الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أجزى، ومن صلى صلاة مع إمام يجهر فليقرأ بفاتحة الكتاب في بعض سكتاته، فإن لم يفعل فصلاته خداج غير تمام".
وهو حديث منكر؛ وتقدم تخريجه تحت الحديث رقم (821).
• وأما الآثار في الباب فهي كثيرة.
***
137 - باب من كره القراءة بفاتحة الكتاب إذا جهر الإمام
826 -
. . . مالك، عن ابن شهاب، عن ابن أُكَيمة الليثي، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاةٍ جهر فيها بالقراءة، فقال:"هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ "، فقال رجل: نعم، يا رسول الله، قال:"إني أقول ما لي أنازعُ القرآنَ؟ ".
قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود: روى حديث ابن أكيمة هذا: معمر، ويونس، وأسامة بن زيد، عن الزهري، على معنى مالك.
• حديث صحيح، وآخره مدرج من كلام الزهري.
أخرجه مالك في الموطأ (1/ 139/ 230).
ومن طريقه: البخاري في القراءة خلف الإمام (101 و 256)، وأبو داود (826)، والترمذي (312)، وأبو علي الطوسي في مستخرجه عليه "مختصر الأحكام"(2/ 198/ 295)، والنسائي في المجتبى (2/ 140 / 919)، وفي الكبرى (1/ 475 / 993)، وابن حبان (5/ 157/ 1849)، وأحمد (2/ 301)، والشافعي في السنن (33)، ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (1/ 201)، والبزار (15/ 286/ 8781)، والطحاوي في شرح المعاني (1/ 217)، وفي أحكام القرآن (1/ 249/ 495)، والجوهري في مسند الموطأ (220)، والبيهقي في السنن (2/ 157)، وفي القراءة (317)، وفي المعرفة (2/ 47/ 911 و 912)، وابن عبد البر في التمهيد (11/ 23)، والخطيب في المدرج (1/ 322)، والبغوي في شرح السُّنَّة (3/ 83/ 607).
قال الترمذي: "هذا حديث حسن".
وانظر فيمن وهم فيه على مالك: التمهيد (11/ 23 و 24).
• ووصله من طريق معمر بن راشد بمثل رواية مالك:
ابن ماجة (849)، وأحمد (2/ 284)، وعبد الرزاق (2/ 135/ 2795)، ويعقوب بن
سفيان في المعرفة والتاريخ (1/ 382)، والطبراني في الأوسط (5/ 308/ 5397)، والخطيب في التاريخ (7/ 85)، وفي تلخيص المتشابه في الرسم (1/ 229).
وانظر: ذكر الأقران لأبي الشيخ (159)، وقد وقع فيه تحريف وسقط، وإنما هو هذا الحديث؛ إذ ليس لابن أكيمة غيره، ومن نفس الطريق رواه الطبراني في الأوسط (5397)، والله أعلم.
• ووصله من طريق يونس بن يزيد:
البخاري في القراءة خلف الإمام (102)، وفي الكنى (38)، وفي التاريخ الأوسط (1/ 177/ 825).
من طريق: الليث بن سعد، قال: حدثني يونس، عن ابن شهاب: سمعت ابن أكيمة الليثي، يحدث سعيدَ بن المسيب، يقول: سمعت أبا هريرة ركامه يقول: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً جهر فيها بالقراءة، ولا أعلم إلا أنَّه قال: صلاة الفجر، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس، فقال:"هل قرأ معي أحد منكم؟ " قلنا: نعم، قال:"ألا إني أقول ما لي أنازع القرآن؟ ".
قال: فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه الإمام، وقرؤوا في أنفسهم سرًّا فيما لا يجهر فيه الإمام.
قال البخاري: "وقوله: "فانتهى الناس" من كلام الزهري، وقد بيَّنه لي الحسن بن صباح، قال: حدثنا مبشر، عن الأوزاعي، قال الزهري: فاتعظ المسلمون بذلك، فلم يكونوا يقرؤون فيما جهر، وقال مالك: قال ربيعة للزهري: إذا حدّثت فبيِّن كلامَك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
• وقد اختلف فيه على الليث بن سعد:
أ - فرواه عبد الله بن يوسف التنيسي [ثقة متقن]، وأبو صالح عبد الله بن صالح [صدوق، فيه غفلة]:
قالا: حدثنا الليث، قال: حدثني يونس، عن ابن شهاب: سمعت ابن أكيمة الليثي، يحدث سعيد بن المسيب، يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول:
…
فذكره.
ب - ورواه يزيد بن هارون، وأبو الوليد هشام بن عبد الملك، ويحيى بن عبد الله بن بكير، ويحيى بن يحيى النيسابوري [وهم ثقات]:
عن الليث، عن ابن شهاب، عن ابن أكيمة، عن أبي هريرة، أنَّه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً فجهر فيها، فلما انصرف استقبل الناس، فقال:"هل قرأ آنفًا منكم أحدٌ؟ "، قالوا: نعم يا رسول الله! فقال: " [إني] لأقول ما لي أنازع القرآن". هكذا بدون الزيادة في رواية الثلاثة الأول.
وزاد يحيى بن يحيى في آخره: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك منه.
أخرجه البخاري في القراءة خلف الإمام (104)، وابن حبان (5/ 1843/151)، والبيهقي في القراءة (318 و 319)، والخطيب في المدرج (1/ 323 و 324).
قلت: وكلا القولين محفوظ عن الليث بن سعد، فإنه يروي عن الزهري بلا واسطة، ويدخل أحيانًا بينه وبين الزهري: يونس بن يزيد.
ولم أقف على من وصله من طريق أسامة بن زيد.
• ورواه بنحوه بهذه الزيادة:
أبو أويس [عبد الله بن عبد الله بن أويس الأصبحي: ليس به بأس]، عن الزهري، عن ابن أكيمة الكناني ثم الليثي، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة جهر فيها بالقراءة، ثم أقبل على الناس بعد ما سلم، فقال:"هل قرأ أحد منكم معي آنفًا؟ "، قالوا: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني أقول ما لي أنازع القرآن؟ "، فانتهى الناس عن قراءة القرآن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر به من القراءة في الصلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (11/ 26 - 27).
قال ابن عبد البر: "يقولون: إن سماع أبي أويس ومالك بن أَنس من الزهري كان واحدًا، بعرض واحد، كذلك قال محمد بن يحيى النيسابوري وغيره، والله أعلم".
قلت: وحكى نحوه أيضًا: أحمد بن حنبل والبزار [سؤالات أبي داود (203)، تاريخ بغداد (10/ 7)، ترتيب المدارك (1/ 213)، التهذيب (2/ 366)].
• هكذا روى الحديث عن الزهري بهذه الزيادة مدرجة من قول أبي هريرة: مالك بن أَنس، ومعمر بن راشد، ويونس بن يزيد الأيلي، والليث بن سعد، وأبو أويس، وأسامة بن زيد.
***
827 -
قال أبو داود: حدثنا مسدد، وأحمد بن محمد المروزي، ومحمد بن أحمد بن أبي خلف، وعبد الله بن محمد الزهري، وابن السرح، قالوا: حدثنا سفيان، عن الزهري: سمعتُ ابنَ أكيمة يحدِّث سعيدَ بن المسيب، قال: سمعت أبا هريرة، يقول: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً نظن أنها الصبح، بمعناه إلى قوله:"ما لي أنازع القرآن".
قال مسدد في حديثه: قال معمر: فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن السرح في حديثه: قال معمر عن الزهري: قال أبو هريرة: فانتهى الناس.
وقال عبد الله بن محمد الزهري من بينهم، قال سفيان: وتكلم الزهري بكلمة لم أسمعها، فقال معمر: إنه قال: فانتهى الناس.
قال أبو داود: ورواه عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، وانتهى حديثه إلى قوله:"ما لي أنازع القرآن".
ورواه الأوزاعي، عن الزهري، قال فيه: قال الزهري: فاتَّعظ المسلمون بذلك، فلم يكونوا يقرؤون معه فيما يجهر به صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود: سمعت محمد بن يحيى بن فارس، قال: قوله: فانتهى الناس، من كلام الزهري.
• حديث صحيح، وآخره مدرج من كلام الزهري.
وأخرجه من طريق ابن عيينة به: ابن ماجة (848)، وأحمد (2/ 240)، والحميدي (2/ 187/ 983)، ومسدد في مسنده (2/ 225/ 1565 - إتحاف الخيرة)، وابن أبي شيبة (1/ 330/ 3776)، ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (1/ 382)، والبزار (15/ 286/ 8780)، والطحاوي في أحكام القرآن (1/ 249/ 496)، والبيهقي في السنن (2/ 157)، وفي القراءة (321)، وابن عبد البر في التمهيد (11/ 24 و 25)، والخطيب في المدرج (1/ 324 - 326)، والحازمي في الاعتبار (1/ 383 / 383).
رواه عن ابن عيينة هكذا بدون الزيادة: أبو بكر بن أبي شيبة، وهشام بن عمار، وأحمد بن محمد بن ثابت المروزي بن شبُّويه، ومحمد بن أحمد بن أبي خلف السلمي، وحامد بن يحيى بن هانئ البلخي [وهم: ثقات، من أصحاب ابن عيينة].
ورواه بالزيادة مبينًا أنها من حديث معمر عن الزهري: عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري [وهو: ثقة].
وقال أحمد بن حنبل في روايته عن سفيان: "قال معمر عن الزهري: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سفيان: خفيت عليَّ هذه الكلمة"[وانظر: مسائل صالح (687)].
وقال الحميدي في روايته: "قال سفيان: ثم قال الزهري شيئًا لم أفهمه، فقال في معمر بعدُ أنَّه قال: فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر به رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال الحميدي: "وكان سفيان يقول في هذا الحديث: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً أظنها صلاة الصبح، زمانًا من دهره، ثم قال لنا سفيان: نظرت في كتابي فإذا فيه عندي: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح".
وقال علي بن المديني: "قال سفيان: ثم قال الزهري شيئًا لم أحفظه، انتهى حفظي إلى هذا، وقال معمر عن الزهري: فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال علي: قال لي سفيان يومًا: فنظرت في شيء عندي؛ فإذا هو: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، بلا شك" [سنن البيهقي (2/ 157)].
هكذا بيَّن أثبت أصحاب ابن عيينة أن هذه الجملة لم يحفظها ابن عيينة من الزهري، وإنما حفظها من معمر عن الزهري، فعادت إلى حديث معمر، إلا أنَّه قال: وقال معمر عن الزهري: فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنه جعله من كلام الزهري، وبه احتج أحمد على أنَّه من قول الزهري، لا من قول أبي هريرة [مسائل صالح (687)].
وممن نقل ذلك عن ابن عيينة أيضًا: قتيبة بن سعيد، ومسدد بن مسرهد، والحارث بن مسكين [وهم ثقات].
ورواه بالزيادة مدرجة من غير بيان: حوثرة بن محمد [ثقة]، وخالد بن يوسف [السمتي، وهو: ضعيف][عند البزار]، وأبو غسان مالك بن إسماعيل [ثقة متقن][عند الحازمي، ولفظه: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه].
ورواه عبد المغني بن أبي عقيل [هو: عبد المغني بن رفاعة: ثقة فقيه][عند الطحاوي، ولم يميز لفظه].
خالف هؤلاء جميعًا: أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، فصرح بكونه من كلام أبي هريرة، وهو: ثقة؛ إلا أنَّه وهم في ذكر أبي هريرة، ورواية الجماعة عن ابن عيينة هي الصواب، لا سيما وفيهم أثبت أصحابه، مثل: أحمد والحميدي وابن المديني.
• ووصله من طريق عبد الرحمن بن إسحاق المدني [صدوق]:
أحمد (2/ 487)، ومسدد في مسنده (2/ 225/ 1566 - إتحاف الخيرة).
عن إسماعيل ابن علية، قال: أنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن ابن أكيمة الجندعي، عن أبي هريرة، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً فجهر فيها بالقراءة، فلما فرغ قال:"هل قرأ أحدٌ منكم معي آنفًا؟ " قال رجل من القوم: أنا، قال:"إني أقول ما لي أنازع القرآن".
• وتابعه عليه بدون الزيادة:
ابن جريج، قال: أخبرني ابن شهاب، قال: سمعت ابن أكيمة، يقول: قال أبو هريرة: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً يجهر فيها، ثم سلم، فاقبل على الناس، فقال:"هل قرأ معي أحدٌ آنفًا؟ " قالوا: نعم يا رسول الله، قال:"إني أقول ما لي أنازع القرآن".
أخرجه أحمد (2/ 285)، وعبد الرزاق (2/ 135/ 2796)، والبيهقي في القراءة (320).
• وأما حديث الأوزاعي، فقد رواه عن الزهري، ففصل كلامه، ولم يدرجه في الحديث، إلا أنَّه وهم في إسناده، وجعله عن ابن المسيب بدل ابن أكيمة:
روى الوليد بن مزيد، ومحمد بن يوسف الفريابي، وأبو المغيرة عبد القدوس بن
الحجاج، والمفضل بن يونس، ومبشر بن إسماعيل الحلبي، وبشر بن بكر التنيسي، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحارث الفزاري، وعبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين [وهم ثقات في الجملة]، ويحيى بن عبد الله البابلتي [ضعيف]:
عن الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، عن سعيد بن المسيب، أنَّه سمع أبا هريرة، يقول: قرأ ناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة يجهر فيها بالقراءة، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم، فقال:"هل قرأ معي منكم أحد آنفًا؟ "، قالوا: نعم يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[إني لأقول] ما لي أنازع القرآن؟ ".
قال الزهري: فاتعظ المسلمون [بذلك]، فلم يكونوا يقرؤون معه فيما جهر به. أدرجه المفصَّل، وفصله الآخرون.
وانفرد عنهم ابن أبي العشرين بقوله: فلم يكونوا يقرؤون إلا بأُم القرآن، فوهم في هذا الاستثناء.
أخرجه البخاري في التاريخ الأوسط (1/ 177/ 826)، وابن حبان (5/ 160/ 1850)، والبزار (14/ 203/ 7759)، وأبو يعلى (10/ 253/ 5861)، والطحاوي في شرح المعاني (1/ 217)، وفي أحكام القرآن (1/ 249/ 497)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 320)، والبيهقي في السنن (2/ 158)، وفي القراءة (322)، والخطيب في المدرج (1/ 328 - 330).
• ورواه الوليد بن مسلم، فعلم أن الأوزاعي قد وهم فيه، فأبهم الواسطة تنبيلًا للأوزاعي عن هذا الوهم:
قال الوليد: حدثنا الأوزاعي، عن الزهري، عن من سمع أبا هريرة، يقول: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً، فجهر فيها بالقراءة، فلما سلم قال:"هل قرأ معي منكم أحد آنفًا؟ " قالوا: نعم يا رسول الله، قال:"إني أقول ما لي أنازع القرآن؟ ".
قال الزهري: فانتهى المسلمون، فلم يكونوا يقرؤون معه.
أخرجه ابن حبان (5/ 161/ 1851).
قال ابن حبان: "هذا خبر مشهور للزهري - من رواية أصحابه - عن ابن أكيمة عن أبي هريرة، ووهم فيه الأوزاعي - إذ الجواد يعثر - فقال: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، فعلم الوليد بن مسلم أنَّه وهم، فقال: عن من سمع أبا هريرة، ولم يذكر سعيدًا، وأما قول الزهري: فانتهى الناس عن القراءة، أراد به رفع الصوت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتباعًا منهم لزجره صلى الله عليه وسلم عن رفع الصوت والإمام يجهر بالقراءة، في قوله: "ما لي أنازع القرآن".
قلت: في رواية الأوزاعي هذه تكلم الأئمة النقاد على مسألتين:
• الأُولى: كون الأوزاعي فصل آخر الحديث فجعله من قول الزهري، لا من قول أبي هريرة، وقد تتابع الأئمة على القول بذلك، وإن كان عامة أصحاب الزهري قد رووه عنه مدرجًا، وهاك أقوالهم:
قال أبو داود: "سمعت محمد بن يحيى بن فارس، قال: قوله: فانتهى الناس، من كلام الزهري".
وفي مسائل صالح بن أحمد (687)، سئل الإمام أحمد عن هذا الحديث، فذكر بعض الاختلاف على الزهري، ثم قال:"فالذي نرى أن قوله: فانتهى الناس عن القراءة: أنَّه قول الزهري"، واعتمد في ذلك على رواية ابن عيينة عن معمر، وعلى كون عبد الرحمن بن إسحاق رواه عن الزهري فانتهى إلى قوله:"ما لي أنازع القرآن"، ولم يزد عليه.
وقال البخاري: "وهو من كلام الزهري،
…
، وأدرجوه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هو من حديث أبي هريرة، والمعروف عن أبي هريرة أنَّه كان يأمر بالقراءة، قال أبو السائب: قال لي أبو هريرة: اقرأ بها في نفسك يا فارسي".
وقال في الكنى (38): "وقال بعضهم: هذا قول الزهري، وقال بعضهم: هذا قول ابن أكيمة، والصحيح: قول الزهري".
وقال ابن حبان (5/ 161): "هذا الكلام الأخير: فانتهى الناس عن القراءة واتعظ المسلمون بذلك، إنما هو قول الزهري، لا من كلام أبي هريرة".
وقال البيهقي: "رواية ابن عيينة عن معمر دالة على كونه من قول الزهري، وكذلك انتهاء الليث بن سعد -وهو من الحفاظ الأثبات الفقهاء- مع ابن جريج برواية الحديث عن الزهري إلى قوله: "ما لي أنازع القرآن؟ " ودليل على أن ما بعده ليس في الحديث، وأنه من قول الزهري، وقد رواه الأوزاعي عن الزهري ففصل كلام الزهري من الحديث بفصل ظاهر؛ غير أنَّه غلط في إسناد الحديث".
وقال في السنن: "حفظ الأوزاعي كون هذا الكلام من قول الزهري ففصله عن الحديث؛ إلا أنَّه لم يحفظ إسناده، الصواب: ما رواه ابن عيينة عن الزهري، قال: سمعت ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب، وكذلك قاله يونس بن يزيد الأيلي".
وقال ابن عبد البر في الاستذكار (1/ 464): "وأما قوله في هذا الحديث: فانتهى الناس عن القراءة، إلى آخر الحديث، فأكثر رواة ابن شهاب عنه لهذا الحديث يجعلونه كلام ابن شهاب، ومنهم من يجعله كلام أبي هريرة".
وقال الخطيب في المدرج (1/ 323): "والصحيح أنَّه كلام ابن شهاب الزهري".
وقال الخطابي في المعالم (1/ 178): "قوله: فانتهى الناس عن القراءة: من كلام الزهري، لا من كلام أبي هريرة".
• الثانية: أن الأوزاعي قد وهم في إسناد هذا الحديث حيث جعله عن سعيد بن المسيب؛ وإنما الحديث لابن أكيمة، وهذا أيضًا مما أجمع عليه النقاد:
قال البخاري: "وقال بعضهم: الزهري عن سعيد عن أبي هريرة، ولا يصح عن سعيد".
وقال في الكنى (38): "وقال الأوزاعي: عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، ولم يثبت"[وتصرفت في النص بما تقتضيه صحة السياق].
وقال البزار (8781): "وهذا الحديث رواه عن الزهري: مالك وابن عيينة ومعمر وعبد الرحمن بن إسحاق وغيرهم، عن الزهري، عن ابن أكيمة، عن أبي هريرة.
ورواه الأوزاعي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، فغلط في إسناده، وإنما ذكر الزهري قال: سمعت ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب، وهذا غلظ بيِّن.
وقد رواه ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عبد الرحمن الأعرج، عن ابن بحينة.
وابن أكيمة لا نعلم روى عنه إلا الزهري وحده".
وقال أيضًا (7759): "وهذا الحديث رواه ابن عيينة ومعمر وجماعة من أصحاب الزهري، عن الزهري، عن ابن أكيمة، عن أبي هريرة، وهو الصواب.
وقال بعض أصحاب الزهري: عن الزهري، قال: سمعت ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب، وأخطأ في إسناده الأوزاعي، فقال: عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة.
ورواه ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن الأعرج، عن ابن بحينة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في إسناده".
وقال أبو علي صالح بن محمد جزرة: "غلِط فيه الأوزاعي، وإنما هو عن ابن أكيمة".
وقال أبو حاتم: "هذا خطأ، خالف الأوزاعي أصحاب الزهري في هذا الحديث، إنما رواه الناس عن الزهري، قال: سمعت ابن أكيمة، يحدث سعيدَ بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم"[علل ابن أبي حاتم (1/ 172/ 493)].
وقال الدارقطني في العلل (9/ 55/ 1640) بعد رواية الأوزاعي: "ووهم فيه، وإنما هو: عن الزهري، قال: سمعت ابنَ أكيمة، يحدث سعيدَ بن المسيب، عن أبي هريرة، كذلك قال يونس وابن عيينة عن الزهري في حديثهما".
وقال البيهقي: "غلط في إسناد الحديث".
وقال في القراءة: "وكذلك رواه كافة أصحاب الأوزاعي عن الأوزاعي، وإنما جاء الوهم للأوزاعي في إسناده: أن الزهري قال: سمعت ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب، فنسي الأوزاعي رحمه الله قول الزهري: سمعت ابن أكيمة، وحسب أنَّه عن سعيد بن المسيب؛ لأنَّ الزهري ذكر ابن المسيب في حديث ابن أكيمة".
وقال في السنن: "
…
لم يحفظ إسناده، الصواب: ما رواه ابن عيينة عن الزهري، قال: سمعت ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب، وكذلك قاله يونس بن يزيد الأيلي".
وقال ابن عبد البر في التمهيد (11/ 24): "وذلك وهم وغلط عند جميع أهل العلم بالحديث، والحديث محفوظ لابن أكيمة، وإنما دخل الوهم فيه عليه لأنَّ ابن شهاب كان
يقول في هذا الحديث: سمعت ابنَ أكيمة يحدث سعيدَ بن المسيب عن أبي هريرة، فتوهم أنَّه لابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ولا يختلف أهل العلم بالحديث أن هذا الحديث لابن شهاب عن ابن أكيمة عن أبي هريرة، وأن ذكر سعيد بن المسيب في إسناد هذا الحديث خطأ، لا شك عندهم فيه، وإنما ذلك عندهم لأنَّه كان في مجلس سعيد بن المسيب، فهذا وجه ذكر سعيد بن المسيب لا أنَّه في الإسناد".
وقال بذلك أيضًا: الخطيب في المدرج (1/ 328).
• ورواه بعضهم عن الأوزاعي فوهم فيه وهمًا قبيحًا، وأتى فيه بلفظ منكر:
رواه زكريا بن يحيى الوقار: ثنا بشر بن بكر: ثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة، فلما قضاها قال:"هل قرأ أحد منكم معي بشيء من القرآن؟ "، فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني أقول ما لي أنازع في القرآن، إذا أسررت بقراءتي فاقرؤوا معي، وإذا جهرت بقراءتي فلا يقرأنَّ معي أحد".
أخرجه العقيلي في الضعفاء (2/ 87)، والدارقطني (1/ 333)، والبيهقي في القراءة (323).
قال أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح لما ذُكر له هذا الحديث: "هذا باطل"، ثم قام يجرُّ إزاره حتَّى دخل إلى بيته، فأخرج كتاب بشر بن بكر، فإذا فيه: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: عن الأوزاعي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم[شك الراوي]، فقال:"انظروا كيف وصله! فجعله عن أبي سلمة عن أبي هريرة"، واغتاظ من ذلك [الضعفاء الكبير (2/ 87)].
وقال العقيلي: "يُروى بغير هذا الإسناد عن أبي هريرة وعمران بن حصين، وليس فيه الكلام الأخير: إذا أسررتُ بقراءتي فاقرؤوا معي، وإذا جهرتُ فلا يقرأنُّ معي أحد".
وقال الدارقطني: "تفرد به زكريا الوقار، وهو منكر الحديث، متروك".
وقال أبو علي الحافظ: "أخطأ فيه زكريا، وإنما أراد حديث الأوزاعي عن الزهري، كما رواه الناس، وليس لحديث يحيى بن أبي كثير فيه أصل، ووهم الأوزاعي في إسناد هذا الحديث حين قال: عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وإنما هو عن الزهري سمع ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب".
قلت: هو حديث باطل؛ تفرد به زكريا بن يحيى الوقار، وكان ممن يضع الحديث، وكذبه صالح جزرة [اللسان (3/ 517)]، وقد رواه الثقات عن بشر بن بكر عن الأوزاعي، عن الزهري به، فذكره كما ذكره سائر الناس عن الأوزاعي [عند: البزار (14/ 203 7759)، والبيهقي في القراءة (324)]، كما تقدم.
• وممن وهم فيه أيضًا على الزهري:
أ - ابن أخي الزهري، رواه عن عمه: أخبرني الأعرج [وفي رواية: أخبرني
عبد الرحمن بن هرمز]، عن عبد الله بن بحينة - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله [صلى صلاةً يُجهر فيها، فلما انصرف] قال: "هل قرأ أحد منكم آنفًا في الصلاة؟ "، قالوا: نعم يا رسول الله، قال:" [لا تفعلوا] أما إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ "، فانتهى الناس عن القراءة حين قال ذلك [وفي رواية: عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم].
أخرجه أحمد (5/ 345)، وعباس الدوري في تاريخ ابن معين (3/ 648/ 154)، ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (2/ 127)، والبزار (6/ 292/ 2313)، والمحاملي في الأمالي (342)، والطبراني في الأوسط (7/ 194/ 7251)، والبيهقي في السنن (2/ 158)، وفي القراءة (325 و 326).
قال ابن معين: "هذا يخالفه الناس فيه".
وقال يعقوب بن سفيان: "وهذا خطأ لا شك فيه ولا ارتياب؛ رواه مالك ومعمر وابن عيينة والليث بن سعد ويونس بن يزيد والزبيدي كلهم عن الزهري عن ابن أكيمة،
…
" [ونقله البيهقي في السنن].
وقال البزار: "وهذا الحديث لا نعلم أحدًا قال فيه: عن الزهري عن الأعرج؛ إلا ابن أخي الزهري، وأخطأ فيه، وإنما هو عن الزهري عن ابن أكيمة، هكذا رواه ابن عيينة ومعمر، عن الزهري، عن ابن أكيمة، عن أبي هريرة، ولكن ذكرنا حديث ابن بحينة ليعرف من سمع ذلك أنَّه خطأ".
وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن الزهري عن الأعرج عن ابن بحينة إلا ابن أخي الزهري، تفرد به: يعقوب، ورواه الناس عن الزهري عن ابن أكيمة عن أبي هريرة".
قلت: يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري: ثقة مأمون، وإنما الوهم فيه من ابن أخي ابن شهاب، محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله، فإنه كان سيئ الحفظ، تفرد عن عمه بأحاديث لم يتابع عليها [التهذيب (6/ 613)، شرح علل الترمذي (2/ 676)].
وساق البيهقي كلام يعقوب بن سفيان، ثم قال:"روى محمد بن إسحاق بن خزيمة هذا الحديث عن محمد بن يحيى الذهلي عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن ابن أخي الزهري، ثم قال: قال لنا محمد بن يحيى: أراد ابن أخي ابن شهاب حديث السهو في قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الركعتين، فأخطأ".
ب - ورواه عمر بن صُهبان [متروك، منكر الحديث]، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أخرجه البيهقي في القراءة (327).
قال الدارقطني في العلل (9/ 55/ 1640): "ورواه عمر بن محمد بن صهبان عن الزهري، ووهم فيه وهمًا قبيحًا، فقال: عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، وعمر: متروك".
• وقال البيهقي في القراءة: "وهذا خطأ؛ وعمر بن صهبان: ضعيف بمرة، والحديث حديث الجماعة عن الزهري عن ابن أكيمة عن أبي هريرة، وابن أكيمة يقال له: عمار، ويقال: عمارة، وهو مجهول؛ لم يرو عنه غير الزهري".
ونقل كلام الحميدي وابن خزيمة الآتي، ثم قال:"ولا يُترَك الثابتُ عن أبي هريرة في الأمر بقراءة فاتحة الكتاب وراء الإمام [برواية] رجل مجهول؛ مع احتمال روايته أن يكون المراد بها ما بعد الفاتحة من القرآن، دون الفاتحة التي أمر أبو هريرة بقراءتها وراء الإمام وإن كان يجهر الإمام بالقراءة، كما سبق ذكرنا له".
وقال في المعرفة (2/ 47): "هذا حديث تفرد به ابن أكيمة، وهو مجهول؛ ولم يكن عند الزهري من معرفته أكثر من أن رآه يحدث سعيد بن المسيب، واختلفوا في اسمه، فقيل: عمارة، وقيل: عمار، قاله البخاري".
وقال في السنن (2/ 158): "في صحة هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم نظر، وذلك لأنَّ راويه ابن أكيمة الليثي، وهو رجل مجهول؛ لم يحدث إلا بهذا الحديث وحده، ولم يحدث عنه غير الزهري، ولم يكن عند الزهري من معرفته أكثر من أن رآه يحدث سعيد بن المسيب".
وقال أيضًا: "في الحديث الثابت عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي السائب عن أبي هريرة،
…
: دليل على ضعف رواية ابن أكيمة، أو أراد بما لي حديث ابن أكيمة المنع عن الجهر بالقراءة خلف الإمام، أو المنع عن قراءة السورة فيما يجهر فيه بالقراءة، وهو مثل حديث عمران بن حصين
…
".
وقال الحميدي: إ هذا حديث رواه رجل مجهول؛ لم يُروَ عنه غيره قط" [القراءة خلف الإمام للبيهقي (144)، سنن البيهقي (2/ 159)، الاعتبار للحازمي (1/ 387/ 126)].
وقال ابن سعد في الطبقات (5/ 249): "عمارة بن أكيمة الليثي، من كنانة من أنفسهم، ويكنى أبا الوليد، توفي سنة إحدى ومائة، وهو ابن تسع وسبعين سنة، روى عن أبي هريرة، وروى عنه الزهري حديثًا واحدًا، ومنهم من لا يحتج به، يقول: هو شيخ مجهول".
وقال ابن خزيمة: "ابن أكيمة: رجل مجهول؛ لم نسمع له رواية [عن] غير الزهري، ولا سمعنا له في الإسلام خبرًا غير هذا الخبر الواحد؛ إلا
…
" ثم ذكر خبر أبي رهم، وأن ذكر ابن أكيمة فيه وهمٌ، فلم يبق له سوى هذا الخبر الواحد [القراءة خلف الإمام للبيهقي (144)].
وقال الحازمي: "هذا حديث لا يُعرف إلا من هذا الوجه، وابن أكيمة غير مشهور".
وقال النووي في المجموع (3/ 317): "الحديث ضعيف؛ لأنَّ ابن أكيمة مجهول".
وقال في الخلاصة (1177): "قال الترمذي: حسن، وأنكره عليه الأئمة، واتفقوا على ضعف هذا الحديث؛ لأنَّ ابن أكيمة مجهول.
وعلى أن قوله: فانتهى الناس عن القراءة إلى آخره: ليست من الحديث، بل هي من كلام الزهري مدرجة فيه، هذا متفق عليه عند الحفاظ المتقدمين والمتأخرين، منهم: الأوزاعي، ومحمد بن يحيى الذهلي، والبخاري، وأبو داود، والأخطابي، والبيهقي، وغيرهم".
• قلت: لم يقع الاتفاق على تضعيف هذا الحديث:
فقد قال الترمذي: "هذا حديث حسن، وابن أكيمة الليثي اسمه عمارة، ويقال: عمرو بن أكيمة".
وقال أبو حاتم في ابن أكيمة: "هو صحيح الحديث، حديثه مقبول"[الجرح والتعديل (6/ 362)].
وإذا كان لا يصح له غير هذا الحديث، فإن هذا الحكم إنما ينسحب على حديثه هذا، فكان أبا حاتم قال عن هذا الحديث: هو حديث صحيح، وذلك تبعًا لتصحيح حديث راويه الَّذي ليس له غير هذا الحديث، وحديث آخر مختلف فيه على الزهري، والصواب فيه إسقاط ذكر ابن أكيمة منه، والله أعلم.
وعليه: فإن هذا الحديث قد صححه أبو حاتم الرازي، وابن حبان، وحسنه الترمذي، واحتج به مالك وأبو داود والنسائي، فكيف يقال بعد ذلك بأن الأئمة اتفقوا على ضعف هذا الحديث؟!
• وإن كان حجة الذين ضعفوه لا تخرج عن أحد أمرين:
الأول: جهالة ابن أكيمة، والثاني: مخالفته لحديث أبي السائب عن أبي هريرة.
فيقال: هي حجة داحضة:
أما الأُولى: فإن الذين جهَّلوا ابن أكيمة هم الشافعية، نصرة لمذهبهم، والذين ضعفوا حديثه، وهو الحميدي، وفي المقابل:
فقد وثقه ابن معين، لكنه جعل عمارة بن أكيمة، وحفيده: عمرو بن مسلم بن عمارة بن أكيمة، جعلهما رجلًا واحدًا [انظر: تاريخ ابن معين للدوري (3/ 132/ 550) و (3/ 176/ 782) و (3/ 249/ 1169)].
والصواب: التفريق بينهما، فقد فرق بينهما: البخاري في التاريخ الكبير (6/ 369 و 498)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (6/ 259 و 362)، وابن حبان في الثقات (5/ 169 و 242)، وفي الصحيح (5/ 158) و (13/ 238)، وفي مشاهير علماء الأمصار (504)، وغيرهم.
وقال العجلي، وابن حبان:"ثقة"[معرفة الثقات (2083 و 2292)، صحيح ابن حبان (5/ 158)].
وقد ذكره ابن البرقي فيمن لم تشتهر عنه الرواية، لكن احتُملت روايته لرواية الثقات عنه، ولم يُغمز، ثم نقل عن ابن معين قوله: "كفى قول الزهري: سمعت ابن أكيمة يحدث
سعيد بن المسيب"، مما يدل على جلالته حيث يستمع إليه ابن المسيب وتلميذه ابن شهاب الزهري، وهما أئمة أهل المدينة في زمانهما، ثم هما يقولان بمقتضى هذا الحديث الَّذي رواه لهما ابن أكيمة، وفي هذا توثيق ضمني له من ابن المسيب ومن الزهري حيث لم ينكرا عليه ما رواه عن أبي هريرة، ثم هما بعد ذلك يذهبان إلى العمل بحديثه هذا، والله أعلم.
ولأجل هذا المعنى؛ قال يعقوب بن سفيان: "هو من مشاهير التابعين بالمدينة"[التهذيب (3/ 207)].
وقال ابن عبد البر في الاستذكار (1/ 464): "قال ابن شهاب: كان ابن أكيمة يحدث في مجلس سعيد بن المسيب، فيصغي إلى حديثه، وحسبك بهذا فخرًا وثناءً".
وقال في التمهيد (11/ 22): "الدليل على جلالته: أنَّه كان يحدث في مجلس سعيد بن المسيب، وسعيد يصغي إلى حديثه عن أبي هريرة، وسعيدٌ أجلٌ أصحاب أبي هريرة، وذلك موجود في حديثه هذا من رواية ابن عيينة وغيره، وإلى حديثه ذهب سعيد بن المسيب في القراءة خلف الإمام فيما يجهر فيه، وبه قال ابن شهاب، وذلك كلُّه دليل واضح على جلالته عندهم وثقته، وبالله التوفيق".
وعلى هذا فإن الذين حكموا عليه بالجهالة؛ فإنما ذهبوا إلى ذلك لقلة روايته حيث لا يصح له غير هذا الحديث الواحد، كما أنَّه لم يرو عنه غير الزهري، ومن المعلوم أن الراوي إذا لم يروِ منكرًا، وكان المتفرد عنه من كبار الأئمة الحفاظ: فإن هذا مما يرفع من حاله، فالزهري أحد سادات زمانه في العلم والعمل، وهو تابعي أيضًا، فرواية مثله عن تابعي غير مشهور، وقد صرح باسمه، وأسند له، مما يرفع حاله، لا سيما ولم يرو منكرًا.
فكيف إذا انضاف إلى ذلك رواية مالك له في موطئه، وهو الحجة في أهل المدينة، وكان من أشد الناس انتقادًا للرجال، فرواية مالك له في موطئه وهو مدني: توثيق له، فقد سأل بشرُ بنُ عمر الزهراني مالكَ بنَ أَنس عن رجل، فقال:"هل رأيته في كتبي؟ " قال: لا، قال:"لو كان ثقةً لرأيته في كتبي"، وفي رواية:"أترى في كتبي عنه شيئًا؟ لو كُنْتُ أرضاه رأيتَ في كتبي عنه"، قال النووي في شرح مسلم:"هذا تصريح من مالك رحمه الله بأن من أدخله في كتابه فهو ثقة، فمن وجدناه في كتابه حكمنا بأنه ثقة عند مالك، وقد لا يكون ثقة عند غيرها، وقال الذهبي في السير: "فهذا القول يعطيك بأنه لا يروي إلا عمن هو عنده ثقة، "ولا يلزم من ذلك أنَّه يروي عن كل الثقات، ثم لا يلزم مما قال أن كل من روى عنه وهو عنده ثقة أن يكون ثقة عند باقي الحفاظ؛ فقد يخفى عليه من حال شيخه ما يظهر لغيره؛ إلا أنَّه بكل حال كثير التحري في نقد الرجال رحمه الله، وقال ابن الملقن في البدر المنير: "فهذا تصريح من هذا الإمام بأن كل من روى عنه في موطئه يكون ثقة"، وقال يعقوب بن سفيان الفسوي في المعرفة: "ومن كان من أهل العلم ونصح نفسه: علم أن كل من وضعه مالك في موطئه وأظهر اسمه: ثقة، تقوم به الحجة" [مقدمة صحيح مسلم
(1/ 26)، ضعفاء العقيلي (1/ 14)، الجرح والتعديل (1/ 24) و (2/ 22)، المعرفة والتاريخ (3/ 144 و 168)، المحدث الفاصل (410)، الكامل (1/ 91)، التمهيد (1/ 68)، ترتيب المدارك (1/ 75)، بيان الوهم (4/ 349/ 1935) و (5/ 22/ 2257)، شرح مسلم للنووي (1/ 120)، تهذيب الكمال (27/ 112)، سير أعلام البلاء (8/ 72)، البدر المنير (3/ 546)].
وقد احتج مالك في موطئه بهذا الحديث، قال ابن حبان عن الإمام مالك في الثقات (7/ 459):"ولم يكن يروي إلا ما صح، ولا يحدث إلا عن ثقة"، وبوَّب له الإمام مالك [في الموطأ (1/ 138)] بقوله:"ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر فيه"، ثم أسند عن نافع؛ أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل: هل يقرأ أحدٌ خلف الإمام؟ قال: إذا صلى أحدكم خلف الإمام فحسبه قراءة الإمام، وإذا صلى وحده فليقرأ. قال: وكان عبد الله لا يقرأ خلف الإمام [الموطأ (1/ 138/ 228)، وسيأتي تخريجه في الشواهد بعد الحديث رقم (829)].
ثم قال مالك: "الأمر عندنا أن يقرأ الرجل وراء الإمام، فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة، ويترك القراءة فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة"، ثم أسند حديث ابن أكيمة هذا، فهو محتج به في بابه، مصحح له، وبذا يتضح جليًّا توثيق مالك لابن أكيمة، وتصحيحه لحديثه، ولا أستبعد أن يكون أبو حاتم الرازي قد استقى حكمه على ابن أكيمة مما تقدم بيانه، حيث صحح حديثه هذا، قال ابن أبي حاتم في ترجمة ابن أكيمة من الجرح والتعديل (6/ 362):"عمارة بن أكيمة الليثي: روى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما لي أنازع القرآن؟ "، وروى عن ابن أخي أبي رهم الغفاري، سمع منه الزهري، سمعت أبي يقول ذلك، وسألته عنه؟ فقال: هو صحيح الحديث، حديثه مقبول".
وعلى هذا فابن أكيمة وإن كان غير مشهور بالرواية، ولا يصح له في الرواية غير هذا الحديث؛ إلا أن هذا لا يمنع من تصحيح حديثه لأجل هذه القرائن السابق ذكرها.
فإن قيل: قد ذكر له أبو حاتم حديثين، هذا أحدهما؟
قلت: الصواب في حديث أبي رهم عدم ذكر ابن أكيمة فيه، فقد رواه جماعة من ثقات أصحاب الزهري منهم: يونس بن يزيد وصالح بن كيسان وشعيب بن أبي حمزة، فرووه عن الزهري، عن ابن أخي أبي رهم، ولم يذكروا فيه ابن أكيمة، وهو الصحيح؛ قاله الدارقطني في العلل (7/ 36/ 1190)، وابن خزيمة - فيما نقله عنه البيهقي في القراءة خلف الإمام (328) -.
وعليه: فلم يبق لابن أكيمة غير هذا الحديث الواحد، كما قال الحميدي وابن خزيمة، والله أعلم.
فكيف يقال بعد ذلك: هو رجل مجهول؛ ليتوصل بذلك إلى تضعيف حديثه، وقد وثقه الأئمة المعتبرون، وهم أئمة هذا الشأن، وصححوا حديثه واحتجوا به كما ترى.
وأما حجتهم الأخرى؛ فإن مالكًا هو الَّذي أخرج في موطئه أيضًا: حديث أبي السائب عن أبي هريرة [المتقدم برقم (821)]، وصححه واحتج به في باب:"القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة"، وبذا يظهر أن الإمام مالكًا قد احتج بالحديثين جميعًا، وأنه لم ير بينهما تعارضًا، فأين المعارضة بينهما؟ وهذا له وجه، وهذا له وجه، فإن قول أبي هريرة لأبي السائب:"اقرأ بها في نفسك"، لا يعني: أن يقرأ بها خلف الإمام حال جهره بالقراءة، وإنما فيما خافت فيه، فللَّه درُّ إمام أهل المدينة، الَّذي ينقل لنا عملًا أهل المدينة، الَّذي أدركهم عليه، من ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر، والقراءة خلفه إذا لم يجهر، وساق الدليل على المسألتين، فاتفقت بذلك الأدلة، ولم تتعارض، ولم نحتج إلى التكلف في ردِّها نصرة للمذهب، كما فعل البيهقي، ومن نحا نحوه، والله أعلم.
• ومما يؤيد هذا التأويل لحديث أبي السائب جمعًا بين الحديثين:
ما رواه وكيع بن الجراح، ومحمد بن يوسف الفريابي:
عن سفيان الثوري، عن عاصم بن بهدلة، عن ذكوان أبي صالح، عن أبي هريرة، وعائشة، قالا: اقرأ خلف الإمام فيما يخافت به، وفي رواية الفريابي: أنهما كانا يأمران بالقراءة وراء الإمام إذا لم يجهر.
أخرجه ابن المنذر في الأوسط (3/ 103/ 1313)(3/ 1308/ 256 - ط الفلاح)، والبيهقي (2/ 171).
وهذا إسناد جيد، وفيه دلالة ظاهرة على أن أبا هريرة كان لا يقول بالقراءة خلف الإمام حال جهره، وإنما فيما خافت فيه.
ورواه عكرمة، عن زهير: ثنا عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة وعائشة؛ أنهما كانا يأمران بالقراءة خلف الإمام في الظهر والعصر، وفي الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وشيء من القرآن، وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب.
أخرجه البيهقي (2/ 171).
زهير هو: ابن معاوية، وعكرمة هذا هو: ابن إبراهيم الأزدي الموصلي، وهو: ليس بشيء، منكر الحديث [اللسان (5/ 460)].
• وقد ذهب بعضهم إلى القول بنسخ أحد الحديثين للآخر، قال الحميدي: "لأنا وجدناهما عن أبي هريرة، ولم يتبين لنا أيهما بعد الآخر، حتَّى أبان ذلك العلاء في حديثه حين قال: قال لي أبو هريرة: يا فارسي اقرأها في نفسك، فعلمنا أنما أمر بذلك أبو هريرة أبا العلاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحتمل أن يكون حديث ابن أكيمة الناسخ ثم يأمر أبو هريرة أن يعمل بالمنسوخ، وهو رواهما معًا.
وفي قول عبادة بن الصامت أنَّه: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وهو رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قول أبي هريرة هذا: ما دل على أنَّه إنما عنى النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة في الجهر
وغيره؛ لأنَّ من روى الحديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلم بمعناهما، وما أراد النبي صلى الله عليه وسلم من غيره، مع استعمالهما ذلك بعده.
ومع أن حديث ابن أكيمة الَّذي ليس بثابت هو المنسوخ، وإنما قال فيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما لي أنازع القرآن؟ "، فاحتمل أن يكون عنى [كذا، ولعلها: نهى، النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ قرآنًا خلفه سوى فاتحة الكتاب؛ لأنا وجدنا عمران بن حصين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل قرأ خلفه بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} : "هل قرأ أحد بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}؟ " فقال رجل: نعم، أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"صدقت، قد علمتُ أن بعضكم خالجنيها".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنازع، مثل أخالج، فلا يحتمل أن يكون عنى في حديث ابن أكيمة أن يقول: "ما لي أنازع القرآن؟! يعني: فاتحة الكتاب، وهو يقول: لا صلاة إلا بها" هذا آخر كلام الحميدي [كذا في الاعتبار للحازمي (1/ 390)].
قلت: سبق كان كيفية الجمع بين الحديثين، وعليه فلا يصار عندئذ إلى النسخ أو الترجيح طالما أمكن إعمال الدليلين معًا، والله أعلم.
• وقد روي نحو حديث ابن أكيمة عن أبي هريرة من حديث ابن مسعود؛ لكنه باطل، وفيه زيادات باطلة، ويأتي تخريجه تحت الحديث الآتي برقم (829).
• قال أحمد: "كل صلاة لا يقرأ فيها فاتحة الكتاب لا يجزيه؛ إلا وراء الإمام"، وقال أيضًا:"اقرأ في نفسك في كل ما لم يجهر به الإمام، فإذا جهر فأنصت واستمع لما يقرأ"[مسائل ابن هانئ (276 - 280)].
وقال عبد الله: "قيل له: كيف نأخذ في القراءة خلف الإمام؟ قال: اقرأ فيما خافت، وأنصت فيما جهر"[مسائل عبد الله (263)].
[وانظر: مسائل عبد الله (244 - 246 و 248 - 251 و 253 و 255 و 257 و 258 و 265)].
وفي مسائل إسحاق الكوسج (192): "قلت: من قال لا تجزئ صلاة إلا بفاتحة الكتاب؟ قال: إذا كان خلف الإمام أجزأته على حديث جابر: إلا وراء الإمام، قال: وإذا جهر الإمام فلا يقرأ".
وقال أيضًا (193): "قلت: إذا لم يقرأ في الأخيرتين؟ قال: لا تجزئه، كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب في كل ركعة لا تجزئه؛ إلا وراء الإمام".
وقال الترمذي: [هذا حديث حسن، وابن أكيمة الليثي اسمه عمارة، ويقال: عمرو بن أكيمة، وروى بعض أصحاب الزهري هذا الحديث، وذكروا هذا الحرف، قال: قال الزهري: فانتهى الناس عن القراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في هذا الحديث ما يدخل على من رأى القراءة خلف الإمام؛ لأنَّ أبا هريرة هو الَّذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأُم القرآن فهي خداج، فهي خداج، غير تمام"، فقال له حامل الحديث: إني أكون
أحيانًا وراء الإمام؟ قال: اقرأ بها في نفسك، وروى أبو عثمان النهدي، عن أبي هريرة، قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أنادي أن "لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب"، واختار أكثر أصحاب الحديث أن لا يقرأ الرجل إذا جهر الإمام بالقراءة، وقالوا: يتتبع سكتات الإمام، وقد اختلف أهل العلم في القراءة خلف الإمام، فرأى أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم: القراءة خلف الإمام، وبه يقول مالك بن أَنس، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وروي عن عبد الله بن المبارك أنَّه قال: أنا أقرأ خلف الإمام والناس يقرؤون إلا قومًا من الكوفيين، وأرى أن من لم يقرأ صلاته جائزة، وشدَّد قوم من أهل العلم في ترك قراءة فاتحة الكتاب وإن كان خلف الإمام، فقالوا: لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب، وحده كان أو خلف الإمام، وذهبوا إلى ما روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ عبادة بن الصامت بعد النبي صلى الله عليه وسلم خلف الإمام، وتأوَّل قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب"، وبه يقول الشافعي، وإسحاق، وغيرهما، وأما أحمد بن حنبل فقال: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" إذا كان وحده، واحتج بحديث جابر بن عبد الله حيث قال: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأُم القرآن فلم يصلِّ إلا أن يكون وراء الإمام، قال أحمد: فهذا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تأوَّل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" أن هذا إذا كان وحده، واختار أحمد مع هذا القراءة خلف الإمام، وأن لا يترك الرجل فاتحة الكتاب وإن كان خلف الإمام".
وقال بعد حديث عبادة (247): "حديث عبادة: حديث حسن صحيح.
والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، وعمران بن حصين، وغيرهم، قالوا: لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب، وقال علي بن أبي طالب: كل صلاة لم يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج غير تمام، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق".
وقال ابن المنذر في الأوسط (3/ 101): "وكان مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومن تبعهم من أهل العلم؛ يوجبون قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة.
وقد اختلف أهل العلم في معنى قوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، فقالت طائفة: إنما خوطب به من صلى وحده، فأما من صلى وراء إمام فليس عليه أن يقرأ؛ لأنَّ قراءة الإمام له قراءة، واحتجوا بأخبار لا تثبت".
ثم ذكر ما روي عن الصحابة في ذلك، وبعضه لا يثبت، وبعضه صحيح لا غبار عليه، ويمكن حمل الصحيح منه على ترك القراءة فيما جهر فيه الإمام، والقراءة إذا لم يجهر، ثم قال (3/ 103):"وهذا قول سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وكان سفيان بن عيينة يقول: تفسير الحديث الَّذي قال: "لا صلاة إن لم يقرأ بفاتحة الكتاب": إذا كان
وحده، فإذا كان مع الإمام فقراءة الإمام له قراءة" [(3/ 257 - ط الفلاح)].
ثم قال: "وقالت طائفة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" على العموم إلا أن يصلي خلف إمام فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة، وسمع قراءته، فإن هذا موضع مستثنى بالكتاب والسُّنَّة، فأما الكتاب فقوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: 204]، وأما السُّنَّة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا" [وقد سبق أن بينت شذوذ هذه الزيادة]، وقد ثبت أن عبد الله بن مسعود سأله رجل، فقال: أقرأ خلف الإمام؟، قال: أنصت للقرآن، وروي عنه أنَّه قرأ في العصر خلف الإمام في الركعتين بفاتحة الكتاب وسورة".
ثم حمل هذا على حال، وهذا على حال لتأتلف النصوص، وعضد ذلك بما روي عن الصحابة في القراءة خلف الإمام في السرية، والإنصات له فيما جهر.
ثم قال: [وقد روينا عن ابن عباس، وأبي هريرة، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وجماعة غيرهم؛ أنهم قالوا في قوله:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} : إنها في الصلاة المفروضة".
إلى أن قال (3/ 105): "فقال بعض من يقول بهذا القول: لولا أنهم اتفقوا على أن الآية إنما أنزلت في الصلاة أو في الصلاة والخطبة؛ لوجب بظاهر الكتاب على كل من سمع قارئًا يقرأ أن يستمع لقراءته؛ لقوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}، فلما أجمعوا على إسقاط وجوب الاستماع عن كل سامعٍ قارئًا يقرأ؛ إلا عن السامع لقراءة الإمام وهو خلفه، والسامع لخطبة الإمام، خرج ذلك عن عموم الكتاب وظاهره بالاتفاق، ووجب استعمال الآية على المأموم السامع لقراءة الإمام، واحتجوا مع ظاهر الكتاب بالخبر الَّذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "وَإِذَا قرأَ فَأَنْصِتُوا"".
ثم قال (3/ 106): "وممن مذهبه أن لا يقرأ خلف الإمام فيما يجهر به الإمام، سمع المأموم قراءة الإمام أو لم يسمع، ويقرأ خلفه فيما لا يجهر به الإمام سرًّا في نفس المأموم: الزهري، ومالك بن أَنس، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق.
وقد كان الشافعي إذ هو بالعراق يقول: ومن كان خلف الإمام فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة فإن الله صلى الله عليه وسلم قول: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ، فهذا عندنا على القراءة التي يسمع خاصة، فكيف ينصت لما لا يسمع؟، ثم قال بمصر: فيها قولان: أحدهما: لا يجزئ من صلى معه إذا أمكنه أن يقرأ إلا أن يقرأ بأُم القرآن، والثاني: يجزيه أن لا يقرأ ويكتفي بقراءة الإمام".
ثم قال (3/ 107): "وقالت طائفة: قوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" على العموم، يجب على المرء في كل ركعة قراءة فاتحة الكتاب صلاها منفردًا، أو كان إمامًا، أو كان مأمومًا خلف الإمام، فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة وفيما لا يجهر به؛ لظاهر حديث عبادة، وقال بعضهم: وقوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (204)}، خاص واقع على ما سوى فاتحة الكتاب، وكذلك تأويل قوله:"وإذا قرأ فأنصتوا" بعد قراءة فاتحة الكتاب، واحتج بعضهم بحديث عبادة، وبأخبار رويت عن الصحابة،
…
، وممن مذهبه هذا المذهب: ابن عون، والأوزاعي، وأبو ثور، وغيره من أصحاب الشافعي".
ثم ختم ذلك بما اختاره لنفسه، فقال (3/ 110):"والذي به أقول: أن يقرأ المأموم في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة، وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب في كل ركعة، ويقرأ في الركعة الثالثة من المغرب، وفي الركعتين الأخريين من صلاة العشاء بفاتحة الكتاب في كل ركعة، فإن كان بحيث لا يسمع قراءة الإمام قرأ في الصبح وفي الركعتين الأوليين من صلاة المغرب، وفي الركعتين الأوليين من صلاة العشاء الأخيرة بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة، وإن كان بحيث يسمع قراءة الإمام قرأ في الصبح، وفي الركعتين الأوليين من صلاة المغرب، والركعتين الأوليين من صلاة العشاء الآخرة بفاتحة الكتاب في حل ركعة من سكتات الإمام إن كانت للإمام سكتات يمكنه أن يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فإن بقيت عليه منها بقية قرأ بها عند وقفات الإمام، فإن بقيت منها قرأها إذا ركع الإمام، ولا أرى له أن يقرأ وهو يسمع قراءة الإمام، والذي يجب علينا إذا جاءنا خبران يمكن استعمالهما جميعًا أن نقول بهما ونستعملهما، وذلك أن نقول: لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، إلا صلاةً أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم المأمومَ إذا جهر الإمام بقراءته أن يستمع لقراءته، فيكون فاعل ذلك مستعملًا للحديثين جميعًا، ولا يعدل عن هذا القول أحدٌ إلا عطَّل أحد الحديثين، والله أعلم".
قلت: وهذا القول هو الصواب، جمعًا بين الأدلة: من الكتاب، ومن السُّنَّة الصحيحة، ومن أقوال الصحابة، مع العلم بشذوذ هذه الزيادة في الحديث:"وإذا قرأ فأنصتوا"، وإنما العمدة على نص الكتاب في الأمر بالإنصات، وأما القراءة في السكتات، فإنما هما سكتتان، أولاهما لاستفتاح الصلاة، فليست موضعًا لقراءة الفاتحة، ومن فعل ذلك فقد خالف السنَّة، وأما الثانية فهي سكتة يسيرة جدًّا للفصل بين القراءة والركوع، أو للاستراحة، فلا تكفي لقراءة الفاتحة، فإن كان بعض الأئمة يسكت سكتة طويلة بعد الفاتحة مثلًا، فعندئذ لا بأس للمأموم أن يقرأ فيها بالفاتحة، وليس يصح حديث في القراءة في سكتات الإمام، والله أعلم.
• فإن قيل: قالوا: حديث أبي السائب عن أبي هريرة، وحديث عبادة بن الصامت يخصصان الآية:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} ، فيقال: قال أبو داود في مسائله (223): "سمعت أحمد، قيل له: إن فلانًا قال: قراءة فاتحة الكتاب -يعني: خلف الإمام- مخصوصٌ من قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}، فقال: عمَّن يقول هذا؟! أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة"[وانظر في رد ذلك: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية من مجموع الفتاوى (23/ 290 و 312)، وسيأتي نقل كلامه في آخر أحاديث الباب (829)].
وقال ابن عبد البر في التمهيد (11/ 27): "وفقه هذا الحديث الَّذي من أجله نُقِلَ، وجاء الناسُ به: تركُ القراءة مع الإمام في كل صلاة يجهر فيها الإمام بالقراءة، ففي هذا الحديث دليل واضح على أنَّه لا يجوز للمأموم فيما جهر فيه إمامه بالقراءة من الصلوات أن يقرأ معه، لا بأُم القرآن، ولا بغيرها؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستثن فيه شيئًا من القرآن".
يعني: قوله صلى الله عليه وسلم: "ما لي أنازع القرآن".
وقال في الاستذكار (1/ 464): "وفقه هذا الحديث الَّذي من أجله جيء به: هو ترك القراءة مع الإمام فيما جهر فيه الإمام بالقراءة، فلا يجوز أن يقرأ معه إذا جهر لا بأُم القرآن ولا بغيرها على ظاهر هذا الحديث وعمومه".
وقال في التمهيد (11/ 53): "في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب عن ابن أكيمة عن أبي هريرة: "ما لي أنازع القرآن": دليل على أن القراءة خلف الإمام إذا أسر الإمام في صلاته بالقراءة: جائزة؛ لأنَّ المنازعة في القرآن إنما تكون مع الجهر لا مع السر".
قلت: إذا جهر المأموم ورفع صوته، فقد شوش على المصلين ونازع الإمام قراءته جهرًا كان أو سرًّا.
وقال في الاستذكار (1/ 464): "وفي إجماع أهل العلم على أن قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} لم يُرِد كل موضع يسمع فيه القرآن، وإنما أراد الصلاة؛ أوضح الدلائل على أنَّه لا يقرأ مع الإمام فيما جهر فيه".
وقال في التمهيد (11/ 30): "في قول الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} مع إجماع أهل العلم أن مراد الله من ذلك في الصلوات المكتوبة؛ أوضح الدلائل على أن المأموم إذا جهر إمامه في الصلاة أنَّه لا يقرأ معه بشيء، وأن يستمع له وينصت، وفي ذلك دليل على أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" مخصوص في هذا الموضع وحده؛ إذا جهر الإمام بالقراءة، لقول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}، وما عدا هذا الموضع وحده فعلى عموم الحديث، وتقديره: لا صلاة؛ يعني: لا ركعة، لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب؛ إلا لمن صلى خلف إمام يجهر بالقراءة، فإنه يستمع وينصت".
وقال في التمهيد (11/ 28): "وقال آخرون: يقرأ مع الإمام فيما أسر فيه، ولا يقرأ فيما جهر فيه، وهو قول: سعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عبد الله، وسالم بن عبد الله بن عمر، وابن شهاب، وقتادة، وبه قال مالك وأصحابه، وعبد الله بن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وداود بن علي، والطبري؛ إلا أن أحمد بن حنبل قال: إن سمع لم يقرأ، وإن لم يسمع قرأ،
…
، وأوجبوا كلهم القراءة فيما إذا أسر الإمام، وروي عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، على اختلاف عنهم في القراءة في ما أسر الإمام دون ما جهر، وعن عثمان بن عفان، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمر مثل ذلك،
وهو أحد قولي الشافعي، كان يقوله بالعراق، وهذا هو القول المختار عندنا".
وقال أيضًا (11/ 34): "وقال مالك: الأمر عندنا أنَّه لا يقرأ مع الإمام فيما جهر فيه الإمام بالقراءة، فهذا يدلك على أن هذا عمل موروث بالمدينة".
وقال (11/ 38): "لا يجوز لأحد أن يتشاغل عن الاستماع لقراءة إمامه والإنصات لا بأم القرآن ولا بغيرها، ولو جاز للمأموم أن يقرأ مع الإمام إذا جهر لم يكن لجهر الإمام بالقراءة معنى؛ لأنَّه إنما يجهر ليستمع له وينصت، وأم القرآن وغيرها في ذلك سواء، والله أعلم".
• وهناك معنى آخر، وهو أن الإنكار كان متوجهًا إلى رفع الصوت بالقرآن والجهر به من المأمومين [كما قال بذلك ابن حبان وغيره من الشافعية]، مما يترتب عليه التشويش على الإمام والمأموم على حدٍّ سواء، سواء أكان ذلك في الجهرية - كما في حديث ابن أكيمة عن أبي هريرة -، أو كان في السرية - كما في حديث عمران بن حصين -.
فيقال: يرد هذا التأويل قول الزهري بعده: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: فاتعظ المسلمون بذلك، فلم يكونوا يقرؤون معه فيما جهر به، وفي رواية يونس بن يزيد عن الزهري: فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه الإمام، وقرؤوا في أنفسهم سرًّا فيما لا يجهر فيه الإمام.
واستمع إلى قول شيخ الإسلام في توجيه كلام الزهري في هذا الحديث، إذ يقول أبو العباس بن تيمية:"وهذا إذا كان من كلام الزهري فهو من أدل الدلائل على أن الصحابة لم يكونوا يقرؤون في الجهر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الزهري من أعلم أهل زمانه أو أعلم أهل زمانه بالسُّنَّة، وقراءة الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت مشروعة واجبة أو مستحبة تكون من الأحكام العامة التي يعرفها عامة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فيكون الزهري من أعلم الناس بها فلو لم يبينها لاستدل بذلك على انتفائها، فكيف إذا قطع الزهري بأن الصحابة لم يكونوا يقرؤون خلف النبي صلى الله عليه وسلم الجهر"[مجموع الفتاوى (23/ 274)، وانظر أيضًا: (23/ 283 و 284)].
• فإن قيل: يعارض هذا ما تقدم من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا: "لا تفعلوا إلا بأُم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها".
فيقال: قد تقدم كان ضعف هذا الحديث وعدم ثبوته، فلا يصلح مثله لمعارضة الصحيح، وإنما الَّذي صح من حديث عبادة هو العموم بغير استثناء:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وقد سبق كان أن هذا العموم مخصوص بالآية في الأمر بالإنصات لقراءة الإمام في الصلاة، وبحديث ابن أكيمة عن أبي هريرة:"ما لي أنازع القرآن"، فلم يستثن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئًا من القرآن، وبتفسيره من كلام الزهري نقلًا عن عموم الصحابة، في انتهاء الناس عن القراءة فيما جهر فيه الإمام، والقراءة في أنفسهم سرًّا فيما لا يجهر فيه الإمام، والله أعلم.
وعلى فرض صحته عند من يقول به، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كان معناه: "ثم إنه لما علم أنهم يقرؤون نهاهم عن القراءة بغير أم الكتاب، وما ذكر من التباس القراءة عليه تكون بالقراءة معه حال الجهر؛ سواء كان بالفاتحة أو غيرها، فالعلة متنأولة للأمرين، فإن ما يوجب ثقل القراءة والتباسها على الإمام منهي عنه، وهذا يفعله كثير من المؤتمين الذين يرون قراءة الفاتحة حال جهر الإمام واجبة أو مستحبة، فيثقلون القراءة على الإمام، ويلبسونها عليه، ويلبسون على من يقاربهم الإصغاء والاستماع الَّذي أمروا به، فيفوِّتون مقصود جهر الإمام، ومقصود استماع المأموم، ومعلوم أن مثل هذا يكون مكروهًا.
ثم إذا فرض أن جميع المأمومين يقرؤون خلفه فنفس جهره لا لمن يستمع؛ فلا يكون فيه فائدة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أمن فأمنوا"، ويكونون قد أمنوا على قرآن لم يستمعوه، ولا استمعه أحد منهم، إلا أن يقال: إن السكوت يجب على الإمام بقدر ما يقرؤون، وهم لا يوجبون السكوت الَّذي يسع قدر القراءة، وإنما يستحبونه، فعلم أن استحباب السكوت يناسب استحباب القراءة فيه، ولو كانت القراءة على المأموم واجبة لوجب على الإمام أن يسكت بقدرها سكوتًا فيه ذكر، أو سكوتًا محضًا، ولا أعلم أحدًا أوجب السكوت لأجل قراءة المأموم" [مجموع الفتاوى (23/ 315)].
وقال ابن عبد البر في الاستذكار (1/ 468)، وبنحوه في التمهيد (11/ 42): "فذهب الحسن وقتادة وجماعة إلى: أن الإمام يسكت سكتات على ما لي هذه الآثار المذكورة، ويتحين المأموم تلك السكتات من إمامه، فيقرأ فيها بأُم القرآن، ويسكت فيها في سائر صلاة الجهر، فيكون مستعملًا للسُّنَّة والآية في ذلك.
وقال الأوزاعي والشافعي وأبو ثور: حقٌّ على الإمام أن يسكت سكتةً بعد التكبيرة الأُولى، وسكتةً بعد فراغه بقراءة فاتحة الكتاب، وبعد الفراغ بالقراءة، ليقرأ من خلفه بفاتحة الكتاب، قالوا فإن لم يفعل الإمام فاقرأ معه بفاتحة الكتاب على كل حال.
وأما مالك فأنكر السكتات، ولم يعرفها، قال: لا يقرأ أحد مع الإمام إذا جهر، لا قبل القراءة ولا بعدها.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليس على الإمام أن يسكت إذا أكبر، ولا إذا فرغ من قراءة أم القرآن، ولا إذا فرغ من القراءة، ولا يقرأ أحد خلف إمامه، لا فيما أسر، ولا فيما جهر.
وهو قول زيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، وروي ذلك عن علي وابن مسعود، وبه قال الثوري وابن عيينة وابن أبي ليلى والحسن بن حي، وهو قول جماعة من التابعين بالعراق".
قلت: تقدم بيان المشروع في سكتات الإمام عند حديث سمرة برقم (777)، وفيه: أنهما سكتتان، الأُولى: بعد تكبيرة الإحرام، وإنما هي لذكر الاستفتاح، والثانية: بعد الفراغ من القراءة، وإنما هي فصل بين القراءة وبين تكبير الركوع؛ لئلا يظن من لا يعلم أن