الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ مَتَى تَجِبُ الْجِزْيَةُ]
7 -
فَصْلٌ
[مَتَى تَجِبُ الْجِزْيَةُ؟]
وَتَجِبُ الْجِزْيَةُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ، وَلَا يُطَالَبُونَ بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، هَذَا قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ بِأَوَّلِ الْحَوْلِ، وَتُؤْخَذُ مِنْهُ كُلَّ شَهْرٍ بِقِسْطِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَصْلٌ فِي الْجِزْيَةِ، وَهِيَ أَنَّهَا عِنْدَهُ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَلِهَذَا يَقُولُ: إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةُ سِنِينَ تَدَاخَلَتْ كَمَا تَتَدَاخَلُ الْعُقُوبَاتُ، وَلَوْ أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ جِزْيَةُ سِنِينَ سَقَطَتْ كُلُّهَا كَمَا تَسْقُطُ الْعُقُوبَاتُ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ الْأَخْذِ سَقَطَتْ عَنْهُ.
وَفِي " الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ": وَمَنْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ خَرَاجُ رَأْسِهِ حَتَّى مَضَتِ السَّنَةُ وَجَاءَتِ السَّنَةُ الْأُخْرَى، لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَا: تُؤْخَذُ مِنْهُ، فَإِنْ مَاتَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؟ وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَتْ تَجِبُ بِآخِرِ الْحَوْلِ لَاسْتَقَرَّتْ بِمُضِيِّهِ وَلَمْ تَسْقُطْ وَلَمْ تَتَدَاخَلْ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ وَالْجِزْيَةِ وَجَبَتْ بَدَلًا عَنِ الْقَتْلِ وَعِصْمَةِ الدَّمِ فِي حَقِّهِ، وَعِوَضًا عَنِ النُّصْرَةِ لَهُمْ فِي حَقِّنَا وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي ; لِأَنَّ الْقِتَالَ إِنَّمَا يُفْعَلُ لِحِرَابٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ لَا لِحِرَابٍ مَاضٍ، وَكَذَا النُّصْرَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ النَّاصِرَ وَقَعَتِ الْغُنْيَةُ عَنْهُ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ سَبَبَ الْجِزْيَةِ قَائِمٌ فِي الْحَالِ، وَيُعْطِيهَا عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسَبِ احْتِمَالِ الْمَحَلِّ لِتَعْوِيضِ الضَّرَبَاتِ فِي الْحُدُودِ.
وَلِهَذَا قَالُوا: تُؤْخَذُ كُلَّ شَهْرٍ بِقِسْطِهِ فَإِنَّهَا لَوْ أُخِّرَتْ حَتَّى دَخَلَ الْعَامُ الثَّانِي سَقَطَتْ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي " الْجَامِعِ ".
وَعَلَى هَذَا فَلَا تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ أَبَدًا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى أَنْ تُؤْخَذَ سَلَفًا وَتَعْجِيلًا فَأُخِذَتْ مُفَرَّقَةً عَلَى شُهُورِ الْعَامِ لِقِيَامِ مُقْتَضًى لِصَدَقَتِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَفِي الْأَخْذِ مِنَ الذَّبِّ عَنْهُ وَالنُّصْرَةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ " الزِّيَادَاتِ " فِي نَصْرَانِيٍّ مَرِضَ السَّنَةَ كُلَّهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ وَهُوَ مُوسِرٌ: أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُعْتَمِلِ.
وَكَذَلِكَ إِنْ مَرِضَ نِصْفَ السَّنَةِ أَوْ أَكْثَرَهَا، فَإِنْ صَحَّ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ وَلِأَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ فَهُوَ خَالٍ مِنَ الْغِنَى.
وَكَذَلِكَ إِذَا مَرِضَ أَكْثَرَ السَّنَةِ أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْجَمِيعِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا مَرِضَ نِصْفَ السَّنَةِ أَنَّ الْمُوجِبَ وَالْمُسْقِطَ تَسَاوِيَا فِيمَا طَرِيقُهُ الْعُقُوبَةُ وَكَانَ الْحُكْمُ لِلْمُسْقِطِ كَالْحُدُودِ.
وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وَبِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ وَإِذْلَالٌ وَصَغَارٌ لِلْكُفْرِ وَأَهْلِهِ، فَلَا يُتَأَخَّرُ عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَخْذِهَا.
قَالُوا: وَهَذَا - عَلَى أَصْلِ مَنْ جَعَلَهَا أُجْرَةَ سُكْنَى الدَّارِ - أَطْرَدُ فَإِنَّ الْأُجْرَةَ تَجِبُ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ مُقَسَّطَةً بِتَكَرُّرِ الْأَعْوَامِ رِفْقًا بِهِمْ وَلِيَسْتَمِرَّ نَفْعُ الْإِسْلَامِ بِهَا وَقُوَّتُهُ كُلَّ عَامٍ بِخَرَاجِ الْأَرَضِينَ.
قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَمَّا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِهَا حَتَّى ضَرَبَهَا عَلَيْهِمْ، وَلَا أَلْزَمَهُمْ بِأَدَائِهَا فِي الْحَالِ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ بَلْ صَالَحَهُمْ عَلَيْهَا، وَكَانَ يَبْعَثُ رُسُلَهُ وَسُعَاتَهُ فَيَأْتُونَ بِالْجِزْيَةِ وَالصَّدَقَةِ عِنْدَ مَحَلِّهِمَا، وَاسْتَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ سِيرَةُ خُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَهَذَا مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْأَعْوَامِ إِنَّمَا تَجِبُ فِي آخِرِ الْعَامِ لَا فِي أَوَّلِهِ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَجَّلَ عَلَى رَجُلٍ مَالًا كُلَّ عَامٍ يُعْطِيهِ كَذَا وَكَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِقِسْطِ الْعَامِ الْأَوَّلِ عَقِيبَ الْعَقْدِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَطَاءَ الْأَوَّلَ وَحْدَهُ بَلِ الْعَطَاءُ الْمُسْتَمِرُّ الْمُتَكَرِّرُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا ذَكَرْتُمْ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَخْذَ الْجَمِيعِ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: حَتَّى يَلْتَزِمُوا عَطَاءَ الْجِزْيَةِ وَبَذْلَهَا، وَهَذِهِ كَانَتْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا الْتَزَمُوا لَهُ بَذْلَ الْجِزْيَةِ كَفَّ عَنْهُمْ بِمُجَرَّدِ الْتِزَامِهِمْ، وَلِهَذَا يَحْرُمُ قِتَالُهُمْ إِذَا الْتَزَمُوهَا قَبْلَ إِعْطَائِهِمْ إِيَّاهَا اتِّفَاقًا، وَلِهَذَا قَالَ - فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ -:" «فَادْعُهُمْ إِلَى الْجِزْيَةِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ» " وَإِنَّمَا كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِهَا وَالْتِزَامِهَا دُونَ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ بِأَوَّلِ السَّنَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ تَسْتَقِرُّ جُزْءًا بَعْدَ جُزْءٍ.