الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ تَفْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ في الْأَمْكِنَةِ الَّتِي يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ دُخُولِهَا وَالْإِقَامَةِ بِهَا]
77 -
فَصْلٌ.
وَأَمَّا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُمْ يُقَرُّونَ عِنْدَهُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ إِلَّا جَزِيرَةَ الْعَرَبِ: وَهِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَمَا وَالَاهُمَا.
وَرَوَى عِيسَى بْنُ دِينَارٍ عَنْهُ دُخُولَ الْيَمَنِ فِيهَا.
وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّهَا مِنْ أَقْصَى عَدَنٍ وَمَا وَالَاهَا مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ كُلِّهَا إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ، وَأَمَّا فِي الْعَرْضِ فَمِنْ جُدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ وَمِصْرَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ، وَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مُنْقَطَعِ السَّمَاوَةِ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنَ الِاجْتِيَازِ بِهَا مُسَافِرِينَ وَلَكِنْ لَا يُقِيمُونَ.
[فَصْلٌ مذهب أَبُو حَنِيفَةَ في الْأَمْكِنَةِ الَّتِي يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ دُخُولِهَا وَالْإِقَامَةِ بِهَا]
78 -
فَصْلٌ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَعِنْدَهُ: لَهُمْ دُخُولُ الْحَرَمِ كُلِّهِ حَتَّى الْكَعْبَةِ نَفْسِهَا، وَلَكِنْ لَا يَسْتَوْطِنُونَ بِهِ.
وَأَمَّا الْحِجَازُ فَلَهُمُ الدُّخُولُ إِلَيْهِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ وَالْإِقَامَةُ بِقَدْرِ قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَكَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَاسَ دُخُولَهُمْ مَكَّةَ عَلَى دُخُولِهِمْ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقِيَاسُ فَإِنَّ لِحَرَمِ مَكَّةَ أَحْكَامًا يُخَالِفُ بِهَا الْمَدِينَةَ، عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُ حَرَمًا.
فَإِنْ قِيلَ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا مَنَعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَمْ يَمْنَعْ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْهُ: وَلِهَذَا «أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ: " أَنَّهُ لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ» " وَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَانُوا يَحُجُّونَ هُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ لَا أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُمُ الْمَنْعُ.
قِيلَ: لِلنَّاسِ قَوْلَانِ فِي دُخُولِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي لَفْظِ الْمُشْرِكِينَ.
[الْأَوَّلُ:] فَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ كَانُوا يَقُولُونَ: هُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: لَا أَعْلَمُ شِرْكًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يَقُولَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَعُزَيْزٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] .
وَالثَّانِي: لَا يَدْخُلُونَ فِي لَفْظِ " الْمُشْرِكِينَ " ; لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَهُمْ غَيْرَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17] .
قَالَ شَيْخُنَا: " وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ دِينُ التَّوْحِيدِ فَلَيْسُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَصْلِ، وَالشِّرْكُ طَارِئٌ عَلَيْهِمْ فَهُمْ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ مَا عَرَضَ لَهُمْ لَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الدِّينِ، فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي لَفْظِ الْآيَةِ دَخَلُوا
فِي عُمُومِهَا الْمَعْنَوِيِّ وَهُوَ كَوْنُهُمْ نَجَسًا، وَالْحُكْمُ يَعُمُّ بِعُمُومِ عِلَّتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْآيَةُ نَبَّهَتْ عَلَى دُخُولِهِمُ الْحَرَمَ عِوَضًا عَنْ دُخُولِ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] ، فَإِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتِ انْقَطَعَ عَنْهُمْ مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْلِبُونَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمِيرَةِ، فَأَعَاضَهُمُ اللَّهُ بِالْجِزْيَةِ.
قِيلَ: لَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِوَجْهٍ مَا، بَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ وَتُحْمَلُ إِلَى مَنْ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ، عَلَى أَنَّ الْإِغْنَاءَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَقَعَ بِالْفُتُوحِ وَالْفَيْءِ وَالتِّجَارَاتِ الَّتِي حَمَلَهَا الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَكَّةَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْآيَةُ إِنَّمَا مَنَعَتْ قُرْبَانَهُمُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ خَاصَّةً، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ تَعْمِيمُ الْحُكْمِ لِلْحَرَمِ كُلِّهِ؟ قِيلَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ يُرَادُ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، نَفْسُ الْبَيْتِ، وَالْمَسْجِدُ الَّذِي حَوْلَهُ، وَالْحَرَمُ كُلُّهُ.
فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] .
وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا الْحَرَمُ كُلُّهُ وَالنَّاسُ سَوَاءٌ فِيهِ.
وَالثَّالِثُ: كَقَوْلِهِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] ،
وَإِنَّمَا أَسْرَى بِهِ مِنْ دَارِهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ، وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] ، أَنَّ الْمُرَادَ مَكَّةُ كُلُّهَا وَالْحَرَمُ، وَلَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِنَفْسِ الْمَسْجِدِ الَّذِي يُطَافُ فِيهِ.
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَتِ الْيَهُودُ بِخَيْبَرَ وَمَا حَوْلَهَا وَلَمْ يَكُونُوا يُمْنَعُونَ مِنَ الْمَدِينَةِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -
مَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى طَعَامٍ أَخَذَهُ لِأَهْلِهِ» فَلَمْ يُجْلِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ نُزُولِهَا مِنَ الْحِجَازِ، «وَأَمَرَ مُؤَذِّنَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ» .
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي دُخُولِهِمْ مَسَاجِدَ الْحِلِّ؟ قِيلَ: إِنْ دَخَلُوهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُمَكَّنُوا مِنْهُ ; لِأَنَّهُمْ نَجَسٌ وَالْجُنُبُ وَالْحَائِضُ أَحْسَنُ حَالًا مِنْهُمْ وَقَدْ مُنِعَا مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ.
وَإِنْ دَخَلُوهَا بِإِذْنِ مُسْلِمٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ.
وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْزَلَ الْوُفُودَ مِنَ الْكُفَّارِ فِي مَسْجِدِهِ، فَأَنْزَلَ فِيهِ وَفْدَ نَجْرَانَ وَوَفْدَ ثَقِيفٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَدْخُلُ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ.
«وَقَدِمَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ - وَهُوَ مُشْرِكٌ - فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ لِيَفْتِكَ بِهِ، فَرَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْإِسْلَامَ» .
وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُمْ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْحَائِضِ وَالْجَنْبِ ; فَإِنَّهُمْ نَجْسٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَالْحَائِضُ وَالْجُنُبُ لَيْسَا بِنَجَسٍ بِنَصِّ السُّنَّةِ.
وَلَمَّا دَخَلَ أَبُو مُوسَى عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ أَعْطَاهُ كِتَابًا فِيهِ حِسَابُ عَمَلِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: ادْعُ الَّذِي كَتَبَهُ لِيَقْرَأَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَالَ وَلِمَ؟ قَالَ إِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شُهْرَةِ ذَلِكَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّهُ قَدِ انْضَمَّ إِلَى حَدَثِ جَنَابَتِهِ حَدَثُ شِرْكِهِ فَتَغَلَّظَ الْمَنْعُ.
وَأَمَّا دُخُولُ الْكُفَّارِ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إِلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُخَاطِبُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي عُهُودِهِمْ، وَيُؤَدُّونَ إِلَيْهِ الرَّسَائِلَ، وَيَحْمِلُونَ مِنْهُ الْأَجْوِبَةَ وَيَسْمَعُونَ مِنْهُ الدَّعْوَةَ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِكُلِّ مَنْ قَصَدَهُ مِنَ الْكُفَّارِ، فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي دُخُولِهِمْ - إِذْ ذَاكَ -
الْمَسْجِدَ لِكُلِّ مَنْ قَصَدَهُ مِنَ الْكُفَّارِ، فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي دُخُولِهِمْ إِذْ ذَاكَ أَعْظَمَ مِنَ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي فِيهِ، بِخِلَافِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ فَإِنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُمَا التَّطَهُّرُ وَالدُّخُولُ إِلَى الْمَسْجِدِ.
وَأَمَّا الْآنَ فَلَا مَصْلَحَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دُخُولِهِمْ مَسَاجِدَهُمْ وَالْجُلُوسِ فِيهَا، فَإِنْ دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ جَازَ دُخُولُهَا بِلَا إِذْنٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.