الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ لَا يَسُوغُ إِطْلَاقُ حُكْمِ اللَّهِ عَلَى مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ إِلَّا مَا عُلِمَ حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ يَقِينًا]
2 -
فَصْلٌ
[لَا يَسُوغُ إِطْلَاقُ حُكْمِ اللَّهِ عَلَى مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ إِلَّا مَا عُلِمَ حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ يَقِينًا] .
وَقَوْلُهُ: " «فَإِنْ سَأَلُوكَ عَلَى أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا» " فِيهِ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ إِطْلَاقُ حُكْمِ اللَّهِ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ حَكَمَ بِهِ يَقِينًا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُولَ: أَحَلَّ اللَّهُ كَذَا أَوْ حَرَّمَ كَذَا، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ لَمْ أُحِلَّ كَذَا وَلَمْ أُحَرِّمْهُ.
وَهَكَذَا لَا يَسُوغُ أَنْ يَقُولَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لِمَا لَا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ وَلَا ثِقَةَ رُوَاتِهِ بَلْ إِذَا رَأَى أَيَّ حَدِيثٍ كَانَ فِي أَيِّ كِتَابٍ، يَقُولُ:" لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " أَوْ " لَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "
وَهَذَا خَطَرٌ عَظِيمٌ، وَشَهَادَةٌ عَلَى الرَّسُولِ بِمَا لَا يَعْلَمُ الشَّاهِدُ.
وَكَذَلِكَ لَا يَسُوغُ لَهُ أَنْ يُخْبِرَ عَنِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ عَنْهُ كَمَا يَسْتَسْهِلُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ بَلْ لَا يُخْبِرُ عَنِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ إِلَّا بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ عَنْهُ.
وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَنَعَ الْأَمِيرَ أَنْ يُنْزِلَ أَهْلَ الْحِصْنِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَقَالَ: " «لَعَلَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُهُ أَمْ لَا» " فَمَا الظَّنُّ بِالشَّهَادَةِ عَلَى اللَّهِ وَالْحُكْمِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَذَا أَوْ لَيْسَ كَذَا؟ وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي الْحَادِثَةِ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ، وَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُصِيبُهُ تَارَةً وَيُخْطِئُهُ تَارَةً وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى ذَلِكَ صَرِيحًا.
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْحُذَّاقِ مِنْ شُيُوخِ الْمَالِكِيِّينَ - ثُمَّ عَدَّهُمْ - ثُمَّ قَالَ: كُلٌّ يَحْكِي أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْقَائِسِينَ إِذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّأْوِيلُ مِنْ نَوَازِلِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْحَقَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ، إِلَّا أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ إِذَا اجْتَهَدَ كَمَا أَمَرَ وَبَالَغَ وَلَمْ يَأْلُ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ وَمَعَهُ آلَةُ الِاجْتِهَادِ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ مَأْجُورٌ عَلَى قَصْدِهِ الصَّوَابَ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِنْ ذَلِكَ وَاحِدًا.
قَالَ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
قَالَ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو يُوسُفَ وَالْحُذَّاقُ مِنْ أَصْحَابِهِمْ.
قُلْتُ: قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَقَدْ نَصَّ مَالِكٌ عَلَى مَنْعِ الْقَوْلِ بِإِصَابَةِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ فَقَالَ: لَيْسَ فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُمْ - سَعَةٌ، إِنَّمَا هُوَ خَطَأٌ أَوْ صَوَابٌ.
وَسُئِلَ أَيْضًا: مَا تَقُولُ فِي قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مُصِيبٌ لِمَا كُلِّفَ؟ فَقَالَ: مَا هَذَا هَكَذَا، قَوْلَانِ مُخْتَلِفَانِ لَا يَكُونَانِ قَطُّ صَوَابًا.
وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَالَ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ: إِذَا اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ رَجُلٌ بِأَحَدِ
الْحَدِيثَيْنِ وَأَخَذَ آخَرُ بِحَدِيثٍ آخَرَ ضِدِّهِ، فَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ فِي وَاحِدٍ وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَلَا يَدْرِي أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ.
وَأُصُولُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَقَوَاعِدُهُمْ وَنُصُوصُهُمْ عَلَى هَذَا، وَأَنَّ الصَّوَابَ مِنَ الْأَقْوَالِ كَجِهَةِ الْقِبْلَةِ فِي الْجِهَاتِ وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ دَلِيلًا قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ: " «فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ» " أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ قَدْ يُصِيبُهُ وَقَدْ يُخْطِئُهُ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:" «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» ".
فَمَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِلْأَجْرِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي أَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ، فَقَوْلُهُ صَحِيحٌ إِذَا اسْتَفْرَغَ الْمُجْتَهِدُ وُسْعَهُ وَبَذَلَ جُهْدَهُ.