المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌هل مرتبة الصديقية خاصة بالرجال - التحفة الندية شرح العقيدة الواسطية - عبد الرحمن العقل

[عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌ترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيميَّة

- ‌نبذة تعريفية بالعقيدة الواسطية

- ‌ الفرق بين الحَمْد والمَدْح

- ‌ حكم مَن شهِد أن لا إله إلا الله، ولم يشهد بأن محمدًا رسول الله

- ‌ المراد بصلاة الملائكة على الرسول أو على أحد من المؤمنين

- ‌من آمن بوجود الله وبربوبيته ولم يؤمن بألوهيته، هل يعد مؤمنًا

- ‌ الإيمان بالملائكة:

- ‌هل للملائكة أجساد، أم هي أرواح فقط

- ‌ الإيمان بالكتب:

- ‌ما الفرق بين النبي والرسول

- ‌ البعث بعد الموت:

- ‌الإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ

- ‌متى كتب الله المقادير

- ‌ هل يُتصور خلوُّ الأرض من الكفر والنفاق

- ‌ما المراد بالإلحاد في الأسماء

- ‌ما حقيقة الإلحاد في آيات الله وكيف يكون

- ‌هل يجوز تخيل صفات الله

- ‌هل مرتبة الصديقية خاصة بالرجال

- ‌ كيف يريد الله ما لا يحب

- ‌ الكتابة على قسمين: كتابة شرعية، وكتابة كونية

- ‌هل القتلُ عمدًا كفرٌ يستوجبُ الخلودَ في النار

- ‌ إثبات العينين لله تعالى

- ‌الصفات على نوعين:

- ‌المحبة على أقسام

- ‌ استوى الله سبحانه على العرش استواءً يليقُ به

- ‌إثبات علو الله على خلقه

- ‌ إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة

- ‌ إثباتُ صفة الفرح لله جل وعز، والكلام في هذه الصفة

- ‌ إثبات صفة العلو لله تعالى

- ‌ حكم رفع الصوت بالدعاء في قنوت التراويح

- ‌ وسطية أهل السنة في باب الصفات بين أهل التعطيل وأهل التمثيل

- ‌ أنهم وسط في أفعال الله تعالى بين الجبرية والقدرية

- ‌ أنهم وسط في باب الوعيد بين المرجئة والوعيدية

- ‌ أنهم وسط في باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية -أي (الخوارج) - والمعتزلةِ، وبين المرجئة والجهميةِ

- ‌ فتنة القبر وعذاب القبر

- ‌ الحكمة من إخفاء عذاب القبر بالنسبة للجن والإنس

- ‌نْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ

- ‌الحساب يوم القيامة على نوعين:

- ‌هل الحوض موجود الآن، أو لا يوجد إِلَّا يوم القيامة

- ‌الفرق بين أقوال القلوب وأعمالها

- ‌ التكفير المطلق، وتكفير المعين

- ‌ الحكم الشرعي على الفاسق

- ‌ هل يُشهد لأحد بالجنة ممن لم يَشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك

- ‌يدخل في أهل بيته أزواجُه الطاهرات المطهرات رضي الله عنهن

- ‌ الفرق بين المعجزة والكرامة والأحوال الشيطانية:

- ‌لفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

- ‌ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌ إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الولاة المسلمين

- ‌ الرضى بمر القضاء

- ‌ فضل صلة الأرحام

الفصل: ‌هل مرتبة الصديقية خاصة بالرجال

وَالصِّدِّيقِينَ

‌الشرح

الصنف الثاني: الصديقون: جمع صِدِّيق، والصديق: هو من صدق مع الله في معتقده وإخلاصه وإرادته، وفي مقاله وأفعاله، والصديقيَّةُ: مرتبة عظيمة وهي أعظم المراتب بعد مرتبة النبوة.

مَن صديق هذه الأمة؟

هو أبو بكر رضي الله عنه، بل هو أفضل الصديقين، وفي صحيح البخاري أن أنس ابن مالك رضي الله عنه حدثهم:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَعِدَ أُحُدًا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَقَالَ: اثْبُتْ أُحُدُ؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ»

(1)

.

وجاء في حديث آخر أنهم كانوا على جبل حراء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه:«أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَلَى حِرَاءٍ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: اهْدَا؛ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ»

(2)

.

‌هل مرتبة الصديقية خاصة بالرجال

؟

الجواب: ليست خاصة بهم، ومريم عليها السلام بلغت هذه المرتبة، قال تعالى:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: (75)].

(1)

صحيح البخاري (5/ 9) رقم (3675).

(2)

أخرجه مسلم (4/ 1880) رقم (2417).

ص: 73

وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الجُمْلَةِ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، حَيْثُ يَقُولُ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: (1) - (4)].

‌الشرح

الصنف الثالث: الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله.

الصنف الرابع: الصالحون.

وهذه المرتبة شاملة لجميع الأنواع الثلاثة السابقة، وشامله أيضًا لمن كان دونهم في الإيمان ولم يبلغ هذه المراتب.

مَنِ الصالحُ؟ اختلف أهل العلم في تعريف الصالح، والأقرب في الصالح أنه الذي قام بحق الله وحق عباده.

قوله: «وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الجُمْلَةِ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ

» شرع المُصَنِّف في ذكر بعض النصوص الواردة في الكتاب والسنة في الإيمان بالله تعالى والإيمان بما جاءت به هذه النصوص، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييفٍ ولا تمثيل.

أطال رحمه الله في ذكر الآيات والأحاديث في باب الأسماء والصفات.

واستفتح بسورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ القرآن؟ قَالُوا: وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ القرآنِ؟ قَالَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن»

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم (1/ 556) رقم (811).

ص: 74

وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ فِي كِتَابِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: (255)].

‌الشرح

قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: «القرآن يحتوي على علوم عظيمة كثيرة، وهي ترجع إلى ثلاثة علوم: أحدها: علوم الأحكام والشرائع الداخل فيها علوم الفقه، كلها عبادات ومعاملات وتوابعهما. الثاني: علوم الجزاء على الأعمال والأسباب التي يُجازَى بها العاملون على ما يستحقون من خير وشر، وبيان تفصيل الثواب والعقاب. الثالث: علوم التوحيد، وما يجب على العباد من معرفته والإيمان به، وهو أشرف العلوم الثلاثة. وسورة الإخلاص كفيلة باشتمالها على أصول هذا العلم وقواعده»

(1)

.

قوله: «وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ فِي كِتَابِهِ

». ثنَّى المُصَنِّف رحمه الله بذكر أعظم آية في القرآن؛ وهي آية الكرسي، والدليل على أنها أعظم آية ما رواه مسلم من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا المُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: يَا أَبَا المُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ، قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: والله لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ

(1)

التنبيهات اللطيفة ص (27 - 29).

ص: 75

أَبَا المنْذِرِ»

(1)

.

والسبب في كون هذه الآية أعظمَ آية في الكتاب: أنها اشتملت على جملة من أسماء الله وصفاته بحيث لا توجدُ آيةٌ في القرآن جمَعت من أسمائه وصفاته ما جمعت هذه الآيةُ الكريمة.

فقد تضمنت هذه الآية الكريمة من أسماء الله خمسةً، وهي: الله، الحي، القيوم، العلي، العظيم. وتضمنت من صفات الله خمسًا وعشرين صفة؛ منها خمس صفات مأخوذة من هذه الأسماء التي سبقت.

السادسة: انفراده بالألوهية {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .

السابعة: انتفاء السِّنَة والنوم في حقه {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} .

الثامنة: عموم مُلكه {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} .

التاسعة: انفراده عز وجل بالملك {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ؛ حيث قدم الخبر، والخبر هنا:{لَهُ} ، والمبتدأ:{مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ، وهذا التقديم له فائدة وهي: إفادة الاختصاص، وهو اختصاصه عز وجل بالملك.

العاشرة: قوة السلطان وكماله {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .

(1)

صحيح مسلم (1/ 556) رقم (810).

ص: 76

الحادية عشرة: إثبات العندية {عِنْدَهُ} .

الثانية عشرة: إثبات الإذن {إِلَّا بِإِذْنِهِ} .

الثالثة عشرة: عموم علمه عز وجل {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} .

الرابعة عشرة والخامسة عشرة: إثبات أنه سبحانه وتعالى لا ينسى ما مضى، لقوله:{وَمَا خَلْفَهُمْ} . ويعلم الحال والمستقبل لقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} .

السادسة عشرة: كمال العظمة.

{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} عجز الخلق عن الإحاطة يدل على كمال عظمته، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} عظمة هذا الكرسي من عظمة الله.

السابعة عشرة: إثبات المشيئة من قوله: {إِلَّا بِمَا شَاءَ} .

الثامنة عشرة: إثبات الكرسي وهو موضع القدمين {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} .

وكون الكرسي موضع القدمين لم يرد في نصٍّ صحيحٍ مرفوعًا، وإنما جاء في بضعة آثار عن بعض الصحابة كابن عباس وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما.

ص: 77

ولفظ ابن عباس: «الكرسيُّ موضع القدمين، والعرش لا يُقْدَرُ قَدْرُهُ»

(1)

.

ولكن هذه الآثار لها حكم المرفوع؛ لأن مثلها لا يقال بالرأي؛ ولا سيما أنها في باب الأسماء والصفات؛ فبذلك يثبت أَنَّ الكرسي موضع القدمين، كما هو قول أهل السنة والجماعة خلافًا للمعطلة.

التاسعة عشرة والعشرون والحادية والعشرون: إثبات القوة والقدرة والعظمة، مأخوذة من قوله:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} .

وإيجاد هذا الكرسي بهذه العظمة -حيث وسع السموات والأرض- دليل على قدرته سبحانه، ودليل على القوة؛ لأن مثل هذا لا يصدر إلا من قوي قادر، ودليل على العظمة: لأن عظمة الكرسي من عظمة خالقه سبحانه وتعالى.

الثانية والعشرون والثالثة والعشرون والرابعة والعشرون: كمال علمه ورحمته وحفظه، نأخذ ذلك من قوله:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي: حفظ السماوات والأرض لا يَكرِثُه ولا يشق عليه ولا يثقله لكمال قدرته وقوته؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: (41)].

ويَلزَم من حفظه السماواتِ والأرضَ إثباتُ صفة العلم وصفة الرح

(1)

أخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد (1/ 248)، وابن أبي شيبة في كتاب العرش ص (438).

ص: 78

وَلِهَذَا كَانَ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ مِنَ الله حَافِظٌ، وَلا يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ حَتَى يُصْبِح.

‌الشرح

الخامسة والعشرون: إثبات علو الله جل وعز، نأخذ ذلك من قوله:{وَهُوَ الْعَلِيُّ} وهذا دليل على أن الله عالٍ فوق خلقه.

والعلو على أقسام: 1 - علو القدر. 2 - علو القهر. 3 - علو الذات.

وقد ثبت في صحيح البخاري معلقًا، ووصله النسائي في عمل اليوم والليلة؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في القصة التالية:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «وَكَّلَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ: وَاللهِ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ لَا أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ الله، وَهَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ، قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ

ص: 79

وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: (3)].

‌الشرح

كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَا آيَةَ الْكُرْسِيِّ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحيُّ الْقَيُّومُ، حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللهُ بِهَا فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَا آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحيُّ الْقَيُّومُ، وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الخيْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: ذَاكَ شَيْطَانٌ»

(1)

.

قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأسماءَ الأربعة بتفسير جامع مختصر؛ وذلك في قوله؛ كما في «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يدعو ويقول: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (3/ 101) رقم (2311) معلقًا.

(2)

صحيح مسلم (4/ 2084) رقم (2713).

ص: 80

الأول: معناه ليس قبله شيء.

الآخر: ليس بعده شيء.

الظاهر: مشتق من الظهور والعلو؛ فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ» ، فهو عال فوق كل شيء.

الباطن: ليس دونه شيء، وهذا دليل على كمال إحاطته بكل شيء.

ونستفيد من هذه الآية: إثبات أربعة أسماء وخمس صفات.

الأسماء سبقت.

أما الصفات فهي:

الأولى: صفة الأولية: من قوله: «الأول» .

الثانية: صفة الآخرية: من قوله: «الآخر» .

الثالثة: صفة العلو: من قوله: «الظاهر» .

الرابعة: صفة الباطنية، لكن على المعنى الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم، ومقتضى ذلك الإحاطة بكل شيء.

الخامسة: صفة العلم، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

وخلاصة ما نستفيده من هذه الآية: إثبات إحاطة الله تعالى بكل شيء زمانًا ومكانًا.

ص: 81

وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان 58].

‌الشرح

قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} التوكل: صدق الاعتماد على الله تعالى في جلب ما ينفع ودفع ما يضر، مع الثقة به سبحانه وعدم تعطيل الأسباب الصحيحة.

ما معنى عدم تعطيل الأسباب الصحيحة؟

يعني: الأخذ بالأسباب الصحيحة الشرعية، أما إن كانت غير شرعية فهذا غير مشروع.

والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله عز وجل، بل هو من صلب التوكل، وقد جاءت بذلك النصوص، قال تعالى:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: (25)]، ومن السنة هجرة النبي من مكة إلى المدينة؛ فهي من فعل الأسباب الشرعية، ومن ذلك استخفاء النبي في غار حراء، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بالله وَلَا تَعْجِزْ»

(1)

.

والاستعانة بالله عز وجل هي الاعتماد عليه، وقوله:«وَلَا تَعْجِزْ» : أمر بالأخذ بالأسباب، وهذا من أقوى الأدلة على الأخذ بالأسباب الشرعية الصحيحة.

والخلاصة: عظم منزلة التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه، وعدم الاعتماد على الخلق أو الاعتماد على قدرات الإنسان، فقدراته -مهما كانت- ضعيفة، ومن اعتمد على الخلق أو على نفسه خذله الله عز وجل.

(1)

أخرجه مسلم (4/ 2052) رقم (2664).

ص: 82

وقفة قرآنية من درس حنين:

روى البيهقي في الدلائل: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: لَنْ نُغْلَبَ مِنْ قِلَّةٍ»

(1)

، فحصلت لهم الهزيمة عندما اعتمدوا على أنفسهم وقوتهم، قال تعالى:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: (25)]، حصل هذا للصحابة رضي الله عنهم، مع جلالة قدرهم وعلو منزلتهم.

فاحذر يا طالب العلم أن تعتمد على حفظك أو ذكائك أو قدرتك، بل استعن بربك وتوكل عليه، والتوكل يجب أن يكون على الله تعالى وحده؛ {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23].

هل التوكل على غير الله حرام مطلقًا، أو فيه تفصيل؟

الجواب: فيه تفصيل على عدة حالات:

الحالة الأولى: أن يتوكل على غير الله توكلَ اعتماد وتعبد، فهذا شرك أكبر.

الحالة الثانية: أن يتوكل على غير الله تعالى بشيء من الاعتماد، لكن مع الإيمان بأنه سبب من الأسباب، كتوكل بعض الناس على الملوك والأمراء لتحصيل المعاش، فهذا نوع من الشرك الأصغر.

(1)

دلائل النبوة للبيهقي (5/ 123).

ص: 83

وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: (2)].

‌الشرح

الحالة الثالثة: أن يتوكل على شخص بقصد أنه نائب عنه فيما تجوزُ فيه النيابةُ، كتوكل الإنسان على الوكيل في البيع والشراء، والبيع والشراء مما يدخله النيابة؛ فهذا جائز، ولا ينافي التوكلَ على الله عز وجل.

مثاله: توكل النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الصحابة في البيع والشراء، كعروة البارقي رضي الله عنه؛ فقد وكله النبي صلى الله عليه وسلم بشراء أضحيته.

ما حكم التلفظ بقول: توكلت على فلان في شراء سيارتي؟

بعض أهل العلم -منهم شيخنا ابن عثيمين رحمه الله يرى أنه جائز؛ لأنه بمعنى التفويض والوكالة، وبعضهم لا يرى ذلك ويقول: إِنَّ هذا اللفظ من الألفاظ الشرعية التي لم تأتِ إلا في حق الله؛ فلا توكل إلَّا عليه، وهذا هو الأحوط، فينبغي التعبير عن ذلك بالعبارات التي تقوم مقام لفظ التوكل؛ كأن يقال: فوضت فلانًا أو أنبته، ولم أجد دليلًا يدل على جواز التعبير بها، لا من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من كلام الصحابة رضي الله عنهم.

قوله تعالى: «{وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}» : الحكيم: مأخوذ من الحكمة، وله معنيان:

الأول: الحاكم العدل الذي له الحكم في الدنيا والآخرة كما في قوله تعالى: {وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: (70)].

ص: 84

{الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: (3)].

‌الشرح

الثاني: المُحكِم للأمور كي لا يتطرق إليها تغيير وفساد، كما في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: (41)]. فقد أحكم سبحانه وتعالى السماوات والأرض عن الزوال وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: (22)].

قال شيخ الإسلام في منهاج السنة: «أجمع المسلمون على أن الله تعالى موصوف بالحكمة»

(1)

.

وحكم الله على نوعين:

النوع الأول: حكمُه الشرعي؛ وهو ما جاءت به الرسل وأُنزلت به الكتب، كقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: (38)]، وقوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: (2)].

النوع الثاني: حكمه الكوني؛ وهو ما قضاه على عباده من الرزق والحياة والموت والمصائب.

الآية الثانية: {الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: (3)].

الخبير: من الخبرة؛ وهي الإحاطة ببواطن الأمور وظواهرها، وهو سبحانه قد أحاط ببواطن الأمور كما أحاط بظواهرها.

(1)

منهاج السنة النبوية (1/ 141).

ص: 85

{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: (2)]{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: (59)].

‌الشرح

الشاهد من الآيتين إثبات ثلاثة أسماء: الحكيم، والخبير، والعليم.

أما الصفات المستفادة من الآيتين فهي:

1 -

العلم.

2 -

الخبرة.

3 -

الحكمة.

قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} إلى آخر الآيات، هذه الآيات التي ذكرها المُصَنِّف رحمه الله تدل على سَعة علمه سبحانه وعلى إحاطته بما لا تبلغه علوم خلقه، فإنه يعلم ما يلج في الأرض: أي ما يدخل في الأرض من حب وبَذْر ومياه، ويعلم ما يخرج منها من زرع وأشجار وعيون جارية وغيرها، ويعلم ما ينزل من السماء من ثلوج وأمطار وطير، ويعلم مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى.

ومفاتيح الغيب: خزائنه.

وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه المفاتيح بقوله؛ كما في حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه

ص: 86

قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ؛ إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»

(1)

.

قال ابن القيم رحمه الله في «النونية» :

وهُو العَلِيمُ أَحَاطَ عِلْمًا بالَّذِي

فِي الكَوْنِ مِنْ سِرٍّ وَمِنْ إِعْلَان

وَبِكُلِّ شَيءٍ عِلْمُهُ سُبْحَانَهُ

فَهُوَ الْمُحِيطُ وَلَيْسَ ذَا نِسْيَان

وَكَذَاكَ يَعْلَمُ مَا يَكُونُ غَدًا وَمَا

قَدْ كَانَ وَالْمَوْجُودَ فِي ذَا الآن

إذن مفاتيح الغيب جاء بيانها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وأفضل أنواع التفسير تفسير القرآن بالقرآن، ثم تفسير القرآن بالحديث، والنبي صلى الله عليه وسلم قد فسر هذه المفاتيح بما يلي:

الأول: علم الساعة:

الثاني: نزول الغيث: والمراد به المطر، فإذا كان سبحانه هو الذي ينزل الغيث فهو أعلم بوقت نزوله.

ونلاحظ أن التعبير في القرآن عن المطر يأتي بلفظ الغيث في الخير، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: (28)].

(1)

صحيح البخاري (6/ 56) رقم (4627).

ص: 87

وقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: (11)]، وقوله:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: (12)].

‌الشرح

ما الحكمة من التعبير بالغيث دون المطر؟

الغيث: هو الذي تحيا به الأرض، أما المطر: فقد ينزل ولا تحيا به الأرض، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله؛ كما في «صحيح مسلم» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَتِ السَّنَةُ بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَلَكِنِ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا»

(1)

، ينزل المطر ولا تنتفع به الأرض.

الثالث: علم ما في الأرحام، لقوله تعالى:{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: (34)].

قد يقول قائل: تقدم الآن الطِّبُّ الحديث، وأصبحوا يعرفون: هل الجنين ذكر أو أنثى، والله يقول:{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} ؛ فما الجواب عن ذلك؟

الجواب من وجهين:

الوجه الأول: أنه قبل أن يتكون الجنين أو تنفخ فيه الروح لا يعلمون ذلك، ولا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، أما بعد النفخ في الروح فيعلمون بذلك عن طريق الأجهزة.

الوجه الثاني: أن علمهم قاصر؛ فلا يعلمون متى يولد الجنين، وهل يعيش أو لا، ولا يعلمون رزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، لا يعلم ذلك إلا الله تعالى.

(1)

صحيح مسلم (4/ 2228) رقم (2904).

ص: 88

وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: (58)].

‌الشرح

الرابع: علم ما في الغد: وهذا مما اختص الله عز وجل به.

قد يقول قائل: إن الإنسان قد يقول: إني أعلم ما سأفعل غدًا، وذلك إذا عزم على الفعل، فكيف نقول: لا يعلم ما في غد إلا الله؟

الجواب: قد يقول هذا وينوي ويعزم، لكن لا يتحقق، والواجب على المسلم ربط ذلك بالمشيئة، فلا يقل: سأعمل غدًا كذا، من دون ذكر مشيئة الله عز وجل، وقد يعاقَب إذا لم يذكر المشيئة.

الخامس: وما تدري نفس بأي أرض تموت:

يدخل في ذلك علم ساعة الموت.

وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: (58)].

وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه كما في «سنن أبي داود» و «الترمذي» قال: «أَقْرَأَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المتِينُ}»

(1)

.

«ذو القوة» : أي صاحب القوة.

«المتين» : من أسماء الله تعالى، من المتانة، وقد فسرها ابن عباس: بالشدة، وفسر المتين بالشديد.

(1)

سنن أبي داود (4/ 35) رقم (3993)، وسنن الترمذي (5/ 192) رقم (2940).

ص: 89

وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: (58)].

‌الشرح

ففي هذه الآية ثلاث صفات واسمان لله تعالى:

الأسماء: 1 - الرزاق. 2 - المتين.

والصفات:

1 -

صفة القوة لله عز وجل.

2 -

صفة الرزق.

3 -

ما تضمنه اسم المتين، وقد فسره ابن عباس بالشدة.

«الرزاق» : صيغة مبالغة من الرزق وهو العطاء.

والرزق قسمان: عام وخاص:

1) الرزق العام: ما ينتفع به البدن؛ سواءٌ كان ذلك حلالًا أو حرامًا، وسواءٌ كان هذا المرزوق مؤمنًا أو كافرًا.

2) الرزق الخاص: وهو ما يمُنُّ الله تعالى به على بعض عباده؛ من العلم النافع والإيمان والعمل الصالح والرزق الحلال الذي يعين على طاعة الله.

قال ابن القيم:

وَكَذلكَ الرَّزَّاقُ مِنْ أَسْمَائِهِ

وَالرِّزْقُ مِنْ أَفْعَالِهِ نَوْعَان

رِزْقُ القُلُوبِ العِلْمُ وَالإِيمانُ، والـ

رِّزْقُ الْمُعَدُّ لِهَذِه الأَبْدَان

ص: 90

وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: (11)]، وَقَوْلُهُ:{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: (58)].

‌الشرح

وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} مَرَّ في شرح «اللامية» و «الحائية» .

وقوله: «{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}» . (نِعِمَّا): مشتملة على: (نِعْمَ) وهي كلمة مدح، والمعنى: نِعْمَ الشيءُ الذي يعظكم الله به.

ومَنْ أعظمُ واصف بهذه الكلمةِ «نِعْمَ» ؟

الجواب: أعظم واصف هو الله تعالى، وأعظم مَن وُصِفَ بذلك الأنبياء، ومنهم أيوب عليه السلام في قوله تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: (44)].

قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} ، سمع الله نوعان:

1 -

سمع الإدراك للأصوات.

2 -

سمع الإجابة، إجابة السائلين والداعين، قال تعالى:{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: (39)].

قال ابن القيم:

وَهُوَالسَّمِيعُ يَرَى وَيَسْمَعُ كُلَّ مَا

في الْكَوْنِ مِنْ سِرٍّ وَمِنْ إِعْلَان

وَلِكُلِّ صَوْتٍ مِنْهُ سَمْعٌ حَاضِرٌ

فَالسِّرُّ وَالإِعْلَانُ مُسْتَوِيان

ص: 91

وَقَوْلُهُ: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: (39)]،

‌الشرح

والشاهد من الآيتين السابقتين: إثبات السمع والبصر لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته.

ثم ذكر المُصَنِّف بعد ذلك أربعَ آيات؛ في صفة المشيئة، والإرادة، والتحليل، والحكم.

فالآية الأولى: قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: (39)]. فيها إثبات عدد من الصفات، لكن أهمها صفة المشيئة من قوله {مَا شَاءَ اللَّهُ} .

الصفات الأخرى المستنبطة: القوة من قوله: {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} ، والألوهية من قوله:{اللَّهُ} .

أما صفة المشيئة -التي أراد المُصَنِّف الإشارة إليها هنا- فهي إرادة الله الكونية النافذة، وتكون فيما يحب وفيما لا يحب.

- فيما يحب: كالإيمان والطاعات وغير ذلك مما أمر الله به.

- فيما لا يحب: كالكفر والفساد، وغير ذلك مما نهى الله عنه.

وإرادة الله ومشيئته الكونية نافذة على جميع العباد، ولا يستثنى من ذلك أحد.

ص: 92

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: (253)].

وَقَوْلُهُ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: (1)].

‌الشرح

الآية الثانية: قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: (253)].

نثبت من هذه الآية ثلاث صفات:

أولًا: المشيئة من قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} .

ثانيًا: الإرادة من قوله: {مَا يُرِيدُ} .

ثالثًا: الفعل من قوله: {يَفْعَلُ} .

الآية الثالثة: قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: (1)].

نثبت من هذه الآية ثلاث صفات:

أولًا: التحليل من قوله: {أُحِلَّتْ} .

ثانيًا: الحكم من قوله {يَحْكُمُ} .

ثالثًا: الإرادة من قوله: {مَا يُرِيدُ} .

ص: 93