الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن أبي عبد الرحمن المقرئ [لكونه من أهل بيت الرجل، الذين أعلم به من الغرباء]، فالحديث مرسل في الحالين، والمرسل لا تقوم به الحجة، والله أعلم.
3 -
حديث البراء بن عازب:
يرويه إسماعيل ابن علية، وعبد الوارث بن سعيد، كلاهما: عن سعيد الجريري، عن أبي عائذ سيف السعدي، وأثنى عليه خيرًا، عن يزيد بن البراء بن عازب، وكان أميرًا بعُمان، وكان كخير الأمراء، قال: قال أبي: اجتمِعوا فلأُريكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، وكيف كان يصلي،
…
فذكر الحديث في صفة الوضوء، إلى أن قال: فصلى بنا الظهر، فأحسب أني سمعت منه آيات من {يس}
…
الحديث.
أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (4/ 0 17)، وأحمد في المسند (4/ 288) واللفظ له، وفي العلل ومعرفة الرجال (2/ 406/ 2818)، والروياني (333)، والدولابي في الكنى (2/ 706/ 1240)، وابن المنذر في الأوسط (1/ 401/ 393)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 225).
وهذا حديث ضعيف؛ سيف أبو عائذ السعدي: في عداد المجاهيل [التعجيل (446)]، وكان الجريري قد اختلط، وإسماعيل ابن علية وعبد الوارث بن سعيد ممن سمع منه قبل الاختلاط [انظر: الكواكب النيرات (24) وغيرها]، وقد اختلف على الجريري في إسناد هذا الحديث، وهذا الوجه هو المحفوظ عنه، واللّه أعلم [راجع تخريجه مفصلًا تحت الحديث رقم (108)].
وموضع الشاهد منه ليس صريحًا في الرفع؛ فقد تكون قراءته لسورة يس في الظهر اجتهادًا منه، لا أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، والله أعلم.
***
133 - باب من رأى التخفيف فيها
813 -
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا حماد: أخبرنا هشام بن عروة، أن أباه كان يقرأ في صلاة المغرب بنحو ما تقرؤون:{وَالْعَادِيَاتِ} ونحوها من السور.
قال أبو داود: هذا يدل على أن ذاك منسوخ.
[قال أبو داود: وهذا أصح].
• مقطوع صحيح.
أخرجه من طريق أبي داود: البيهقي (2/ 392).
وهذا مقطوع على عروة بن الزبير بإسناد صحيح.
ولا يُعارِض هذا ما رواه ثلاثة من الثقات: ابن أبي مليكة، وأبو الأسود، وهشام بن
عروة، عن عروة في حديث زيد بن ثابت في القراءة بالأعراف في المغرب، على اختلافٍ بينهم
في إسناده، وتقدم كان أن المحفوظ: حديث ابن أبي مليكة، عن عروة، عن مروان، عن زيد.
ويؤيد أنَّه لا معارضة بينهما أن هشام بن عروة هو راوي الخبرين جميعًا.
فإذا كان الخبران ثابتان من جهة الرواية، فهل يقال حينئذ بأن أحدهما ناسخ للآخر؟
الجواب: لا؛ حتَّى يأتينا خبر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على هذا النسخ؛ وكيف يكون هذا؟ وقد روت أم الفضل بنت الحارث ما ينفي ذلك! فقد قالت: إنها لآخر ما سمعتُ رسولًا الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب، تعني: سورة المرسلات، وقالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} ، ثم ما صلى لنا بعدها حتَّى قبضه الله [راجع الحديث المتقدم برقم (810)].
قال ابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود (3/ 77) بعد حديث أم الفضل هذا: "وهذا يدل على أن هذا الفعل غير منسوخ؛ لأنَّه كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم"[وانظر: الإحكام لابن حزم (2/ 225)].
فإن قيل: الكلام هنا عن القراءة بالأعراف وهي من أطول سور القرآن، وما عارضتم به من سورة المرسلات إنما هي من أوساط المفصل؟
فيقال: يكفي هذا في نقض القول بأن السُّنَّة هي القراءة في المغرب بقصار المفصل على الدوام، إذ قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ فيها بالطور والمرسلات، لا سيما بالمرسلات في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وأما حديث زيد في القراءة فيها بالأعراف؛ فقد سبق كان تأويله، بحمل إنكار زيد على مداومة مروان على القراءة في المغرب بقصار المفصل، ومجانبته ما عداه، وأنه ما أراد بذلك بيانَ مداومة رسول الله صلى الله عليه وسلم على القراءة بالأعراف، وإنما يُحملُ هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك مرة واحدة، أو كان فعلُه لها نادرًا، بحسب ما اقتضته مصلحةٌ حاضرةٌ، وراجع ما كتبته هناك، والله أعلم.
***
814 -
. . . وهب بن جرير: حدثنا أبي، قال: سمعت محمد بن إسحاق، يحدث عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أنَّه قال: ما من المفصَّل سورةٌ صغيرةٌ ولا كبيرةٌ إلا وقد سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يؤمُّ الناسَ بها في الصلاة المكتوبة.
• حديث حسن.
أخرجه البيهقي (2/ 388).
وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو: سلسلة يحتج بها إذا لم تأت بمنكر، بعضها سماع، وبعضها وجادة صحيحة، وقد تقدم الكلام عليها مفصلًا عند الحديث رقم (135).
ومحمد بن إسحاق بن يسار المدني: صدوق، حسن الحديث، وهو واسع الرواية جدًّا، وله أوهام عن الزهري وغيره، وخطؤه في الرواية لا يعني إلا ترك ما أخطأ فيه، وأن الأصل فيه أنَّه مقبول الرواية، حسن الحديث، يحتج به، وما رُوي عنه من الأباطيل فبسبب من يروي عنهم من الضعفاء والمجاهيل، قال يعقوب بن شيبة:"سمعت ابن نمير وذكر ابن إسحاق، فقال: إذا حدَّث عمن سمع منه من المعروفين فهو حسن الحديث صدوق، وإنما أُتي من أنَّه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة"[تاريخ بغداد (1/ 227)، السير (7/ 43)].
• وأما خطأ ابن إسحاق في الأسانيد والمتون، فقد تقدم معنا في السنن من ذلك الشيء الكثير، إلا أن ذلك مما يغتفر في سعة حفظه وكثرة مروياته، إذ الغالب على ابن إسحاق موافقة الثقات فيما رووا، وأن صوابه يغلب خطأه.
قال يعقوب الفسوي: "قال علي: لم أجد لابن إسحاق إلا حديثين منكرين: نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا نعس أحدكم يوم الجمعة"، والزهري عن عروة عن زيد بن خالد: "إذا مس أحدكم فرجه"، هذان لم يروهما عن أحد، والباقون [قال ابن حجر: يعني: المناكير في حديثه] يقول: ذكر فلان، ولكن هذا فيه حدثنا"[تاريخ بغداد (1/ 229)، السير (7/ 45)، التهذيب (3/ 506)].
• وهو مشهور بالتدليس، حتَّى عدَّه الإمام أحمد من المكثرين منه، قال العقيلي:"حدثني الخضر بن داود: حدثنا أحمد بن محمد [ابن هانئ]: قلت لأبي عبد الله: ما تقول في ابن إسحاق؟ قال: هو كثير التدليس جدًّا، قلت: فإذا قال: أخبرني، وحدثني، فهو ثقة؟ قال: هو يقول: أخبرني، فيخالف"[الضعفاء الكبير (28/ 4)، السير (7/ 54)].
وقال الإمام أحمد مرة أخرى: "هو كثير التدليس جدًّا، فكان أحسن حديثه عندي ما قال: أخبرني، وسمعت"[الجرح والتعديل (7/ 194)].
وابن إسحاق قد ثبت سماعه من عمرو بن شعيب [انظر مثلًا: خلق أفعال العباد (302)، التاريخ الكبير (2/ 25)، سنن النسائي (8/ 83/ 4950)، منتقى ابن الجارود (1080)، مسند أحمد (2/ 216 و 218)، سيرة ابن هشام (4/ 328) و (5/ 154 و 162 و 163)، الأموال لابن زنجويه (1/ 402)، مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (383)، الكنى للدولابي (2/ 445/ 801)، مشكل الآثار (11/ 518/ 4586)، سنن البيهقي (4/ 110) و (6/ 335) و (9/ 75)، دلائل النبوة (5/ 86)، وغيرها].
وروى أيضًا عن عمرو بن شعيب بواسطةٍ. مثل: حكيم بن حكيم، وعبد الرحمن بن الحارث [انظر: مسند أحمد (2/ 216)، مصنف ابن أبي شيبة (5/ 364 / 26947)]، وهما صدوقان، وفي الثاني كلام، وقال أبو زرعة بأن ابن إسحاق لم يسمع من حكيم [المراسيل (720)، تحفة التحصيل (274)].
وابن إسحاق إذا لم يكن سمع الحديث من عمرو بن شعيب فإنه يقول فيه: قال
عمرو، أو: ذكر عمرو [صحيح ابن خزيمة (137)، مسند أحمد (2/ 216 و 217)، سنن الدارقطني (3/ 214)].
وقد احتج بابن إسحاق أصحاب السنن الأربعة وغيرهم، وصحح له الترمذي (23 و 115 و 154 و 189 و 398 و 526 و 543 و 1139 و 1267 و 1497 و 1742 و 1920 و 3045 و 3097 و 3166)، وصحح له أيضًا: ابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم، وقدَّم الدارقطني رواية ابن إسحاق على بعض الضعفاء في عمرو بن شعيب [العلل (15/ 162/ 3922)].
بل صرح الإمام علي بن المديني بصحة حديثه عنده، قال يعقوب بن شيبة: "سألت عليًّا: كيف حديث ابن إسحاق عندك، صحيح؟ فقال: نعم، حديثه عندي صحيح،
…
، إن حديثه ليتبين فيه الصدق، يروي مرةً: حدثني أبو الزناد، ومرةً: ذكر أبو الزناد، وروى عن رجل عمن سمع منه، يقول: حدثني سفيان بن سعيد، عن سالم أبي النضر، عن عمر: صوم يوم عرفة، وهو من أروى الناس عن أبي النضر، ويقول: حدثني الحسن بن دينار، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، في:"سلف وبيع"، وهو من أروى الناس عن عمرو بن شعيب" [تاريخ بغداد (1/ 229)، السير (7/ 44 و 51)، الميزان (3/ 475)].
قلت: فإذا كان ابن إسحاق عادته التدليس عن الضعفاء والمجاهيل، بحيث يسقطهم دائمًا من الإسناد فيما بينه وبين من سمع منه من شيوخه، فلماذا يُعلن باسمائهم، لا سيما شديدو الضعف منهم، مثل الحسن بن دينار، وهو متروك، كذبه غير واحد [اللسان (3/ 40)]، أفما كان الأحرى به أن يدلسه، ويجود إسناده، لا سيما وقد سمع كثيرًا من عمرو بن شعيب؟!
وهذه القرينة من كلام ابن المديني لتدلُّ على قلة تدليس ابن إسحاق في سعة روايته، وأنه لم يكن دائمًا يدلس أسماء الضعفاء، بل يصرح بأسمائهم أحيانًا دون أن يُسأل عن ذلك، فإن الغالب على المدلس أنَّه لا يبوح باسم من حدثه بالحديث من الضعفاء الذين دلس عنهم الحديث إلا إذا ألجؤوا إلى ذلك بالسؤال ونحوه، وهذا يؤكد قول ابن المديني:"إن حديثه ليتبين فيه الصدق".
قال محمد بن يحيى الذهلي: "سمعت علي بن المديني يقول: محمد بن إسحاق صدوق، والدليل على صدقه: أنَّه ما روى عن أحد من الجلة إلا وروى عن رجل عنه؛ فهذا يدل على صدقه"[الثقات لابن حبان (7/ 384)].
قال ابن حبان: "فلو كان ممن يستحل الكذب لم يحتج إلى الإنزال؛ بل كان يحدث عمن رآه ويقتصر عليه، فهذا مما يدل على صدقه، وشهرة عدالته في الروايات"[الثقات (7/ 384)].
قلت: المدلس إذا أسقط ضعيفًا فيما بينه وبين شيخه الَّذي سمع منه، ورواه بصيغة محتملة للسماع مثل: عن؛ لم يكن بذلك مستحلًا للكذب، بل الَّذي يقال في مثل هذا: أن
ابن إسحاق وإن ثبت عنه التدليس إلا أنَّه لم يكن ديدنه وعادته، بدليل روايته عن رجل عن شيخه الَّذي سمع منه، وروايته عن رجلين عنه، بل إنه لم يكن يعمِّي تدليسه دائمًا بالعنعنة، بل يشير وينبه على عدم السماع بقوله: ذكر فلان، وقال فلان.
قال المرُّوذي: "قال أحمد بن حنبل: كان ابن إسحاق يدلس؛ إلا أن كتاب إبراهيم بن سعد يبيِّن إذا كان سماعًا قال: حدثني، وإذا لم يكن قال: قال"[العلل ومعرفة الرجال للمروذي (1)، تاريخ بغداد (1/ 230)].
وقال عبد الله بن أحمد: "قال أبي: إذا قال ابن إسحاق: وذكر فلان؛ فلم يسمعه"[المنار المنيف (6)، تحفة التحصيل (274)][قلت: هو في المسند (4/ 27) بعد حديث رواه من طريق إبراهيم بن سعد عنه به، فقال: "إذا قال ابن إسحاق: وذكر؛ لم يسمعه، يدل على صدقه"].
وفي هذا إشارة من الإمام أحمد إلى تقديم إبراهيم بن سعد في ابن إسحاق، حيث كان يحرص على إبقاء صيغ التحمل من كلام ابن إسحاق كما هي، دون أن يتصرف فيها بالعنعنة، ونحوها.
• وبعد هذا البيان فما حكم هذا الحديث من رواية ابن إسحاق، وظاهره أنَّه لم يصرح فيه بالسماع:
قال أبو داود: "سمعت أحمد سئل عن الرجل يعرف بالتدليس: يحتج فيما لم يقل فيه: سمعت؟ قال: لا أدري، فقلت: الأعمش متى تصاد له الألفاظ؟ قال: يضيق هذا؛ أي: أنك تحتج به"[سؤالات أبي داود (138)].
ومفهوم كلام الإمام أحمد أن حديث المدلِّس لا يرد بمجرد العنعنة، وإلا لكان الجواب: لا؛ أي: لا يحتج به حتَّى يصرح بالسماع، ثم أشار إلى أن الأصل في حديث الأعمش الاحتجاج به؛ إلا أن تأتي قرينة دالة على تدليسه، وبهذا تأتلف الأقوال في هذا الباب، والله أعلم.
وقال يعقوب بن شيبة: "سألت يحيى بن معين عن التدليس؟ فكرهه وعابه، قلت له: أفيكون المدلِّس حجةً فيما روى، أو حتَّى يقول: حدثنا وأخبرنا؟ قال: لا يكون حجةً فيما دلَّس"[الكامل لابن عدي (1/ 34)، الكفاية (362)، النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي (2/ 88)، النكت لابن حجر (2/ 633)].
وهذا ظاهر في أن الأصلَ في حديث المدلس الاحتجاجُ به، حتَّى يتبين لنا أنَّه دلسه، فعندئذ يسقط الاحتجاج بهذا الحديث المعين؛ فلو كان حديث المدلس المعنعن يُرَدُّ بمجرد العنعنة دون الحاجة إلى قرينة أخرى؛ لقال ابن معين: لا يكون حجة حتَّى يقول: حدثنا وأخبرنا، كذلك فإن ابن معين لم يقل: لا يكون حجة فيما عنعن، وإنما قال: فيما دلس؛ يعني: فيما ثبت وقوع التدليس فيه.
وقال عبد الله بن الزبير الحميدي: "وإن كان رجلٌ معروفًا بصحبة رجلٍ والسماع منه،
مثل: ابن جريج عن عطاء، أو هشام بن عروة عن أبيه، وعمرو بن دينار عن عبيد بن عمير، ومن كان مثل هؤلاء في ثقتهم، ممن يكون الغالب عليه السماع ممن حدث عنه، فأُدرِك عليه أنَّه أدخل بينه وبين من حدَّث رجلًا غيرَ مسمى، أو أسقطه، تُرِك ذلك الحديث الَّذي أُدرِك عليه فيه أنَّه لم يسمعه، ولم يضره ذلك في غيره، حتَّى يُدرَك عليه فيه مثل ما أُدرِك عليه في هذا، فيكون مثل المقطوع" [الكفاية (374)].
وهذا صريح في قبول المعنعن حتَّى يتبين لنا فيه عدم السماع، لكنه قيده بأن يكون الغالب عليه السماع من شيخه.
وقال يعقوب بن سفيان في المعرفة (3/ 14): "وحديث سفيان وأبي إسحاق والأعمش ما لم يُعلَم أنَّه مدلس: يقوم مقام الحجة".
يعني: أنَّه يحتج بحديثهم سواء صرحوا فيه بالسماع أم لا؛ حتَّى يثبت أنهم دلسوا في حديثٍ بعينه، فعندئذ يُرَدُّ هذا الحديث الَّذي دلسوه عن ضعيف أو مجهول.
• ومعنى هذا: أنَّه لا بد من اعتبار حديث المدلِّس وجمع طرقه والنظر فيه، حتَّى يتبين لنا هل دلسه أم لا؟ وفي الغالب ما تجدُ الحديثَ المدلِّس يظهر عوارُه بجمع طرقه، فكما أن تجد المدلِّس قد أخذه عن غير ثقة، أو صرح بأخذه عن مجهول؛ بقوله: حُدِّثت، أو بذكر مبهمٍ في الإسناد، أو بروايته عمن لم يسمع منه، أو بذكر رجلٍ مجروح، أو يكون الحديث معروفًا من حديث مجروحٍ صرح الأئمة بأن المدلِّس غالبًا ما يروي عنه ثم يسقطه من الإسناد، أو مخالفة المدلِّس في الحديث من هو أوثق منه، أو وجود نكارة في المتن، ونحو ذلك، مما يبيِّن موضعَ العلة من الحديث المدلِّس، والعنعنة وعدم التصريح بالسماع
في هذا الحال إنما هو قرينة على الإعلال، لا أنهم كانوا يعلُّون الأحاديث بمجرد العنعنة، فإن لم نجد شيئًا من هذه القرائن التي تدل على وقوع التدليس، فعندئذ يبقى الحديث على السلامة من علة التدليس، حتَّى يتبين لنا أنَّه مدلس، والله أعلم.
• قال الحاكم: "وأخبار المدلِّسين كثيرة، وضَبَط الأئمة عنهم ما لم يدلسوا، والتمييز بين ما دلسوا وما لم يدلسوا ظاهر في الإخبار"[المدخل إلى كتاب الإكليل (73)].
ولا يحمل هذا على مجرد ثبوت السماع في الأسانيد من عدمه، وإنما على أمور خارجية يُتوصل بها على وقوع التدليس.
وهذه المسألة وهي قبول حديث المدلِّس إذا لم يذكر سماعًا في حديث بعينه، ولم يتبين لنا أنَّه دلَّسه: مسألة خلافية، وممن ذكر الخلاف فيها: ابن القطان الفاسي، فقد قال في بيان الوهم (2/ 435):"ومعنعن الأعمش عرضة لتبيُّن الانقطاع، فإنه مدلِّس، وأبين ما يكون الانقطاع بزيادة واحد في حديث من عرف بالتدليس، فإنه إذا كان ثقة يختلف في قبول معنعنه ما لم يقل: حدثنا، أو أخبرنا، أو سمعت، فإنه إذا قال ذلك قبل إجماعًا لثقته، وإذا لم يقل ذلك قبله قوم ما لم يتبين في حديث بعينه أنَّه لم يسمعه، ورده آخرون ما لم يتبين أنَّه سمعه".
وقال في موضع آخر (5/ 66): "وإنما يختلف العلماء في قبول حديث المدلِّس إذا كان عمَّن قد عُلِم لقاؤه له وسماعه منه، هاهنا يقول قوم: يقبل ما يعنعن عنهم حتَّى يتبين الانقطاع في حديثٍ حديثٍ فيُرَدُّ.
ويقول آخرون: بل يُرَدُّ ما يعنعن عنهم حتَّى يتبين الاتصال في حديثٍ حديثٍ فيقبل، أما ما يعنعنه المدلِّس عمن لم نعلم لقاءه له ولا سماعه منه، فلا أعلم الخلاف فيه بأنه لا يقبل" [وانظر أيضًا: بيان الوهم (5/ 493)، زاد المعاد (2/ 276)].
وممن أشار إلى وجود الخلاف فيها: العلائي، فقد قال في جامع التحصيل (80):"فمن عرف منه أنَّه لا يدلس إلا عن ثقة كسفيان بن عيينة؛ قُبل ما قال فيه: عن، واحتج به، ومن عرف بالتدليس عن الضعفاء كابن إسحاق وبقية وأمثالهما؛ لم يحتج من حديثه إلا بما قال فيه: حدثنا، وسمعت، وهذا هو الراجح في البابين".
ثم جاء من المتأخرين من يجعل المسألة من مسائل الاتفاق، قال ابن الملقن في البدر المنير (2/ 15):"ولا خلاف أن المدلِّس إذا لم يذكر سماعًا لا يحتج بروايته"، وقد قال بهذا: ابن عبد البر والنووي وغيرهما [انظر: النكت للزركشي (2/ 89 و 92)، البحر المحيط (3/ 369)، النكت لابن حجر (2/ 624)، المدخل إلى كتاب الإكليل للحاكم (69)، الكفاية (361)].
ومن أشهر من صرَّح بردِّ حديث المدلِّس بمجرد العنعنة، وعدم التصريح بالسماع في كل حديث حديث: الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، حيث يقول في الرسالة (1/ 174 - الأم):"ومن عرفناه دلس مرةً فقد أبان لنا عورته في روايته، وليس تلك العورة بالكذب فنردَّ بها حديثه، ولا النصيحة في الصدق فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق، فقلنا: لا نقبل من مدلِّسٍ حديثًا حتَّى يقول فيه: حدثني، أو: سمعت".
ومع أن ابن جريج كان مشتهرًا بالتدليس عن المجروحين؛ إلا أن الشافعي روى له أحاديث كثيرة لم يقل فيها: حدثني، أو: سمعت، انظر على سبيل المثال: مسند الشافعي (14 و 17 و 35 و 37 و 39 و 43 و 46 و 69 و 84 و 5 8 و 86 و 92 و 100 و 108 و 109 و 110 و 114 و 118 و 119 و 120 و 121 و 129 و 132 و 133 و 134 و 135 و 139 و 150 و 151 و 152 و 168 و 174 و 181 و 192 و 206 و 213 و 220 و 227 و 231 و 235 و 248 و 250 و 258 و 260 و 264 و 267 و 275 و 290 و 291 و 298 و 300 و 302 و 303 و 341 و 348 و 356 و 357 و 358 و 360 و 366 و 368 و 369 و 371 و 373 و 377)[أكثر من ستين موضعًا] فسلك الإمام الشافعي في تطبيقه العملي مسلكًا يخالف تنظيره، مما يدل على أن المحدثين إنما كانوا يردُّون من حديث المدلِّس ما ثبت أو ترجح لديهم أنَّه دلسه، وقبلوا بقية مروياته المعنعنة حملًا لها على الاتصال، هذا مع أني وجدت كثيرًا من هذه المواضع قد صرح فيها ابن جريج بالسماع من شيوخه خارج كتب الشافعي، لكن هل وقف الشافعي نفسه على هذا السماع؟، وقد وجدته روى لابن جريج في موضعين عن عمرو بن شعيب
[المسند (150 و 348)، الأم (6/ 115 و 255)]، وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج في مواضع ذكر فيها سماعه من عمرو بن شعيب [منها مثلًا:(6/ 126/ 10215) و (6/ 418/ 11462) و (7/ 59/ 12181) و (7/ 165/ 12631) و (8/ 338/ 15446) و (8/ 464/ 15915) وغيرها]، وفي مواضع بالعنعنة وغيرها، وفي سبعة مواضع بذكر واسطة بين ابن جريج وعمرو [(3/ 248/ 5528) عطاء بن أبي رباح، و (6/ 48/ 9971) و (10/ 175 18723) و (10/ 319/ 19230) خلاد، و (6/ 260/ 15750) و (9/ 362/ 17580) و (9/ 376/ 17660) عبد الكريم]، وقد جزم البخاري وتبعه البيهقي بعدم سماع ابن جريج من عمرو بن شعيب [علل الترمدي الكبير (186)، سنن البيهقي (6/ 8)، مختصر الخلافيات (3/ 354)، تحفة التحصيل (212)]، هذا فضلًا عن كون الحديث الأول لابن جريج عن عمرو بن شعيب عند الشافعي في المسند (150) قد اختلف فيه على ابن جريج، وصوابه: ما رواه حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج: أخبرني جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد، قال العقيلي:"هذا أولى"؛ يعني: من روايته عن عمرو بن شعيب [وانظر: سنن ابن ماجة (2038)، ضعفاء العقيلي (4/ 216)، الكامل (6/ 376)، سنن الدارقطني (4/ 64 و 166)، سنن البيهقي (10/ 172)، تاريخ بغداد (2/ 45)]، والله أعلم.
وممن ذهب مذهب الشافعي في هذه المسألة جماعةٌ، منهم: ابن حبان، والبيهقي، وابن عبد البر، والخطيب وغيرهم [صحيح ابن حبان (1/ 161 - ترتيبه)، التمهيد (1/ 13)، الكفاية (361)].
قال ابن حبان: "وأما المدلِّسون الذين هم ثقات وعدول، فإنا لا نحتج بأخبارهم إلا ما بيَّنوا السماع فيما رووا،
…
؛ لأنا متى قبلنا خبر مدلِّس لم يبيِّن السماع فيه وإن كان ثقة لزمنا قبول المقاطيع والمراسيل،
…
، فإذا صح عندي خبر من رواية مدلس أنَّه بيَّن السماع فيه، لا أبالي أن أذكره من غير كان السماع في خبره بعد صحته عندي من طريق آخر".
وقال ابن عبد البر: "إلا أن يكون الرجل معروفًا بالتدليس؛ فلا يقبل حديثه حتَّى يقول: حدثنا، أو: سمعت، فهذا ما لا أعلم فيه أيضًا خلافًا"[التمهيد (1/ 13)].
قال هذا عند التنظير لعلم المصطلح، وإرساء القواعد المتبعة مع أحاديث المدلِّسين، ثم رجع فخالف نفسه عند التطبيق، فقال (19/ 278):"وقال بعض من يقول بالتيمم إلى المرفقين: قتادة إذا لم يقل: سمعت، أو: حدثنا، فلا حجة في نقله؛ وهذا تعسف! "[انظر: الحديث المتقدم برقم (327)، تخريج أحاديث الذكر والدعاء (1/ 357)]؛ يعني: أنَّه قد احتج بعنعنة قتادة، حيث لم يحفظ له سماع في هذا الحديث المذكور.
• والحاصل: فإن مذهب أكثر الأئمة النقاد في تطبيقاتهم العملية في إعلال الأحاديث وردَّها: أنهم لم يكونوا يردون حديثًا لمجرد عنعنة المدلِّس، وعدم تصريحه بالسماع، فلم يكن من ألفاظ إعلالهم للأحاديث المعلَّة: هذا حديث ضعيف؛ لأنَّه من رواية فلانٍ، وهو
مشهور بالتدليس، وقد عنعنه، ولم يصرح بالسماع، وإنما كانوا يردونه لأمر آخر، يعودون به على المدلِّس بأنه قد دلس هذا الحديث بعينه، حيث لم يذكر فيه سماعًا، بل قد يعِلُّون الحديث بالتدليس مع وجود التصريح بالسماع، ومرجع ذلك عندهم إلى مقارنة الروايات بعضها ببعض، وجمع طرق الحديث الواحد حتَّى يتبين موضع الخلل فيه، ومعرفتهم بأحوال الرواة، وشيوخهم وتلاميذهم، وغير ذلك [انظر مثلًا: تاريخ الدوري (3/ 452/ 2222) و (4/ 204/ 3965) و (4/ 389/ 4926)، العلل ومعرفة الرجال (1/ 191/ 176) و (1/ 347/ 644) و (1/ 376/ 723) و (2/ 252/ 2155)، التاريخ الكبير (1/ 74)، سنن أبي داود (4391)، جامع الترمذي (1096 و 1286 و 1425 و 3475 و 3662)، علل الترمذي الكبير (171 و 228 و 337 و 338 و 529)، السنن الصغرى للنسائي (8/ 321 / 5686)، السنن الكبرى للنسائي (3/ 630/ 3133)، صحيح ابن خزيمة (37 و 137 و 1095 و 1096)، صحيح أبي عوانة (3/ 405/ 5493 - 5496)، الأوسط لابن المنذر (2739)، الجرح والتعديل (6/ 124)، علل الحديث لابن أبي حاتم (9 و 109 و 645 و 731 و 794 و 968 و 1104 و 1219 و 1259 و 1803 و 1870 و 1871 و 1879 و 1957 و 2078 و 2087 و 2119 و 2255 و 2275 و 2394 و 2463 و 2579)، الكامل لابن عدي (2/ 141 و 319) و (7/ 5)، علل الدارقطني (2/ 169/ 195) و (6/ 28/ 958) و (8/ 204/ 1513) و (10/ 95/ 1888) و (15/ 107/ 3867)، سنن الدارقطني (1/ 158) و (3/ 201 و 251)، سنن البيهقي (3/ 327) و (5/ 230) و (6/ 136) و (7/ 157)، مختصر الخلافيات (3/ 354)، معرفة علوم الحديث (103)، الكفاية (358 و 365)، تاريخ بغداد (13/ 80)، الفتح لابن حجر (8/ 462)، وغيرها كثير جدًّا] [وانظر أيضًا: حديث كفارة المجلس في تخريج أحاديث الذكر والدعاء (300)، تخريج سنن أبي داود هذا (11 و 23 و 44 و 67 و 83 و 133 و 173 و 180 و 201 و 204 و 236 و 356 و 372 و 386 و 424 و 429 و 461 و 489 و 492 و 499 و 518 و 559 و 567 و 584 و 630 و 653 و 668 و 684 و 703 و 717) وغيرها].
بل لقد أخرج الشيخان في صحيحيهما وغيرُهما من أرباب الصحاح أحاديثَ بعض المدلِّسين معنعنةً، ولم يُعثر لها على طرقٍ صَرَّحُوا فيها بالسماع، مما يدل على أنهم قبلوها معنعنة لعدم وقوع التدليس فيها، وأنهم كانوا يرونها محمولة على الاتصال حتَّى يظهر فيها الانقطاع، وهذه من المسائل التي كثُر فيها الأخذ والرد من غير طائل، قال ابن حجر:"بل في الصحيحين وغيرهما جملة كثيرة من أحاديث المدلِّسين بالعنعنة"[انظر: النكت للزركشي (2/ 92 - 97)، الشذا الفياح (1/ 177)، النكت لابن حجر (2/ 634 - 644)، فتح المغيث (1/ 183)].
• فإن قيل: ابن إسحاق مشهور بكثرة التدليس، كما صرح بذلك الإمام أحمد، وعليه فيلزمكم عدم قبول حديثه حتَّى يصرح بالسماع في كل حديث حديث، وذلك لقول ابن المديني، فيما نقله عنه يعقوب:
قال يعقوب: "وسألت علي بن المديني عن الرجل يدلس: أيكون حجة فيما لم يقل: حدثنا؟ فقال: إذا كان الغالب عليه التدليس فلا؛ حتَّى يقول: حدثنا"[التمهيد (1/ 18)، الكفاية (362)].
فالجواب: قد سبق التدليل على قلة تدليس ابن إسحاق في سعة روايته، وأن الكثرة والقلة هي مسألة نسبية، تختلف بحسب آراء الأئمة، كما أن التطبيق العملي لابن المديني في شأن ابن إسحاق يدل على أنَّه يقبل حديثه المعنعن، ويراه من صحيح حديثه حتَّى يثبت عنده أنَّه دلسه، قال الحاكم في المعرفة (107):"قال علي بن المديني: حدثنا يعلى بن عبيد [يعني: الطنافسي، وهو: ثقة]، عن محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة، فيها جمل لأبي جهل، قال ابن المديني: فكنت أرى أن هذا من صحيح حديث ابن إسحاق؛ فإذا هو قد دلسه، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني من لا أتهم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، فإذا الحديث مضطرب".
ووصله البيهقي (5/ 229 و 230)، وانظر أيضًا: صحيح ابن خزيمة (2897 و 2898)، مستدرك الحاكم (1/ 467)، مسند أحمد (1/ 261 و 273)، مشكل الآثار (4/ 26 و 27)، معجم الطبراني الكبير (11/ 92/ 11148)، سنن البيهقي (5/ 229)، دلائل النبوة (4/ 152).
قلت: فلو كانت العنعنةُ وحدها علةً كافيةً لرد حديث ابن إسحاق؛ لما تردد إمام علم العلل في ردِّ هذا الحديث، وجعله من مردود حديث ابن إسحاق، حتَّى يصرح فيه بالسماع، أو على الأقل لكان توقف فيه، حتَّى يتبين له وجه الحديث، والله أعلم.
وقول جرير بن حازم هنا: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن عمرو، صيغة تستعمل كثيرًا في موضع السماع، مثل ما تقدم معنا قريبًا: قال سفيان بن عيينة: فأما أنا فإنما سمعت الزهري يحدث عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور [تقدم برقم (811)، وهو متفق عليه من حديث الزهري، وهذا لفظ البخاري]، ومثل قول شعبة: سمعت قتادة يحدث عن أَنس [عند مسلم برقم (43 و 44 و 45 و 425 و 433 و 551 و 799 و 1047 و 1059 و 1706 و 2092 و 2163)]، وقول المعتمر بن سليمان: سمعت منصورًا يحدث عن الحكم [عند مسلم (1194)]، وقول ابن عيينة: سمعت الزهري يحدث عن عروة بن الزبير [عند مسلم (1277)]، وقول شعبة: سمعت أبا إسحاق يحدث عن عمرو بن ميمون [عند مسلم (1794)]، وقول شعبة: سمعت أبا إسحاق يحدث عن صلة بن زفر [عند مسلم (2420)]، وقول شعبة: سمعت أبا إسحاق يحدث عن أبي الأحوص [عند مسلم (2606)]، وغير هذا كثير جدًّا في الصحيحين وغيرهما.
وأما جرير بن حازم فإنه بصري ثقة، من السادسة، وقد يهم على ابن إسحاق قليلًا
[انظر: علل الترمذي الكبير (275)]، وأما ابنه وهب، فإنه ثقة أيضًا، وقد يهم على أبيه [انظر: الحديث المتقدم برقم (334)، سؤالات الآجري (1335)]، وأما في هذا الحديث فليس عندنا قرينة تدل على خطأ أيٍّ منهم، فهو حديث حسن، والله أعلم.
كما أن لحديث ابن عمرو هذا شاهد صحيح بمعناه من حديث أبي هريرة، وآخر بلفظه من حديث ابن عمر ولا يصح، وقريبًا من معناه من حديث عثمان بن أبي العاص، ولا يصح أيضًا:
• أما حديث ابن عمر:
فيرويه يحيى بن عثمان بن صالح: ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح: ثنا إسماعيل بن عياش، عن صالح بن كيسان، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال: ما من سورة في المفصَّل صغيرة ولا كبيرة إلا قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها في الصلاة كلِّها.
أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 365/ 13359)، قال: حدثنا يحيى به.
قلت: هو غريب جدًّا من حديث نافع، ثم من حديث صالح بن كيسان، فإن الشيخين قد أخرجا أحاديث بهذه الترجمة: صالح عن نافع عن ابن عمر [انظر: التحفة (7680 - 7687)]، وهي مشهورة مبثوثة عند أهل المدينة وغيرهم من الثقات، ولصالح تلاميذ كثر من أهل المدينة ومن غيرهم من الغرباء؛ فأين هم عن هذا الحديث الَّذي يتفرد به رجل من أهل الشام دونهم، لا سيما وحديثه عن أهل المدينة مضطرب ضعيف؛ يروي عنهم غرائب ومناكير، وليس لإسماعيل بن عياش عن صالحٍ كبيرُ حديث، بل إنه أحيانًا يروي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن صالح، وقد تقدم قريبًا شاهدٌ على تخليط إسماعيل بن عياش فيما يرويه عن صالح بن كيسان، انظر ما تحت الحديث المتقدم برقم (738).
ثم الراوي عن إسماعيل بن عياش الحمصي: أبو صالح عبد الله بن صالح المصري، كاتب الليث بن سعد: صدوق كثير الغلط، كانت فيه غفلة، وعنه: يحيى بن عثمان بن صالح القرشي السهمي مولاهم، أبو زكريا المصري، وهو: حافظ أخباري، صدوق، له ما يُنكَر، ويحدث من غير كتبه [التهذيب (4/ 377)، الميزان (4/ 396)، السير (13/ 354)، إكمال مغلطاي (12/ 347)]، فهو إسناد مدني، ثم حمصي، ثم مصري؛ فما أغربه، وأبعده عن الصحة والصلاحية في الشواهد والمتابعات!.
• وأما حديث عثمان بن أبي العاص:
فيرويه عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن داود بن أبي عاصم، عن عثمان بن أبي العاص: أن آخر ما فارقه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليت بقوم فخفف بهم" حتَّى وَقَّتَ في: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .
وفي رواية: آخر كلام كلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ استعملني على الطائف، قال:"خفف الصلاة على الناس" حتَّى وَقَّتَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ، وأشباهها من القرآن.
تقدم تخريجه تحت الحديث السابق برقم (531)، وهو حديث ضعيف.
• وأما حديث أبي هريرة:
فيرويه الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة، قال: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلانٍ [لأمير كان بالمدينة]، فصلينا وراء ذلك الإنسان، وكان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف في الأخريين، ويخفف في العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصَّل، ويقرأ في العشاء بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} وأشباهها، ويقرأ في الصبح بسورتين طويلتين.
وفي رواية: ويقرأ في المغرب بقصار المفصَّل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصَّل، ويقرأ في الصبح بطوال المفصَّل.
وهذه الرواية الثانية هي معنى حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو حديث صحيح، سيأتي الكلام عليه في أول شواهد الباب، تحت الحديث الآتي (815).
• قال ابن رجب في الفتح (4/ 433) عن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: • فهذا يدل على إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من قراءة سور المفصَّل في الصلوات الجهريات الثلاث: قصارها، وطوالها، ومتوسطها، فإن كان يقرأ في الصبح بطول المفصَّل، وفي المغرب بقصاره، وفي العشاء بأوساطه؛ فهو موافق لحديث أبي هريرة وأنس، وهذا هو الظاهر، وإن كان يقرأ بقصار سور المفصَّل في العشاء أو في الصبح، فقراءتها في المغرب أولى".
***
815 -
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ: حدثنا أبي: حدثنا قُرَّة، عن النزَّال بن عمَّار، عن أبي عثمان النهدي، أنَّه صلى خلف ابن مسعود المغرب، فقرأ بـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} .
• موقوف على ابن مسعود بإسناد لا بأس به.
أخرجه من طريق أبي داود: البيهقي (2/ 391).
ورواه عبد الرحمن بن مهدي، ووهب بن جرير بن حازم:
عن قُرَّةَ بن خالد، عن النَّزَّال بن عمَّار، عن أبي عثمان النهدي، قال: صلى بنا عبد الله بن مسعود المغرب، فقرأ في إحدى الركعتين:{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} ، فلوددت أنَّه قرأ بسورة البقرة من حسن صوته وترتيله. لفظ ابن مهدي، ولم يذكر وهب: المغرب.
أخرجه البلاذري في أنساب الأشراف (4/ 19)[وفي سنده تصحيف]، والمزي في التهذيب (29/ 338).
ورواه أبو داود الطيالسي، عن قُرَّةَ، عن النزال بن عمَّار، قال: حدثني أبو عثمان النهدي، قال: صلى بنا أبو مسعود المغرب فقرأ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} ، فودِدْت أنَّه كان قرأ سورة البقرة من حسن صوته.
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 314/ 3595)(3/ 232/ 3615 - ط عوامة)[ولم أعثر عليه في مسند الطيالسي].
هكذا قال: أبو مسعود، وهو البدري عقبة بن عمرو، وهو وهم، أو تصحيف، والصواب: ابن مسعود، فإن أبا عثمان النهدي عبد الرحمن بن مَلٍّ مشهور بالرواية عنه، وروايته عنه في الصحيحين وغيرهما، وقد تتابع على هذا القول: ثلاثة من الثقات الحفاظ: عبد الرحمن بن مهدي، ومعاذ بن معاذ العنبري، ووهب بن جرير بن حازم.
وأثر ابن مسعود هذا رجاله ثقات مشهورون، رجال الشيخين؛ غير النزال بن عمار: وهو بصري، روى عنه اثنان من الثقات، وذكره ابن حبان في الثقات [التهذيب (4/ 216)].
فهو موقوف على ابن مسعود بسند لا بأس به.
• ومما جاء في القراءة في المغرب بقصار المفصَّل:
1 -
حديث أبي هريرة، وأنس:
يرويه الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة، قال: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلانٍ [لأمير كان بالمدينة]، فصلينا وراء ذلك الإنسان، وكان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف في الأخريين، ويخفف في العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصَّل، ويقرأ في العشاء بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} وأشباهها، ويقرأ في الصبح بسورتين طويلتين.
وفي رواية: ويقرأ في المغرب بقصار المفصَّل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصَّل، ويقرأ في الصبح بطوال المفصَّل.
وفي رواية: ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصَّل، وفي الأوليين من العشاء بوسط المفصَّل، وفي الصبح بطوال المفصَّل.
أخرجه النسائي في المجتبى (2/ 167/ 982 و 983)، وفي الكبرى (2/ 14/ 1056 و 1057)، وابن ماجة (827)، وابن خزيمة (1/ 261/ 520)، وابن حبان (5/ 145/ 1837)، وأحمد (2/ 300 و 329 و 532)، والطحاوي (1/ 214)، وأبو طاهر المخلص في السادس من فوائده بانتقاء ابن أبي الفوارس (246)(1265 - المخلصيات)، وابن حزم في المحلى (4/ 152)، والبيهقي (2/ 388 و 391).
• تنبيه: وقع هذا الحديث في روايةٍ عند الطحاوي مختصرًا اختصارًا مخلًا بمعنى الحديث من قبل أحد رواته حيث رواه مرفوعًا بلفظ صريح، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بقصار المفصَّل، وهو وهم ظاهر.
قال ابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 459): "وهذا لو ثبت بهذا اللفظ لأغنى عما سواه، لكنه مختصر من الحديث"، ثم أسنده.
ثم قال: "وأخرجه الطحاوي أيضًا من رواية زيد بن الحباب عن الضحاك باللفظ الَّذي قدمته، فلم يُصِب من اختصره؛ فإن أبا هريرة لم يتلفظ بقوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يقرأ في المغرب بقصار المفصَّل، وإنما تلفظ بالتشبيه، وهو لا يستلزم المساواة في جميع صفات الصلاة، والله أعلم".
هكذا رواه مختصرًا فوهم: زيد بن الحباب، وهو: صدوق، ورواه تامًّا على الصواب باللفظ المتقدم: عبد الله بن الحارث بن عبد الملك المخزومي [ثقة]، وأبو بكر عبد الكبير بن عبد المجيد الحنفي [ثقة]، ومحمد بن إسماعيل بن أبي فديك [صدوق]، والمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله المخزومي [لا بأس به]، وعثمان بن مكتل [ثقة. الجرح والتعديل (6/ 169)، الثقات (8/ 452)، صحيح ابن خزيمة (1293)، صحيح أبي عوانة (1/ 326/ 1155)، علل الدارقطني (11/ 23/ 2097)، إكمال ابن ماكولا (7/ 221)].
وحديث أبي هريرة: حديث صحيح؛ إسناده صحيح على شرط مسلم [انظر: صحيح مسلم (1528)]، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، واحتج به النسائي.
وقد ترجم له النسائي بقوله: "باب القراءة في المغرب بقصار المفصَّل".
• وفي روايةٍ لأبي بكر الحنفي عن الضحاك: قال الضحاك: وحدثني من سمع أَنس بن مالك، يقول: ما رأيت أحدًا أشبهَ صلاةً بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى؛ يعني: عمر بن عبد العزيز، قال الضحاك: فصليت خلف عمر بن عبد العزيز، وكان يصنع مثل ما قال سليمان بن يسار.
أخرجه أحمد (2/ 329)، والبيهقي (2/ 388).
ووصله ابن أبي فديك، فرواه عن الضحاك بن عثمان، عن يحيى بن سعيد، أو: عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أَنس بن مالك، قال: ما صليت وراء أحدٍ أشبهَ صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى؛ يعني: عمر بن عبد العزيز، قال الضحاك: فكنت أصلي وراءه، فيطيل الأوليين من الظهر، ويخفُّ الأخريين، ويخفُّ العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصَّل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصَّل، ويقرأ في الصبح بطوال المفصَّل.
أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (5/ 332)، وأبو طاهر المخلص في السادس من فوائده بانتقاء ابن أبي الفوارس (245)(1264 - المخلصيات)، والذهبي في السير (10/ 666).
لكن روى إسماعيل بن داود بن مخراق [منكر الحديث، يروي عن مالك بن أَنس وأهل المدينة، قال ابن حبان: "يسرق الحديث ويسويه"، اللسان (2/ 119)، المجروحين (1/ 129)]، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن أَنس بن مالك، قال: ما صليت خلف أحد أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، يعني: عمر بن عبد العزيز.
أخرجه ابن حبان في المجروحين (1/ 129)، والخطيب في تاريخ بغداد (12/ 225).
قال ابن حبان: "وهذا خبر باطل؛ ليس من حديث مالك، ولا من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري، إنما رواه شريك بن أبي نمر عن أَنس فقط".
فاستفدنا من كلام ابن حبان كون الحديث معروفًا عن شريك، وأنه ليس من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري.
وعليه: فإن حديث ابن أبي فديك إسناده حسن، والله أعلم.
• وحديث أَنس هذا روي من وجوه أخر [يأتي أحدها عند أبي داود برقم (888)]، نذكر منها ما تناول القراءة في الصلاة:
فقد روى فليح بن سليمان، عن محمد بن مُساحِقٍ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أَنس، قال: ما رأيت إمامًا أشبهَ صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم من إمامكم، لعمر بن عبد العزيز، قال: وكان عمر لا يطيل القراءة.
أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 235)، وأحمد (3/ 144 و 221 و 259).
وهذا إسناد صالح في المتابعات، محمد بن مساحق، لا يُعرف له غير هذا الحديث، ولا روى عنه سوى فليح، وذكره ابن حبان في الثقات [الجرح والتعديل (8/ 151)، الثقات (7/ 420)، التعجيل (972)]، وفليح بن سليمان: صدوق، كثير الخطأ.
• والحاصل: فقد صح بذلك هذا الخبر من حديث أبي هريرة، ومن حديث أَنس.
وقد حسن إسناد حديث أبي هريرة النووي في الخلاصة (1215)، وصححه في المجموع (3/ 335).
وقال ابن القيم بأنه على شرط مسلم [حاشيته على سنن أبي داود (3/ 78)].
وقال ابن رجب في الفتح (4/ 433): "فهذا حديث صحيح عن أبي هريرة وأنس، ويدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في المغرب بقصار المفصَّل".
وقال ابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 459): "هذا حديث صحيح من حديث أبي هريرة، والمرفوع منه تشبيه أبي هريرة صلاة الأمير المذكور بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عدا ذلك موقوف إن كان الأمير المذكور صحابيًّا، أو مقطوع إن لم يكن.
وأما حديث أنس ففي سنده مبهم يمنع من الحكم بصحته، والمرفوع منه أيضًا التشبيه، وما عداه مقطوع"، [سبق كان اتصال حديث أَنس].
وكان قال قبل ذلك (1/ 445): "وأما القراءة في المغرب بقصار المفصَّل، فلم أر في ذلك حديثًا صحيحًا صريحًا، بل الوارد في الأحاديث الصحيحة أنَّه قرأ فيها بطوال المفصَّل؛ كالطور والمرسلات، وبأطول منها كالدخان، وبأطول من ذلك أضعافًا كالأعراف.
وأقوى ما رأيته في ذلك حديث أبي هريرة، لكن سياقه ليس نصًّا في رفعه" [وانظر: الفتح لابن حجر (2/ 248)].
2 -
حديث معاذ بن جبل:
روى محارب بن دثار، عن جابر بن عبد الله: أن رجلًا من الأنصار مرَّ بناضحين له، ومعاذ يصلي المغرب، فافتتح سورة البقرة، فصلى الرجل ثم ذهب، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم -
فقال: "أفتان يا معاذ" أفتان يا معاذ" أولا قرأت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}؟، ونحوهما". لفظ سفيان الثوري، وقد رواه عن محارب جماعة من الثقات، وقد تقدم تخريجه بطرقه تحت الحديث رقم (600).
وقلت هناك: هكذا قال محارب بن دثار في هذا الحديث عن جابر: المغرب، وخالفه جماعة ممن رووه عن جابر فقالوا: العشاء، وممن قال ذلك عن جابر: عمرو بن دينار، وأبو الزبير، وعبيد الله بن مقسم، وأبو صالح، وقولهم أقرب إلى الصواب، وقد نبه البخاري على ذلك في صحيحه، حيث حذف لفظة المغرب من حديث شعبة عن محارب، ثم قال:"وتابعه سعيد بن مسروق ومسعر والشيباني [يعني: على أنها المغرب]، قال عمرو وعبيد الله بن مقسم وأبو الزبير عن جابر: قرأ معاذ في العشاء بالبقرة، وتابعه الأعمش عن محارب"؛ يعني: على أنها العشاء، والله أعلم.
وقال البيهقي (3/ 116): "كذا قال محارب بن دثار عن جابر: المغرب، وقال عمرو بن دينار، وأبو الزبير، وعبيد الله بن مقسم، عن جابر: العشاء".
3 -
حديث جابر بن سمرة:
يرويه أبو قلابة عبد الملك بن محمد بن عبد الله الرقاشي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سعيد بن سماك بن حرب، قال: حدثني أبي، ولا أعلمه إلا عن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة: سورة الجمعة والمنافقين.
أخرجه ابن حبان في صحيحه (5/ 149/ 1841)، وفي الثقات (6/ 367)، وابن مخلد البزاز في حديثه عن ابن السماك والخلدي (45)، وجعفر المستغفري في فضائل القرآن (2/ 728/ 1092)، والبيهقي (2/ 1/ 39) و (3/ 201).
قال ابن حبان في الثقات: "والمحفوظ عن سماك: أن النبي صلى الله عليه وسلم "؛ يعني: مرسلًا، بدون ذكر جابر.
قلت: سعيد بن سماك بن حرب: متروك الحديث [اللسان (4/ 58)]، وأبو قلابة عبد الملك بن محمد بن عبد الله الرقاشي البصري: صدوق، كثير الخطأ في الأسانيد والمتون، كان يحدث من حفظه فكثرت الأوهام في روايته، ومن روى عنه بالبصرة فسماعه أصح ممن سمع منه ببغداد، وهذا الحديث رواه عنه جماعة من البغداديين والغرباء، وممن نُصَّ على أنهم ممن سمع منه بأخرة بعد اختلاطه، مثل: أبي عمرو عثمان بن أحمد بن السماك، وأبي سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان، وأبي العباس محمد بن يعقوب الأصم، وأبي بكر أحمد بن سلمان النجاد الفقيه، وغيرهم [التهذيب (2/ 624)، الكواكب النيرات (37)، شرح علل الترمذي (2/ 751)].
4 -
حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري:
رواه إسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن عبد الله بن يزيد الأنصاري؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} .
وهذا إسناد واهٍ، تقدم ذكره في شواهد الباب السابق.
• وانظر فيما لا يصح أيضًا:
مسند أبي يعلى (6/ 150/ 3429)[من حديث أَنس، وفي إسناده: عباد بن كثير الثقفي البصري، وهو: متروك، قال أحمد: "روى أحاديث كذب، لم يسمعها]، التهذيب (2/ 280)]. مسند البزار (6/ 127/ 2174)، المعجم الكبير للطبراني (3/ 6247/681 - جامع المسانيد والسنن" [من حديث عبد الله بن الحارث بن عبد المطلب، وهو حديث منكر؛ تفرد به عن ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن الأعرج: حجاج بن نصير، وهو: ضعيف؛ وكان يقبل التلقين. انظر: التهذيب (1/ 362)، نتائج الأفكار (1/ 452)، مجمع الزوائد (2/ 118)].
• ومما روي من الآثار في القراءة في المغرب:
1 -
روى مالك، عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك؛ أن عبادة بن نسي أخبره؛ أنَّه سمع قيس بن الحارث، يقول: أخبرني أبو عبد الله الصنابحي؛ أنَّه قدم المدينة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فصلى وراء أبي بكر المغرب، فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين بأم القرآن، وسورةٍ سورةٍ من قصار المفصَّل، ثم قام في الركعة الثالثة، فدنوتُ منه حتَّى إن ثيابي لتكادُ تمسُّ ثيابه، فسمعته قرأ بأم القرآن وهذه الآية:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8].
أخرجه مالك في الموطأ (1/ 129/ 209 - رواية يحيى الليثي)(1/ 84/ 218 - رواية أبي مصعب الزهري)(116 - رواية القعنبي).
ومن طريقه: البخاري في التاريخ الكبير (3/ 258) و (5/ 322)، وفي التاريخ الأوسط (1/ 166)، وأبو داود [في رواية أبي الطيب ابن الأشناني. عزاه إليه المزي في التحفة (5/ 20/ 6607 - ط دار الغرب)، وفي التهذيب (24/ 9)، عن القعنبي عن مالك به، وكذا السيوطي في الدر المنثور (2/ 155)، والمتقي الهندي في كنز العمال (8/ 132 / 22917)، ولم أجده في النسخ المطبوعة من سنن أبي داود، ولم يعزه ابن الأثير في جامع الأصول (5/ 347/ 3462)، ولا النووي في الخلاصة (1216)، ولا في المجموع (3/ 335)؛ إلا للموطأ]، والشافعي في الأم (7/ 207 و 228)، وفي المسند (215)، وعبد الرزاق (2/ 109/ 2698)، ويعقوب بن سفيان في المعرفة (2/ 130)، وابن المنذر في الأوسط (3/ 112/ 1329) و (3/ 300/ 1683)، والطحاوي في المشكل (12/ 54 و 55)، والبيهقي في السنن (2/ 64 و 391)، وفي المعرفة (1/ 534/ 744)، والخطيب في الموضح (1/ 279)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (26/ 211 و 212)، والمزي في التهذيب (9/ 24).
وهذا موقوف على أبي بكر الصديق بإسناد صحيح.
وصحح إسناده النووي في الخلاصة (1216)، وفي المجموع (3/ 335).
وله طرق أخرى عند: البخاري في التاريخ الكبير (3/ 258)، وعبد الرزاق (2/ 110/ 2699)، وابن أبي شيبة (1/ 326/ 3727)، والطحاوي في المشكل (12/ 55)، والدارقطني في العلل (1/ 259/ 52)، والبيهقي في الشعب (1/ 507/ 860)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (26/ 212).
2 -
وروى الثوري، عن علي بن زيد بن جدعان، عن الحسن وغيره، قال: كتب عمر إلى أبي موسى: أن اقرأ في المغرب بقصار المفصَّل، وفي العشاء بوسط المفصَّل، وفي الصبح بطوال المفصَّل.
أخرجه عبد الرزاق (2/ 104/ 2672).
هكذا رواه عبد الرزاق عن الثوري، وخالفه: أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي، فقال: حدثنا سفيان، عن علي بن علي الرفاعي، عن الحسن، قال: كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: أن اقرأ في المغرب بقصار المفصَّل، وفي العشاء بوسط المفصَّل، وفي الفجر بطوال المفصَّل.
أخرجه ابن أبي داود في المصاحف (508).
قلت: رواية عبد الرزاق أولى؛ فإن أبا حذيفة: صدوق، كثير الوهم، سيئ الحفظ، ليس بذاك في الثوري، وضعفه جماعة في سفيان [التقريب (619)، شرح علل الترمذي (2/ 726)، التهذيب (4/ 188)].
خالفه: شريك بن عبد الله النخعي، فرواه عن علي بن زيد بن جدعان، عن زرارة بن أوفى، قال: أقرأني أبو موسى كتاب عمر بن الخطاب إليه: أن اقرَأ بالناس في الفجر بأول المفصَّل، وفي العشاء بوسط المفصَّل، في المغرب بآخر المفصَّل.
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 314 و 316/ 3594 و 3611)، وحرب الكرماني في مسائله (138).
قلت: ورواية الثوري أولى بالصواب، شريك بن عبد الله النخعي كان سيئ الحفظ، كثير الغلط، وعليه فلا يثبت هذا الأثر عن عمر بن الخطاب من هذا الوجه؛ فإن علي بن زيد بن جدعان: ضعيف؛ والحسن البصري لم يدرك عمر.
3 -
وروى سفيان الثوري، وأبو الأحوص، وزهير بن معاوية، وزكريا بن أبي زائدة: عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: صلى بنا عمر صلاة المغرب فقرأ في الركعة الأُولى: بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} ، وفي الركعة الثانية:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} ، و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} . لفظ أبي الأحوص، ولفظ الثوري بنحوه.
زاد ابن أبي زائدة أن ذلك كان بمكة، وأنه رفع صوته فقال:{وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3]، وختم القصة بقوله: جميعًا من أجل أن فيهن ذكر البلد.
وفي رواية زهير: حججت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقرأ في الركعة الآخرة من المغرب:{أَلَمْ تَرَ} و {لِإِيلَافِ} .
أخرجه عبد الرزاق (2/ 109/ 2697)، وابن أبي شيبة (1/ 314/ 3593)، وابن جرير الطبري في تفسيره (30/ 240)، والطحاوي (1/ 348)، وجعفر المستغفري في فضائل القرآن (2/ 676 و 683/ 1003/ 1013).
وهذا موقوف على عمر بن الخطاب بإسناد صحيح على شرط البخاري [انظر: صحيح البخاري (1684 و 3838)].
وأما ما رواه شعبة، وسفيان الثوري، وإسرائيل، وأبو الأحوص، وزهير بن معاوية، وزكريا بن أبي زائدة [مطولًا ومختصرًا]:
عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: لما طُعِن عمر [وهاج الناس] كادت الشمس أن تطلع، فقدَّموا عبد الرحمن بن عوف فأَمَّهم بأقصر سورتين في القرآن:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ، و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} .
أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/ 349)، وابن أبي شيبة (1/ 406/ 4671) و (7/ 437/ 37064)، والحارث بن أبي أسامة (2/ 622/ 594 - زوائده)، وابن أبي داود في المصاحف (509)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 151)، والبيهقي (3/ 113).
فهو حديث آخر في واقعة مختلفة.
4 -
وروى وكيع، عن سفيان، عن خالد، عن عبد الله بن الحارث: أن ابن عباس قرأ الدخان في المغرب.
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 315/ 3596)(3/ 232 - 233/ 3616 - ط عوامة).
وهذا موقوف على ابن عباس بإسناد صحيح، رجاله رجال الشيخين، عبد الله بن الحارث هو: الأنصاري أبو الوليد البصري، وروايته عن ابن عباس في الصحيحين [البخاري (616)، مسلم (699)]، وخالد هو: ابن مهران الحذاء، وسفيان هو: الثوري.
5 -
وروى وكيع، ومحمد بن جعفر:
عن شعبة، عن أبي نوفل بن أبي عقرب، قال: سمعت ابن عباس يقرأ في المغرب: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} .
أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن (2/ 130)، وابن أبي شيبة (1/ 315/ 3597)، وابن أبي داود في المصاحف (217).
وهذا موقوف على ابن عباس بإسناد صحيح، رجاله رجال الشيخين، غير أبي نوفل بن أبي عقرب فمن رجال مسلم.
6 -
وروى ابن عيينة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت ابن عمر يقرأ بـ {ق} في المغرب.
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 315/ 3598).
هكذا رواه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة، وخالفه:
عبد الرزاق، فرواه عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن رجل سمع ابن عمر يقرأ في المغرب {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} .
أخرجه عبد الرزاق (2/ 108/ 2695)، ومن طريقه: جعفر المستغفري في فضائل القرآن (2/ 621/ 926).
هكذا اختلف حافظان كبيران على ابن عيينة، فكما أن يكون مضطربًا، اضطرب فيه ابن عيينة، وإلا فابن عيينة المكي أحفظ لحديث عمرو بن دينار المكي وأعلم به من حديث عمرو بن مرة الكوفي، فهو أثر ضعيف؛ إما لاضطرابه، وإما لأجل المبهم في رواية عمرو بن دينار، والله أعلم.
7 -
وروى عبدة بن سليمان [ثقة ثبت]، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع: أن ابن عمر قرأ مرةً في المغرب بـ {يس} .
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 315/ 3599).
وهذا موقوف على ابن عمر بإسناد صحيح.
8 -
وروى ابن علية، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر أنَّه قرأ في المغرب بـ {يس} ، و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} .
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 315/ 3605).
وهله متابعة صالحة لرواية عبدة عن عبيد الله بن عمر العمري، دون زيادة {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ، وإسنادها ضعيف؛ لأجل ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف؛ لاختلاطه وعدم تميز حديثه.
9 -
وروى محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، قال: أخبرني صالح بن كيسان، أنَّه سمع ابن عمر قرأ في المغرب:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} .
أخرجه عبد الرزاق (2/ 108/ 2696)، ومن طريقه: جعفر المستغفري في فضائل القرآن (2/ 618/ 918).
"صالح بن كيسان" كذا هو في إسناد الدبري عن عبد الرزاق، ولعله تحرف عن طاوس بن كيسان، إذ هو المعروف بالرواية عن ابن عمر، وعنه: إبراهيم بن ميسرة، ورجاله رجال مسلم، ومحمد بن مسلم الطائفي: صدوق، يخطئ إذا حدث من حفظه، وكتابه أصح، وله غرائب، وقد ضعفه أحمد على كل حال، من كتاب وغير كتاب [انظر: التهذيب (3/ 696)، الميزان (4/ 40)، التقريب (564)].
وعليه: فهذا موقوف على ابن عمر بإسناد حسن غريب.
10 -
حسين بن علي، عن زائدة، عن هشام، عن الحسن، قال: كان عمران بن حصين يقرأ في المغرب: {إِذَا زُلْزِلَتِ} {وَالْعَادِيَاتِ} .
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 315/ 3601)(3/ 233/ 3621 - ط عوامة).
وهذا منقطع؛ الحسن لم يسمع من عمران بن حصين [المراسيل (119 - 126)، وفي رواية هشام بن حسان عن الحسن البصري مقال، وروايته عنه في الصحيحين.
• قلت: حاصل ما صح في باب القراءة في المغرب مرفوعًا وموقوفًا: يدل على أنَّه لا توقيت فيها، ولا في غيرها من الصلوات، وإن كان حديث عبد الله بن عمرو وحديث أبي هريرة وأنس تدل على أن الأكثر القراءة فيها بسور المفصَّل لا سيما قصارها، وهو الأقرب للأحاديث الواردة في حث الأئمة على التخفيف، والله أعلم.
• قال الترمذي بعد حديث أم الفضل في القراءة بالمرسلات: "وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين كلتيهما، ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قرأ في المغرب بالطور، ورُوي عن عمر أنَّه كتب إلى أبي موسى: أن اقرأ في المغرب بقصار المفصَّل، ورُوي عن أبي بكر الصديق: أنَّه قرأ في المغرب بقصار المفصَّل.
قال: وعلى هذا العمل عند أهل العلم، وبه يقول ابن المبارك وأحمد وإسحاق، وقال الشافعي وذكر عن مالك أنَّه كره أن يُقْرَأَ في صلاة المغرب بالسور الطوال نحو الطور والمرسلات، قال الشافعي: لا أكره ذلك، بل أستحب أن يُقْرَأَ بهذه السور في صلاة المغرب".
وقال ابن خزيمة (1/ 261): "هذا الاختلاف في القراءة من جهة المباح، جائزٌ للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها التي يزاد على فاتحة الكتاب فيها بما أحبَّ، وشيئًا من سور القرآن، ليس بمحظور عليه أن يقرأ بما شاء من سور القرآن؛ غير أنَّه إذا كان إمامًا فالاختيار له أن يخفف في القراءة، ولا يطوِّل بالناس في القراءة فيفتنهم؛ كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل: "أتريد أن تكون فتانًا"، وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأئمة أن يخففوا الصلاة، فقال: "من أم منكم الناس فليخفف".
وقال ابن عبد البر في الاستذكار (1/ 426): "فكل ذلك من المباح الجائز أن يقول المرء بما شاء مع أم القرآن؛ ما لم يكن إمامًا يطوِّل على من خلفه، وبنحو ذلك تواترت الآثار في القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، مرة يخفف، وربما طوَّل، صنع ذلك في كل صلاة، وهذا كلُّه يدل على أن لا توقيت في القراءة عند العلماء بعد فاتحة الكتاب، وهذا إجماع من علماء المسلمين، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من أمَّ الناس فليخفِّف"، ولم يحد شيئًا".
وقال النووي في شرح مسلم (4/ 174): "قال العلماء: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تختلف في الإطالة والتخفيف باختلاف الأحوال، فإذا كان المأمومون يؤثرون التطويل؛ ولا شغل هناك له ولا لهم طوَّل، وإذا لم يكن كذلك خفَّف، وقد يريد الإطالة ثم يعرض ما
يقتضي التخفيف كبكاء الصبي ونحوه، وينضم إلى هذا أنَّه قد يدخل في الصلاة في أثناء الوقت فيخفف، وقيل: إنما طوَّل في بعض الأوقات وهو الأقل، وخفَّف في معظمها، فالإطالة لبيان جوازها، والتخفيف لأنَّه الأفضل، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالتخفيف، وقال:"إن منكم منفِّرين؛ فأيكم صلى بالناس فليخفف؛ فإن فيهم السقيم والضعيف وذا الحاجة"، وقيل: طوَّل في وقتٍ، وخفَّف في وقتٍ، ليبيِّن أن القراءة فيما زاد على الفاتحة لا تقدير فيها من حيث الاشتراط، بل يجوز قليلها وكثيرها، وإنما المشترط الفاتحة، ولهذا اتفقت الروايات عليها، واختلف فيما زاد، وعلى الجملة: السُّنَّة التخفيف؛ كلما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم للعلة التي بيَّنها، وإنما طوَّل في بعض الأوقات لتحقُّقِه انتفاءَ العلة، فإن تحقَّق أحدٌ انتفاء العلة طوَّل [وانظر: المجموع شرح المهذب (3/ 337)].
وقال ابن دقيق العيد في الإحكام (1/ 267): "والصحيح عندنا: أن ما صح في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يكثر مواظبته عليه فهو جائز من غير كراهة، كحديث جبير بن مطعم في قراءة الطور في المغرب، وكحديث قراءة الأعراف فيها، وما صحت المواظبة عليه فهو في درجة الرجحان في الاستحباب؛ إلا أن غيره مما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم غير مكروه".
وانظر أيضًا: شرح السُّنَّة (3/ 80)، عارضة الأحوذي (2/ 104)، فتح الباري لابن رجب (4/ 418)، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (3/ 204)، الفتح لابن حجر (2/ 248)، وغيرها.
• قال ابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود (3/ 77) بعد حديث أم الفضل في القراءة في المغرب بالمرسلات: "وهذا يدل على أن هذا الفعل غير منسوخ لأنَّه كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم"[وانظر: الإحكام لابن حزم (2/ 225)، [وانظر: كتاب الصلاة وحكم تاركها (193)].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهذه الأحاديث من أصح الأحاديث، وقد ثبت فيها أنَّه كان يقرأ في المغرب تارة بالأعراف، وتارة بالطور، وتارة بالمرسلات، مع اتفاق الفقهاء على أن القراءة في المغرب سُنَّتُها أن تكون أقصر من القراءة في الفجر، فكيف تكون القراءة في الفجر وغيرها؟! [المجموع (22/ 599)].
قلت: قد ظهر من مجموع أحاديث الباب أن الأمر واسع، والأخذ بالتخفيف على المأمومين هو الأقرب لما سبق بيانه، ولا يمنع هذا من كون الإمام يقرأ أحيانًا بشيء من طوال المفصَّل وأوساطه، كالطور والمرسلات ونحوهما، اقتداءً بسُنته الفعلية"، ولا يتخذه عادةً فيُمِلَّ الناسَ، والله أعلم.
***