الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: قصيدة النثر
مدخل
…
الفصل الثاني: قصيدة النثر.
شاعت في الجو الأدبي في لبنان بدعة غريبة في السنوات العشر الماضية، فأصبحت بعض المطابع تصدر كتبًا تضم بين دفاتها نثرًا طبيعيًّا مثل أي نثر آخر، غير أنها تكتب على أغلفتها كلمة "شعر". ويفتح القارئ تلك الكتب متوهمًا أنه سيجد فيها قصائد مثل القصائد، فيها الوزن والإيقاع والقافية، غير أنه لا يجد من ذلك شيئًا وإنما يطالعه في الكتاب نثر اعتيادي مما يقرأ في كتب النثر. وسرعان ما يلاحظ أن الكتاب خلو من أي أثر للشعر، فليس فيه لا بيت ولا شطر، وإذن فلماذا كتبوا على الغلاف أنه شعر؟ تراهم يجهلون حدود الشعر؟ أم أنهم يحدثون بدعة لا مسوغ لها؟ وإذا كانوا يمتلكون المسوغ فلماذا لا يصدرون كتب النثر هذه بفذلكة يبينون فيها للقارئ الوجه الذي ساغ لهم به أن يصدروا كتاب نثر لا يختلف اثنان في أنه نثر ثم يكتبون عليه أنه "شعر"؟ لماذا لا يمنحون القارئ، على الأقل، فرصة يتخذ فيها موقفًا من هذه البدعة فإما أن
يرى وجه تسويغاتهم فيقرهم عليها أو أن يخالفهم فيرفضها:؟ وإنما الخطأ أن يمضي المرء فيسمى النثر شعرًا دون أي تبرير وكأن ذلك أمر بديهي يتفق الناس كلهم عليه منذ أقدم العصور.
والحقيقة التي يعرفها المختصون والمتتبعون، أن طائفة من أدباء لبنان يدعون اليوم إلى تسمية النثر شعرًا. وقد تبنت مجلة "شعر" هذه الدعوة وأحدثت حولها ضجيجًا مستمرًّا لم تكن فيه مصلحة لا للأدب العربي ولا للغة العربية ولا للأمة العربية نفسها. وكان مضمون هذه الدعوة ما جاء في مقال كتبته السيدة الأديبة خزامى صبري عن كتاب نثر فيه تأملات وخواطر لأديب لبناني ناشئ. قالت عن ذلك الكتاب:
"مجموعة شعرية لم تعتمد الوزن والقافية التقليديتين. وغالبية القراء في البلاد العربية لا تسمي ما جاء في هذه المجموعة شعرًا باللفظ الصريح. ولكنها تدور حول الاسم فتقول إنه "شعر منثور" أو "نثر فني" وهي مع ذلك تعجب به وتقبل على قراءته، ليس على أساس أنه نثر يعالج موضوعات أو يروي قصة أو حديثًا، بل على أساس أنه مادة شعرية. لكنها ترفض أن تمنحه اسم الشعر.
وهذا طبيعي، من وجهة نظر تاريخية، بالنسبة للقراء العاديين. أما النقد فيجب أن يكون أكثر جرأة - أن يسمي الأشياء بأسمائها الحقيقة. وأنا أعتبر هذا "النثر الشعري" شعرًا"1.
وقبل أن نلخص مضمون كلام الكاتبة نحب أن نقتطف للقراء نموذجًا من خواطر محمد الماغوط مؤلف الكتاب الذي تتحدث عنه، ليلاحظ القارئ أنه نثر طبيعي كالنثر، على الرغم من أن كاتبه ينثره مفرقًا على أسطر
1 الكتاب المقصود هو كتاب "حزن في ضوء القمر" للأديب محمد الماغوط وفيه نثر اعتيادي لا أثر فيه للوزن أو القافية. وقد نشر تعليق خزامى صبري في مجلة شعر. بيروت. العدد 11 صيف 1959.
كما لو أنه كان شعرًا حرًّا. ولسوف نكتب هذا النثر كما ينبغي أن يكتب النثر، راجين أن يعذرنا كاتبه. قال الكاتب:"وهو يملك ذوقًا أدبيًّا جميلًا وأصالة تسيء إليها الروح الأوروبية المصطنعة التي يدخلها قسرًا على عباراته وخواطره" قال من خاطره سماها "المسافر":
"بلا أمل. بقلبي الذي يخفق كوردة حمراء صغيرة، سأودع أشيائي الحزينة في ليلة ما: بقع الحبر وآثار الخمرة الباردة على المشمع اللزج، وصمت الشهور الطويلة، والناموس الذي يمص دمي هي أشيائي الحزينة، وسأرحل عنها بعيدًا، وراء المدينة الغارقة في مجاري السل والدخان بعيدًا عن المرأة العاهرة التي تغسل ثيابي بماء النهر وآلاف العيون في الظلمة تحدق في ساقيها الهزيلين، وسعالها البارد يأتي ذليلًا يائسًا عبر النافذة المحطمة. والزقاق الملتوي كحبل من جثث العبيد".
على هذا النمط جرت الخواطر في هذا الكتاب، فيها صور غريبة وتخير للألفاظ وتلوين، غير أنها مكتوبة نثرًا اعتياديًّا كالنثر في كل مكان وزمان. ولذلك يلوح غريبًا أن دار مجلة شعر التي طبعت الكتاب قد أباحت لنفسها أن تضع عنوان الكتاب على غلافه بهذا الشكل:
حزن في ضوء القمر.
شعر.
وكأن تسمية النثر شعرًا مسألة بديهية مفروغ منها. ولعله لا يخفى على أصحاب الدار أن مئات القراء لا يملكون حاسة الوزن ليدركوا أن هذا نثر لا سعر حر، ومن ثم فقد كان عليها -على الأقل- أن تصدر الكتاب بمقدمة تضع فيها تبريرًا يسوغ تسمية النثر شعرًا، فإن ذلك يمنح القارئ حريته، فإما أن يقبل أو أن يرفض.
ومهما يكن من أمر فإن كلام خزامى صبري الذي اقتطفناه يتضمن، في مفهوم النقد الموضوعي، الحقائق التالية:
"أولًا" تميز خزامى صبري بين شيئين هما:
أ- الوزن التقليدي وهو الوزن مطلقًا.
ب- الوزن غير التقليدي وهو النثر.
"ثانيًا" تقول خزامى صبري إن الشعر شيء لا صلة له بالوزن والقافية. وإنما الوزن صفة عارضة يمكن أن يقوم الشعر من دونها، ولذلك يتحدث أصحاب هذه الدعوة باحتقار عن الشعر "الموزون"1 وبذلك لا يكتفون برفع النثر إلى جوار الشعر ومساواته وإنما يزيدون فيزيدون الموزون ويعطون لنثرهم الفضل كله. قال أحد دعاة هذه الفكرة الهجين2:
"ولذلك فإن شعر توفيق صائغ لا يخسر شيئًا باطّراحه شكل القصيدة التقليدي، بل يحقق الطريقة الوحيدة التي تمكنه من قضيته"3.
هذه هي خلاصة دعوة مجلة"شعر" التي تصدر في بيروت بلغة عربية وروح أوروبية. وقد دعت إليها في عنف وأثارت حولها ضجيجًا متصلًا خلال السنين الماضية، وتطرف حاملو الدعوة فذهبوا إلى أن المستقبل الأوحد إنما هو لهذا "الوزن غير التقليدي" كما يسمونه، أو "الوزن غير الموزون" كما اقترحت عليهم، على سبيل الدعابة، أن يسموه. كتبت مجلة "شعر" أن شعراء معروفين يذهبون إلى "أن المستقبل إنما هو لهذا الشعر
1 أعتذر إلى القارئ عن قولي "شعر موزون" فليس هناك في رأيي شعر إلا وهو موزون وإنما أتحدث بلغة البدعة.
2 هو جبرا إبراهيم جبرا، مجلة شعر العدد 15.
3 يشير جبرا إبراهيم جبرا بهذا إلى كتاب عنوانه "في جب الأسود" وهو كتاب نثر ويلاحظ أن توفيق صائغ مؤلف هذا الكتاب لم يكتب في حياته بيت شعر واحد فيما أعلم. إن كل ما يكتبه نثر مثل النثر. فلا ندري كيف يرضى جبرا إبراهيم جبرا أن نسميه "شعرًا".
الحديث الذي يبتعد في شكله ومضمونه عن الفترة السابقة وما قبلها"1. وكتب جبرا إبراهيم جبرا أن السنين القادمة "سترى ولا شك تغلب الشعر الحر". ولنلاحظ أنه أخذ، دون مبالاة، اصطلاحنا "الشعر الحر" الذي هو عنوانه حركة عروضية تستند إلى بحور الشعر العربي وتفعيلاتها، أخذ اصطلاحنا هذا وألصقه بنثر اعتيادي له كل صفات النثر المتفق عليها، وليس فيه أي شيء يخرجه عن النثر في المصطلح العربي، وليته على الأقل ترك اصطلاحنا ووضع غيره حرصًا على وضوح الاصطلاحات في أذهان جماهيرنا العربية المتعطشة للمعرفة. وإنما سمينا شعرنا الجديد "بالشعر الحر" لأننا نقصد كل كلمة في هذا الاصطلاح فهو "شعر" لأنه موزون يخضع لعروض الخليل ويجري على ثمانية من أوزانه، وهو "حر" لأنه ينوع عدد تفعيلات الحشو في الشطر، خالصًا من قيود العدد الثابت في شطر الخليل. فعلى أي وجه تريد دعوة النثر أن تسمي النثر شعرًا؟ وما هذه الفوضى في المصطلح والتفكير لدى الجيل الذي يقلد أوروبا في كل شيء تاركًا تراث العرب الغني المكتنز؟
إن المضمون الواضح لهذه الحماسة من أصحاب الدعوة هو أن النثر سائر، في رأيهم، إلى أن يقتل الشعر، وأن دولة الوزن ستدول فيكتب شعراء الأمة العربية نثرًا وننتهي من الوزن. وهكذا يذهب هؤلاء المتحمسون الخياليون إلى أن الشعر شيء عتيق ينبغي أن يزول ويحل محله النثر، على أن
…
- انتبه أيها القارئ فإنه يشترطون شروطا- على أن يحتفظوا بالكلمات "شعر" و"شاعر" و"وزن" لأنهم يريدونها لتسمية النثر والناثر وما يكتب. وهذا يبدو لنا من أعجب المفارقات، والحق يقال.
والأساس النفسي في هذه الدعوة أن هؤلاء الكتَّاب الفاضل، الذين يحسنون إبداع نثر جميل أحيانًا، يزدرون ما يمتلكون من موهبة ويتطلعون
1 مجلة شعر، العدد 16
إلى ما لا يملكون. إنهم، باختصار، لا يحترمون النثر، وذلك هو أساس الإشكال الذي وقعوا فيه. إنهم مهما أبدعوا من صور وأفكار في قالب نثري، يحسون أنهم ما زالوا أقل إبداعًا من شاعر يخلق هذا الجمال نفسه، ولكن بكلام موزون. ولذلك تراهم يعبرون عن ازدرائهم بموهبتهم بإطلاق كلمة "شعر" على ما يكتبون وكانوا في السنين الخالية يقولون "شعر منثور" مشيرين بكلمة "منثور" على الأقل إلى أنه "نثر" فأصبحوا اليوم من الاستهانة بالمقاييس الموضوعية، بحيث يجرءون على أن يسموه شعرًا على الإطلاق. لا بل إنهم أصبحوا يحتقرون الشعر ويسمونه "تقليديا" لكي يجعلوا الإبداع والتجديد قاصرًا على نثرهم المبتكر، فهو الشعر الأوحد برغم المقاييس كلها.
ولعله واضح أن دواء هذا الإشكال أن يمتلك هؤلاء الكتاب الثقة بالنثر. فمن قال لهم إن النثر وضيع أو إنه لا يمنح قائله صفة الإبداع؟ ولماذا يحسبون أن نثرهم لا يكتسب الإعجاب إلا إذا هو مسخ ذاته وسمي نفسه "شعرًا"؟ ولنفرض أننا وافقناهم وسمينا نثرهم شعرًا، فهل ترى الاسم يغير من حقيقته شيئًا؟ أو يزيده تغير الاسم شرفًا أو جمالًا؟
والذي يعرفه الملايين أن كثيرين من كتاب العربية قد كتبوا النثر "الشعري" ولنا في العصر الحديث منهم طائفة مرموقة مثل أديب العربية الفذ مصطفى صادق الرافعي والكاتب المرهف جبران خليل جبران وغيرهما كثير، وليس ينقص من قيمة ما كتبوا أنه نثر لا شعر. ولقد كانوا يسمون نثرهم نثرًا دون أن يسيئوا إليه في شيء. وبعد فهل أجمل من القرآن في اللغة العربية؟ والقرآن نثر لا شعر، وفيه، مع ذلك، كل ما في الشعر من إيحائية وخيال وثاب وصور معبرة وألفاظ مختارة اختيارًا معجزًا، فهل ينقص من قيمة القرآن الجمالية أنه نثر لا شعر؟ وأي شعر في الدنيا أروع وأحب من هذا النثر القرآني البديع؟
وخلاصة الرأي أن للنثر قيمته الذاتية التي تتميز عن قيمة الشعر، ولا