الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَخَفِ الْإِلَهَ غَدًا إِذَا وُفِّيتَ مَا
كَسَبَتْ يَدَاكَ الْيَوْمَ بِالْقِسْطَاسِ
…
فِي مَوْقِفٍ مَا فِيهِ إِلَّا شَاخِصٌ
أَوْ مُهْطِعٌ أَوْ مُقْنِعٌ لِلرَّاسِّ
…
أَعْضَاؤُهُمْ فِيهِ الشُّهُودُ، وَسِجْنُهُمْ
نَارٌ، وَحَارِسُهُمْ شَدِيدُ الْبَاسِ
…
إِنْ تَمْطُلِ الْيَوْمَ الدُّيُونَ مَعَ الْغِنَى
فَغَدًا تُؤَدِّيهَا مَعَ الْإِفْلَاسِ
…
لَا تَعْتَذِرْ عَنْ صَرْفِهِمْ بِتَعَذُّرِ الْ
مُتَصَرِّفِينَ الْحُذَّقِ الْأَكْيَاسِ
…
مَا كُنْتَ تَفْعَلُ بَعْدَهُمْ لَوْ أُهْلِكُوا
فَافْعَلْ، وَعُدَّ الْقَوْمَ فِي الْأَرْمَاسِ
وَكَتَبَ إِلَيْهِ وَقَدْ صَرَفَ ابْنَ فَضْلَانَ الْيَهُودِيَّ بِابْنِ مَالِكٍ النَّصْرَانِيِّ:
[فَصْلٌ الْآمِرُ بِاللَّهِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ]
أَبَعْدَ ابْنِ فَضْلَانٍ تُوَلِّي ابْنَ مَالِكٍ
…
بِمَاذَا غَدًا تَحْتَجُّ عِنْدَ سُؤَالِكَا؟
خَفِ اللَّهَ وَانْظُرْ فِي صَحِيفَتِكَ الَّتِي
…
حَوَتْ كُلَّ مَا قَدَّمْتَهُ مِنْ فِعَالِكَا!
وَقَدْ خَطَّ فِيهَا الْكَاتِبُونَ فَأَكْثَرُوا
…
وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: فَذَلِكَا
فَوَاللَّهِ مَا تَدْرِي إِذَا مَا لَقِيتَهَا
…
أَتُوضَعُ فِي يُمْنَاكَ أَمْ فِي شِمَالِكَا
95 -
فَصْلٌ
[الْآمِرُ بِاللَّهِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ]
وَكَذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْآمِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ امْتَدَّتْ أَيْدِي النَّصَارَى، وَبَسَطُوا أَيْدِيَهُمْ بِالْجِنَايَةِ، وَتَفَنَّنُوا فِي أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَإِيصَالِ الْمَضَرَّةِ إِلَيْهِمْ، وَاسْتُعْمِلَ مِنْهُمْ كَاتِبٌ يُعْرَفُ " بِالرَّاهِبِ " وَلُقِّبَ بِالْأَبِ الْقِدِّيسِ الرُّوحَانِيِّ النَّفِيسِ أَبِي الْآبَاءِ وَسَيِّدِ الرُّؤَسَاءِ مُقَدِّمِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ وَسَيِّدِ الْبَتْرَكِيَّةِ، صَفِيِّ الرَّبِّ وَمُخْتَارِهِ ثَالِثَ عَشَرَ الْحَوَارِيِّينَ، فَصَادَرَ اللَّعِينُ عَامَّةَ مَنْ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنْ كَاتِبٍ وَحَاكِمٍ وَجُنْدِيٍّ وَعَامِلٍ وَتَاجِرٍ، وَامْتَدَّتْ يَدُهُ إِلَى النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ، فَخَوَّفَهُ بَعْضُ مَشَايِخِ الْكُتَّابِ مِنْ خَالِقِهِ وَبَاعِثِهِ وَمُحَاسِبِهِ، وَحَذَّرَهُ مِنْ سُوءِ عَوَاقِبِ أَفْعَالِهِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِتَرْكِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِهَلَاكِهِ.
وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ كُتَّابِ مِصْرَ وَقِبْطِهَا فِي مَجْلِسِهِ، فَقَالَ مُخَاطِبًا لَهُ وَمُسْمِعًا لِلْجَمَاعَةِ: نَحْنُ مُلَّاكُ هَذِهِ الدِّيَارِ حَرْبًا وَخَرَاجًا، مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَّا وَتَغَلَّبُوا عَلَيْهَا وَغَصَبُوهَا وَاسْتَمْلَكُوهَا مِنْ أَيْدِينَا، فَنَحْنُ مَهْمَا فَعَلْنَا بِالْمُسْلِمِينَ فَهُوَ قُبَالَةُ مَا فَعَلُوا بِنَا، وَلَا يَكُونُ لَهُ نِسْبَةٌ إِلَى مَنْ قُتِلَ مِنْ رُؤَسَائِنَا
وَمُلُوكِنَا فِي أَيَّامِ الْفُتُوحِ، فَجَمِيعُ مَا نَأْخُذُهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِ مُلُوكِهِمْ وَخُلَفَائِهِمْ حِلٌّ لَنَا، وَبَعْضُ مَا نَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا حَمَلْنَا لَهُمْ مَالًا كَانَتِ الْمِنَّةُ عَلَيْهِمْ وَأَنْشَدَ:
بِنْتُ كَرْمٍ غَصَبُوهَا أُمَّهَا
…
وَأَهَانُوهَا فَدِيسَتْ بِالْقَدَمْ
ثُمَّ عَادُوا حَكَّمُوهَا فِيهِمُ
…
وَلَنَاهِيكَ بِخَصْمٍ يَحْتَكِمْ
فَاسْتَحْسَنَ الْحَاضِرُونَ مِنَ النَّصَارَى وَالْمُنَافِقِينَ مَا سَمِعُوهُ مِنْهُ، وَاسْتَعَادُوهُ وَعَضُّوا عَلَيْهِ بِالنَّوَاجِذِ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ الَّذِي اخْتَاطَّ عَلَيْهِ قَلَمُ اللَّعِينِ مِنْ أَمْلَاكِ الْمُسْلِمِينَ مِائَتَا أَلْفٍ وَاثْنَانِ وَسَبْعُونَ أَلْفًا مَا بَيْنَ دَارٍ وَحَانُوتٍ وَأَرْضٍ بِأَعْمَالِ الدَّوْلَةِ إِلَى أَنْ أَعَادَهَا إِلَى أَصْحَابِهَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْأَفْضَلِ، وَمِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ.
ثُمَّ انْتَبَهَ الْآمِرُ مِنْ رَقْدَتِهِ، وَأَفَاقَ مِنْ سَكْرَتِهِ، وَأَدْرَكَتْهُ الْحَمِيَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَالْغَيْرَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، فَغَضِبَ لِلَّهِ غَضَبَ نَاصِرٍ لِلدِّينِ وَبَارٍّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَأَلْبَسَ الذِّمَّةَ الْغِيَارَ وَأَنْزَلَهُمْ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَنْزِلُوا بِهَا مِنَ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ، وَأَمَرَ أَلَّا يُوَلَّوْا شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يُنْشِئُوا فِي ذَلِكَ كِتَابًا يَقِفُ عَلَيْهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، فَكَتَبَ عَنْهُ مَا نُسْخَتُهُ:
" الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْبُودِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، وَالْمُجِيبِ دُعَاءَ مَنْ يَدْعُوهُ بِأَسْمَائِهِ، الْمُنْفَرِدِ بِالْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ الْمُتَوَحِّدِ بِالْقُوَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأَوْلَى وَالْآخِرَةِ، هَدَى الْعِبَادَ بِالْإِيمَانِ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ، وَوَفَّقَهُمْ فِي الطَّاعَاتِ لِمَا هُوَ أَنْفَعُ زَادٍ فِي الْمَعَادِ، وَتَفَرَّدَ بِعِلْمِ الْغُيُوبِ، فَعَلِمَ
مِنْ كُلِّ عَبْدٍ إِضْمَارَهُ كَمَا عَلِمَ تَصْرِيحَهُ: {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] ، الَّذِي شَرَّفَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَعَظَّمَهُ، وَقَضَى بِالْعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ لِمَنِ انْتَحَاهُ وَتَيَمَّمَهُ، وَفَضَّلَهُ عَلَى كُلِّ شَرْعٍ سَبَقَهُ وَعَلَى كُلِّ دِينٍ تَقَدَّمَهُ، فَنَصَرَهُ وَخَذَلَهَا وَأَشَادَ بِهِ وَأَخْمَلَهَا، وَرَفَعَهُ وَوَضَعَهَا، وَوَطَّدَهُ وَضَعْضَعَهَا، وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ دِينًا سِوَاهُ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ.
فَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] .
وَشَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ وَأَشْهَدَ بِهِ مَلَائِكَتَهُ وَأُولِي الْعِلْمِ الَّذِينَ هُمْ خُلَاصَةُ الْأَنَامِ، فَقَالَ تَعَالَى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18 - 19] .
وَلَمَّا ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ بِهِ نِعْمَتَهُ أَكْمَلَهُ لَهُمْ وَأَظْهَرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَأَوْضَحَهُ إِيضَاحًا مُبِينًا، فَقَالَ تَعَالَى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] .
وَفَرَّقَ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَبَيْنَ أَهْلِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَأَهْلِ الْبَغْيِ وَالرَّشَادِ، فَقَالَ تَعَالَى:{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20] .
وَأَمَرَ تَعَالَى بِالثَّبَاتِ عَلَيْهِ إِلَى الْمَمَاتِ، فَقَالَ - وَبِقَوْلِهِ يَهْتَدِي الْمُؤْمِنُونَ -:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] .
وَهُوَ وَصِيَّةُ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ لِبَنِيهِ، وَإِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132 - 133] .
وَأَشْهَدُ عَلَيْهِ الْحَوَارِيُّونَ عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَكَلِمَتَهُ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ، وَهُوَ الشَّاهِدُ الْأَمِينُ قَالَ تَعَالَى:{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] .
وَأَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَدْعُوَ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَيْهِ، وَيُشْهِدَ مَنْ تَوَلَّى مِنْهُمْ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ تَعَالَى - وَقَوْلُهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ -:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] .
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى الَّذِي رَفَعَهُ بِاصْطِفَائِهِ إِلَى مَحَلِّهِ الْمُنِيفِ، وَبَعَثَهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً بِالدِّينِ الْقَيِّمِ الْحَنِيفِ، وَجَعَلَهُ أَفْضَلَ مَنْ كَانَ وَأَفْضَلَ مَنْ يَكُونُ:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] ، فَكَانَتْ نُبُوَّتُهُ لِظَهْرِ الْكُفْرِ قَاصِمَةً، وَشَرِيعَتُهُ لِمَنْ لَاذَ بِهَا وَلَجَأَ إِلَيْهَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ عَاصِمَةً، وَحُجَجُهُ لِمَنْ عَانَدَ وَكَفَرَ خَاصِمَةً، حَتَّى أَذْعَنَ الْمُعَانِدُونَ وَاعْتَرَفَ الْجَاحِدُونَ وَذَلَّ الْمُشْرِكُونَ وَ:{جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 48] ، وَأَشْرَقَ وَجْهُ الدَّهْرِ بِرِسَالَتِهِ ضِيَاءً وَابْتِهَاجًا، وَدَخَلَ النَّاسُ بِدَعْوَتِهِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَأَشْرَقَتْ عَلَى الْوُجُوهِ شَمْسُ الْإِسْلَامِ، وَاتَّسَقَ قَمَرُ الْإِيمَانِ، وَوَلَّتْ عَلَى أَدْبَارِهَا مَهْزُومَةً عَسَاكِرُ الشَّيْطَانِ.
وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَصْحَابِهِ وَخُلَفَائِهِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سُنَّتَهُ وَابْتَغَوْا فِي الْقِيَامِ بِهَا رِضْوَانَهُ، وَوَقَفُوا عِنْدَ شَرْعِهِ فَأَعَزُّوا مَنْ أَعَزَّهُ وَأَهَانُوا مَنْ أَهَانَهُ.
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِبَالِغِ حِكْمَتِهِ وَسَابِغِ نِعْمَتِهِ شَرَّفَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَطَهَّرَهُ مِنَ الْأَدْنَاسِ، وَجَعَلَ أَهْلَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَالْإِسْلَامُ الدِّينُ الْقَوِيمُ الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ مِنَ الْأَدْيَانِ لِنَفْسِهِ، وَجَعَلَهُ دِينَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَمَلَائِكَةِ قُدْسِهِ، فَارْتَضَاهُ وَاخْتَارَهُ، وَجَعَلَ خَيْرَ عِبَادِهِ وَخَاصَّتَهُ هُمْ أَوْلِيَاءَهُ وَأَنْصَارَهُ، يُحَافِظُونَ عَلَى حُدُودِهِ وَيُثَابِرُونَ وَيَدْعُونَ
إِلَيْهِ وَيَذْكُرُونَ وَ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] ، فَهُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، وَإِلَى مَرْضَاتِهِ يُسَارِعُونَ، وَلِمَنْ خَرَجَ عَنْ دِينِهِ يُجَاهِدُونَ، وَلِعِبَادِهِ بِجُهْدِهِمْ يَنْصَحُونَ، وَعَلَى طَاعَتِهِ يُثَابِرُونَ وَ {عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] ، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] ، {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ - أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 4 - 5] .
هَذَا وَإِنَّ أُمَّةً هَدَاهَا اللَّهُ إِلَى دِينِهِ الْقَوِيمِ، وَجَعَلَهَا دُونَ الْأُمَمِ الْجَاحِدَةِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، تُوفِي مِنَ الْأُمَمِ سَبْعِينَ هُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، حَقِيقَةٌ بِأَنْ لَا يُوَالِيَ مِنَ الْأُمَمِ سِوَاهَا، وَلَا يُسْتَعَانَ بِمَنْ خَانَ اللَّهَ خَالِقَهُ وَرَازِقَهُ وَعَبَدَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا، فَكَذَّبَ رُسُلَهُ وَعَصَى أَمْرَهُ وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِ وَاتَّخَذَ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَوْسُومُونَ بِغَضَبِ اللَّهِ وَلَعْنَتِهِ، وَالشِّرَكِ بِهِ وَالْجَحْدِ لِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي جَمِيعِ صَلَوَاتِهِمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ هِدَايَةَ سَبِيلِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ،
وَتَجَنُّبَهُمْ سَبِيلَ الَّذِينَ أَبْعَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَطَرَدَهُمْ عَنْ جَنَّتِهِ، فَبَاءُوا بِغَضَبِهِ وَلَعْنَتِهِ مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ.
فَالْأُمَّةُ الْغَضَبِيَّةُ هُمُ الْيَهُودُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَأُمَّةُ الضَّلَالِ هُمُ النَّصَارَى الْمُثَلِّثَةُ عُبَّادُ الصُّلْبَانِ، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ بِالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْغَضَبِ مَوْسُومُونَ، فَقَالَ تَعَالَى:{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112] .
وَأَخْبَرَ بِأَنَّهُمْ {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90] ، وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُفْتَرِينَ، فَقَالَ:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 90] .
وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَعَنَهُمْ، وَلَا أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا، فَقَالَ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47] .
وَحَكَمَ سُبْحَانَهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حُكْمًا تَرْتَضِيهِ الْعُقُولُ، وَيَتَلَقَّاهُ كُلُّ مُنْصِفٍ بِالْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ، فَقَالَ:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60] .
وَأَخْبَرَ عَلَى مَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ الَّتِي صَارُوا بِهَا مَثَلًا فِي الْعَالَمِينَ، فَقَالَ تَعَالَى:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ - فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 165 - 166] .
ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ حُكْمًا مُسْتَمِرًّا فِي الذَّرَارِيِّ وَالْأَعْقَابِ، عَلَى مَرِّ السِّنِينَ وَالْأَحْقَابِ، فَقَالَ:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} [الأعراف: 167] ، فَكَانَ هَذَا الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا بِبَعْضِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [الرعد: 34] .
فَهُمْ أَنْجَسُ النَّاسِ قُلُوبًا، وَأَخْبَثُهُمْ طَوِيَّةً، وَأَرْدَؤُهُمْ سَجِيَّةً، وَأَوْلَاهُمْ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41] .
فَهُمْ أُمَّةُ الْخِيَانَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ وَكِتَابِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13] .
وَأَخْبَرَ عَنْ سُوءِ مَا يَسْتَمِعُونَ وَيَقُولُونَ، وَخُبْثِ مَا يَأْكُلُونَ وَيُجْمِعُونَ، فَقَالَ تَعَالَى:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] .
وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَعَنَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَقَالَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ - كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ - تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 78 - 80] .
وَقَطَعَ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فِي حُكْمِهِ الْمُبِينِ، فَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] .
وَأَخْبَرَ عَنْ حَالِ مُتَوَلِّيهِمْ بِمَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْمَرَضِ الْمُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ فَقَالَ: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52] .
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ حُبُوطِ أَعْمَالِ مُتَوَلِّيهِمْ لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ لِذَلِكَ مِنَ الْحَذِرَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 53] .
وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ أَعْدَائِهِ أَوْلِيَاءَ وَقَدْ كَفَرُوا بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ سُوءٍ يَنَالُونَهُمْ بِهِ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ إِذَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1]، إِلَى قَوْلِهِ:{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2] .
وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ أُسْوَةً حَسَنَةً فِي إِمَامِ الْحُنَفَاءِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تَبَرَّءُوا مِمَّنْ لَيْسَ عَلَى دِينِهِمُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِيثَارًا لِمَرْضَاتِهِ وَمَا عِنْدَهُ، فَقَالَ تَعَالَى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] .
وَتَبَرَّأَ سُبْحَانَهُ مِمَّنِ اتَّخَذَ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَذَّرَهُ نَفْسَهُ أَشَدَّ
التَّحْذِيرِ فَقَالَ: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] .
فَمِنْ ضُرُوبِ الطَّاعَاتِ إِهَانَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ الَّتِي هُمْ إِلَيْهَا صَائِرُونَ، وَمِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاجِبَةِ أَخْذُ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمُ الَّتِي يُعْطُونَهَا عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
وَمِنَ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ أَنْ تَعُمَّ جَمِيعَ الذِّمَّةِ إِلَّا مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِاسْتِخْرَاجِهَا، وَأَنْ يُعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى سُلُوكِ سَبِيلِ السُّنَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَمِنْهَاجِهَا، وَأَلَّا يُسَامَحَ بِهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَوْ كَانَ فِي قَوْمِهِ عَظِيمًا، وَأَلَّا يُقْبَلَ إِرْسَالُهُ بِهَا وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ زَعِيمًا، وَأَلَّا يُحِيلَ بِهَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُوكِّلَ فِي إِخْرَاجِهَا عَنْهُ أَحَدًا مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَأَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ إِعْزَازًا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَإِذْلَالًا لِطَائِفَةِ الْكُفَّارِ وَأَنْ تُسْتَوْفَى مِنْ جَمِيعِهِمْ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ. وَأَهْلُ خَيْبَرَ وَغَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى السَّوَاءِ.
وَأَمَّا مَا ادَّعَاهُ الْخَيَابِرَةُ مِنْ وَضْعِ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ بِعَهْدٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ ذَلِكَ زُورٌ وَبُهْتَانٌ، وَكَذِبٌ ظَاهِرٌ يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، لَفَّقَهُ الْقَوْمُ الْبُهُتُ وَزَوَّرُوهُ، وَوَضَعُوهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ وَتَمَّمُوهُ، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَخْفَى عَلَى النَّاقِدِينَ أَوْ يَرُوجُ عَلَى عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَكْشِفَ حَالَ الْمُبْطِلِينَ وَإِفْكَ الْمُفْتَرِينَ.
وَقَدْ تَظَاهَرَتِ السُّنَنُ، وَصَحَّ الْخَبَرُ بِأَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَأَوْجَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ الْخَيْلَ وَالرِّكَابَ، فَعَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِجْلَائِهِمْ عَنْهَا كَمَا أَجْلَى إِخْوَانَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَمَّا ذَكَرُوا أَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِسَقْيِ نَخْلِهَا وَمَصَالِحِ أَرْضِهَا أَقَرَّهُمْ فِيهَا كَالْأُجَرَاءِ، وَجَعَلَ لَهُمْ نِصْفَ الِانْتِفَاعِ، وَكَانَ ذَلِكَ شَرْطًا مُبِيَّنًا، وَقَالَ:" «نُقِرُّكُمْ فِيهَا مَا شِئْنَا» ".
فَأَقَرَّ بِذَلِكَ الْخَيَابِرَةُ صَاغِرِينَ، وَأَقَامُوا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فِي الْأَرْضِ عَامِلِينَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ مِنَ الذِّمَامِ وَالْحُرْمَةِ مَا يُوجِبُ إِسْقَاطَ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، كَيْفَ وَفِي الْكِتَابِ الْمَشْحُونِ بِالْكَذِبِ وَالْمَيْنِ شَهَادَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانَ قَدْ تُوُفِّيَ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَشَهَادَةُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَإِنَّمَا أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ بَعْدَ خَيْبَرَ سَنَةَ ثَمَانٍ.
وَفِي الْكِتَابِ الْمَكْذُوبِ أَنَّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمُ الْكُلَفَ وَالسُّخَرَ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى زَمَانِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا عَلَى زَمَانِ خُلَفَائِهِ الَّذِينَ سَارُوا فِي النَّاسِ أَحْسَنَ السَّيْرِ، وَلَمَا اتَّسَعَتْ رُقْعَةُ الْإِسْلَامِ وَدَخَلَ فِيهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُومُ بِعَمَلِ الْأَرْضِ وَسَقْيِ النَّخِيلِ، أَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الْيَهُودَ مِنْ خَيْبَرَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" «أَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ "، وَقَالَ: