الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْفِتْنَةُ إِمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ،
الشرح
قوله: «ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْفِتْنَةُ إِمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ» هنا إشكال: إذا مات الكافر وكان في بطن سبُع أو احترق؛ كيف يقعُ عليه عذابُ القبر؟
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن النعيم والعذاب الذي في القبر يقع على الروح والجسد»
(2)
.
ما
الحكمة من إخفاء عذاب القبر بالنسبة للجن والإنس
؟
هناك عدة حِكَم:
1 -
بقاء سنة التدافُن؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِى أَسْمَعُ مِنْهُ» . رواه مسلمٌ من حديث زيدِ بنِ ثابت رضي الله عنه
(3)
.
(1)
الروح ص (58).
(2)
مجموع الفتاوى (4/ 282، 289).
(3)
صحيح مسلم (4/ 2199) رقم (2867).
إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى، فَتُعَادُ الْأَرْوَاحُ إِلَى الْأَجْسَادِ.
الشرح
2 -
أن ما يجري في البرزخ هو مِن علم الغيب، وحكمةُ الله اقتضت اختبارَ الناس: هل يؤمنون بالغيب الذي أخبر الله به ورسولُه أوْ لا؟
3 -
لو سمع الناس هذه الأصواتَ لفسدت عليهم حياتُهم، وقد ذكر ابن تيمية وابن القيم أن بعض الناس إذا عرفوا أن في الخيل وسائر الحيوانات داءَ البطن
(1)
ذهبوا بها إلى مقابر المشركين، فتُلقي ما في بطنها، والله أعلم؛ إنه لشدة ما تسمع من صياح بعض أهل القبور، فقد أخفيت لمصالحَ كثيرةٍ.
قوله: «إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ» أشار بذلك إلى أنه هناك نوعًا آخرَ من القيامة، وهي القيامة الصغرى، وهي الخاصة بكل إنسان من خروج روحه وانقطاع عمله، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين أن قومًا من الأعراب سألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فنظر إلى أحدث إنسان منهم وقال:«إِنْ يَعِشْ هَذَا، لَا يُدْرِكْهُ الهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ»
(2)
؛ أي التي هي القيامة الخاصة بكل إنسان.
أما القيامة الكبرى: فهي شاملة لكل أحد، وحينها تُعاد الأرواح إلى الأجساد فتعود كل روح إلى جسدها التي كانت فيه في الدنيا، والله يقول:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس:51]
(1)
يسمى (بالإسهال).
(2)
صحيح البخاري (8/ 107) رقم (6511) وصحيح مسلم (4/ 2269) رقم (2952) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
وقوله: «الْكُبْرَى» هذا احتراز عن القيامة الصغرى، وما ذكره المُصَنِّف هنا مختص بالقيامة الكبرى؛ حيث يأذن الله بانقضاء هذه الدنيا حين يأمر إسرافيلَ بنفخ الروح، فيَصعَق من في السموات والأرض إلا من شاء الله.
وتصبح الأرض صعيدًا جرزًا، وتصبح الجبال كثيبًا مهيلًا، ويتغير كل ما في العالم، كما أخبر الله في كتابه في سورتي التكوير والانفطار، والحكمة من ذلك: أن هذا التغيير هو بدء للحياة الجديدة حياةِ الآخرة، والله على كل شيء قدير.
ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ النفخة الثانية، ثم يقوم الناس من القبور وتنبت الأجساد من عَجْب الذنَب (كما مرَّ معنا سابقًا) فإنه يُعاد الخلقُ منه، وحين يقومون من قبورهم يتكلم المنافقون:{يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52]، أما المؤمنون فيقولون:{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52]، ثم يُحشر الناس عُراةً غُرْلًا غير مختونين، حفاةً غير مُنتعِلين، وتدنو الشمس من الخلائق ويُلجِمُهم العرق حسَب أعمالهم، ومن شدة الكرب يستشفع الناس بالأنبياء، فلا يشفع لهم إلا نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتوضع الموازين، وتُنشر الدواوين وهي التي فيها صحائف الأعمال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ
وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا المُسْلِمُونَ. فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ.
الشرح
فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:19 - 29].
قوله: «فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ» ؛ تُعاد الأرواح إلى الأجساد ويُجمع شتاتُ الأبدان، يجمع ما تمزق وتفرق، ويُعاد خلقًا جديدًا:{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:2 - 4].
فالأجزاء المتفرقة والأوصال المتمزقة والعظام النخرة؛ يجمعُها ربُّك ويُنشِئُها نشأةً أخرى، ويعيد الأرواح نفسَها إلى تلك الأبدان التي ينشئها الله إنشاءً جديدًا، فتتشقق عن الناس قبورهم، {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق:44].
وتتشقق الأرض كما تتشقق عن النبات، يدفن البذر في الأرض فتنمو هذه البذور، فتنشق عنها الأرض، فتخضر وتخرج الأشجار والثمار، والله شبَّه إحياء الأموات وإخراجَهم من قبورهم بإحياء الأرض بعد موتها: