الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الجَوَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَرِكَابِ الْإِبِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ الْجِسْرَ عَلَيْهِ كَلَالِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ،
الشرح
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم يُذادُ عنه كما يُذاد البعيرُ الضال
(1)
.
و
هل الحوض موجود الآن، أو لا يوجد إِلَّا يوم القيامة
؟
الجواب: الحوض موجود الآن، والدليل حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنِّي وَالله لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ»
(2)
، ودلالة الحديث على وجود الحوض الآن من وجهين هما:
1 -
من قوله: «لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي» .
2 -
ومن قوله: «الْآنَ» .
قوله: «وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ» فيه إثبات الصراط في الآخرة،
(1)
أخرجه البخاري (3/ 112) رقم (2367)، ومسلم (1/ 218) رقم (249) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (8/ 90) رقم (6426)، ومسلم (4/ 1795) رقم (2296) من حديث أبي هريرة.
فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ؛ دَخَلَ الجنَّةَ. فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لهمْ فِي دُخُولِ الجنَّةِ.
الشرح
وأنه الجسر الممدود على متن جهنم، وهو بين الجنة والنار، وهو حق لا مِرْيَةَ فيه، ومَن استقام على الصراط في الدنيا، استقام عليه في الآخرة، أما مَن خالف صراط الله في الدنيا فإنه لا يستقيم عليه في الآخرة، وقد أفادت النصوصُ أن المرور على الصراط بحسَب الأعمال، فمَن عمِل صالحًا في الدنيا، فإنه ينجو بإذن الله في الآخرة، ويمُرُّ على الصراط بقدر هذا العمل الذي عمِلَه، فمِن هؤلاء من يمر كلمح البصر، ومنهم كالبرق، ومنهم كركاب الخيل، وهكذا؛ فالمقصود أنه بقدر الأعمال التي عملها الإنسان في الدنيا يكون مرورُه على الصراط فيتفاوت المرور بتفاوت الأعمال.
قوله: «فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجنَّةِ وَالنَّارِ» القنطرة: هي جسر صغير بعد الصراط.
قوله: «فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لهمْ فِي دُخُولِ الجنَّةِ» هذه هي الحكمة من الوقوف على القنطرة؛ وهي التهذيب والتنقية، وذلك بعد ما يَقتصُّ الناسُ بعضُهم من بعض، وبعد هذه التنقية يذهب ما في قلوب المؤمنين من غل وحسد وبغضاء.
وهل يوجد في قلوب المؤمنين غِلٌّ؟
الجواب: نعم، والدليل قوله تعالى:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
وَأَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الجنَّةِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنَ الْأُمَمِ أُمَّتُهُ،
الشرح
والفرق بين المؤمن وغيرِه هو:
1 -
أن الغل والحسد لا يملأ قلبَه.
2 -
أنه لا يستقر في قلبه الغل، بل يعالجه ويزكي قلبه بالإيمان والقرآن ومجاهدة النفس.
أما غير المؤمن فيتمكن منه الغل، فيسيطر على قلبه، فيضل والعياذ بالله، لذلك جاء في «الصحيح» قوله صلى الله عليه وسلم:«حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لهمْ بِدُخُولِ الجنَّةِ»
(1)
.
قوله: «وَأَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الجنَّةِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم» ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الجنَّةِ، لَمْ يُصَدَّقْ نَبِيٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْتُ»
(2)
، وفي رواية:«وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الجنَّةِ»
(3)
، وفي لفظ عند «مسلم»:«آتِي بَابَ الجنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَسْتَفْتِحُ، فَيَقُولُ الخازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ. فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ»
(4)
.
قوله: «وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجنَّةَ مِنَ الْأُمَمِ أُمَّتُهُ» كما في قوله صلى الله عليه وسلم من حديث
(1)
صحيح البخاري (3/ 128) رقم (2440) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (1/ 188) رقم (196) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (1/ 188) رقم (196)(331).
(4)
صحيح مسلم (1/ 188) رقم (196)(333).
وَلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْقِيَامَةِ ثَلَاثُ شَفَاعَاتٍ: أَمَّا الشَّفَاعَةُ الْأُولَى: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الموْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الْأَنْبِيَاءُ -آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ- عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الجنَّةِ أَنْ يَدْخُلُوا الجَنَّةَ، وَهَاتَانِ الشفاعتان خَاصَّتَانِ لَهُ، وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا.
الشرح
أبي هريرة رضي الله عنه في «الصحيحين» : «نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(1)
الآخِرون: أي: في الدنيا، الأولون: في دخول الجنة.
قوله: «وَلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْقِيَامَةِ ثَلَاثُ شَفَاعَاتٍ» أشار المُصَنِّف إلى الشفاعات يوم القيامة، وأوصلها إلى ثلاث شفاعات، وأوصلها بعضُهم إلى ثماني شفاعات، وقد سبق ذكرُها في شرح حائية ابن أبي داود.
كيف نجمع بين هذه الشفاعات؟
الجواب: هنا شيخ الإسلام رحمه الله ذكر الشفاعات إجمالًا، وأما مَن زاد على هذا العدد فقد أراد التفصيل، وقد انقسم الناس في الشفاعة إلى ثلاثة أقسام طرفين ووسط:
1 -
قسم نَفَوُا الشفاعة ولم يثبتوها؛ وهم الخوارج والمعتزلة.
(1)
صحيح البخاري (2/ 2) رقم (876)، وصحيح مسلم (2/ 585) رقم (855).
وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغَيْرِ شَفَاعَةٍ، بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى فِي الجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا، فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ،
الشرح
2 -
قسم أثبت الشفاعة لكل أحد حتى للأصنام، وأثبتوها أيضًا لمعبودِيهم من دون الله التي قالوا عنها:{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18].
3 -
القسم الوسط؛ القائل بما دلت عليه النصوص، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، إثبات الشفاعة حسَب ما أفادته النصوص؛ ولكن بشرطين هما:
أ- إذن الله عز وجل للشافع بالشفاعة.
ب- رضى الله عز وجل عن المشفوع له.
ودليلهما: قولُ الله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26].
قوله: «وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغَيْرِ شَفَاعَةٍ» ثبت في النصوص أن الله سبحانه تكفل للجنة والنار بملئهما، فأما النار فكما قال سبحانه:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، وأما الجنة فدلت النصوص أن الله يُنشئ لها خلقًا بعد أن يبقى فيها فضلٌ، كما عند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«وَأَمَّا الجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا»
(1)
.
(1)
صحيح البخاري رقم (4569)، وصحيح مسلم رقم (2846) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الْآخِرَةُ؛ مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالجنَّةِ وَالنَّارِ، وَتَفَاصِيلِ ذَلِكَ؛ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ المُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ ، وَالْآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ المَاثُورِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَفِي الْعِلْمِ المَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ.
وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.
الشرح
قوله: «وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الْآخِرَةِ» هذا كلام جامع نافع، فالمُصَنِّف في هذا الكلام كأنه يقول: ما ذكرتُه في هذه الرسالة أمثلةٌ لما سيجري في الدار الآخرة، وما لم أذكُرْه -وهو الأكثر- فالمرجعُ فيه الكتاب والسنة؛ لأن فيهما ما يكفي ويشفي، ولا حاجة إلى الرجوع في ذلك إلى التوراة أو الإنجيل أو أخبار بني إسرائيل، ولا يجوز الاحتكام في ذلك إلى العقل، بل المرجع في هذا الباب كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: «وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» هنا ابتدأ المُصَنِّف موضوعًا جديدًا، ويمكنُ أن نضع له العنوانَ التالي:«اعتقاد الفرقة الناجية في باب القدر» ، وموضوع القدر من الموضوعات الدقيقة التي حارت فيه العقول وضل فيه من ضل، منذ عهد التابعين إلى زمننا هذا.
والمنهج الصحيح في هذا الباب هو: الالتزام بما جاء في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا إيغال في مسائله الدقيقة التي لم ترد في الكتاب والسنة، وهو من أركان الإيمان الستة، ولا يتم إيمانُ المرء حتى يؤمن بالقدر خيره وشره.
وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ، كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ:
الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِيمٌ بِالخَلْقِ، وَهُمْ عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهمْ؛ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالمعَاصِي وَالْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ، ثُمَّ كَتَبَ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الخَلْقِ؛ فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ; قَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، جَفَّتِ الْأَقْلَامُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70].
وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].
الشرح
قوله: «وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ، كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ» وعلى هذا تكون المراتبُ أربعًا هي:
1 -
الإيمان بعلم الله الأزلي، وأن الله سبحانه قد علِم كل شيء، وعلِم أفعال العباد قبل أن يعملوها، وعلم بالأشياء قبل وقوعها، وقد دلت على ذلك نصوصُ الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة؛ ولهذا اتفق العلماء على أن من أنكر علم الله الأزلي فهو كافر.
2 -
كتابة ذلك العلم في اللوح المحفوظ، وسمي باللوح المحفوظ؛ لأنه محفوظ عن المشاهدة والاطلاع عليه من قِبَل الخلق، ومحفوظ أيضًا عن
وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا؛ فَقَدْ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ مَا شَاءَ، وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذَا التَّقْدِيرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلَاةُ الْقَدَرِيَّةِ قَدِيمًا، وَمُنْكِرُوهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ.
وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ الله كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَا لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلَا سُكُونٍ؛ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، لَا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، مَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إلَّا اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُهُ
الشرح
التغيير والتبديل والزيادة والنقص.
3 -
مشيئته الشاملة لكل ما يحدث، فلا يخرج عنها شيء، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، يعني: كل موجود وجد بمشيئته، وكل معدوم فُقِد بمشيئته جل وعلا، هذا عموم لا يخرج عنه شيء.
4 -
إيجاده لكل المخلوقات، وأنه الخالق سبحانه وما سواه مخلوق.
وهناك تقسيم للقدر من حيث الزمن، وأنه على أربعة تقديرات هي:
الأول: التقدير العام: وهو تقدير الله لجميع الأشياء، كما في قوله تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحج:70].
وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالْمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَلا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ، وَلَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَلَا يَامُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَلَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، وَاللهُ خَالِقُ أَفْعَالِهم، وَالْعَبْدُ هُوَ المُؤْمِنُ، وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ، وَالْفَاجِرُ، وَالمُصَلِّي، وَالصَّائِمُ، وَلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلهمْ إِرَادَةٌ، وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ؛ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير 28 - 29].
وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْقَدَرِ يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
الشرح
الثاني: التقدير العمري: وهو تقدير الله تعالى لكل ما يجري على العبد، من أول حياته إلى آخرها، وكتابة شقاوته أو سعادته.
الثالث: التقدير السنوي: وهو ما يقدره الله سبحانه في ليلة القدر، كما في قوله تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4].
الرابع: التقدير اليومي، كما في قوله تعالى:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29].
قوله: «وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْقَدَرِ يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ
…
» إلخ.
ضلت في هذه الدرجة من القدر - المتضمِّنة للمشيئة والخلق - طائفتان متقابلتان:
مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَيَغْلُو فِيهَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ، حَتَّى سَلَبُوا الْعَبْدَ قَدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وَيُخْرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ الله وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا.
الشرح
الطائفة الأولى: القدرية من المعتزلة وغيرهم: وهؤلاء ضلوا بالتفريط، إذ أنكروا مشيئةَ الله وخلقَه للأقدار، فجعلوا العبد هو الذي يُحدِث، ويَخلُق أفعاله بغير مشيئة الله وخلقه لها.
والعصاة -على قولهم- خرجوا عن مشيئة وقدرته وحكمه وسلطانه وخلقه؛ فليسوا خاضعين: لا لأمره الشرعي، ولا لأمره القدري الكوني
(1)
.
الطائفة الثانية: الجبرية من الجهمية ونحوهم: فهؤلاء ضلوا بالغلو في إثبات القدر، فأثبتوا المشيئة والخلق لله تعالى، ولكن سلبوها عن العبد بالكلية؛ حتى أنكروا أن يكون للعبد فعلٌ حقيقةً، بل هو في زعمهم لا حرية له، ولا اختيار، ولا فعل؛ كالريشة في مهب الرياح، وإنما تُسند الأفعال إليه مجازاً، فيقال: صلى، وصام، وقتل، وسرق؛ فاتهموا ربَّهم بالظلم وتكليفِ العباد ما لا قدرة لهم عليه، ومجازاتهم على ما ليس من فعلهم، واتهموه بالعبث في تكليف العباد، وأبطلوا الحكمةَ من الأمر والنهي، ألا ساء ما يحكمون.
وهدى الله أهلَ السنة للمنهج الحق الوسطي، فأثبتوا لله تعالى مشيئةً وخلقاً، وأثبتوا للعبد مشيئة وإرادة واختيارًا، ولكنها تحت مشيئة الله تعالى
(2)
.
(1)
ينظر: الحسنة والسيئة ص (131)، والرد على الشاذلي في حزبيه ص (89)، وجامع الرسائل (1/ 25)؛ كلها لابن تيمية.
(2)
شرح العقيدة الواسطية للهراس ص (229،230) بتصرف يسير.