الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ذكر معاملة أهل الذمة عند اللقاء] [
فصل حكم بداءة أهل الذمة بِالسَّلَامِ]
ذِكْرُ [مُعَامَلَتِهِمْ] عِنْدَ اللِّقَاءِ وَكَرَاهَةِ أَنْ يُبْدَءُوا بِالسَّلَامِ وَكَيْفَ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ ".
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمُ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْ: وَعَلَيْكَ» " هَكَذَا بِالْوَاوِ.
وَفِي لَفْظٍ: " عَلَيْكَ " بِلَا وَاوٍ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -
قَالَ: " «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ هَكَذَا.
وَفِي لَفْظٍ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: " فَقُولُوا: عَلَيْكُمْ " بِلَا وَاوٍ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَهْلًا يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ "، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " قَدْ قُلْتُ: عَلَيْكُمْ " وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ الْوَاوَ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ قُلْتُ: " «بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَالذَّامُ» ".
وَعِنْدَهُ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: «سَلَّمَ نَاسٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَالَ: عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها وَغَضِبَتْ: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: " بَلَى قَدْ سَمِعْتُ فَرَدَدْتُ: عَلَيْكُمْ، إِنَّا نُجَابُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُجَابُونَ عَلَيْنَا» ".
وَعَنْ أَبِي [بَصْرَةَ] رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّا غَادُونَ عَلَى يَهُودَ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِنْ سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» " رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَلَهُ أَيْضًا عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنِّي رَاكِبٌ غَدًا إِلَى يَهُودَ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ، وَإِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» ".
[مَعْنَى السَّلَامِ]
[الْوَجْهُ الْأَوَّلُ:] وَلَمَّا كَانَ السَّلَامُ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ تبارك وتعالى، وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ فِي الْأَصْلِ - كَالْكَلَامِ وَالْعَطَاءِ - بِمَعْنَى
السَّلَامَةِ كَانَ الرَّبُّ تَعَالَى أَحَقَّ بِهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ ; لِأَنَّهُ السَّالِمُ مِنْ كُلِّ آفَةٍ وَعَيْبٍ وَنَقْصٍ وَذَمٍّ، فَإِنَّ لَهُ الْكَمَالَ الْمُطْلَقَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَكَمَالُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ، وَالسَّلَامُ يَتَضَمَّنُ سَلَامَةَ أَفْعَالِهِ مِنَ الْعَبَثِ وَالظُّلْمِ وَخِلَافِ الْحِكْمَةِ، وَسَلَامَةَ صِفَاتِهِ مِنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَسَلَامَةَ ذَاتِهِ مَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ، وَسَلَامَةَ أَسْمَائِهِ مِنْ كُلِّ ذَمٍّ، فَاسْمُ السَّلَامِ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ جَمِيعِ الْكَمَالَاتِ لَهُ وَسَلْبَ جَمِيعِ النَّقَائِصِ عَنْهُ.
وَهَذَا مَعْنَى: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَيَتَضَمَّنُ إِفْرَادَهُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَإِفْرَادَهُ بِالتَّعْظِيمِ، وَهَذَا مَعْنَى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَانْتَظَمَ اسْمُ " السَّلَامِ " الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ الَّتِي يُثْنَى بِهَا عَلَى الرَّبِّ جل جلاله.
وَمِنْ بَعْضِ تَفَاصِيلِ ذَلِكَ أَنَّهُ الْحَيُّ الَّذِي سَلِمَتْ حَيَاتُهُ مِنَ الْمَوْتِ وَالسِّنَةِ وَالنَّوْمِ وَالتَّغَيُّرِ، الْقَادِرُ الَّذِي سَلِمَتْ قُدْرَتُهُ مِنَ اللُّغُوبِ وَالتَّعَبِ وَالْإِعْيَاءِ وَالْعَجْزِ عَمَّا يُرِيدُ، الْعَلِيمُ الَّذِي سَلِمَ عِلْمُهُ أَنْ يَعْزُبَ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ يَغِيبَ عَنْهُ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ صِفَاتِهِ عَلَى هَذَا.
فَرِضَاهُ سُبْحَانَهُ سَلَامٌ أَنْ يُنَازِعَهُ الْغَضَبُ، وَحِلْمُهُ سَلَامٌ أَنْ يُنَازِعَهُ الِانْتِقَامُ، وَإِرَادَتُهُ سَلَامٌ أَنْ يُنَازِعَهَا الْإِكْرَاهُ، وَقُدْرَتُهُ سَلَامٌ أَنْ يُنَازِعَهَا الْعَجْزُ وَمَشِيئَتُهُ سَلَامٌ أَنْ يُنَازِعَهَا خِلَافُ مُقْتَضَاهَا، وَكَلَامُهُ سَلَامٌ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ كَذِبٌ أَوْ ظُلْمٌ، بَلْ تَمَّتَ كَلِمَاتُهُ صِدْقًا وَعَدْلًا، وَوَعْدُهُ سَلَامٌ أَنْ يَلْحَقَهُ خُلْفٌ، وَهُوَ سَلَامٌ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ شَيْءٌ أَوْ بَعْدَهُ شَيْءٌ أَوْ فَوْقَهُ شَيْءٌ أَوْ دُونَهُ شَيْءٌ، بَلْ هُوَ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَقَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَبَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَعَطَاؤُهُ وَمَنْعُهُ سَلَامٌ أَنْ يَقَعَ فِي غَيْرِ مَوْقِعِهِ، وَمَغْفِرَتُهُ سَلَامٌ أَنْ يُبَالِيَ بِهَا أَوْ يَضِيقَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ أَوْ تَصْدُرَ عَنْ عَجْزٍ عَنْ أَخْذِ حَقِّهِ كَمَا تَكُونُ مَغْفِرَةُ النَّاسِ، وَرَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ وَرَأْفَتُهُ وَبِرُّهُ وَجُودُهُ وَمُوَالَاتُهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَتَحَبُّبُهُ إِلَيْهِمْ وَحَنَانُهُ عَلَيْهِمْ وَذِكْرُهُ لَهُمْ وَصَلَاتُهُ عَلَيْهِمْ سَلَامٌ أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهِمْ أَوْ تَعَزُّزٍ بِهِمْ أَوْ تَكَثُّرٍ بِهِمْ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ السَّلَامُ مِنْ كُلِّ مَا يُنَافِي كَلَامَهُ الْمُقَدَّسَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
وَأَخْطَأَ كُلَّ الْخَطَأِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ السُّلُوبِ، فَإِنَّ السَّلْبَ الْمَحْضَ لَا يَتَضَمَّنُ كَمَالًا، بَلِ اسْمُ السَّلَامِ مُتَضَمِّنٌ لِلْكَمَالِ السَّالِمِ مِنْ كُلِّ مَا يُضَادُّهُ، وَإِذَا لَمْ تَظْلِمْ هَذَا الِاسْمَ وَوَفَّيْتَهُ مَعْنَاهُ وَجَدْتَهُ مُسْتَلْزِمًا لِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَشَرْعِ الشَّرَائِعِ، وَثُبُوتِ الْمَعَادِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَثُبُوتِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَعُلُوِّ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ وَرُؤْيَتِهِ لِأَفْعَالِهِمْ وَسَمْعِهِ لِأَصْوَاتِهِمْ وَاطِّلَاعِهِ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَعَلَانِيَاتِهِمْ، وَتَفَرُّدِهِ بِتَدْبِيرِهِمْ وَتَوَحُّدِهِ فِي كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ عَنْ شَرِيكٍ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَهُوَ السَّلَامُ الْحَقُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا هُوَ النَّزِيهُ الْبَرِيءُ عَنْ نَقَائِصِ الْبَشَرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَلَمَّا كَانَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفًا بِأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا شِمَالٌ بَلْ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ، كَذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا حُسْنَى وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا
خَيْرٌ، وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا كَمَالٌ وَقَدْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ السَّلَامَ تَحِيَّةَ أَوْلِيَائِهِ فِي الدُّنْيَا وَتَحِيَّتَهُمْ يَوْمَ لِقَائِهِ، «وَلَمَّا خَلَقَ آدَمَ وَكَمَّلَ خَلْقَهُ فَاسْتَوَى قَالَ اللَّهُ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ بِهِ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذَرِّيَّتِكَ مِنْ بَعْدِكَ» .
وَقَالَ تَعَالَى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127]، وَقَالَ:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَةِ الْجَنَّةِ بِدَارِ السَّلَامِ، فَقِيلَ: السَّلَامُ هُوَ اللَّهُ،
وَالْجَنَّةُ دَارُهُ، وَقِيلَ: السَّلَامُ هُوَ السَّلَامَةُ، وَالْجَنَّةُ دَارُ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ آفَةٍ وَعَيْبٍ وَنَقْصٍ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ دَارَ السَّلَامِ ; لِأَنَّ تَحِيَّتَهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا.
[الْوَجْهُ الثَّانِي:] وَأَمَّا قَوْلُ الْمُسَلِّمِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَهُوَ إِخْبَارٌ لِلْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ بِسَلَامَتِهِ مِنْ غِيلَةِ الْمُسْلِمِ وَغِشِّهِ وَمَكْرِهِ وَمَكْرُوهٍ يَنَالُهُ مِنْهُ، فَيَرُدُّ الرَّادُّ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ أَيْ: فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِكَ وَأَحَلَّهُ عَلَيْكَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَبَيْنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ خَبَرٌ وَفِي الثَّانِي طَلَبٌ.
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: اذْكُرِ اللَّهَ الَّذِي عَافَاكَ مِنَ الْمَكْرُوهِ وَأَمَّنَكَ مِنَ الْمَحْذُورِ وَسَلَّمَكَ مِمَّا تَخَافُ وَعَامَلَنَا مِنَ السَّلَامَةِ وَالْأَمَانِ بِمِثْلِ مَا عَامَلَكَ بِهِ، فَيَرُدُّ الرَّادُّ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَزِيدَهُ كَمَا أَنَّ مَنْ أَهْدَى لَكَ هَدِيَّةً يُسْتَحَبُّ لَكَ أَنْ تُكَافِئَهُ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهَا، وَمَنْ دَعَا لَكَ يَنْبَغِي أَنْ تَدْعُوَ لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
وَوَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى سَلَامِ الْمُسَلِّمِ وَرَدِّ الرَّادِّ بِشَارَةً مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، جَعَلَهَا عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُسْلِمِينَ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالسَّلَامَةِ مِنَ الشَّرِّ،
وَحُصُولِ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ، وَهِيَ دَوَامُ ذَلِكَ وَثَبَاتُهُ، وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ أُعْطُوهَا لِدُخُولِهِمْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، فَأَعْظَمُهُمْ أَجْرًا أَحْسَنُهُمْ تَحِيَّةً، وَأَسْبَقُهُمْ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ " وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ صَاحِبَهُ بِالسَّلَامِ ".
وَاشْتَقَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ تَحِيَّةِ بَيْنِهِمُ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ، وَاسْمُ دِينِهِ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ دِينُ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَمَلَائِكَتِهِ.
قَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] .
وَوَجْهٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنْ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ لَهُمْ تَحِيَّةٌ بَيْنَهُمْ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ كَالسُّجُودِ وَتَقْبِيلِ الْأَيْدِي وَضَرْبِ الْجُوكِ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمُ: انْعَمْ صَبَاحًا، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: عِشْ أَلْفَ عَامٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَشَرَعَ اللَّهُ تبارك وتعالى لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ " سَلَامٌ عَلَيْكُمْ " وَكَانَتْ أَحْسَنَ مِنْ جَمِيعِ تَحِيَّاتِ الْأُمَمِ بَيْنَهَا، لِتَضَمُّنِهَا السَّلَامَةَ الَّتِي لَا حَيَاةَ وَلَا فَلَاحَ إِلَّا بِهَا، فَهِيَ الْأَصْلُ الْمُقَدَّمُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
وَانْتِفَاعُ الْعَبْدِ بِحَيَاتِهِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِشَيْئَيْنِ: بِسَلَامَتِهِ مِنَ الشَّرِّ وَحُصُولِ الْخَيْرِ، وَالسَّلَامَةُ مِنَ الشَّرِّ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حُصُولِ الْخَيْرِ وَهِيَ الْأَصْلُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ، بَلْ وَكُلُّ حَيَوَانٍ، إِنَّمَا يَهْتَمُّ بِسَلَامَتِهِ أَوَّلًا وَغَنِيمَتِهِ ثَانِيًا، عَلَى أَنَّ السَّلَامَةَ الْمُطْلَقَةَ تَتَضَمَّنُ حُصُولَ الْخَيْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ فَاتَهُ حَصَلَ لَهُ الْهَلَاكُ وَالْعَطَبُ أَوِ النَّقْصُ، فَفَوَاتُ الْخَيْرِ يَمْنَعُ حُصُولَ السَّلَامَةِ الْمُطْلَقَةِ، فَتَضَمَّنَتِ السَّلَامَةُ نَجَاةَ الْعَبْدِ مِنَ الشَّرِّ، وَفَوْزَهُ بِالْخَيْرِ مَعَ اشْتِقَاقِهَا مِنِ اسْمِ اللَّهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ السَّلَامَ اسْمُهُ وَوَصْفُهُ وَفِعْلُهُ، وَالتَّلَفُّظُ بِهِ ذِكْرٌ لَهُ كَمَا فِي " السُّنَنِ "«أَنَّ رَجُلَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَيَمَّمَ وَرَدَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ: " إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إِلَّا عَلَى طَهَارَةٍ» ".
فَحَقِيقٌ بِتَحِيَّةٍ هَذَا شَأْنُهَا أَنْ تُصَانَ عَنْ بَذْلِهَا لِغَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَأَلَّا يُحَيَّى بِهَا أَعْدَاءُ الْقُدُّوسِ السَّلَامِ.
وَلِهَذَا كَانَتْ كُتُبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى مُلُوكِ الْكُفَّارِ " «سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى» " وَلَمْ يَكْتُبْ لِكَافِرٍ: " سَلَامٌ عَلَيْكُمْ " أَصْلًا، فَلِهَذَا قَالَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ:" «وَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ» ".