاءِ الأَنبِيَاءِ وَالمَدِينَةِ لَهُ حُرمَةٌ وَقَدَاسةٌ عِندَ المُسلِمِينَ، بَل إِنَّ المُسلِمِينَ أَولَى مِن غَيرِهِم بِهَؤُلَاءِ الأَنبِياءِ وَبِمَا تَرَكُوهُ مِن آثَارٍ بِاعتِبَارِ أَنَّهُم حَملُوا رِسَالَةَ السَّماءِ الَّتِي وَرِثَهَا الإِسلَامُ وَأكمَلَهَا.
وَلَعَلَّ هَذهِ النَّظرَةَ الإِسلَامِيَّةَ الأَخِيرَةَ إِلَى المَدِينَةِ المُقدَّسةِ تُفَسرُ اهتِمَامَ كُتَّابِ فَضَائِلِ القُدسِ بِتَارِيخِ المَدينَةِ القَديمِ السَّابِقِ لِلعَهدِ الإِسلَامِيِّ. مِن أَجلِ ذَلكَ فَإِنَّ كُتبَ فَضَائلِ القُدسِ رُبَّمَا كَانت شَيئًا يَختَلفُ بِدَرجَاتٍ مُتفَاوِتَةٍ عن الكُتبِ الّتِي أُلّفَت عن فَضَائلِ المُدنِ الإِسلَامِيّةِ الأُخرَى مِما يَستَوجبُ عَدمَ مُقَارنَتِهَا بِتِلكَ الكُتبِ في مَنهَجِهَا وَمَادَّتِهَا وَالغَايةِ التِي كُتبت مِن أَجلِهَا.
(1)
انظر العهدة العمرية في مخطوطة «مفتاح المقاصد ومصباح المراصد» نسخة معهد التراث العربي بجامعة حلب (64، 63) ..
(2)
انظر: Jerusalem : Its Place In Islam and Arab History، P. 12 .
(3)
انظر ما جاء في «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» ، ط. ليدن 1967، (ص: 167).
أَمَّا التَفسِيرُ الرَّابِعُ المُحتَمَلُ لِتأَخُّرِ الكِتَابَةِ في فَضَائِلِ المَدِينَةِ عَلَى نَحوٍ تَخَصُّصِيٍّ فَهُوَ أَنَّ كِتَابَاتٍ مُتَفرِّقَةً كَثِيرَةً عَنهَا قَد وَرَدت قَبلَ القَرنِ الخَامِسِ الهِجرِيِّ ـ في أَنمَاطٍ مُختلِفَةٍ مِن الكُتبِ، سَوَاءٌ أَكانَت كُتبَ تَفسِيرٍ وَحَدِيثٍ أَم كُتبَ تَارِيخٍ وَجُغرَافِيَّةَ، أَم كُتبَ أَدبٍ، أَم أَيُّمَا نَمطٍ آخرَ مِن الكُتبِ ـ. وَالوَاقِعُ أَنّه قَلَّ أَن كُتِبَ عن مَدِينَةٍ إِسلَامِيَّةٍ في إِطَارِ أَنمَاطٍ مُختَلِفةٍ مِن الكُتبِ التِي أُلِّفَت قَبلَ القَرنِ الخَامِسِ مِثلَمَا كُتبَ عن مَدِينَةِ القُدسِ.
وَهُنَا يَنبَغِي أَن نَستَذكِرَ أَنّ التَّوارِيخَ المَحلِّيّةَ لِلمُدنِ إِنَّما كَانَت في الأَصلِ انبِثَاقًا عن التَّارِيخِ العَامِّ، وَأَنَّ كُتُبَ التَّارِيخِ القَدِيمَةِ، بَل الكُتبَ العَرَبِيَّةَ القَدِيمَةَ في المَوضُوعَاتِ المُختَلِفَةَ، كَانَ فِيهَا نَوعٌ مِن الشُّمُولِ لِأَلوَانِ المَعَارِفِ نَشَأَ عَنهُ اختِلَاطُ مَادَّةِ الأَدبِ بِالتَّارِيخِ وَالجُغرَافِيَّةِ وَالعُلُومِ الإِسلَامِيَّةِ وَغَيرِهَا مِن أَنمَاطِ المَعَارِفِ المُختَلفَةِ. وَلِذَا، فَإِنَّهُ يُمكِنُ القَولُ بِكَثِيرٍ مِن الاطمئنَانِ إِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مَا كُتبَ عن القُدسِ قَبلَ القَرنِ الخَامِسِ الهِجرِيِّ ـ وَهُوَ مَادَّةٌ غَزِيرَةٌ في أَنوَاعٍ مُختَلِفَةٍ مِن المُؤَلَّفَاتِ ـ سَببًا أَسَاسيًّا في تَأخُّرِ الكِتابَةِ عَنهَا في إِطَارِ فَضَائِلهَا الخَاصَّةِ بِهَا دُونَ غَيرِهَا.
وَقَد يَتَّضِحُ هَذَا الأَمرُ بِصُورَةٍ مَلمُوسَةٍ مِن خِلَالِ إِيرَادِ أَسمَاءِ مَجمُوعَةٍ مَنَ الكُتبِ الّتِي أُلِّفَت في فُروعٍ مُختَلفِةٍ مِن المَعرِفَةِ وَلَكنَّهَا احتَوَت مَعلُومَاتٍ عن القُدسِ وَأَولَت الحَدِيثَ عَنهَا اهتمَامًا خَاصًّا. وَالكُتبُ المَقصُودَةُ هُنَا هِيَ بِالطَّبعِ تِلكَ الّتِي أُلِّفَت قَبلَ القَرنِ الخَامِسِ الهِجرِيِّ. فَمِن هَذهِ الكُتبِ:
1 -
فُتُوحُ الشَّامِ، لِلوَاقِدِيِّ: المُتَوفَّى سَنةَ 207 هـ، وَلِذا فَإِنه يُعَد مِن مُؤلِّفِي القَرنِ الثَّانِي الهِجرِيِّ.
2 -
تَارِيخُ وَاسِطٍ، لِبَحشَلٍ الوَاسِطِيِّ، مِن رِجَالِ القَرنِ الثَّالِثِ الهِجرِيِّ.
3 -
تَارِيخُ اليَعقُوبِيِّ، المُتوفَّى سَنةَ 284 هـ.
4 -
جُغرَافِيَّةُ اليَعقُوبِيِّ نَفسِهِ، أَو كِتَابُ البُلدَانِ.
5 -
فُتُوحُ البُلدَانِ، لِلبِلَاذُرِيِّ مِن رِجَالِ القَرنِ الثَّالِثِ الهِجرِيِّ.
6 -
عُيُونُ الأَخبَارِ، لِابنِ قُتَيبَةَ المُتَوفَّى سَنةَ 276 هـ.
7 -
مُختَصرُ كِتَابِ البُلدَانِ، لِابنِ الفَقِيهِ الهَمَذَانِيِّ، مِن رِجَالِ القَرنِ الثَّالِثِ الهِجرِيِّ.
8 -
تَفسِيرُ القُرآنِ، لِلطَّبَرِيِّ المُتَوفَّى سَنةَ 310 هـ.
9 -
تَارِيخُ الطَّبَرِيِّ: تَارِيخُ الرُّسُلِ وَالمُلُوكِ.
10 -
العِقدُ الفَرِيدُ، لِابنِ عَبدِ رَبِّهِ (246 - 328 هـ).
11 -
نَظمُ الجَوهَرِ، وَالتَّارِيخُ المَجمُوعُ علَى التَّحقِيقِ وَالتَّصدِيقِ في مَعرِفَةِ التَّوارِيخِ، لِابنِ البِطرِيقِ المُتوَفَّى سَنةَ 328 هـ.
12 -
المَسَالِكُ وَالمَمَالِكُ لِابنِ خردَاذبَه، مِن رِجَالِ القَرنِ الثَّالِثِ الِهجِرِيّ.
13 -
مُرُوجُ الذَّهبِ لِلمَسعُودِيِّ، مِن رِجَالِ القَرنِ الرَّابِعِ (ت 346 هـ).
14 -
مَسَالِكُ المَمَالِكِ، لِلأصطَخرِيِّ، مِن رِجَالِ القَرنِ الرَّابِعِ (ت 346 هـ).
15 -
كِتَابُ صُورَةِ الأَرضِ، لِأَبِي القَاسِمِ ابنِ حَوقَلٍ النَّصِيبِيِّ، مِن رِجَالِ القَرنِ الرَّابِعِ.
16 -
أَحسَنُ التَّقَاسِيمِ في مَعرِفَةِ الأَقَالِيمِ، لِلمَقدِسِيِّ، مِن رِجَالِ القَرنِ الرَّابِعِ (ت 380 هـ).
17 -
كِتَابُ المَسَالكِ وَالمَمَالِكِ العَزِيزِيِّ، لِلحَسنِ بنِ أَحمدَ المُهَلَّبِيِّ، (ت 380 هـ).
هَذَا غَيرُ كُتبِ الحَدِيثِ الكَثِيرَةِ الّتِي احتَوت مَعلُومَاتٍ عن القُدسِ وَفَضِائِلِهَا وَكُتبِ التَّفسِيرِ الأُخرَى، غَيرِ تَفسِيرِ الطَّبَرِيِّ، الّتِي كَتبَ مُؤلِّفُوهَا عن القُدسِ وَفضَائِلهَا في مَعرِض تَفسِيرِهم لِآيَاتٍ مِن القُرآنِ الكَريمِ.
وَمَعرُوفٌ أَنّ أَحادِيثَ فَضَائِلِ القُدسِ كَانت شَائِعةً بَينَ النَّاسِ في وَقتٍ مُبكِّرٍ، وَأنهَا كَانَت مُتَدَاوَلَةً بَينَ النَّاسِ مُنذُ القَرنِ الأَوَّلِ الهِجرِيِّ. وَقَد تَفَاوَتت المَوَادُّ التِي وَردَت في هَذهِ الكُتبِ طُولًا وَقِصَرًا وَتَركِيزًا عَلَى نَاحِيةٍ مُعَيَّنةٍ تَتعلَّقُ بِالقُدسِ دُونَ أُخرَى. وَفِيمَا يَلِي عَرضٌ مُوجَزٌ لِبَعضِ مَا جَاءَ في عَددٍ مَحدُودٍ مِن هَذِه الكُتبِ عن القُدسِ:
تَحَدَّثَ المَقدِسِيُّ البِشَارِيُّ في (أَحسنُ التَّقاسِيم في مَعرِفَةِ الأَقَالِيم) عن طَقسِ المَدينةِ وَبنَائِهَا وَأَهلِهَا وَطِيبِ العَيشِ فِيهَا وَنَظَافَةِ أَسوَاقِهَا وَكِبَرِ مَسجِدِهَا وَكَثرَةِ عِنَبِهَا وَجَودَتِهِ، وَنوَّهَ بِحِذقِ أَهلِهَا وَذَكَائِهِم، وَفَضّلهَا عَلَى جَمِيعِ بُلدَانِ الدُّنيَا مِن جَمِيعِ النَّواحِي بِاستِثنَاءِ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، يَقُولُ:«وَأمَّا الفَضلُ فَلِأَنّهَا عرضةُ القِيَامةٍ، وَمِنهَا المَحشَرُ وَإِلَيهَا المَنشَرُ، وَإِنمَا فُضِّلَت مِكَّةُ وِالمَدِينَةُ بِالكَعبَةِ وَبِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» . وَمَعَ ذَلكَ فَقَد قَالَ عن القُدسِ ـ وَهي
…
بَلَدُهُ ـ: «إِلَّا أَنَّ لَهَا عُيوبًا عِدَّةً، يُقَالُ إِنَّ في التَّورَاةِ: «بَيتُ المَقدِسِ طِشتُ ذَهبٍ مُلِئَ عَقَارِبَ» ، وَالفَنادِقُ ضَرَائِبٌ ثِقَالٌ»، وَوَصفَهَا بِأنّهَا أَصغَرُ مِن مَكَّةَ وَأَكبَرُ مِن المَدِينَةِ، وَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَبوَابٍ حَدِيدٍ. ثُمَّ وَصفَ المَسجِدَ الأَقصَى بَعدَ أَن أَعادَ العَباسِيُّونَ بِناءَهُ إِثرَ زَلزلةٍ ضَرَبَته، وَفِي إِطَارِ وَصفِهِ الدَّقِيقِ
لِلمَسجِدِ الأَقصَى بَيَّنَ أَبعَادَهُ وَقِياسَاتِهِ، وَقَالَ في وَصفِ قُبَّةِ الصَّخرَةِ:«وَعَلَى الجُملَةِ، لَم أَرَ في الإِسلَامِ، وَلَا سَمِعتُ أَنَّ في الشِّركِ مِثلَ هَذِهِ القُبَّةِ»
(1)
.
وَقَد تَحدَّثَ ابنُ الفَقِيهِ في كِتَابِ (البُلدَانُ) عن الآيَاتِ القُرآنِيةِ التِي فَسَّرهَا مُقَاتِلٌ بِأَنهَا ذَاتُ عِلَاقَةٍ بِالقُدسِ، وَأَورَدَ بَعضَ أَحادِيثَ مَنسُوبَةً إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ عِلَاقَةٍ بِالقُدسِ، وَمِنهَا:«سَتُهَاجِرُونَ هِجرَةً إِلَى مُهَاجَرِ إِبرَاهِيمَ» يَعنِي بَيتَ المَقدِسِ، و «وَمَن صَبَرَ عَلَى لَأوَائِهَا وَشِدَّتِهَا رَجَاءَ اللهِ يَرزُقُهُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ وَعَن يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَمِن فَوقِهِ وَمِن تَحتِهِ» . ثُمَّ وَصَفَ قُبَّةَ الصَّخرَةِ وَالمَسجِدَ، وَتَحدَّثَ عن تَولِيَةِ الوَلِيدِ بنِ عَبدِ المَلكِ أَخاهُ سُلَيمَانَ جُندَ فِلَسطِينَ
(2)
.
أَمَّا ابنُ قُتَيبَةَ، فَإِنَّهُ رَكّزَ في كِتَابِهِ (عُيونُ الأَخبَارِ) عَلَى أَخبَارِ أَهلِ الكِتَابِ وَقِصَصهِم المُتعَلِّقَةِ بِالقُدسِ. فَمِن ذَلكَ مَا نَقَلَ عن وَهبِ بنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: أَوحَى اللهُ إِلَى نَبيٍّ مِن أَنبِيَاءِ بَنِي إِسرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ أَرمِيَاءُ حِينَ ظَهرَت فِيهُم المَعَاصِي: «أَن قُم بَينَ ظَهرَانَي قَومِكَ، فَأَخبِرهُم أَنَّ لَهُم قُلُوبًا وَلَا يَفقَهُونَ، وَأَعيُنًا وَلَا يُبصِرُونَ، وَآذَانًا وَلَا يَسمَعُونَ، وَأَنِّي تَذَكَّرتُ صَلَاحَ آبَائِهِم فَعَطَّفَنِي ذَلكَ عَلَى أَبنَائِهِم. سَلهُم كَيفَ وَجَدُوا غِبَّ طَاعَتِي، وَهَل سَعِدَ أَحدٌ مِمّن عَصَانِي بِمعصِيَتِي، وَهَل شَقِيَ أَحدٌ مِمَّن أَطَاعَنِي بِطَاعَتِي؟ إِنَّ الدَّوَابَّ تَذكُرُ أَوطَانَهَا فَتَنزِعُ إِلَيهَا، وَإِنَّ هَؤُلاءِ القَومَ تَركُوا الأَمرَ الّذِي أَكرَمتُ عَليهِ آبَاءهُم وَالتَمَسُوا الكَرَامَةَ مِن غَيرِهَا، فَيَا وَيلَ إِيلِيَاءَ وَسُكَّانِهَا!
(1)
انظر: «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» ط. ليدن 1967 (ص: 165، 171).
(2)
انظر: «كتاب البلدان» لأبي بكر بن محمد الهمذاني المعروف بابن الفقيه، ليدن 1967، (ص: 93، 94، 95، 101، 102).
كَيفَ أُذَلِّلُهُم لِلقَتلِ، وَأُسلِّطُ عَلَيهِم السِّبَاءَ، وَأُعِيدُ بَعدَ لَجَبِ الأَعرَاسِ صُرَاخَ الهَامِ، وَبَعدَ صَهِيلِ الخَيلِ عُوَاءَ الذِّئَابِ، وَبَعدَ شُرُفَاتِ القُصُورِ مَسَاكِنَ السِّبَاعِ، وَلَأُبَدّلَنّ نِسَائهُم بِالطِّيبِ التُّرَابَ، وَلأَجعَلَنّ أَجسَادَهُم زِبلًا لِلأَرضِ، وَعِظَامَهُم ضَاحِيَةً لِلشَّمسِ
…
الخ»
(1)
.
وَأَمَّا أَحمَدُ بنُ عَبدِ رَبِّهِ صَاحِبُ العِقدِ الفَرِيدِ فَهُوَ الّذِي أَورَدَ حَدِيثَ الزُّهرِيِّ عن أَنَّهُ سَمِعَ مِن فَلَانٍ ـ دُونَ أَن يُسَمِّيَهُ ـ: «أَنَّهُ لَم يُرفَع تِلكَ اللّيلَةِ الّتِي صَبِيحَتُهَا قُتِلَ عَلِيُّ بنُ أِبي طَالِبٍ والحُسَينُ بنُ عَلِيٍّ حَجَرٌ في بَيتِ المَقدِسِ إِلَّا وُجِدَ تَحتَهُ دَمٌ عَبِيطٌ»
(2)
.
وَيُخَصِّصُ ابنُ عَبدِ رَبِّهِ في كِتَابِهِ المَذكُورِ صَفَحَاتٍ عن صِفَةِ مَسجِدِ بَيتِ المَقدِسِ وَمَا بِهِ مِن آثَارِ الأَنبِيَاءِ، وَفَضَائِلِ بَيتِ المَقدِسِ. وَمِمَّا جَاءَ في هَذهِ الصَّفحَاتِ مَقَايِيسُ أَبعَادِ المَسجِدِ، وَعِدَّةُ مَا فِيهِ مِن القَنَادِيلِ وَالخَشبِ وَالعُمُدِ، وَوَصفُ الصَّخرَةِ وَالقُبةِ، وَمَا احتَوَاهُ المَسجِدُ مِن مَصَاحِفَ كَبِيرَةٍ، وَمَا كَان يُخَصَّصُ لَهُ مِن الزَّيتِ وَالحُصرِ وَفَتَائِلِ القَنَادِيلِ وَزُجَاجِهَا.
يَقُولُ ابنُ عَبدِ رَبِّهِ في بَعضٍ مِما أَورَدَهُ عن القُدسِ: «بَيتُ المَقدِسِ مَربَطُ البُرَاقِ الّذِي رَكِبهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم .. وَبَابُ حِطّةٍ، الَّتِي ذَكَرهَا اللهُ تَعَالَى في قَولِهِ:{وَقُولُوا حِطَّةٌ} وَهِيَ قَولُ لَا إِلهَ إِلا اللهُ .. وَبَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَبَابُ التَّوبَةِ، وَبَابُ الرَّحمَةِ، الّتِي ذَكَرَهَا اللهُ تَعَالَى في كِتَابِه:{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} .. وَفِيهَا مِحرَابُ مَريمَ ابنةِ عِمرَانَ .. وَمِحرَابُ
(1)
«عيون الأخبار» لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ط. القاهرة 1925 (2/ 261 - 262).
(2)
انظر: «العقد الفريد» لابن عبد ربه، ط. القاهرة 1940، (5/ 149).
زَكَرِيَّا، وَالقُبّةُ التِي عَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَالقُبَّةُ التِي صَلَّى فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّبِيِّينَ .. وَيُنصَبُ الصِّرَاطُ بِبَيتِ المَقدِسِ .. وَرَفعُ عِيسَى بنِ مَريَمَ عليه السلام إِلَى السَّمَاءِ مِن بَيتِ المَقدِسِ»
(1)
.
هَذِهِ مُجرَّدُ أَمثِلةٍ مِن عَددِ الكُتبِ التِي عَرَفنَاهَا وَالتِي أَورَدَت شَيئًا كَثِيرًا أَو قَلِيلًا عن القُدسِ، وَهَذِهِ بِخِلَافِ الكُتبِ التِي عَرَفنَا أَسمَاءَهَا دُونَ أَن تَصِلَنَا، فَلَا يَبعُدُ، وَالحَالةُ هَذِهِ، أَن يُرَى أَنَّ مُحتَوَيَاتِ هَذِهِ الكُتبِ عن القُدسِ وَفَضَائِلِهَا قَد أَغنَت، وَلَو لِفَترَةٍ مَا، عن تَخصِيصِ كُتبٍ لِفَضَائِلِ المَدِينَةِ، هَذَا إِذَا كَانَت هَذِه الكُتبُ المُتخَصِّصَةُ لَم تُؤلَّف بِالفِعلِ لِأَوّلِ مَرَّةٍ إِلَّا في الفَترَةِ الَّتِي كُتِب فِيهَا المُؤَلَّفَاتُ الَّتِي وَصَلَت إِلَينَا مِن نِتَاجِ القَرنِ الخَامِسِ الهِجرِيِّ» ا. هـ
(1)
العقد الفريد (2/ 298، 299، 300).