الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إليه المفضي إلى الحرام حرام، وهذا المعنى يعم الفرق السبع؛ لأن قرابتهن محرمة القطع واجبة الوصل.
وتختص الأمهات بمعنى آخر، وهو أن احترام الأم وتعظيمها واجب، ولهذا أمر الولد بمصاحبة الوالدين بالمعروف وخفض الجناح لهما والقول الكريم في خطابهما، ونهى عن التأفيف منهما، فلو جاز النكاح، والمرأة تكون في طاعة الزوج وطاعته مستحقة عليها للزمها ذلك، وإنه ينافي الاحترام، فيؤدي إلى التناقص.
وأقول: إن هذا الكلام حق لا ريب فيه؛ لأن الحياة الزوجية لا تتفق مع علاقات القرابة ولا تستقيم كلتاهما مع الأخرى فتفسد كلتاهما، وذلك فوق أنه قد يكون تنافس بين هؤلاء الأقارب على واحدة منهن فتكون القطيعة.
2-
مانع الرضاع:
وفيه عشرون مسألة.
المسألة الأولى: تعريفه
الرضاع في اللغة: مص الثدي مطلقا، مأخوذ من رضع الصبي وغيره يرضع كضرب يضرب، ورضع على وزن سمع يرضع رضعا فهو راضع، والجمع رُضع والرضيع المرضع وراضعه ورضاعا رضع معه، والرضع المراضع، والجمع رُضع، الجمع رُضعاء، وامرأة مرضع، أي: ذات رضع أو لبن رضاع، والجمع مراضيع.
فإن أريد مجرد الوصف بالإرضاع، قيل: مرضع بغير هاء، أي لها ولد ترضعه، إن أريد أنها محل إرضاع بالفعل، أي: وصفها حال إرضاعها ولدها، قيل. مرضعة بالهاء.
قال تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} 1.
الرضاع في الاصطلاح، عرفه الشافعية بقوله: اسم لحصول لبن امرأة آدمية حية أو ما حصل منه في معدة الطفل أو دماغه.
المسألة الثانية: حكمه
اتفق فقهاء الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب كلها على أنه إذا أرضعت امرأة بلبنها ولد غيرها فقد ثبت بذلك صلة القرابة الرضاعية بينها وبين من أرضعته وثبت تحريم الزواج بينهما وينتشر التحريم كذلك إلى أصولها وفروعها وأصول زوجها وفروعه.
ولا يتعدى التحريم إلى غير المرتضع ممن هو في درجته من إخوته وأخواته فيباح لأخيه نكاح من أرضعت أخاه وبناتها وأمهاتها، ويباح لأخته نكاح صاحب اللبن وأباه وبنيه.
وكذلك لا ينتشر التحريم إلى من فوق المرتضع من آبائه وأمهاته ومن في درجته من أعمامه وعماته وأخواله وخالاته ينكحوا أم الطفل من الرضاع وأمهاتها وأخواتها وبناتها، وأن ينكحوا أمهات صاحب اللبن وأخواته وبناته؛ إذ نظير هذا النسب حلال.
المسألة الثالثة: دليله
يستدل على التحريم بسبب الرضاع بالكتاب والسنة والإجماع.
فمن الكتاب قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى أن قال: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} 1.
1 من الآية 23 من سورة النساء.
ووجه الدلالة هو أن الله تعالى ذكر المحرمات من النساء بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ثم عطف على ذلك قوله تعالى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} 1 والعطف يقتضي التشريك في الحكم.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة".
وأجمعت الأمة على تحريم النكاح بسبب القرابة الرضاعية.
المسألة الرابعة: مقدار الرضاع المحرم
ولا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات مشبعات مفترقات.
ويستدل على ذلك بما رواه مسلم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلوما يُحَرِّمن ثم نسخت بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن.
ووجه الدلالة هو أن الحديث نص صريح في تحريم الرضاع بخمس رضعت.
واعترض على حديث عائشة: كان فيما نزل من القرآن إلخ.. باغتراضات أربعة؛ الاعتراض الأول:
إن هذا ليس بقرآن، لا يثبت بخبر الآحاد، ولو كان قرآن لثبت بين دفتي المصحف.
وأجاب الماوردي على ذلك بأجوبة ثلاثة:
الجواب الأول: أنه ثبت كونه من القرآن حكما لا تلاوة ورسما، والأحكام تثبت بأخبار الآحاد سواء أضيفت إلى السنة أو إلى القرآن، كما أثبتوا بقراءة ابن مسعود "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" حكم التتابع، وإن لم يكتبوا تلاوته، فإن استفاض نقله ثبت بالاستفاضة تلاوته وحكمه.
والجواب الثاني: أن هذا من باب منسوخ التلاوة الثابت حكمه فكان وروده بالاستفاضة والآحاد سواء في إثبات حكمه، وسقوط تلاوته كالذي روي عن عمر
أنه قال:"كان فيما أنزل الله "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله".
ولولا أن يقول الناس زاد عمر في القرآن لكتبتها في حاشية المصحف ولو كانت من المتلو لكتبتها مع المرسوم، وإنما أراد بكتابتها في الحاشية؛ لأن لا ينساها الناس، ثم لم يفعل لئلا تصير متلوة.
والجواب الثالث: أن العشر نسخت بالخمس، وإنما أضافت عائشة ذلك إلى القرآن لما في القرآن من وجوب العمل بالسنة حيث يقول الله تعالى:{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1.
الاعتراض الثاني:
أنه ثبت عن عائشة قالت: كان تحريم الرضاع في صحيفة فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تشاغلنا بغسله فدخل داجن الحي فأكلها، لو كان ذلك قرآنا لكان محفوظا لقول الله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2.
وأجاب الماوردي عن هذا الاعتراض بجوابين:
الجواب الأول: أن الذي أكله داجن الحي هو رضاع الكبير وهو منسوخ.
الجواب الثاني: أن العشر منسوخ بالخمس ودعوى عدم حفظه مردوده؛ لأنه محفوظ في الصدور حيث ورد في صفة الأمة المحمدية "أناجيلهم في صدروهم".
الاعتراض الثالث:
هذا إثبات للنسخ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها قالت: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممن يقرأ من القرآن، وبهذا لا يجوز.
1 من الآية 7 من سورة الحشر.
2 من الآية 9 من سورة الحجر.
وأجاب الماوردي -أيضا- عن هذا الاعتراض بجوابين:
الجواب الأول: أنها روت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم نسخا كان في زمانه، وقولها: كان مما يقرأ، أي: مما يعمل به.
الجواب الثاني: أنه كان يقرأ بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لإثبات حكمه، فلما ثبت حكمه تركت تلاوته.
الاعتراض الرابع:
أن فيه إثبات نسخ بخبر الواحد، والنسخ لا يكون إلا بإخبار التواتر
وأجاب عنه الماوردي كذلك بجوابين:
الأول: أن الطريق الذي يثبت بها خبر المنسوخ ثبت بها خبر الناسخ فلم يجز أن يجعل حجة في إثبات المنسوخ دون الناسخ.
الثاني: أنه ليس ذلك نسخا بخبر الواحد، وإنما هو نقل لنسخ بخبر الواحد، ونقل النسخ بخبر الواحد مقبول، فعلمت عائشة رضي الله عنها العشر ونسخها بالخمس فروتها ورجعت إلى الخمس، وعملت حفصة رضي الله عنها العشر ولم تعلم نسخها بالخمس فبقيت على حكم الأول في تحريم الرضاع بالعشر دون الخمس.
المسألة الخامسة: ضابط الرضعة
متى التقم المرتضع الثدي، فامتص منه، ثم تركه باختياره من غير عارض، كان ذلك رضعة.
والقطع العارض لتنفس أو استراحة يسيره أو لشيء يلهيه، ثم يعود عن قرب لا يخرجه من كونه رضعة واحدة، كما أن الآكل إذا قطع أكلته بذلك، ثم عاد من قريب لم يكن ذلك أكلتين بل واحدة.
أما إذا قطعت المرضعة عليه الرضعة، ثم أعادته لوجهان:
الأول: أنها رضعة واحدة ولو قطعته مرارًا.
الثاني: أنها رضعة أخرى.
وكذلك إذا انتقل الرضيع من ثدي امرأة إلى ثدي أخرى قبل تمام الرضعة، قيل: تحسب واحدة قياسا على ما لو انتقل من ثدي المرأة إلى ثديها الآخر، وقيل: تحسب رضعة أخرى.
المسألة السادسة: رضاع الكبير
اتفق الفقهاء على التحريم بسبب الرضاع إذا كان في الحولين واختلفوا في رضاع الكبير وهو ما زاد على الحولين هل هو محرم أو لا؟
على فريقين:
الفريق الأول: يرى جمهور الفقهاء أن رضاع الكبير لا يحرم وهو مذهب ابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس.
الفريق الثاني: ويرى داود وأهل الظاهر أنه يحرم كرضاع الصغير وهو مذهب عائشة.
وسبب اختلافهم، هو تعارض الآثار في ذلك حيث ورد في المسألة حديثان:
أحدهما: حديث سالم، قد سبق تخريجه.
والثاني: حديث عائشة أخرجه البخاري ومسلم قالت: دخل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه سلم- وعندي رجل فاشتد ذلك عليه ورأيت الغضب في وجهه، فقلت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة، فقال صلى الله عليه وسلم:"انظرن من إخوانكن من الرضاعة، فإن الرضاعة من المجاعة".
فمن ذهب إلى ترجيح هذا الحديث قال: لا يحرم اللبن الذي لا يقوم للمرضع مقام الغذاء، إلا أن حديث سالم نازلة عين، وكان سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما عدا عائشة يرون أن ذلك رخصة لسالم ومن رجح حديث سالم وعلل حديث عائشة بأنها لم تعمل به قال: يحرم رضاع الكبير.
وحد الصغر المحرم: حولان كاملان.
لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} 1.
ووجه الدلالة هو أنه جعل تمام الرضاعة في الشرع مقدر بحولين فاقتضى أن يكون حكمه في الشرع بعد الحولين مخلفا لحكمه في الحولين، وحكمه في الشرع في الحولين هو التحريم.
كما يستدل على ذلك أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلا في حولين".
ووجه الدلالة هو أن النفي في قوله: لا رضاع للتحريم لا للجواز.
المسألة السابعة:
إذا فطم المولود قبل الحولين ثم أرضعته امرأة بعد الفطام في الحولين فهل يثبت بهذا الرضاع حرمة أو لا؟
تثبت بهذا الرضاع حرمة النكاح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة".
ووجه الدلالة هو الرضاع المحرم الذي في سن المجاعة كيفما كان الطفل في سن الرضاع.
المسألة الثامنة:
ما صل إلى الجوف من غير رضاع هل يحرم أو لا؟
يحرم بالرضاع ما وصل إلى الجوف سواء أكان بمص الرضيع للثدي أو شربه اللبن وكذلك إذا وصل اللبن إلى جوفه بالوجور: الذي هو إيصال اللبن إلى جوفه بواسطة الفم بعد حلبه من المرأة، أو السعوط أي إدخاله إلى جوفه عن طريق الأنف، أو الحقنة: أي إيصاله إلى جوفه عن طريق الدبر.
ويستدل على ثبوت التحريم بالوجور والسعوط بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم".
1 الآية 223 من سورة البقرة.
ووجه الدلالة: هو أن صول اللبن بالجور والسعوط يحصل بهما إنبات اللحم وإنشاز العظم، كما يحصل بالارتضاع مساواتهما له في الحكم وهو التحريم.
المسألة التاسعة: اختلاط اللبن بغيره
إذا اختلط اللبن بغيره طعاما كان أم شرابا فهل يثبت به التحريم أو لا يثبت؟
اختلاط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى.
1-
إذا اختلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى ووصل اللبنان إلى جوف رضيع في سن الرضاع المحرم ثبت التحريم بين المرأتين والرضيع أخذا بالأحوط.
ب- اختلاط لبن امرأة بطعام او شراب كالماء ونحوه.
ذكرنا في الفقرة "أ" الحكم إذا اختلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى، أما إذا اختلط لبن امرأة بطعام أو شراب فيرى جمهور فقهاء المذهب ثبوت التحريم به سواء أكان اللبن غالبا أم مغلوبا، ويرى المزني من فقهاء المذهب ثبوت التحريم به إن كان اللبن غالبا ولا يثبت به التحريم إن كان اللبن مغلوبا.
المسألة العاشرة: تحول اللبن إلى جبن ويطعمه الولد
إذا تحول اللبن بعد حلبه من المرأة إلى جبن وأطعمه الصبي فهل يثبت بتناوله ذلك تحرم أو لا يثبت؟
إذا تحول اللبن بعد حلبه إلى جبن وأطعمه الصبي ثبت به التحريم؟ لقوله صلى الله عليه وسلم: $"إنما الرضاعة من المجاعة".
ووجه الدلالة: هو إن الإطعام أبلغ في سد المجاعة من مانع اللبن فوجب أن يكون أخص بالتحريم.
المسألة الحادية عشرة: لبن الفحل، أي المرأة المرضعة
اتفق الفقهاء على أن المرأة التي لها زوج إذا أرضعت ولد غيرها بلبنها الناتج عن وطء زوجها لها ثبت التحريم بالرضاع بينها وبين هذا الولد.
وكذلك يثبت التحريم بين الرضيع وبين صاحب اللبن -زوج المرضعة.
ويستدل على ذلك:
بما روي عن عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب، قالت عائشة: فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعت، فأمرني أن آذن له.
ووجه الدلالة: هو أن لبن الفحل يحرم بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة في إذنها لأبي القعيس؛ لأنه عمها من الرضاعة.
وكذلك يستدل بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل تزوج بامرأتين فأرضعت إحداهما جارية غيرها وأرضعت الأخرى غلام غيرها، هل يتزج الغلام الجارية؟ فقال: لا، اللقاح واحد لا تحل له.
المسألة الثانية عشر: صفة المرضع
لبن الميتة:
اتفق الفقهاء على أن المرأة الحية إذا أرضعت بلبنها ولدا في سن الرضاع المقرر شرعا صار هذا الولد ابنها من الرضاع واختلفوا في لبن الميتة هل تنتشر الحرمة بينها وبين من ارتضع لبنها وبين فروع هذه المرأة وأصولها وحواشيها أو لا تنتشر؟
باتفاق المذهب لا يثبت تحريم بين الرضيع وبين هذه المرأة الميتة التي ارتضع منها ولا بين أصولها وحواشها، وذلك وطء الميتة معتقدا حياتها لم يثبت بهذا الوطء تحريم بالمصاهرة فكذلك ارتضاع لبنها لا يثبت به تحريم.
البكر التي لم تمس بنكاح أو الثيب التي لم يقام له لبن وكذلك العجوز المسنة:
أجمع الفقهاء على أن البكر التي لم تنكح لو نزل بها لبن فأرضعت به مولودا كان المولود ولدها رضاعا ولا أب له من الرضاعة، كذلك الثيب التي لا زوج لها.
لبن الزانية:
اتفق الفقهاء على أن المزني بها إذا أرضعت بلبنها ولدا غير ابنها صار الرضيع ولدها رضاعا، ولا تثبت حرمة بين الزاني وبين الرضيع وذلك لأن التحريم بينهما فرع لحرمة الأبوة، فلما لم تثبت حرمة الأبوة لم يثبت ما هو فرع لها.
لبن البهيمة:
اتفق الفقهاء على أنه لو ارتضع طفلان من بهيمة لم تثبت بذلك اللبن أخوة بينهما؛ لأنه لا يحرم إلا لبن الآدميات لقول المولى -جل ثناؤه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} 1.
والبهيمة لا تكون بارتضاع لبنا أما محرمة، فكذلك لا يصير المرتضعان بلبنها أخوين.
ولأن التحريم لا يون إلا بالشرع، ولم يرد الشرع إلا في لبن الآدمية، والبهيمة دون الآدمية في الحرمة، ولبنها دون لبن الآدمية في إصلاح البدن، فلم يلحق به في التحريم.
ولأن الأخوة فرع الأمومة فإذا لم يثبت بهذا الرضاع أمومة فلأن لا تثبت به الأخوة أولى.
لبن الرجل:
لو فرض أن رجلا در ثديه لبنا فأرضع بهذا اللبن ولد غيره، فإنه لا تنتشر به الحرمة ولا تثبت بين هذا الرجل وبين الرضيع؛ لأن المقصود من اللبن إنبات اللحم وإنشاز العظم، وهذا لا يتحقق في لبن الرجل إذا فرض ذلك، غاية ما في الأمر أنه ماء أصفر، وذلك في قول عامة أهل العلم، وقال الكرابيسي من الشافعية، تثبت بهذا اللبن حرمة؛ لأنه لبن آدمي، أشبه لبن آدمية.
1 من الآية 23 من سورة النساء.
وأقول: هذا ليس بصحيح؛ لأنه قياس في مقابلة النص الذي يقول فيه المولى عز وجل: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} .
لبن الخنثى المشكل:
الخنثى: هو من خلق بآلتين آلة الذكورة وآلة الأنوثة. سمي بذلك لاشتراك الشبهين فيه مأخوذ من قولهم: تخنث الطعام والشراب إذا اشتبه أمره فلم يخلص طعمه المقصود وشاركه طعم غيره، ورجل مخنث تشبه بالإناث في أقواله وأفعاله، ويرى الشافعي التوقف إلى البيان فإن بانت أنوثته انتشرت به الحرمة وإلا فلا.
المسألة الثالثة عشر: المحرمات رضاعا من جهة النسب
اتفق الفقهاء على أنه يحرم بالرضاع ما يأتي:
أولا: أصله من الرضاع
ويشمل ذلك المرأة التي أرضعت الصبي؛ لأنها أمه من الرضاع، وكذلك أم أمه من الرضاعة، وهكذا كل أصل لأمه من الرضاعة مهما علا ذلك الأصل، سواء أكان الأصل من النسب أم من رضاع.
ثانيا: الفروع من الرضاع
فيحرم على الرجل زواج ابنته من الرضاع؛ لأنه السبب في إدرار اللبن لها سواء أكانت المرأة وقت الرضاع تحت عصمة زوجها أم مطلقة منه بشرط أن يكون اللبن الذي أرضعت به البنت من حمل حدث من ذلك الرجل ويحرم على الرجال كذلك بنت بنته رضاعا، وبنت ابنه الرضاعي.
ثالثا: الفرع النسبي أو الرضاع للأبوين الرضاعيين
وهذا يشمل الأخوات من الرضاع، سواء أكن شقيقات أم لأب أم لأم، وكذلك بنات الأبوين من الرضاع سواء كن بناتهن من النسب أم من الرضاع وكذلك بنات الأخوة من الرضاع.
رابعًا: البطن الأولى فقط من فروع الأجداد والجدات الرضاعيين
وهن العمات والخالات من الرضاع.
ولا يتعدى التحريم إلى غير المرتضع ممن هو في درجته من إخوته وأخواته، فيباح لأخيه نكاح من أرضعت أخاه وبنتاها وأمهاتها، ويباح لأخته نكاح صاحب اللبن وأباه وبنيه.
وكذلك لا ينتشر التحريم إلى من فوقه من آبائه أمهاته، ومن في درجته من أعمامه وعماته وأخواله وخالاته.
فلأبي المرتضع من النسب وأجداده أن ينكحوا أم الطفل من الرضاع وأمهاتها وأخواتها وبناتها، وأن ينكحوا أمهات صاحب اللبن وأخواته وبناته إذ نظير هذا من النسب حلال.
المسألة الرابع عشرة: المحرمات رضاعا من جهة المصاهرة
يحرم رضاعا من جهة المصاهرة والجمع ما يأتي:
أولا: الأصول الرضاعية لزوجته، فأمها التي أرضعتها تحرم عليه وجدتها كذلك سواء أكانت أم أمها رضاعا أمْ أمُّ أبيها، سواء دخل بزوجته أو لم يدخل؛ لأن الرضاع في المصاهرة كالنسب فيها.
ثانيا: فروع زوجته من الرضاع إن دخل بزوجته، فتحرم عليه ابنتها رضاعا، سواء أكان طريقها البنت أم طريقها الابن.
ثالثا: زوجة أصله الرضاعي، وهو من كان أبا لمن أرضعته، أو كان هو سبب اللبن الذي رضع منه.
رابعا: زوجة فرعه، فتحرم عليه زوجة ابنه الرضاعي.
خامسا: يحرم الجمع بين الأختين من الرضاع وكذلك بين المرأة وعمتها من الرضاع، وبين المرأة وخالتها.
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: $"يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة".
ووجه الدلالة: هو أن الحديث أجرى الرضاع مجرى النسب، وشبهه، فثبت تنزيل ولد الرضاعة وأبي الرضاعة منزلة ولد النسب وأبيه، فما ثبت للنسب من التحريم ثبت للرضاعة، وإذا حرمت امرأة الأب والابن، وأم المرأة وابنتها من النسب حرم من الرضاعة، وإذا حرم الجمع بين الأختين من النسب حرم بين أختي الرضاعة.
ويفهم من كلام العلامة ابن القيم في زاد المعاد أنه وأستاذه شيخ الإسلام ابن تيمية يميلان إلى أن المصاهرة بالرضاع لا توجب تحريما؛ لأن المصاهرة لا تكون إلا مع النسب حتى لا تقطع الأرحام بين الأباء والأبناء، ولا رحم في الرضاعة يخشى عليها، ولا نص ولا قياس يجعل أقارب المرأة رضاعا كأقاربها نسبا، وإذا كان الشأن كذلك فالحل هو الثابت بعموم قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1.
ورجح الإمام محمد أبو زهرة وجهة نظرهما في ذلك فقال ما نصه: يبدو لنا أن نظر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم نظر له وجهه إذا تلونا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} 2 فنرى أن الله تعالى ساق المحرمات بالنسب، ثم ساق المحرمات بالرضاعة رابطا بينهم وبين النسيبات، ثم المحرمات بالمصاهرة، ولم يشر بعدها للرضاعة، والمصاهرة لا تنصرف إلا إلى ما كان النسب سببها ولو كانت الرضاعة تثبت بالمصاهرة لعقب التحريم بالمصاهرة بها، وأشار النص إليها. ا. هـ.
المسألة الخامسة عشر: حكمة التحريم بالرضاع
عندما تقوم امرأة بإرضاع غير ولدها فإنها بذلك تغذيه بجزء منها، فتدخل أجزاؤها في تكوينه ويصبح الولد جزءا منها.
فلبنها در من دمها لينبت لحم الطفل وينشر عظمه فهي بذلك كالأم النسبية.
1 من الآية 24 من سورة النساء.
2 من الآية 23 من سورة النساء.
فإن كانت الأم النسبية غذته بدمها في بطنها فتلك غذته بلبنها وإذا حرمت عليه أمه النسبية فكذلك تحرم عليه أمه الرضاعية.
المسألة السادسة عشر: ما يخالف فيه الرضاع النسب
يتفق الرضاع مع النسب في التحريم المناكحة، وإثبات المحرمية فتجوز الخلوة بمحارم الرضاع، والمسافرة ومعهم.
وينفرد الرضاع عن النسب فيما يأتي:
أولا: الرضاع لا يثبت ميراثا ولا يوجب نفقة ولا يسقط به القصاص ولا الشهادة، بخلاف النسب فإنه يثبت الميراث، ويوجب النفقة، يسقط القصاص والشهادة.
ثانيا: يجوز للرجل أن يتزوج المرأة الأجنبية التي أرضعت أخته أو أخاه، لعدم وجود علاقة رضاعية بنيهما.
بينما لا يجوز له ذلك من النسب؛ لأن أم أخيه أو أخته إما أن تكون أمًّا وإما أن تكون زوجة أب وكلتاهما محرمة شرعًا.
ثالثا: يجوز للرجل أن يتزوج جدة ابنه من الرضاع، ليس له أن يتزوج جدة ابنه من النسب؛ لأن جدة ابنه من الرضاع لا نسب بينهما ولا رضاع ولا مصاهرة.
رابعًا: يجوز للرجل أن يتزوج المرأة الأجنبية التي أرضعت ولد ولده لا فرق بين الذكر والأنثى في الولد ولا في الرضيع، لكونها أجنبية عن الجد. بينما أن هذه من جهة النسب محرمة؛ لأنها إما أن تكون بنتا أو زوجة ابن وكلتاهما محرمة شرعًا.
خامسا: يجوز للرجل أن يتزوج أم المرأة الأجنبية التي أرضعت ابنه أو بنته، لعدم وجود علاقة رضاعية بين الأب وبين جدة ابنه أو بنته من الرضاع، بينما لا يجوز له ذلك من جهة النسب؛ لأن جدة الابن أو البنت إما أن تكون أمًّا وإما أن تكون أم زوجة وكلتاهما محرمة شرعًا.
سادسا: يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه أو أخت بنته من الرضاع؛ لأنها أجنبيه عن الأب.
بينما لا يجوز له ذلك من جهة النسب؛ لأنها إما أن تكون بنته أو ربيبته وكلتاهما محرمة شرعًا.
سابعًا: يجوز للرجل أن يتزوج أم عمه وأم عمته رضاعا أي المرأة التي أرضعت عمه أو عمته لكنها أجنبية عنه، بينما لا يجز له ذلك من جهة النسب؛ لأن أم العم وأم العمة إما أن تكون جدة أو زوجة جد وكلتاهما محرمة شرعًا.
ثامنا: يجوز للرجل أن يتزوج أم خالة وأم خالته رضاعا؛ لأنها أجنبية عنه، بينما لا يجوز له ذلك من جهة النسب لأنها إما أن تكون جدة أو زوجة جد وكلتاهما محرمة شرعًا.
تاسعًا: يجوز للرجل أن يتزوج عمة ابنه أو عمة ابنته من الرضاع؛ لأنها أجنبية. بينما لا يجوز له ذلك من جهة النسب؛ لأن عمة الابن أو عمة البنت أختا للاب وهي محرمة شرعًا.
المسألة السابعة عشر: الشك في الرضاع:
من القواعد المقررة في الفقه الإسلامي قاعدة "اليقين لا يزول بالشك" وتطبيقا لهذا القاعدة لو وقع الشك في أصل الرضاع هل حدث أم لا؟ فإن الأصل عدم حدوثه لأن الشك إذا طرأ على اليقين سقط حكمه.
وإذا حدث الشك في عدد الرضعات عند من يقول باشتراط العدد في التحريم، فإنه يبني على الأقل فلو وقع الشك مثلا أرضع أربعا أم ثلاثا فإننا نبني على الأقل وهو الثلاث ونعتبر أنه أرضع ثلاثا.
المسألة الثامنة عشرة: ثبوت الرضاع
أولا: ثبوته بالشهادة
يثبت الرضاع بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو أربع نسوة.
الأدلة:
ويستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} 1.
ووجه الدلالة هو: أن الحق سبحانه وتعالى لما أقام المرأتين مقام الرجل ولم يقبل من الرجال أقل من اثنين وجب ألا يقبل من النساء أقل من أربع.
قول عمر رضي الله عنه: لا يقبل في الرضاع إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين.
أن سبب نزول هذه الحرمة مما يطلع عليه الرجال فلا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين قياسا على حرمة الطلاق.
ثانيا: ثبوت الرضاع بالإقرار
الإقرار في اللغة: الثبوت والاعتراف وعدم الإنكار.
وفي الاصطلاح: إخبار من يصح إخباره بحق لغيره عليه.
واتفق الفقهاء على أنه إذا أقر الزوج بالرضاع قائلا: هي أختي أو عمتي أو ابنتي من الرضاع مثلا وأصر على إقراره فسخ النكاح بينهما قبل الدخول أو بعده.
وكذلك اتفقوا على أنه إذا كانت المقرة به هي الزوجة قائلة: هذا أخي من الرضاع مثلا وكذبها الزوج لا يفسخ النكاح بينهما؛ لأن الحرمة ليست إليها.
كما اتفقوا على أنهما إذا أقرا به معا وثبتا على إقرارهما انفسخ النكاح بينهما قبل الدخول أو بعده.
وكذلك اتفقوا على أنه إذا رجع المقر منهما في إقراره الذي أشهد عليه لا يجوز له الرجوع ولا يقبل رجوعه.
1 من الآية رقم 282 من سورة البقرة.
ثالثا: الاختلاف الرضاع
ذكر الشافعية أنه إذا ادعى الزوج رضاعا محرما وأنكرت الزوجة انفسخ النكاح بينهما: مؤاخذة له بقوله، ولها المهر المسمى إن كان النكاح صحيحا، وإلا فمهر المثل إن كان قد دخل بهما لاستقراره بالدخول ولها نصفه قبل الدخول؛ لأن سبب الفرقة جاء من جهته.
وإن ادعته الزوجة فأنكر الزوج صُدِق بيمينه وإن كانت الزوجة قد زوجت برضاها فالأصح تصديقها بيمينها، لاحتمال ما تدعيه ولم يسبق منها ما يناقضه.
وقيل: يصدق الزوج بيمينه لاستدامة النكاح الجاري في الصحة ظاهرًا كما قال الشافعية أيضا أنه إذا ادعى الزوج رضاعا محرما فأنكرت الزوجة وشهدت بذلك أمه أو ابنته لم تقبل شهادتهما؛ لأن شهادة الوالدة لولدها والولد لوالدة غير مقبولة.
وإن شهدت بذلك أمها أو ابنتها قبلت شهادتهما قولا واحدا في المذهب وإن ادعت ذلك المرأة وأنكره الزوج فشهدت بذلك لهما أمها أو ابنتها لم تقبل شهادتهما، وإن شهدت لها أم الزوج أو ابنته قبلت شهادتهما قولا واحدا في المذهب.
المسألة التاسعة عشرة: حكم إرضاع الأم ولدها
اتفق الفقهاء على إن كل أم يلزمها إرضاع ولدها لقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} 1.
ووجه الدلالة هو أن قوله تعالى: {يُرْضِعْنَ} خبر في معنى الأمر أي ليرضعن فأمر الزوجات بإرضاع أولادهن وأوجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة طالما الزوجية قائمة.
وذلك الإرضاع الواجب عليها في أحوال ثلاثة:
الأولى: إذا لم يوجد غيرها.
الثانية: إذا وجد غيرها وطلب منه أجرة على الرضاع ولا مال للطفل ولا لأبيه.
1 من الآية: 233 من سورة البقرة.
الثالثة: إذا امتنع الطفل عن الرضاع من ثدي غيرها، ولا يلزمها فيما عدا هذه الأحول الثلاثة شريفة كانت أم غير شريفة.
وإذا لم يجب على الإم إرضاع ولدها في غير الأحوال الثلاثة سالفة الذكر فإنه يترتب على عدم الوجوب ما يأتي:
أولا: إن تبرعت الأم بإرضاع ولدها، فإنها لا تمنع من ذلك.
ثانيا: إذا أرادت الأم إرضاع ولدها بأجرة ووجدت من سترضعه بدون أجرة، فإنه ينزع من أمه ويسلم إلى من سترضعه بدون أجرة، وقيل: لا ينزع لزيادة شفقتها عليه.
ثالثا: إذا طلبت الأم أجرة على إرضاع ولدها وكان هناك مرضعة غيرها بأجرة كذلك، فالأم أحق من غيرها؛ لأن الأم أحن وأشفق ولبنها أَمْرأ من لبن غيرها، والمرضعة المستأجرة تسمى -ظِئْرًا- ويجب عليها إرضاع الطفل في المكان الذي اتفق معها على إرضاعه فيه ولا تتعداه حتى لو اتفق معها على إرضاعه في بيتها.
المسألة العشرون: استحقاق الأم أجر إرضاع ولدها.
إذا أرضعت الأم ولدها فهل تستحق أجرة على إرضاعه أو لا؟
لا تستحق الأم أجرة على إرضاع ولدها سواء أكانت الزوجية قائمة بينها وبين الزوج أو لا ذلك لأن الأب إذا استأجر زوجته أو معتدته لترضع ولدها لم يجز، ولأن الرضاع واجب عليها ديانة لقوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} إلا إذا عجزت عنه. فإذا أقدمت عليه بالأجرة ظهرت قدرتها، فكان الرضاع واجب عليها، ومن ثم فلا يجوز أخذ الأجرة على فعل الواجب.
الدليل الثاني: أن أوقات الرضاع مستحقة لاستمتاع الزوج ببدل وهو النفقة فلا يجوز لها أن تأخذ بدلا آخر.