المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌هل القتل عمدا كفر يستوجب الخلود في النار - التحفة الندية شرح العقيدة الواسطية - عبد الرحمن العقل

[عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌ترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيميَّة

- ‌نبذة تعريفية بالعقيدة الواسطية

- ‌ الفرق بين الحَمْد والمَدْح

- ‌ حكم مَن شهِد أن لا إله إلا الله، ولم يشهد بأن محمدًا رسول الله

- ‌ المراد بصلاة الملائكة على الرسول أو على أحد من المؤمنين

- ‌من آمن بوجود الله وبربوبيته ولم يؤمن بألوهيته، هل يعد مؤمنًا

- ‌ الإيمان بالملائكة:

- ‌هل للملائكة أجساد، أم هي أرواح فقط

- ‌ الإيمان بالكتب:

- ‌ما الفرق بين النبي والرسول

- ‌ البعث بعد الموت:

- ‌الإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ

- ‌متى كتب الله المقادير

- ‌ هل يُتصور خلوُّ الأرض من الكفر والنفاق

- ‌ما المراد بالإلحاد في الأسماء

- ‌ما حقيقة الإلحاد في آيات الله وكيف يكون

- ‌هل يجوز تخيل صفات الله

- ‌هل مرتبة الصديقية خاصة بالرجال

- ‌ كيف يريد الله ما لا يحب

- ‌ الكتابة على قسمين: كتابة شرعية، وكتابة كونية

- ‌هل القتلُ عمدًا كفرٌ يستوجبُ الخلودَ في النار

- ‌ إثبات العينين لله تعالى

- ‌الصفات على نوعين:

- ‌المحبة على أقسام

- ‌ استوى الله سبحانه على العرش استواءً يليقُ به

- ‌إثبات علو الله على خلقه

- ‌ إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة

- ‌ إثباتُ صفة الفرح لله جل وعز، والكلام في هذه الصفة

- ‌ إثبات صفة العلو لله تعالى

- ‌ حكم رفع الصوت بالدعاء في قنوت التراويح

- ‌ وسطية أهل السنة في باب الصفات بين أهل التعطيل وأهل التمثيل

- ‌ أنهم وسط في أفعال الله تعالى بين الجبرية والقدرية

- ‌ أنهم وسط في باب الوعيد بين المرجئة والوعيدية

- ‌ أنهم وسط في باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية -أي (الخوارج) - والمعتزلةِ، وبين المرجئة والجهميةِ

- ‌ فتنة القبر وعذاب القبر

- ‌ الحكمة من إخفاء عذاب القبر بالنسبة للجن والإنس

- ‌نْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ

- ‌الحساب يوم القيامة على نوعين:

- ‌هل الحوض موجود الآن، أو لا يوجد إِلَّا يوم القيامة

- ‌الفرق بين أقوال القلوب وأعمالها

- ‌ التكفير المطلق، وتكفير المعين

- ‌ الحكم الشرعي على الفاسق

- ‌ هل يُشهد لأحد بالجنة ممن لم يَشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك

- ‌يدخل في أهل بيته أزواجُه الطاهرات المطهرات رضي الله عنهن

- ‌ الفرق بين المعجزة والكرامة والأحوال الشيطانية:

- ‌لفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

- ‌ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌ إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الولاة المسلمين

- ‌ الرضى بمر القضاء

- ‌ فضل صلة الأرحام

الفصل: ‌هل القتل عمدا كفر يستوجب الخلود في النار

وهناك إشكالان في هذه الآية الكريمة:

الإشكال الأول: جاء في هذه الآية ذكر الخلود في النار في حق القاتل عمدًا، ف‌

‌هل القتلُ عمدًا كفرٌ يستوجبُ الخلودَ في النار

؟ ونحن نعرف أن مذهب أهل السنة في عُصاة الموحدين وأهلِ الكبائر أنهم لا يُخلَّدون في النار؟

أُجيبَ على هذا بعدة أجوبة: أوصلَها أهلُ العلم إلى خمسة أجوبة، أرجحُها وأصحُّها أن المراد بالخلود المكثُ الطويل وليس الدائم، وجرت العادة أن يعبر العرب بمثل هذه العبارات؛ مثل قول بعضهم:«محمد خالدٌ في السجن» أي: يمكث مكثًا طويلًا، ولهذا لم يذكر الله سبحانه وتعالى هنا «التأبيد» كما ذكره في حق الكفار كما في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الأحزاب:64 - 65]؛ فذكر في حق الكافرين الخلود مع التأبيد، أما الخلود بلا تأبيد فهو في حق عصاة الموحدين.

الإشكال الثاني: أنه ثبت عن ابن عباس -كما في مسند الإمام أحمد- أن القاتل لا تُقبل له توبة

(1)

، مع أنه جاء التصريح بقَبول توبته في قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا

(1)

المسند (1/ 240) رقم (2142) عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس، والحديث أصله في صحيح البخاري (6/ 47) رقم (4590)، وصحيح مسلم (4/ 2317) رقم (3023) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 102

مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:68 - 70].

فاستثنى اللهُ التائبَ من هذه الذنوب الثلاث، وإذا كانت التوبةُ تُقبل من المشرك، فمِن بابِ أولى أن تقبل توبة القاتل، فكيف نجيب عمَّا جاء عن ابن عباس؟

هناك عدة أجوبة:

الجواب الأول: أن مرادَ ابنِ عباس رضي الله عنهما أنه لا يوفَّق للتوبة.

الجواب الثاني: أن المراد أنه لا توبة له في ما يتعلَّق بحق المقتول؛ لأن القاتل عليه ثلاثة حقوق: حق لله تعالى، وحق للمقتول، وحق للورثة، وهذا الأمر متعلق بحق المقتول، أي أنه حتى لو تاب يُقتل إذا لم يعفُ الولي، وتوبته غير نافعة في ذلك.

الجواب الثالث: أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يُرد بما ذكر أن القاتل لا توبة له مطلقًا، وإنما هي قضيةُ عين، أي أنها فتوى خاصة لشخص معين علِم رضي الله عنه أنه عازم على القتل، فسأله: هل للقاتل توبة؟ فأفتاه ابن عباس بأنه لا توبة له، وأراد أن يحجُزه ويمنعه من القتل بهذا الحكم، ولذلك ارتدع عن القتل، ولو قال له:«لك توبة» لقتله وتجرَّأ على دمه، ثم طلب التوبة بعد ذلك، فهذا الحكمُ من ابن عباس من باب السياسة الشرعية، وهو دليلٌ على دقة نظر ابن عباس وعمقه وفقهه.

ص: 103

وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28]، وَقَوْلُهُ:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55]، وَقَوْلُهُ:{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46].

‌الشرح

الآية الثانية: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28]، فنثبت من هذه الآية صفتين: صفة السخط، وصفة الرضى.

قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا} : أي أغضبونا؛ فدلت على إثبات صفة الغضب، وكذلك صفة الانتقام؛ لقوله:{انْتَقَمْنَا} .

قوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ} فيه إثبات صفة الكره لله سبحانه وتعالى، ولكنه على ما يليق بجلاله وعظمته، وقال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ»

(1)

.

وهل هي كراهة للعمل أو للعامل؟

كراهة لهما كليهما، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الله إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ» ، وفيه:«وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا، فَأَبْغِضْهُ»

(2)

.

وَقَوْلُهُ: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:3]، وَقَوْلُهُ:

(1)

أخرجه البخاري (2/ 124) رقم (1477)، ومسلم (3/ 1341) رقم (593).

(2)

أخرجه مسلم (4/ 2030) رقم (2637) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 104

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158]، {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:21 - 22]، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان:25].

‌الشرح

هذا البغض للعامل، أما البغض للعمل فكما في قول الله تعالى:{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} .

قوله: {كَبُرَ مَقْتًا} المقت هو أشد البغض، ونأخذ من هذه الآية إثبات صفة المقت لله على ما يليق بجلاله.

قوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} إلى آخر الآيات، ذكر المُصَنِّف هنا أربع آيات.

ويؤخذ من هذه الآيات إثبات صفة المجيء والإتيان لله تعالى يوم القيامة، وهو مجيء حقيقي على ما يليق بجلاله، وذلك لفَصْل القضاء بين العباد في أشد موقف يمر على البشرية جميعًا، ولهذا يجيب الأنبياء حين تُطلَب منهم الشفاعة بقولهم:«إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ» كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في «الصحيحين»

(1)

.

وهذه الصفة (المجيء) صفة فعلية.

(1)

صحيح البخاري (4/ 134) رقم (3340)، وصحيح مسلم (1/ 184) رقم (194).

ص: 105

قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:27].

‌الشرح

بماذا أجاب النُّفاة عن هذه الآيات التي دلت على صفة المجيء؟

منهم مَن قال: المراد بالمجيء الرحمة، ومنهم من قال: جاء أمر ربك، ومنهم من قال: مجيء الملائكة، وهذه الأجوبة تحريف لظاهر القرآن.

قال ابن القيم: «والإتيان والمجيء المضافُ إليه سبحانه نوعان: مطلق، ومقيد، فإذا كان المراد مجيء رحمته أو عذابه ونحو ذلك قُيد بذلك كما في حديث: «حَتَّى جَاءَ اللهُ بِالرَّحْمَةِ وَالخيْرِ» .

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:52] هنا فيه ذكر للمجيء لكن مقيد بالكتاب، النوع الثاني: الإتيان والمجيء المطلق، فهذا لا يكون إلا مجيئَه سبحانه كقوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210]، وقوله:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]»

(1)

.

وهذه الصفة يُقال عنها مثلُ ما يقال في بقية الصفات؛ على ما يليق بجلال الله وعظمته.

قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:27].

ما الصفات المُثبَتة من هذه الآية؟

(1)

مختصر الصواعق المرسلة ص (448).

ص: 106

{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].

‌الشرح

1 -

صفة البقاء والدوام لله عز وجل.

2 -

صفة الوجه لله عز وجل.

3 -

صفة الجلال.

4 -

صفة الإكرام؛ وهو سعة الفضل والجود.

وقوله: {وَالْإِكْرَامِ} يحتمل معنيين:

الأول: أنها بمعنى أنه يكرم أنبياءه ورسلَه وعبادَه المؤمنين، ويكرم أيضًا مَن يشاء من خلقه بما يشاء.

الثاني: أنه المستحق للتكريم والإجلال والتعظيم بتوحيده وعبادته.

ولا مانع من القول بشمول الآية للمعنيين.

قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، ذكر المُصَنِّف رحمه الله هذه الآية وما قبلها لأجل إثبات صفة الوجه لله جل وعلا، وهو وجه حقيقي يليق بجلاله، خلافًا للمعطِّلة الذين يفسرون الوجه بالجهة، وبعضهم يفسره بالذات، وكل هذا من التأويل الفاسد.

ولا شك أَنَّ صفة الوجه ثابتةٌ لله تعالى بإجماع أهل السنة، وهذه الآيات التي ذكرها المصنف فيها إثباتٌ لصفة الوجه، خلافًا للمعطلة. ولكن هنا سؤالٌ يطرأ على قوله تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وهو: هل المراد بالآية هنا أن يَهلِك كلُّ شيءٍ، فلا يبقى إلا وجه الله فقط؟ ولا شك

ص: 107

أَنَّ هذا غيرُ مراد، بل هو معنًى باطل، ومن هنا ضلت طائفتان في فهم هذه الآية:

الطائفة الأولى: قالت: نحن نثبت الوجه لله تعالى، ونفهم من هذه الآية أَنَّ الله تعالى يفنى ويبقى وجهُه فقط. ولا شك أَنَّ هذا القول باطل وضلالٌ مبين، وجنايةٌ في حق الله تعالى. وهذا مذهب بعض المشبِّهة كغلاة الرافضة القدامى، ونحوهم.

الطائفة الثانية: قالت: المراد بالوجه هنا الذات، ولم يثبتوا لله تعالى وجهًا يليق بجلاله، لا من هذه الآيات ولا غيرها من النصوص. ولا شك أَنَّ هذا مذهبٌ باطلٌ أيضًا، وهو تحريفٌ لصفات الله تعالى. وهذا مذهبُ جميع المعطِّلة؛ من الجهمية والمعتزِلة والأشاعرة والماتُريدية ونحوِهم.

والتحقيق الذي نصره المحققون من أهل السنة: أَنَّ المراد بهذه الآية وشبيهاتها الذاتُ الإلهية المتصفة بصفة الوجه. والفرق بين هذا القول وقول المعطلة: أَنَّ المعطلة صرفوا معنى الوجه إلى الذات، ولم يثبتوا لله وجهًا، وأما أهل السنة، فقالوا: المرادُ بالوجه هنا الذات المتصفة بصفة الوجه. ولأنه سبحانه له وجهٌ؛ فلذلك عبر به عن الذات. وبهذا يتضح الرد على دعاة التأويل الباطل الذين يزعمون أَنَّ أهل السنة قد أوَّلوا بعض النصوص

(1)

.

(1)

راجع في ذلك: شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/ 290)، طبعة دار ابن الجوزي.

ص: 108

والذي عليه أهلُ السنة أن الوجه صفة من صفات الله مغايِرة للذات كبقية الصفات مثل (إثبات اليدين لله)؛ هل يقال: المراد باليدين الذات؟ الجواب: لا، إنما هي صفة أخرى لله نثبتها لله على ما يليق به، ومؤدَّى هذا القول -وهو أن المراد بالوجه الذات- تعطيلُ صفات الله مطلقًا.

والحق: إثبات صفة الوجه لله تعالى على ما يليق بجلاله، وأن هذه الصفة مغايرة للذات، وليس كما قاله المعطلة، والوجه معناه معلوم، نؤمن به ونصفه بالجلال والإكرام والبهاء والعظمة والنور، كما في «صحيح مسلم» من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«حِجَابُهُ النُّورُ؛ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»

(1)

.

وبصره سبحانه ينتهي إلى كل شيء، ولو كشف سبحانه حجابَ النور عن وجهه لاحترق كل شيء.

وسبحات وجهه: بهاؤه وعظمته وجلاله ونوره.

أما كيفية الوجه فهي مجهولة لنا، لا نعلم كيفية وجه الله سبحانه.

وهنا مسألة: ما المراد بالوجه في النصوص؟

لا يخفى أنه يأتي في القرآن ذكر الوجه لله تعالى، فهل المراد به دائمًا الوجه الحقيقي في كل آية جاء فيها ذكر الوجه، أو هناك تفصيل؟

(1)

صحيح مسلم (1/ 161) رقم (179).

ص: 109

الجواب: أن الأصل في الآيات التي يأتي فيها ذكر الوجه أن المراد من ذلك وجه الله تعالى كما في قوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]، وكما في {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل:20]. فالأصل أن المراد بالوجه المضافِ إلى الله هو وجه الله الذي هو صفة من صفاته.

ولكن اختلف المفسرون في آية البقرة؛ وهي قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] هل المراد بذلك وجه الله أو المراد الجهة؟ فقال جماعة من المفسرين: إن الوجه هنا الجهة؛ لقوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148]، فالمراد بالوجه الجهة، فيكون المراد على قولهم: أينما تولوا فثم جهة الله، والذي رجَّحه جماعة من أهل التحقيق ومنهم شيخنا ابن عثيمين: أن المراد بالوجه هنا الوجه الحقيقي لله سبحانه، فيكون المعنى: إلى أي جهة تتوجهون فثم وجه الله، والله محيط بكل شيء، ومما يدل على ذلك ما جاء في البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَبْصُقُ قِبَلَ وَجْهِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى»

(1)

.

وهنا إشكال: وهو أننا عرفنا مذهب الحلولية الذين يقولون: إن الله حالٌّ في كل مكان، فهل لقائل أن يقول: إن هذا القول موافق لمذهب الحلولية؟

والجواب: ليس كذلك، وسبق الكلام على مسألة العلو، وأن الله لا يقاس

(1)

صحيح البخاري (1/ 90) رقم (406)، وصحيح مسلم (1/ 388) رقم (547).

ص: 110

وَقَوْلُهُ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]،

‌الشرح

بالخلق، فلا يدل ذلك على مذهب الحلولية، ومذهبُ أهل السنة عدم تحديد الجهة أو التجسيم أو القياس بالخلق، فالله أجل وأعظم، والقاعدة العظيمة في هذا الباب:«أنه لا مجال للعقل فيه، بل هو مقيد بالنصوص الشرعية» .

قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وقوله:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} ؛ هاتان الآيتان تضمَّنتا إثباتَ اليدين لله تعالى، وهما يدان حقيقيتان على ما يليق بجلاله وعظمته سبحانه.

ماذا قالت المعطلة عن هذه الصفة؟

قالوا: المراد النعمة أو القدرة.

وسياق الآية رد على مذهبهم؛ لأنه لا يمكن حملُها على النعمة أو القدرة.

لأن تأويل اليد بالقدرة فيه إبطال لما اختص الله تبارك وتعالى به بعض مخلوقاته تفضيلًا لهم على غيرهم، كما خص آدم بأن خلقه بيده، والقول بأن المقصود باليد القدرة فيه مساواة بين آدم عليه السلام وإبليس؛ لأن الله تعالى خلق إبليس أيضًا بقدرته، فلا معنى حينئذ لتخصيص آدم بأن الله خلقه بيده.

ولا يمكن حمل هذا على النعمة، والله تعالى لا تعد نعمه.

وكذلك لفظ اليدين بالتثنية لم يأت إلا في اليد الحقيقية، ولم يأت بمعنى

ص: 111

وَقَوْلُهُ: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]، {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:13 - 14]، {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39].

‌الشرح

القدرة أو النعمة، فإنه لا يسوغ أن يقال: خلقه الله بقدرتين أو بنعمتين؛ لأن قدرة الله مطلقة وليست قدرتين، وكذلك نِعَمه كثيرة وليست نعمتين؛ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل:18].

قوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وقوله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} ، وقوله:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ؛ هذه ثلاث آيات في صفة العين لله تعالى، ومذهب أهل السنة إثبات العينين على ما يليق بجلاله وعظمته.

جاء في بعض الآيات ذكر العين بالجمع {بِأَعْيُنِنَا} وجاء بالإفراد {عَلَى عَيْنِي} فكيف نجمع بين هذه الآيات؟

الجواب: قوله {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} جاءت بالإفراد لأن المفرد إذا أضيف يعم، وأما قوله {بِأَعْيُنِنَا} فجاءت بالجمع؛ لأن أقل الجمع اثنين، وهذا على رأي جماعة من أهل اللغة، وأما إذا قيل: إن أقل الجمع ثلاثة، فلا يستقيم هذا الجواب، ويكون الجواب الصحيح أن الجمع هنا للتعظيم.

الخلاصة: أن النصوص دلت على إثبات عينين لله على ما يليق بجلاله، وهي

ص: 112