الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَهُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: يَكُونُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى النَّصْرَانِيِّ خَمْسُونَ دِرْهَمًا.
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفِقْهَ، كَيْفَ جَعَلَ مَا قَبَضَهُ النَّصْرَانِيُّ مِنَ الْخَمْرِ أَوِ الْخِنْزِيرِ مِنْ حِصَّتِهِ وَحْدَهُ، حَيْثُ لَمْ يَجُزْ لِلْمُسْلِمِ مُشَارَكَتُهُ فِيهِ، وَجَعَلَ الْخَمْسِينَ الْبَاقِيَةَ كُلَّهَا لِلْمُسْلِمِ ; لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ صَحَّتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّصْرَانِيِّ وَلَمْ تَصِحَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْلِمِ وَهِيَ مُعَاوَضَةٌ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فَصَحَّحَهَا فِي حَقِّهِ دُونَ شَرِيكِهِ.
[فَصْلٌ فِي اسْتِئْجَارِهِمْ وَاسْتِئْجَارِ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ مِنْهُمْ]
108 -
فَصْلٌ
فِي اسْتِئْجَارِهِمْ وَاسْتِئْجَارِ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ مِنْهُمْ.
أَمَّا اسْتِئْجَارُهُمْ فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ دَلِيلًا يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ مُشْرِكًا فَأَمِنَهُ وَدَفَعَ إِلَيْهِ رَاحِلَتَهُ هُوَ وَالصِّدِّيقُ.
وَأَمَّا إِيجَارُهُمْ نَفْسُهُ فَهِيَ مَسْأَلَةُ تَفْصِيلٍ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ نُصُوصَ أَحْمَدَ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ بَنَّاءٌ: أَبْنِي لِلْمَجُوسِ نَاوُوسًا؟ قَالَ: لَا تَبْنِ لَهُمْ، وَلَا تُعِنْهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ يَحْفِرُ
لِأَهْلِ الذِّمَّةِ قَبْرًا بِكِرَاءٍ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ رِوَايَةٍ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّاوُوسَ مِنْ خَصَائِصِ دِينِهِمُ الْبَاطِلِ فَهُوَ كَالْكَنِيسَةِ، بِخِلَافِ الْقَبْرِ الْمُطْلَقِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِهِ مَعْصِيَةٌ وَلَا مِنْ خَصَائِصِ دِينِهِمْ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يُؤَاجِرُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ [مِنَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ نَعَمْ] .
[حَدَّثَنَا مُهَنَّا قَالَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: هَلْ تَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ] لِلْمَجُوسِيِّ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: وَسَأَلْتُ أَحْمَدَ قُلْتُ: يُكْرِي الرَّجُلُ نَفْسَهُ لِمَجُوسِيٍّ يَخْدِمُهُ، وَيَذْهَبُ فِي حَوَائِجِهِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ، قُلْتُ لَهُ: فَيَقُولُ لَهُ: " لَبَّيْكَ " إِذَا دَعَاهُ؟ قَالَ: لَا.
وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: إِنْ آجَرَ نَفْسَهُ مِنَ الذِّمِّيِّ فِي خِدْمَتِهِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ فِي عَمَلِ شَيْءٍ جَازَ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ مِنَ الذِّمِّيِّ.
فَهَذِهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْهُ: رِوَايَةٌ مُطْلَقَةٌ بِالْجَوَازِ، وَرِوَايَةٌ مُصَرِّحَةٌ بِالْمَنْعِ فِي الْخِدْمَةِ خَاصَّةً، وَرِوَايَةٌ مُصَرِّحَةٌ بِالْجَوَازِ فِي الْخِدْمَةِ.
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي إِجَارَةِ نَفْسِهِ لَهُ لِلْخِدْمَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ إِجَارَةَ نَفْسِهِ مِنْهُ إِجَارَةَ الْعَيْنِ مُطْلَقًا لِلْخِدْمَةِ وَغَيْرِهَا، وَجَوَّزَ إِجَارَةَ نَفْسِهِ مِنْهُ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ إِجَارَةَ الْخِدْمَةِ خَاصَّةً، وَجَوَّزَ إِجَارَةَ الْعَمَلِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ إِجَارَةَ الْخِدْمَةِ تَتَضَمَّنُ حَبْسَ نَفْسِهِ عَلَى خِدْمَتِهِ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ، وَذَلِكَ فِيهِ نَوْعُ إِذْلَالٍ لِلْمُسْلِمِ وَإِهَانَةٍ لَهُ تَحْتَ يَدِ الْكَافِرِ فَلَمْ يَجُزْ، كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لَهُ.
قَالُوا: وَيُحَقِّقُهُ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لِلْخِدْمَةِ يَتَعَيَّنُ فِيهِ حَبْسُهُ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ وَاسْتِخْدَامُهُ، وَالْبَيْعُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ ذَلِكَ، فَإِذَا مُنِعَ مِنْهُ فَالْمَنْعُ مِنَ الْإِجَارَةِ أَوْلَى.
قَالُوا: وَلِأَنَّهَا بَيْعُ مَنَافِعِهِ، وَالْمَنَافِعُ تَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ رَقَبَتِهِ وَلَا بَعْضِهَا وَلَا مَنَافِعِهِ مِنَ الذِّمِّيِّ.
قَالُوا: وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ عَلَى الذِّمَّةِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَتَضَمَّنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ الْتِزَامٌ لِعَمَلٍ مَضْمُونٍ فِي الذِّمَّةِ.
وَتَلْخِيصُ مَذْهَبِهِ: أَنَّ إِجَارَةَ الْمُسْلِمِ نَفْسِهِ لِلذِّمِّيِّ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: إِجَارَةٌ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ، فَهَذِهِ جَائِزَةٌ.
الثَّانِيَةُ: إِجَارَةٌ لِلْخِدْمَةِ، فَهَذِهِ فِيهَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ مِنْهَا.
الثَّالِثَةُ: إِجَارَةُ عَيْنِهِ مِنْهُ لِغَيْرِ الْخِدْمَةِ، فَهَذِهِ جَائِزَةٌ «وَقَدْ آجَرَ عَلِيٌّ رضي الله عنه نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ يَسْتَقِي لَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ، وَأَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ» .
هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْإِيجَارُ لِعَمَلٍ لَا يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ دِينِهِمْ وَشَعَائِرِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى عَمَلٍ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ بَنَّاءٌ: أَبْنِي نَاوُوسًا لِلْمَجُوسِ؟ فَقَالَ: لَا تَبْنِ لَهُمْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " كِتَابِ الْجِزْيَةِ " مِنَ " الْأُمِّ ": وَأَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَاءً أَوْ نِجَارَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فِي كَنَائِسِهِمُ الَّتِي لِصَلَاتِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِعَمَلِ نَاوُوسٍ وَنَحْوِهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي أَبُو نَصْرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَيْمُونٍ الْعِجْلِيُّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِيمَنْ حَمَلَ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ مَيْتَةً لِنَصَارَى: يُكْرَهُ أَكْلُ كِرَائِهِ، وَلَكِنَّهُ يَقْضِي لِلْحَمَّالِ بِالْكِرَاءِ، وَإِذَا كَانَ لِلْمُسْلِمِ فَهُوَ أَشَدُّ كَرَاهِيَةً.
قِيلَ: اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي هَذَا النَّصِّ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ:
إِحْدَاهَا: إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ الْمَسْأَلَةَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ.
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي " الْإِرْشَادِ ": وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ لِحَمْلِ مَيْتَةٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لِنَصْرَانِيٍّ، فَإِنْ فَعَلَ قُضِيَ لَهُ بِالْكِرَاءِ، وَإِنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ لِحَمْلِ مُحَرَّمٍ لِمُسْلِمٍ كَانْتِ الْكَرَاهِيَةُ أَشَدَّ، وَيَأْخُذُ الْكِرَاءَ، وَهَلْ يَطِيبُ لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَوْجَهُهُمَا أَنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ، وَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ.
وَهَكَذَا ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ قَالَ: إِذَا آجَرَ نَفْسَهُ مِنْ رَجُلٍ فِي حَمْلِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ كُرِهَ؛ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهَذِهِ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ حَامِلَهَا.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَيُقْضَى لَهُ بِالْكِرَاءِ، وَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِالْكِرَاءِ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا كَإِجَارَةِ الْحَجَّامِ، فَقَدْ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ مَعَ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ.
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِمَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا، وَجَعْلُ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَةً وَاحِدَةً: أَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ لَا تَصِحُّ وَهِيَ طَرِيقَةٌ ضَعِيفَةٌ، فَإِنَّهُ صَنَّفَ
" الْمُجَرَّدَ " قَدِيمًا، وَرَجَعَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُ فِي كُتُبِهِ الْمُتَأَخِّرَةِ.
الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: تُخَرَّجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ صَحِيحَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْأُجْرَةَ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِلْفِعْلِ وَالْأُجْرَةِ.
وَالثَّانِيَةُ: لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهَا أُجْرَةً وَإِنْ حَمَلَهَا.
وَقَدْ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: سُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الرَّجُلِ يُؤَجَّرُ لِنِطَارَةِ كَرْمِ النَّصْرَانِيِّ، فَكَرِهَ ذَلِكَ.
فَقَالَ أَحْمَدُ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الْخَمْرِ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ يُبَاعُ لِغَيْرِ الْخَمْرِ فَلَا بَأْسَ. هَذَا لَفْظُهُ، فَقَدْ مَنَعَ مَرَّةً إِجَارَةَ نَفْسِهِ لِحِفْظِ الْكَرْمِ الَّذِي يُتَّخَذُ لِلْخَمْرِ، فَأَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْ إِجَارَةِ نَفْسِهِ عَلَى حَمْلِ الْخَمْرِ.
وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ، وَطَرِيقَةُ أَصْحَابِهِ.
وَهَذَا قِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَنُصُوصِهِ فِي الْخَمْرِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِمْسَاكُهَا، وَيَجِبُ إِرَاقَتُهَا.
وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: إِذَا أَسْلَمَ وَلَهُ خَمْرٌ أَوْ خِنْزِيرٌ يَصُبُّ الْخَمْرَ وَيُسَرِّحُ الْخِنْزِيرَ قَدْ حُرِّمَا عَلَيْهِ، وَإِنْ قَتَلَهَا فَلَا بَأْسَ، فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِمْسَاكُهَا، وَفِي حَمْلِهَا إِمْسَاكٌ لَهَا.
وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَامِلَهَا، فَكَيْفَ تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَى حَمْلِهَا؟ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا اسْتَأْجَرَ الْخَمْرَ وَالْمَيْتَةَ، حَيْثُ لَا يَجُوزُ إِقْرَارُهَا.
أَمَّا إِنِ اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِهَا لِلْإِرَاقَةِ أَوِ الْإِلْقَاءِ فِي الصَّحْرَاءِ، فَإِنَّهُ تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ عَمَلٌ مُبَاحٌ لَكِنْ إِنْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ لِجِلْدِ الْمَيْتَةِ لَمْ تَصِحَّ، وَاسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَخَ الْجِلْدَ وَأَخَذَهُ رَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَالْأَشْبَهُ طَرِيقَةُ ابْنِ أَبِي مُوسَى، فَإِنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى مَقْصُودِ أَحْمَدَ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ " «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ عَاصِرَ الْخَمْرِ وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ» "، فَالْعَاصِرُ وَالْحَامِلُ قَدْ عَاوَضَا عَلَى مَنْفَعَةٍ تَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ وَلَيْسَتْ مُحَرَّمَةً فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ بِقَصْدِ الْمُعْتَصِرِ وَالْمُسْتَحْمِلِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ عِنَبًا أَوْ عَصِيرًا لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَفَاتَ الْعَصِيرَ وَالْعِنَبَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ مَالَ الْبَائِعِ لَا يَذْهَبُ مَجَّانًا، بَلْ يَقْضِي لَهُ بِعِوَضِهِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا الْمَنْفَعَةُ الَّتِي وَفَّاهَا الْمُؤَجِّرُ لَا تَذْهَبُ مَجَّانًا، بَلْ يُعْطَى بَدَلَهَا، فَإِنَّ تَحْرِيمَ الِانْتِفَاعِ بِهَا إِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، لَا مِنْ جِهَتِهِ.
ثُمَّ نَحْنُ نُحَرِّمُ الْإِجَارَةَ عَلَيْهِ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، لَا لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ مَنِ اسْتُؤْجِرَ لِلزِّنَا أَوِ التَّلَوُّطِ أَوِ السَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ نَفْسَ هَذَا الْفِعْلِ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مَيْتَةً أَوْ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا، فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى لَهُ بِثَمَنِهَا ; لِأَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الْعَيْنِ مُحَرَّمَةٌ.
وَمِثْلُ هَذِهِ الْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ لَا تُوصَفُ بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا، وَلَا بِالْفَسَادِ
مُطْلَقًا بَلْ يُقَالُ: هِيَ صَحِيحَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَالْجُعْلُ، فَاسِدَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآجِرِ، يَعْنِي أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِالْمَالِ وَلِهَذَا فِي الشَّرِيعَةِ نَظَائِرُ.
وَنَصُّ أَحْمَدَ عَلَى كَرَاهَةِ نِطَارَةِ كَرْمِ النَّصْرَانِيِّ لَا يُنَافِي هَذَا، فَإِنَّا نَنْهَاهُ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ وَعَنْ ثَمَنِهِ، ثُمَّ نَقْضِي لَهُ بِكِرَائِهِ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا لَكَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَإِعَانَةٌ لِلْعُصَاةِ، فَإِنَّ مَنِ اسْتَأْجَرُوهُ عَلَى عَمَلٍ يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ قَدْ حَصَّلُوا غَرَضَهُمْ مِنْهُ، ثُمَّ لَا يُعْطُونَهُ شَيْئًا، وَإِذَا أَخَذَ مِنْهُمُ الْعِوَضَ يُنْزَعُ مِنْهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَيْهِمْ هَنِيئًا مُوَفَّرًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ سَلَّمَ إِلَيْهِمُ الْمَنْفَعَةَ الْمُحَرَّمَةَ الَّتِي اسْتَأْجَرُوهُ عَلَيْهَا كَالْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ وَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ؟
قِيلَ: إِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْ مِنْهُمُ الْعِوَضَ لَمْ يُقْضَ لَهُ بِهِ، بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قُبِضَ لَهُ لَمْ يَطِبْ لَهُ أَكْلُهُ وَلَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: يَرُدُّهُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ قَبْضًا فَاسِدًا، وَهَذَا فِيهِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَيْهِمْ.
وَالثَّانِيَةُ: لَا يَأْكُلُهُ وَلَا يَرُدُّهُ، بَلْ يَتَصَدَّقُ بِهِ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يَرُدُّهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُبَاحُ لِلْأَخْذِ، وَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي أُجْرَةِ حَمَّالِ الْخَمْرِ.
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهَا تُرَدُّ عَلَى الْبَاذِلِ الْمُسْتَأْجِرِ ; لِأَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَيَجِبُ رَدُّهَا عَلَيْهِ كَالْمَقْبُوضِ بِعَقْدِ الرِّبَا وَنَحْوِهِ مِنَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، قِيلَ لَهُ:
الْمَقْبُوضُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَجِبُ فِيهِ التَّرَادُّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَيَرُدُّ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ مَا قَبَضَهُ مِنْهُ كَمَا فِي عُقُودِ الرِّبَا، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: الْمَقْبُوضُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا يُمَلَّكُ، فَأَمَّا إِذَا تَلِفَ الْمُعَوَّضُ عِنْدَ الْقَابِضِ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ فَلَا يُقْضَى لَهُ بِالْعِوَضِ الَّذِي بَذَلَهُ، وَيُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، فَإِنَّ الزَّانِيَ وَاللَّائِطَ وَمُسْتَمِعَ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ قَدْ بَذَلُوا هَذَا الْمَالَ عَنْ طِيبِ نُفُوسِهِمْ، وَاسْتَوْفَوْا عِوَضَهُ الْمُحَرَّمَ، وَلَيْسَ التَّحْرِيمُ الَّذِي فِيهِ لِحَقِّهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ لِحَقِّ اللَّهِ، وَقَدْ فَاتَتْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةُ بِالْقَبْضِ، وَالْأُصُولُ تَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا رَدَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ يَرُدُّ الْآخَرَ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ رَدُّ الْمَنْفَعَةِ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْمَالَ الَّذِي بَذَلَهُ فِي اسْتِيفَائِهَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الَّذِي اسْتُوفِيَتْ مَنْفَعَتُهُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي أَخْذِ مَنْفَعَتِهِ وَعِوَضِهَا جَمِيعًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْعِوَضُ خِنْزِيرًا أَوْ مَيْتَةً فَإِنَّ ذَلِكَ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي فَوَاتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ بَاقِيًا أَتْلَفْنَاهُ عَلَيْهِ، وَمَنْفَعَةُ الْغَنَاءِ وَالنَّوْحِ لَوْ لَمْ تَفُتْ لَتَوَفَّرَتْ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ صَرْفِهَا فِي أَمْرٍ آخَرَ، أَعْنِي الْقُوَّةَ الَّتِي عَمِلَ بِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنْ تَقْضُوا لَهُ بِهَا إِذَا طَالَبَ بِقَبْضِهَا، قِيلَ: نَحْنُ لَا نَأْمُرُ بِدَفْعِهَا وَلَا بِرَدِّهَا، كَعُقُودِ الْكُفَّارِ الْمُحَرَّمَةِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ نَحْكُمْ بِالرَّدِّ، لَكِنَّ الْمُسْلِمَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأُجْرَةُ ; لِأَنَّهُ كَانَ مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِهَا بِخِلَافِ الْكَافِرِ، فَإِذَا طَلَبَ الْأُجْرَةَ قُلْنَا لَهُ: أَنْتَ فَرَّطْتَ حَيْثُ صَرَفْتَ قُوَّتَكَ فِي عَمَلٍ مُحَرَّمٍ، فَلَا يُقْضَى لَهُ بِالْأُجْرَةِ، فَإِذَا قَبَضَهَا ثُمَّ قَالَ الدَّافِعُ: هَذَا الْمَالُ اقْضُوا لِي بِرَدِّهِ، فَإِنَّهُ قَبَضَ مِنِّي بَاطِلًا، قُلْنَا لَهُ: أَنْتَ دَفَعْتَهُ بِمُعَاوَضَةٍ رَضِيتَ بِهَا، فَإِذَا طَلَبْتَ اسْتِرْجَاعَ مَا أُخِذَ مِنْكَ فَارْدُدْ إِلَيْهِ مَا أَخَذْتَهُ مِنْهُ، فَإِنَّ فِي بَقَائِهِ مَعَهُ مَنْفَعَةً لَهُ.
فَإِنْ قَالَ: قَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي اسْتَوْفَيْتُهَا مِنْهُ، قِيلَ لَهُ: فَلَا يُجْمَعُ لَكَ بَيْنَ مَا اسْتَمْتَعْتَ بِهِ مِنْ مَنْفَعَتِهِ وَبَيْنَ الْعِوَضِ الَّذِي بَذَلْتَهُ فِيهَا.
فَإِنْ قَالَ: أَنَا بَذَلْتُ مَا لَا يَجُوزُ بَذْلُهُ، وَهُوَ أَخَذَ مَا لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ، قِيلَ: وَهُوَ بَذَلَ لَكَ مِنْ مَنْفَعَتِهِ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ، وَاسْتَوْفَيْتَ أَنْتَ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ، فَكِلَاكُمَا سَوَاءٌ فَمَا الْمُوجِبُ لِرُجُوعِكَ عَلَيْهِ، وَلَا يَفُوتُ عَلَيْكَ شَيْءٌ، وَتَفُوتُ الْمَنْفَعَةُ عَلَيْهِ، وَكِلَاكُمَا رَاضٍ بِمَا بَذَلَ مُسْتَوْفٍ لِعِوَضِهِ؟
فَإِنْ قَالَ: مَا بَذَلْتُهُ أَنَا عَيْنٌ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِيهَا فَيَجِبُ، وَمَا بَذَلَهُ مَنْفَعَةٌ لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِيهَا، إِذَا أَمْكَنَ الرُّجُوعُ فِي مُعَوَّضِهَا الَّذِي بَذَلْتُ فِي مُقَابَلَتِهِ، أَوْ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ: الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ مُقَدِّمَتَهُ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ؟ وَقِيَاسُهُ عَلَى الْمَقْبُوضِ عِوَضًا عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ لَا يَصِحُّ كَمَا عُرِفَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
عَلَى أَنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُشْتَرِيَ الْخَمْرِ إِذَا قَبَضَ ثَمَنَهَا وَشَرِبَهَا ثُمَّ طَلَبَ أَنْ يُعَادَ إِلَيْهِ الْمَالُ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِهِ، بَلِ الْأَوْجَهُ أَلَّا يَرُدَّ إِلَيْهِ الثَّمَنَ، وَلَا يُبَاحُ لِلْبَائِعِ أَيْضًا لَاسِيَّمَا وَنَحْنُ نُعَاقِبُ الْخَمَّارَ يَبِيعُ الْخَمْرَ بِأَنْ يُحْرَقَ الْحَانُوتُ الَّتِي يُبَاعُ فِيهَا: نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حَرَقَ حَانُوتًا يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حَرَقَ قَرْيَةً يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ.
وَهَذَا عَلَى أَصْلِ مَنْ يَرَى جَوَازَ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ أَطْرَدُ، فَإِنَّهُ إِذَا جَازَ عُقُوبَتُهُ بِمَالٍ يُنْزَعُ مِنْهُ يُفْسِدُهُ عَلَيْهِ وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَأَنْ لَا يُقْضَى لَهُ بِمَالٍ أَخْرَجَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ وَيُمْنَعُ مِنِ اسْتِرْجَاعِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.