الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
الطبعة الخامسة:
بقلم المؤلفة.
في عام 1962 صدر كتابي هذا في طبعته الأولى، وكنت قد أوردت فيه كل ما استطعت الوصول إليه من قواعد الشعر الحر ومسائله؛ ولذلك لم أحتج إلى كتابة مقدمة له. أما الآن وأنا أصدر الطبعة الرابعة منه؛ فإن اثنتي عشرة سنة قد مرت على الشعر الحر بعد وضعي لقواعده ودراستي لمسائله. وهذه السنوات قد جاءت بنقد كثير للكتاب. وقد أثار النقاد تساؤلات متعددة حول بعض آرائي فيه، بحيث أجدني مضطرة إلى أن أكتب، لهذه الطبعة، مقدمة أشخص فيها موقفي من الشعر الحر تشخيصًا جديدًا.
ذلك أن المد العظيم من القصائد الحرة الذي غمر العالم العربي، قد استثار عندي آراء جديدة، وأعطاني فرصة لاستكمال قواعد الشعر الحر، أو على الأقل، للإضافة إليها، وغربلتها، ثم إن طائفة من القواعد التي وضعتها أصبحت تبدو لي على شيء من التزمت لأن سمعي نفسه قد
تطور. وليس هذا غريبًا؛ وإنما هو مألوف في تاريخ التقنين للحركات الشعرية والبلاغية الجديدة. فما كان من الممكن أن ينضج عروض الشعر الحر دفعة واحدة من دون تدرج، خاصة وأن هذا الشعر كان في سنة 1962 لم يزل ينمو، والعروض يجب أن يكون استقراء لما ينظمه الشعراء من ناحية، واعتمادًا على قوانين العروض من ناحية أخرى.
وقد يقال: كيف استطاع الخليل إذن أن يضع عروض الشعر العربي دفعة واحدة؟ فأقول إن العروض الخليلي قد وصلنا كاملًا دون أن تتاح لنا فرصة نعرف فيها تفاصيل الأسلوب والخطوات التي استعملها الخليل في وضعه، ولا الزمن الذي استغرقه ذلك. وأغلب ظني أن الخليل وضعه في بطء وتؤده خلال سنوات كثيرة، ولا أستبعد أن يكون عدَّل فيه وغير وحذف وأضاف مرارًا وتكرارًا حتى اكتمل بالشكل الذي وصلنا.
أقول كل هذا، مع أن أغلب القواعد التي وضعتها عام 1962 ما زالت جارية والشعراء يستعملونها في قصائدهم، وكل ما أحتاج الآن أن أضع الهوامش على ذلك القانون الأول، وأستثني منه بعض الحالات معتمدة في ذلك على ثلاثة منابع: معرفتي للعروض العربي، واطلاعي المستمر على قصائد زملائي الشعراء، واعتمادي على سمعي الشعري. ولسوف أتناول في هذه المقدمة قضايا أخرى إلى جانب قضية الوزن، ولكن مجمل المسائل أربع كلها يتعلق بالشعر الحر وهذه هي:
1-
علاقة الشعر الحر بالتراث العربي.
2-
بدايات حركة الشعر الحر.
3-
البحور التي يصح نظم الشعر الحر منها.
4-
قضية التشكيلات المستعملة في القصيدة الحرة.
1-
الشعر الحر والتراث العربي:
ما زال المتعصبون والمتزمتون من أنصار الشطرين يدحرجون في طريق الشعر الحر صخورهم التي يظنونها ضخمة؛ بحيث تقتل هذا الشعر وتزيحه من الوجود؛ مع أنها لا تزيد على أن تتدحرج من الجبل إلى الوادي ثم ترقد هناك دون أن تؤثر في مجرى نهر الشعر الحر الجارف الذي ينطلق يروي السهول الفسيحة وينتج أزهارًا وفاكهة ونخيلًا وبساتين. وهؤلاء المتعصبون ما زالوا يرددون قولًا مضمونه أن الشعر الحر ولد غير شرعي؛ فلا علاقة له بالشعر العربي. وأنا قد أثبت بالأدلة العروضية في هذا الكتاب أن ذلك الرأي باطل فإن شعرنا الجديد مستمد من عروض الخليل بن أحمد، قائم على أساسه؛ بحيث يمكن أن نستخرج من كل قصيدة حرة مجموعة قصائد خليلية وافية ومجزوءة ومشطورة ومنهوكة. يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش مثلًا من "المتقارب":
وفوق سطوح الزوابع كل كلام جميل
وكل لقاء وداع
وما بيننا غير هذا اللقاء
وما بيننا غير هذا الوداع
ومع أن هذا شعر حر طبيعي إلا أن من الممكن اعتباره شعر شطرين بمجرد تغيير شكل كتابته كما يلي:
وفوق سطوح الزوابع كل
…
كلام جميل وكل لقاء
وما بيننا غير هذا اللقاء
…
وما بيننا غير هذا الوداع
وقد أسقطت كلمة واحدة هي "وداع"، وهذا يجب أن يقنع اعتراضات المتزمتين. فإن الشعر الحر يمكن أن يعد شعر شطرين اعتياديًّا
ما عدا أنه أوسع من أسلوب الشطرين وأرحب أفقًا. وليس معنى كلامنا هذا أننا نتخلى عن الشطرين ونرفضها؛ فإن لهما مزايا وعيوبًا، كما أن للشعر الحر مزايا وعيوبًا. وأنا حريصة عليهما معًا، محبة لهما كليهما، وكل ما أدعو إليه أن نقيم أسلوب الشعر الحر توءمًا جميلًا لأسلوب الشطرين؛ فكلاهما طفل يلثغ بالأغاني الحلوة وليس لشاعر أن يرفض أيًّا منهما.
والواقع أن الشعر الحر قد ورد في تاريخنا الأدبي، وقد كشف الأدباء المعاصرون، ومن أوائلهم عبد الكريم الدجيلي في كتابه المهم "البند في الأدب العربي، تاريخه ونصوصه"، كشفوا أن قصيدة من هذا الشعر قد وردت منسوبة إلى الشاعر ابن دريد في القرن الرابع الهجري وهذا نصها، وقد رواه الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن" وأدرجه كما يدرج النثر الاعتيادي؛ ولكني أوثر أن أدرجه إدراج الشعر الحر ليبدو نسق أشطره المتفاوتة الأطوال والأوزان:
رب أخ كنت به مغتبطًا
أشد كفي بعرى صحبته
"من الرجز":
تمسكًا مني بالود ولا
أحسبه يغير العهد ولا يحول عنه أبدًا
ما حل روحي جسدي
فانقلب العهد به
فعدت أن أصلح ما أفسده
فأستصعب أن يأتي طوعًا فتأنيت أرجيه
"من الهزج":
فلما لج في الغي إباءً
"هزج ضربه فعولن":
ومضى منهمكًا غسلت إذ ذاك يدي منه
"رمل":
ولم آس على ما فات منه
وإذا لج بي الأمر الذي تطلبه فعد عنه
وتأتي غيره ولا تلج فيه فتلقى عنتًا
و"مكسور":
جانب الغي وأهل الفند واصبر
"من الرمل":
على نائبة فاجأك الدهر بها
والصبر أحرى بذوي اللب وأربى بهمو
"من الهزج":
وقل من صابر ما فاجأه الدهر به
"من الرجز":
إلا سيلقى فرجًا في يومه أو غده
هذا والأستاذ الدجيلي لم يعد هذه القصيدة شعرًا حرًّا؛ وإنما التمس فيها شكل البند الذي رآه فيها بعض الأدباء ثم قال الدجيلي: "إن هذه نبذة مفككة الأجزاء؛ فتصيد البند من هذا الكلام تكلف وتمحل؛ لأن البند كما قلنا سابقًا هو في الأغلب من بحر الهزج وهذه خارجة عن هذا البحر". والواقع الذي لم يلتفت إليه الباحث الفاضل أن أشطر ابن دريد تجمع بين بحور دائرة المجتلب جميعها ففيها أشطر من الرمل وأخرى من الهزج وثالثة من الرجز. والبند كما أثبتنا في هذا الكتاب يستعمل وزنين اثنين هما الرمل والهزج فيتداخل هذان البحران وفق قاعدة دقيقة مذهلة.
وقد استنكر الباقلاني نسبة هذه الأشطر إلى ابن دريد، ولعلي أؤيده في هذا لأن ابن دريد شاعر متمكن من اللغة، جميل الأسلوب، حلو الصور؛ فلا يمكن أن يسقط في مثل هذا التوتر و"الميكانيكية" الواردة في الأشطر الحرة المنسوبة إليه؛ غير أن الركاكة اللغوية فيها لا ينبغي أن تؤثر فينا نحن الباحثين المعاصرين؛ لأننا إنما نهتم هنا بوجود الشعر الحر. ولسوف نلاحظ أن هذا الكلام الموزون تبرز فيه ثلاث ظواهر تجعله يشبه الشعر الحر:
1-
أن الشاعر -سواء أكان ابن دريد أم سواه- قد حطم استقلال البيت العربي، متعمدًا استعمال ما كان يعد عيبًا في الشعر وهو "التضمين" أي جعل البيت مفضيًا بمعناه وإعرابه إلى البيت الذي يليه. وهذا أول خروج نعرفه على ما كان مقبولًا في الشعر.
ولست أعني أن التضمين لم يرد عن العرب؛ فقد ورد في حالات نادرة وعابوه؛ وإنما أريد أن الشاعر -في أشطر ابن دريد- قد تحدى العرف الشعري وهو عامد يعي ما يفعل؛ فالأشطر المذكورة ثورة على قواعد الشعر المقبولة في ذلك الزمان.
2-
أن الشاعر قد خرج على قانون تساوي الأشطر في القصيدة الواحدة فجمع بين شطر ذي ثلاث تفعيلات، وشطر ذي خمس، وشطر ذي اثنتين وهكذا. وهو أمر لم يصنعه العرب قبله وهذه أول مرة يخرج فيها شاعر قديم على طول الشطر. ويبدو أن هذا أحد أسباب استنكار الباقلاني للأشطر ورفضه نسبتها إلى ابن دريد، قال:"من سبيل الموزون أن تتساوى أجزاؤه في الطول والقصر والسواكن والحركات فإن خرج عن ذلك لم يكن موزونا". ولا بد لي أن أعترض هنا على قوله إن الموزون تتساوى فيه السواكن والحركات شرطًا؛ فإن ذلك حكم فاسد بدليل ورود الزحاف في بعض الشعر دون بعض، وهو أمر يجعل الحركات والسواكن مختلفة من شطر إلى شطر مع تساوي الأشطر وقيام الوزن قيامًا كاملًا؛ فالباقلاني قد وقع في وهم، ولعله ضعيف المعرفة بالشعر؛ ولذلك انتقص معلقة امرئ القيس أشد انتقاص ممكن وجردها من الجمال والروعة اللتين نحبهما فيها جميعًا.
3-
أن الشاعر نبذ القافية نبذًا تامًّا وجاء بشعر مرسل وهو شيء لا مثيل له في الشعر العربي السابق لتلك الأبيات المنظومة في القرن الرابع الهجري.
وقد يقال إن أشطر ابن دريد لا يُعتد بها لأنها مضت ولم تخلف أثرًا فلم يقتد بها شاعر. غير أن من الممكن أن نقول أيضًا أن المقطوعة تدل على شيء واحد هو أن العصر لم يكن مهيئًا بعد لهذا التجديد الباهر، فذهب جفاء ولم يمكث في الأرض.
كذلك قد يقال إن أشطر ابن دريد، مجدبة، لا طراوة فيها ولا موسيقية ولا جمال، وهذا صحيح ونحن نوافق عليه. ولكن ذلك لا ينفي أنها تدعو إلى شيء جديد بديع لم يقبله العصر إذ ذاك. أما تنقل الشاعر من وزن إلى وزن فهو يدل على وعي مبكر عند الشاعر إلى أن من الممكن الجمع بين بحور الدائرة الواحدة من دوائر الخليل بن أحمد بالاتكاء إلى ضرب معين يختم به البحر الواحد ويمهد إلى الانتقال للبحر التالي. وهذا عين ما اكتشفه شعراء البند في العصور المتأخرة.
كذلك نقل عبد الكريم الدجيلي من كتاب "وفيات الأعيان" أشطرًا منسوبة إلى أبي العلاء المعري تجري هكذا:
أصلحك الله وأبقاك
لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم
إلى منزلنا الخالى
لكي نحدث عهدا بك يا خير الاخلاء
فما مثلك من غيَّر عهدًا أو غفل
إن هذه الأشطر شعر حر من الرجز ثم من الهزج، وهي مثل أشطر ابن دريد غير كاملة، وقد وقف الشاعر عند منتصف تفعيلة الهزج. وإذا ما وزعنا الأشطر توزيعًا أقرب إلى توزيع شعرنا القديم لاحت الأشطر متساوية الطول من مجزوء الرجز كما يلي:
أصلحك الله وأبقاك لقد كان من الـ
ـواجب أن تأتينا اليوم إلى منزلنا الـ
ـخالي لكي نحدث عهدًا بك يا خير الأخل
لاء فما مثلك من غيَّر عهدًا أو غفل
ولكن الذي يبدو لي أن أبا العلاء لم يقصدها على هذا الوجه لأنه ليس من الذوق الأدبي أن يجعل أل التعريف رويًّا يقف عنده، ثم يقصم كلمة "الأخلاء" ليقف منها على مقطع "الأخل". اللهم إلا إذا كان شاعرنا الموهوب أبو العلاء يمزح ويضحك لسبب في حياته الواقعية التي نجهل تفاصيلها، فهو لا يقصد إلى الخروج على القياس العربي وعلى المنطق والذوق.
ولكن أعظم إرهاص بالشعر الحر هو ما يعرف بالبند، لا بل إن هذا البند هو نفسه شعر حر للأسباب التالية:
1-
لأنه شعر تفعيلة لا شعر شطر.
2-
لأن الشطر فيه غير متساوية الطول.
3-
لأن القافية فيه غير موحدة وإنما يتنقل الشاعر من قافية إلى قافية ذو نظام أو نموذج محدد.
وعندما نعلم أن أقدم البنود التي عثر عليها الباحث عبد الكريم الدجيلي ينتمي إلى القرن الحادي عشر، نعلم أن حقيقة بدايات الشعر الحر يمكن أن ترجع إلى هذا القرن. والأمر الوحيد المانع من هذا أن البند شعر ذو وزنين لا وزن واحد وهذان الوزنان يتداخلان على شكل غريب كل الغرابة فيه لمسة ذكاء. ولكم أتمنى لو أننا استطعنا أن نعرف من كان
أول شاعر اكتشف طريقة مزج الوزنين الرمل والهزج بحيث يفضي أحدهما إلى الآخر باستعمال ضرب معين.
وفي هذا الكتاب فصل كامل درست فيه وزن البند. وأضيف الآن إلى ما قلت أن البنود التي وردت من الهزج وحده كانت -في نظري- أخطاء وقع فيها شعراء ضعاف السمع لم ينتبهوا إلى روعة النغم في البند، وذلك التداخل العجيب بين وزنين على أساس الدائرة التي ينتميان إليها. والواقع أن طائفة من الشعراء نظموا البند دونما شاعرية ولا موهبة فكانوا يجيئون خلاله بأشطر أو حتى أبيات متساوية الطول، وهذا ينم عن قصورهم السمعي وعدم قدرتهم على تقدير الخاصية الأصيلة في البند وهي أنه شعر يخرج على الطول الموحد الثابت للشعر العربي. ثم إن المتزمتين من الشعراء -وهم إذ ذاك الأكثرية- قد رفضوا أن يعدوا البند شعرًا وإنما اعتبروه نوعًا من السجع أو لونًا من النثر المبتذل وتعالوا عن أن يستعملوه. وهؤلاء لا يستطيعون أن يجيبوا: لماذا إذن يمكن تقطيع البند تقطيعًا كاملًا على الرمل والهزج بتشكيلاتهما الموجودة في كتب العروض؟ وهل الموزون على هذين البحرين سجع أو نثر؟
والسؤال المهم الذي يرد هنا هو هذا: هل أخذت أنا -أو أخذ بدر السياب يرحمه الله- أسلوب الشعر الحر من البند؟ الجواب أنني نظمت الشعر الحر أول مرة عام 1947 وكنت أعرف "البند" اسمًا فقط لأنني لم أقرأ بندًا قبل سنة 1953. وهذا معقول ومبرر لأن البند لم يرد في كتب الأدب التي درسناها ولا أشار إليه أي كتاب قرأته.
لا بل إن الأدباء خارج العراق أغلبهم لم يسمع بالبند اللهم إلا بعد صدور كتابي هذا سنة 1962، ولا أقول بعد صدور كتاب الدجيلي سنة 1959، فإن هذا الكتاب الشديد الأهمية لا يكاد يكون وزع خارج العراق مطلقًا، مع أنه يستحق أن يطبع طبعات كثيرة ويتلاقفه آلاف من المعنيين بالشعر الحر على الأقل.
أما بدر السياب فالمعروف أنه خريج قسم اللغة الإنكليزية ومن المستبعد عندي أن يكون قد أتيح له عام 1946 أن يسمع بالبند؛ لأنني أنا نفسي على قوة معرفتي بالتراث العربي لم أتعرف إليه قبل سنة 1953 بعد نظمي لأول قصيدة حرة بست سنوات. وعلى هذا لا يكون الشعر الحر حفيدًا للبند وإن كان بينهما هذا الشبه الكبير. ويزيد هذا تأكيدًا أن الكتاب الوحيد المطبوع عن البند هو كتاب الأستاذ عبد الكريم الدجيلي الصادر ببغداد سنة 1959 بعد ظهور الشعر الحر باثنتي عشرة سنة كاملة.
2-
بدايات الشعر الحر:
عام 1962 صدر كتابي هذا، وفيه حكمت أن الشعر الحر قد طلع من العراق ومنه زحف إلى أقطار الوطن العربي. ولم أكن يوم أقررت هذا الحكم أدري أن هناك شعرًا حرًّا قد نظم في العالم العربي قبل سنة 1947سنة نظمي لقصيدة "الكوليرا". ثم فوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة قد ظهرت في المجلات الأدبية والكتب منذ سنة 1932، وهو أمر عرفته من كتابات الباحثين والمعلقين لأنني لم أقرأ بعد تلك القصائد في مصادرها. وإذا أسماء غير قليلة ترد في هذا المجال منها اسم علي أحمد باكثير ومحمد فريد أبي حديد ومحمود حسن إسماعيل وعرار شاعر الأردن ولويس عوض وسواهم. ثم عثرت أنا نفسي على قصيدة حرة منشورة قبل قصيدتي وقصيدة بدر السياب للشاعر بديع حقي وهذا مقطع منها:
أي نسمه
حلوة الخفق عليله
تمسح الأوراق في لين ورحمه
تهرق الرعشة في طيات نغمه
وأنا في الغاب أبكي
أملًا ضاع وحلمًا ومواعيد ظليله
والمنى قد هربت من صفرة الغصن النحيله
فامحى النور وهام الظل يحكي
بعض وسواسي وأوهامي البخيله
ثم إن الباحث الدكتور أحمد مطلوب قد أورد في كتابه "النقد الأدبي الحديث في العراق" قصيدة من الشعر الحر عنوانها "بعد موتي" نشرتها جريدة العراق ببغداد سنة 1921 تحت عنوان "النظم الطليق"؛ وفي تلك السنة المبكرة من تاريخ الشعر الحر لم يجرؤ الشاعر على إعلان اسمه وإنما وقع "ب. ن" وهذا نص اقتبسه الباحث من تلك القصيدة:
اتركوه، لجناحيه حفيف مطرب
لغرامي
وهو دائي ودوائي
وهو إكسير شقائي
وله قلب يجافي الصب غنجًا لا لكي
يملأ الإحساس آلامًا وكي
فاتركوه، إن عيشي لشبابي معطب
وحياتي
بعد موتي
والظاهر أن هذا أقدم نص من الشعر الحر، والسؤال المهم الآن: هل نستطيع أن نحكم بأن حركة الشعر الحر بدأت في العراق سنة 1921؟ أو أنها بدأت في مصر سنة 1932؟ والواقع أننا لا نستطيع، فالذي يبدو لي
أن هناك أربعة شروط ينبغي أن تتوافر لكي نعتبر قصيدة ما أو قصائد هي بداية هذه الحركة وسأدرجها فيما يلي:
1-
أن يكون ناظم القصيدة واعيًا أنه قد استحدث بقصيدته أسلوبًا وزنيًّا جديدًا سيكون مثيرًا أشد الإثارة حين يظهر للجمهور.
2-
أن يقدم الشاعر قصيدته تلك "أو قصائده" مصحوبة بدعوة إلى الشعراء يدعوهم فيها إلى استعمال هذا اللون في جرأة وثقة، شارحًا الأساس العروضي لما يدعو إليه.
3-
أن تستثير دعوته صدى بعيدًا لدى النقاد والقراء فيضجون فورًا -سواء أكان ذلك ضجيج إعجاب أم استنكار- ويكتبون مقالات كثيرة يناقشون فيه الدعوة.
4-
أن يستجيب الشعراء والدعوة ويبدءون فورًا باستعمال اللون الجديد، وتكون الاستجابة على نطاق واسع يشمل العالم العربي كله.
ولو تأملنا القصائد الحرة التي ظهرت قبل عام 1974 لوجدناها لا تحقق أيًّا من هذه الشروط، فإنها مرت ورودًا صامتة على سطح تيار، وجرفها الصمت فلم يعلق عليها أحد، ولم يتقبلها شاعر واحد. فضلًا عن أنها لم تكن مصحوبة بدعوة رسمية تثبت القاعدة العروضية لهذا الشعر الجديد وتنادي الشعراء إلى استعماله. يضاف إلى ذلك أن ناظميها أنفسهم لم يكونوا شاعرين بأهمية ما صنعوا على أي وجه من الوجوه. ولذلك لم يستمروا في استعماله وإنما تركوه وشيكًا بعد قصيدة واحدة أو اثنتين وعادوا إلى أسلوب الشطرين كأن لم يكن شيء
…
وعلى هذا فإن القصائد الحرة التي نظمت قبل عام 1947 قد كانت كلها "إرهاصات" تتنبأ بقرب ظهور حركة الشعر الحر. ولأولئك الشعراء دورهم الذي نعترف به أجمل اعتراف، فإنهم كانوا مرهفين فاهتدوا
إلى أسلوب الشعر الحر عرضًا، وإن كانوا لم يشخصوا أهمية ما طلعوا به ولا هم صمدوا واستمروا ينظمونه. ولعل العصر نفسه لم يكن مهيأ لتقبل الشكر الجديد إذ ذاك، ولذلك جرف الزمن ما صنعوا وانطفأت الشعلة فلم تلتهب حتى صدر "شظايا ورماد" عام 1949 وفيه دعوتي الواضحة إلى الشعر الحر.
وقد توهم طائفة من الذين تناولوا أحكامي بالنقد -ولا يخلون أن يكون بينهم من هو شتام لا ناقد موضوعي رصين- توهموا أنني يوم حكمت بأن أول قصيدة حرة منشورة كانت قصيدتي "الكوليرا" إنما كنت أدري بوجود قصائد حرة ظهرت قبل قصيدتي وأنني تعمدت إغفالها وعدم الإشارة إليها لأنسب المجد إلى نفسي. وهذا اتهام موجع لا أساس له، يعلم الله. وإنما اندفعت إلى التجديد بتأثير معرفتي بالعروض العربي وقراءتي للشعر الإنكليزي. وليس من مبرر على الإطلاق أن نفترض أن شاعرة مثلي أو شاعرًا مثل بدر شاكر السياب لا تستطيع الاهتداء بفطرتها عام 1947 إلى ما قد اهتدى إليه شعراء آخرون غيرها مثل علي أحمد باكثير وعرار وبديع حقي ولويس عوض منذ سنوات أكثر تبكيرًا.
كذلك أحب أن أثبت، في ختام هذا الحديث، اعتقادي بأنني لو لم أبدأ حركة الشعر الحر، لبدأها بدر شاكر السياب يرحمه الله، ولو لم نبدأها أنا وبدر لبدأ شاعر عربي آخر غيري وغيره، فإن الشعر الحر قد أصبح في تلك السنين ثمرة ناضجة حلوة على دوحة الشعر العربي بحيث حان قطافها، ولابد من أن يحصدها حاصد ما في أية بقعة من بقاع الوطن العربي. لأنه قد حان لروض الشعر أن تنبثق فيه سنابل جديدة باهرة تغير النمط الشائع، وتبتدئ عصرًا أدبيًّا جديدًا كله حيوية وخصب وانطلاق.
3-
بحور الشعر الحر
سبق لي في كتابي هذا أن جعلت البحور التي يصح نظم الشعر الحر منها ثمانية هي الكامل والهزج والرمل والرجز والمتدارك والمتقارب والوافر والسريع. وكان حكمي هذا قائمًا على أساس اعتبار التفعيلة الواحدة المكررة في الشطر أساسًا. فإذا كانت التفعيلة غير مكررة في الشطر تكرارًا متجاورًا لم يصح عندي نظم شعر حر من الوزن الذي تنتمي إليه مثل بحور البسيط والمديد والخفيف والمجتث والمنسرح وسواها.
على أن الشعراء وأولهم بدر شاكر السياب رحمه الله حاولوا نظم شعر حر من بحور أخرى غير التي ذكرتها كالطويل والبسيط والخفيف. وقد درست ما صنعوه فوجدت ذلك يقوم على أساس اعتبار الوحدة في القصيدة الحرة تفعيلتين اثنتين بدلًا من واحدة كقولهم من الطويل:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
فعولن مفاعيلن
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
ولا يجوز هنا أن تكرر تفعيلة واحدة مختارة لأننا بذلك نخرج إما إلى المتقارب "فعولن فعولن فعولن" أو إلى الهزج "مفاعيلن مفاعيلن".
وأما البسيط فيمكن أيضًا أن نقسم الشطر فيه إلى قسمين "مستفعلن فاعلن" و"مستفعلن فعلن" ولا نخفي أن "فاعلن" نفسها كثيرًا ما تخبن فتتحول إلى "فعلن" فتصبح القسمة أشد ضبطًا. غير أن بدر السياب نظم شعرًا حرًّا من البسيط دون التقيد بضرورة إيراد التفعيلتين معًا وإنما كانت قصيدته الحرة من البسيط تجري كما يلي مثلًا:
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
مستفعلن فعلن
مستفعلن فاعلن فعلن "مقطوع"
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن "مخبون"
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن
مستفعلن فعلن
وهذا كله مقبول عدا الشطر الثالث الذي وردت فيه فعلن بتسكين العين "المقطوعة" ويقابلها قول بدر:
أم من حياة نسيناها
في قصيدته "أفياء جيكور" وهو يرن في سمعي وكأنه شطر ناقص مبتور يضايق الأذن. ومهما يكن من أمر فإن هذه التشكيلة المنفرة قد وردت في قصائد البسيط للسياب على ندرة وقلة مما يدل على أنه قد لا يكون استساغها هو نفسه. ولو كان مرتاحًا إلى ما صنع، مؤمنًا بموسيقيته لاستعمله أكثر من ذلك.
والواقع أن قوله "أم من حياة نسيناها" يبدو شطرًا ناقصًا وفيه خروج على ما تتقبله الأذن. وقد يقول قائل: لعل أذنك ستتطور فتقبلينه بعد عشر سنين؟ " والجواب أن ذلك بعيد لأن ما صنعه بدر مختلف عن حالة التشكيلات غير المتجانسة التي سبق أن رفضتها عام 1957 حيث كانت تلتقي صور مختلفة لتفعيلة واحدة مثل "مستفعلن" و"مستفعلاتن" و"مفعولن"، فهذه كلها صور لتفعيلة واحدة فيها علة زيادة أو علة نقص. وهذا ما تقبله أذني الآن ولا أرى ضيرًا في أن يجتمع في ضروب قصيدة حرة واحدة. أما في البسيط فالأمر مختلف تمام الاختلاف لأننا نجد "مستفعلن" تجتمع مع "فاعلن" وهما تفعيلتان اثنتان لا تفعيلة واحدة ذات صورتين. وذلك خروج كامل على قانون الضرب قديمًا وحديثًا.
كذلك ينبغي لنا أن نلاحظ أن قول السياب "أم من حياة نسيناها" قد يكون منفرًا لمجرد أنه لم يحافظ على وحدة التفعيلة، وهي كما قلنا تكون في البسيط والطويل تفعيلتين اثنتين لا تفعيلة واحدة.
وأما وزن الخفيف فإن الشعر الحر منه أشد اضطرابًا من شعر البسيط وذلك لأن البسيط ينقسم إلى وحدتين شبه متجانستين هما "مستفعلن فاعلن" و"مستفعلن فعلن"، فمن السائغ إلى حد ما نظم شعر حر منه على أساس أن الوحدة تفعيلتان لا تفعيلة واحدة. وأما الخفيف فإن شطره مكون من ثلاث تفعيلات:
فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
فكيف يمكن تقسيمه؟ هنا لا بد من أن نجمع بين تشكيلتين فقط هما:
فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
فاعلاتن مستفعلن
والواقع أن الجمع بين هاتين التشكيلتين ليس أمرًا جديدًا استحدثه الشاعر الحر. فأنا أتذكر في صباي أنني أقرأ من البحر الخفيف قصائد تتكون من مقطوعة ذات عدد معين من أبيات الخفيف المألوف ذي الشطرين ثم يرد فجأة بيتان مجزوءان. وبذلك جمع الشعراء تشكيلتين من الخفيف في قصيدة واحدة. ومنه قول الشاعر عبد اللطيف الكمالي في قصيدة عنوانها "مجاهد" أهداها إلى الرابضين في جبال فلسطين وصحاري الأردن وربما كان ذلك حوالي سنة 1940 أو قبلها. قال:
وتر مسه الفخار فرنا
…
وتغنى بآية ما تغنَّى
يشبع المجد والعلى نغمات
…
لوعت مهجة الحلي المهنا
ويذيب النشيد لحنًا عجابًا
…
كلما رن معول الظلم أنَّا
فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
…
فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
ما ترى الأرض توجت
…
هامة الهضب بالزهر
نغمة الثأر سعرت
…
كبد الظلم فانفجر
فاعلاتن مستفعلن
…
فاعلاتن مستفعلن1
وما عدا هذا الشكل لا أظن أن من الممكن نظم شعر حر من الخفيف اللهم إلا على حساب الموسيقي. فليس من السائغ أن يكون الضرب "فاعلاتن" مرة و"مستفعلن" مرة أخرى لأن هذا يخرج خروجًا تامًّا على قاعدة الشعر الحر التي تبيح في الضرب اجتماع التفعيلة وفروعها التي اشتقت منها "وهي التشكيلات".
4-
جمع التشكيلات غير المتجانسة:
قلت في الفصل المعنون "بحور الشعر الحر وتشكيلاته" من هذا الكتاب ما نصه: لابد للشاعر أن يفهم أن لكل بحر من بحور الشعر تشكيلات مختلفة لا يمكن أن تتجاور في قصيدة واحدة. وإنما ينبغي أن تستقل كل قصيدة بتشكيلة ما وأن تمضي على ذلك لا تحيد عنه إلى آخر شطر فيها. ومضمون هذا النص أن على الشاعر أن يوحد الأضرب في قصيدته بأن يختار ضربًا واحدًا يلزمه في القصيدة كلها، فإذا كان ينظم من الكامل وبدأ بالضرب المرفل "متفاعلاتن" وجب عليه أن يحتفظ بهذا الضرب في القصيدة كلها.
والواقع أن هذه القاعدة ما زالت نافذة إلى حد ما، وهي قاعدة صحيحة غير مغلوط فيها ولكنها لا تصدق على الحالات كلها، ومن الممكن أن يخرج عليه الشاعر في شيء من الاحتراس. ولكي نتأكد من
1 لا يخفى أن الوزن المضبوط هنا هو "فاعلاتن مفاعلن - فعلاتن مفاعلن" بخبن التفعيلتين ولكني أكتب للقارئ التفعيلات الأساسية قبل حصول الزحاف والعلل لكي تكون القاعدة واضحة.
صحتها النسبية فلنقرأ أشطر محمود دروش:
تستيقظين على حدود الغد
"فعلن":
تستيقظين الآن
"مفعول":
وتبعثرين الساحل الأسود
"فعلن":
كالريح والنسيان
"مفعول":
يا قبلة نامت على سكين
"مفعول":
كبر الرحيل
"متفاعلان":
كبر اصفرار الورد يا حبي القتيل
"مستفعلان":
كبر التسكع في ضياء العالم المشغول عني
"متفاعلان":
كبر المساء على شواطئ كل منفى1
"متفاعلاتن":
في هذه الأشطر نجد تجانسًا بين الأشطر الخمسة الأولى حيث اجتمع في الضرب كل من "فعلن" وممدودها "فعلان = مفعول". ثم نفر السمع من إقحام الشاعر للضربين "متفاعلان" المذيل و"متفاعلاتن" المرفل. وبذلك انتقل السمع من "مفعول" إلى "متفاعلان" وشعرنا أنه انتقال غير موسيقي. وكذلك كان الانتقال غير مقبول في قول محمود نفسه:
لم نعترف بالحب عن كثب
فليفضب الغضب
نمشي الى طروادة العرب
والبعد يقترب
"فعلن":
لا تذكرينا حين نفلت من يديك إلى المنافي الواسعة
"مستفعلن":
إنا تعلمنا اللغات الشائعة
1 من مجموعته الشعرية "أحبك أو لا أحبك".
هنا أيضًا ينبو السمع عن النقل المفاجئة من "فعلن" الحذاء إلى "مستفعلن" المضمرة. ونفور السمع هنا حاصل مع أن الشعر للشاعر الموهوب محمود درويش، وشعره عادة مملوء بالموسيقى وهو قدير في رقرقة النغم في قصائده. ومع ذلك نفر السمع من القفز من "فعلن" إلى "مستفعلن" فما بالنا بها لو وقعت من شاعر غير أصيل؟ وأكثر النظامين غير أصيلين، ولذلك نسميهم "نظامين" ونرفض أن نعدهم شعراء. وإنما الشعراء قلة في كل زمان ومكان.
إن ضرورة تجانس التفعيلات في ضرب القصيدة قاعدة صحيحة إذن، ولكن من الممكن أن ندخل عليها تلطيفًا يسمح بجمع تشكيلات معينة دون غيرها. والواقع أنني في عام 1957 قد جعلت القانون صارمًا شاملًا دون أن أستثني منه حالة، وهأنذي أعود الآن وألطفه وأرقرق فيه ليونة لا بد منها يمليها عليَّ طول ممارستي للشعر الحر نظمًا وقراءة.
ومهما يكن من أمر، فأنا أتصدى الآن للقاعدة التي وضعتها سنة 1957 من ضرورة توحيد الأضرب في القصيدة الحرة فألطفها بالاستثناءات التالية المدرجة أدناه:
أ- يجوز أن تجتمع التفعيلة مع ممدودها في ضرب القصيدة الحرة، ويرد هذا في ثلاثة مواضع أذكرها فيما يلي:
"الأول" جواز اجتماع "فَعِلْ" و"فعولْ" وتجاورهما في ضرب القصيدة الواحدة كما لو قلنا:
ألقي المساء ظلله هنا
ألقي الصباح ضوءه هناك
فإن تجاور "هنا" و"هناك" سليم لأن "فعول" ليست إلا مد فَعِلْ بإدخال حرف ردف. وكل مد تقبله الأذن. ومثل هذا أيضًا أو هو قريب منه مجاورة "مفعول" لهذين الضربين فنقول مثلًا:
والليل ينبوع من السنا
والصبح ظل جارح الأشواك
والواقعة أن التفعيلة "مفعولْ" الساكنة اللام لا ترد في ضرب الرجز في عروض الخليل وإنما نجد مكانها مفعولُ بضم اللام وهي "المقطوع" من "مستفعلن". ولكننا أدخلناها في ضروب الرجز في عصرنا الحديث هذا وانتشرت فيه انتشارًا واسعًا.
"الثاني" جواز اجتماع "فعْلن" المقطوعة من "فاعلن" في المتدارك مع "مفعولْ" الساكنة اللام لأن هذه الأخيرة مساوية في حركاتها وسكناتها للتفعيلة "فعلان" الساكنة العين واللام. وفعلن هذه ليست إلا ممدود "فعْلن" الساكنة العين، وكل مد مقبول في عروض الشعر الحر، والسمع يقبل تجاور هاتين التفعيلتين كما في قولي:
يا قبة الصخرهْ
يا صلوات عذبة الأصدقاء
فاجتمع في الضرب "فعلن" المقطوعة مع "مفعولْ" التي تساوي "فعلان" الممدودة من "فعلن". وهذا مطَّرد في الشعر الحر وأسماعنا تتقبله اليوم.
"الثالث" جواز اجتماع تفعيلة "مفاعيلن" مع التفعيلة الغربية التي لم ترد في عروض الخليل "مفاعيلان". ويقع هذا التجاور في وزنين هما الهزج ومجزوء الوافر المعصوب -وحتى غير المعصوب: مفاعلتان1.
وإنما أغفلها الخليل لأنها لم ترد عن العرب مطلقًا، واستنبطناها نحن في هذا العصر واستعملناها بكثرة، ومنها قولي:
1 يجتمع الهزج ومجزوء الوافر غير المعصوب في شعر المعاصرين وحتى في شعر القدماء أحيانًا كلما نجد عند عمر بن أبي ربيعة وبشار بن برد والسراج الوراق وسواهم.
قرابيني مكدسة على المحرابْ
وقرآني طواه ضبابْ
ولا يخفى أن وزن "طواه ضباب" إنما هو "مفاعلتان" الممدود من تفعيلة الوافر.
ب- لا بد لنا أيضًا أن نقر اجتماع كل ما يصح وقوعه في العروض والضرب من البيت الخليلي القديم. ذلك أن الشعر العربي يبيح للشاعر في بعض الحالات أن يستعمل في عروض البيت تشكيلة غير تشكيلة الضرب كما في الرمل:
فاعلاتن فاعلاتن فاعلن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
وكما في المتقارب:
فعولن فعولن فعولن فعل
فعولن فعولن فعولن فعولن
وكما في الرجز:
مستفعلن مستفعلن مستفعلن
مستفعلن مستفعلن مفعولن
وبذلك اجتمعت "فاعلن" مع "فاعلاتن" في الرمل، والتقت "فعل" مع "فعولن" في المتقارب، وتجاورت "مستفعلن" مع "مفعولن" في الرجز دون أن تنفر الأذن من ذلك. وقد تجلى لي عبر السنوات الماضية أن الصحيح أن نبيح اجتماع هذه التفعيلات في ضروب الشعر الحر. أما لماذا رفضت ذلك عام 1957 فلأنني كنت أحرص على أن يكون ضرب القصيدة الحرة موحدًا كضرب الشطرين دونما زيادة. ثم بدأ يلوح لي تدريجيًّا أن ما تقبله الأذن مجتمعًا في عروض البيت وضربه يكون مقبولًا أيضًا في ضروب الشعر الحر، ولذلك وجدت أذني تتقبله كلما مر الزمن. فإذا كان البيت الواحد السليم يحتمل مثل ذلك فلماذا لا نبيحه في الضرب في شعر افترضنا فيه الحرية؟ وعلى ذلك لم أعد أجد خطأ في قول الشاعر خليل حاوي:
داري التي أبحرتِ، غربتِ معي
وكنتِ خير دارْ
في "دوخة" البحار
في غربتي وغرفتي
ينمو على عتبتها الغبارْ
فإن الشاعر هنا قد جمع بين "مستفعلن" و"فعول" في ضرب الرجز، وهما يجتمعان على هذا النحو في البيت القديم فنقول مثلًا:
مستفعلن مستفعلن مستفعلن
مستفعلن مستفعلن مفعولن
وهو وارد في تشكيلات الرجز، وكل ما صنعنا نحن من خروج أننا استنبطنا "فعول" بدلًا من "مفعولن" وفعولُ هذه تفعيلة مصابة بالخبن والقطع من "مستفعلن" وهي غير واردة في ضروب الخليل على جمالها وخفتها وانسيابيتها وتقبل الأذن لها. وهذا غير مستغرب، فإن العرب لم تستعمل كل جميل مقبول من الإمكانيات العروضية، وقد يكون فيما نبذته جمال كما أثبت المتأخرون.
مما يصح جمعه في ضروب الشعر الحر "فاعلن" و"فاعلاتن" في المتدارك وهو وارد في عروض الخليل في مجزوء المتدارك:
فاعلن فاعلن فاعلن
فاعلن فاعلن فعلاتن
اجتمع هنا "فاعلن" مع "فعلاتن" المصابة بالخبن والترفيل. كل ما غيرنا نحن أننا جئتنا به مخبونة مرة "فعلاتن" وغير مخبونة مرة "فاعلاتن" على حسب حاجة المعنى. كما أننا في هذا العصر نستعمل هذا الضرب في غير المجزوء مع أن الخليل لم يبح استعماله إلا في المجزوء كما في تفعيلات البيت أعلاه، ومنه قول أحدهم:
دار سعدي بشحر عمانِ
قد كساها البلى الملوانِ
وقد استعملت هذا الضرب في قولي أخاطب أمي يرحمها الله:
تسقطين شهيده
في الدروب القريبه والطرقات البعيده
تسكنين جراح القصيده
ويلاحظ أن الضرب جاء غير مخبون مرتين ومخبونًا في الشطر الأول. ومؤدى القول في هذا كله أننا نبيح الآن أن يقع في ضرب القصيدة الحرة كل ما تجاور في عروض وضرب لبيت خليلي واحد. ومنه ما لم نذكره هنا مثل اجتماع "فعولن" و"فعولُ" المقبوضة فقد وردا في البيت القديم:
فعولن فعولن فعولن فعولن
…
فعولن فعولن فعولن فعول
والأمر في هذا كله ليس مجرد اعتباط لا يحكمه قانون كما قد يظن الظانون. وذلك لأن ما تقبله إذن شاعرة مدربة السمع مثلي لا يمكن أن يكون فوضى لا ضابط لها وإنما يتحكم فيه ذوق الشاعر القائم على التدريب السمعي البطيء عبر سنين طويلة من قراءة شعرنا القديم والحديث. كذلك لا أستبعد أن يكون سمعي العروض متأثرًا بالوزن الإنكليزي والفرنسي لكثرة ما أقرأ من شعر بهاتين اللغتين. ولا يعني هذا -كما سيزعم بعض الباحثين- أن عروض الشعر الحر مستورد من الغرب. والدليل موجود بين يدي القاري، فأنا لا أخطو خطوة في تقنين قاعدة إلا بعد استشارة عروض الخليل التي خبرت مداخله ومخارجه طويلًا.
وأحب أن أضيف قبل أن أختم الموضوع أن التطويرات المهمة التي أحدثناها في ضروب الخليل تجعل علينا أن ندخلها في مادة العروض حين نلقيها على طلبة الجامعات، وإلا أصبح الشعر الحر أوسع من العروض العربي وأصبح تدريسنا لهذا الموضوع ناقصًا لا يزود الطلبة بثقافة عروضية
كامل تكفيهم لفهم ما هو مستعمل في شعرنا المعاصر
وبعد فهذه هي الحواشي التي أريد إضافتها إلى ما قلت في هذا الكتاب سنة 1962، ومنها يلوح أن تطورًا ملحوظًا قد وقع لسمعي وللشعر الحر نفسه. وقد ينم هذا عن أن قواعد الشعر الحر لم يضعها ويخطط لها شاعر واحد وإنما هي من صنع مجموع الشعراء عبر فترة زمنية طويلة. ومن يدري؟ لعل القواعد التي قبلتها الآن ستتطور على أيدي شعراء آخرين يأتون بعدنا. وكل ما أتمنى أن يسلِّح الشعراء أنفسهم بكثرة القراءة للشعر السليم الخالي من الأخطاء العروضية وأن يكفوا عن الخروج على الوزن مرارًا عديدة عبر الكثير من قصائدهم.
كذلك ينبغي لي أن أقول أن القواعد التي وضعتها للشعر الحر ما بين سنة 1949 وسنة 1962 ما زالت صحيحة لا غلط فيها، ويمكن لأي شاعر أن يستعملها، غير أنني أذهب الآن إلى أنها ليست الصورة الواحدة الممكن استعمالها. وأرجو حقًّا ألا يظن القارئ المتعجل أن الحواشي التي أضفتها الآن إلى القانون تدل على أنني "أتراجع" وأنكص عن قبول ذلك القانون لأنه كان مغلوطًا فيه فإن هذا الحكم ليس صحيحًا ولا واردًا. كل ما في الأمر أنني أتقبل الآن -حرصًا على الموضوعية والدقة- إضافة تنويعات جديدة بشروط خاصة لها ما يبررها. أما إذا أراد شاعر حر أن يستعمل القاعدة التي وضعتها على صفحات مجلة "الآداب" عام 1957، وفي هذا الكتاب عام 1962 فحرص على توحيد الضرب في قصيدته، فإن هذا لا يكون خطأ على أي وجه من الوجوه، وإنما هو نوع من لزوم ما لا يلزم، فيه إجهاد للشاعر وليس في غلط.
وقد يقول قائل ثانٍ إنني بهذه الحواشي قد أوهنت قيمة كتابي هذا. وهو قول مردود لسببين:
"الأول": لأن القواعد الأساسية التي وضعتها للشعر الحر ما زالت ثابتة
وقد تقبلها مئات الشعراء واستعملوها. كل ما هناك أنني أضفت الآن تفصيلًا جديدًا لفرع واحد من فروعها يتناول صفحات معدودة من هذا الكتاب.
"الثاني": أن كتابي هذا لا يتعلق بمسألة التشكيلات وحدها وإنما يتناول قضايا كثيرة من شئون الشعر مثل هيكل القصيدة وبنائها، والجانب البلاغي منها، وقضايا ما يسمى بقصيدة النثر، والشعر المترجم عن اللغات الأجنبية، وتقليد القصيدة الأوروبية، ودراسة جانب الالتزام والحرية، ومزالق نقد الشعر، ومسئولية الناقد إزاء اللغة، وعلاقة الشعر بالموت، ومسألة البند وسوى ذلك. وليست قضية التشكيلات إلا صفحات قليلة من الكتاب، فإذا ما وسعت هذه القضية فليس معنى ذلك أنني قد أبطلت الكتاب الذي يدرس الآن في أكثر من جامعة في العالم العربي وما زال النقاش حوله مستمرًا في الأندية والصحف والجامعات. ولذلك أعود فأضعه بين يدي القارئ في طبعته الخامسة، سائلة الله ألا أكون في هذه المقدمة قد وقعت في شطط وسبقت الزمن سبقًا غير مستساغ ولا مقبول. ومن واجبي باعتباري شاعرة وعروضية أن أعلن آرائي وتقنيناتي لمختلف قضايا الوزن وليس عليَّ أن تبقى هذه الآراء نافذة بعد عشرين عامًا. فإن الحياة البشرية في نمو دائم ولا اكتمال لها مطلقًا، والله هو الثبات الوحيد المطلق في هذه الخليقة الجميلة.
نازك الملائكة
الكويت في
جمادى الآخرة 1398هـ
مايو 1978م