الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: الشعر والموت
.
لعل كل متتبع للشعر المعاصر يتذكر تلك الهتافة المتحشرجة الخصبة التي أرسلها أبو القاسم الشابي وهو ينازع في أيام احتضاره الأخير:
جف سحر الحياة يا قلبي الباكي
فهيا نجرب الموت هيا1
فهذا بيت يلفت النظر بما يتخذه من موقف تجاه الموت يخالف الموقف المعتاد للمحتضرين، فهو بدلًا من أن يعرض استسلام الشاعر لهذا الفناء الذي لا بد منه، يصوره لنا وكأنه يقبل عليه باختياره في لهفة وشوق.
ولفظة "نجرب" عميقة الدلالة هنا لما تتضمنه من إيجابية وقوة، وذلك لأن التجربة فعالية إرادية يقوم بها الإنسان واعيًا، وهي بهذا تختلف
1 قصيدة تراجع في كتاب "الشابي حياته وشعره" لأبي القاسم محمد كرو "بيروت 1954".
اختلافًا جوهريًّا عن الموت الذي هو استسلام سالب لا مفر منه لعوامل الانحلال والسكون. فإذا كان أبو القاسم قد سَمَّى رحلته إلى هذا العالم "تجربة" فهو إنما يضع أيدينا بهذه اللفظة على موقفه من الموت، وبالتالي على موقفه من الحياة.
وقد كانت تجربة الموت تملك بالنسبة للشابي كل ما تملكه التجارب الحيوية من متعة مبهمة وغموض مغر، وفي وسعنا أن نتثبت من هذا بمراجعة قصائده حيث نجده يذكر الموت عندما يتحدث عن الجمال والحياة والشباب والأمل والربيع. ونموذج هذا في قصيدة "تحت الغصون".
فلمن كنتِ تنشدين؟ فقالت:
للضياء البنفسجي الحزين
للشباب السكران، للأمل المعبود،
لليأس، للأسى المنون1
فقد جمع في البيت الثاني الشباب والأمل واليأس والأسى و"الموت" في سياق واحد هو سياق الغناء والسكر بالحياة الكاملة التي لا يتم جمالها في نظر الشابي إلا باجتماع الفرح والألم والحركة والسكون فيها. وهذا هو التفسير لما يلوح غريبًا من أن الشاعر يجعل حبيبته تذكر الموت في اللحظة التي اكتملت فيها سعادتها، ذلك أنه كان يؤمن بأن الحياة العميقة الكاملة لا تصل قمتها من الإدراك والوعي حتى تندغم بالموت، وتفهمه فهمًا جماليًّا خالصًا. وقد كان جزء من جمال حبيبته أنها تشاركه هذا الإيمان، كما كان الاعتقاد عينه هو الذي قوى "بروميثيوس"2 على احتمال آلامه الجسيمة الرهيبة، ولذلك جعله الشاعر يرى في الموت "ذوبانًا في فجر الجمال".
1 و2 المصدر السابق.
إن مظاهر عشق الشابي للموت تنتشر عبر شعره، هناك مثلًا هذه اللوحة الباذخة التي يرسمها لموته في قصيدة "النبي المجهول":
ثم، تحت الصنوبر الناضر الحلو،
تخط السيول حفرة رمسي
وتظل الطيور تلغو على قبري
ويشدو النسيم فوقي بهمس
وتظل الفصول تمشي حوالي
كما كن في غضارة أمسِ1
في هذا الأبيات تخلو تجربة الموت من المرارة الرهيبة، فالشابي يذكرها في هدوء حالم، وكأنها ستقوده إلى عوالم خفية مسحورة يشتاق إلى أن يجوبها. وهذا عين ما نستطيع استخلاصه من القصيدة المشهورة "الصباح الجديد"2 فالأبيات الأخيرة فيها تذكرنا بحرارة الفرحة التي تنبثق في قلب غلام حالم يعبد البحر، وقد أتيح له أخيرًا أن يبحر في سفينة شراعية بيضاء ذات صباح دافئ ربيعي الشمس.
هذا الموقف الذي يقفه شاعرنا من الموت يعيد إلى الذاكرة موقف الشاعر الإنكليزي المبدع جون كيتس "John Keats" الذي يمكن أن نسميه شاعر الموت المفتون الأكبر، فهو يقول في إحدى قصائده:"الشعر والمجد والجمال أشياء عميقة حقًّا. ولكن الموت أعمق. الموت مكافأة الحياة الكبرى"3. ويهتف في قصيدة مشهورة "كنت نصف عاشق للموت المريح، وناديته بأسماء عذبة في أناشيد عديدة". ثم يضيف بيتين: "الآن يبدو لي أكثر من أي وقت آخر أن من الخصوبة أن
1 و2 المصدر السابق.
3 قصيدة كيتس Why Did I Laugh To-night?.
أموتن"1. ويدل كيتس على جنونه بالموت حتى دون أن يتحدث عنه حديثًا مباشرًا، ويكفي أن نشير مثلًا إلى قوله في إحدى مطولاته "كان هناك موت حي في كل انبجاسة من النغم"2. ذلك أنه يصف هنا الموت بالحياة دون أن يلوح له هذا متناقضًا على الإطلاق. والحق أننا نشعر أن الألفاظ "أموت. موت. ميت" كانت تكسر حس كيتس وتبدو له متفجرة بالجمال كما يلوح من هذه العبارات التي نقتطفها من قصائده:
"مولد أزهار غير منظورة وحياتها وموتها في سكينة عميقة"3
"قال هذا وخطا بخفة، في لون من المرح المملوء بالموت"4
"إنها تعيش مع الجمال، الجمال الذي يجب أن يموت"5
"إلى بعض الأرواح المنفردة التي استطاعت أن تبعثر شبابها في الغناء وتموت"6.
وثمة شاعر ثالث وقف الموقف عينه من الموت، هو محمد الهمشري "ذلك الشاعر الموهوب الذي كان موته خسارة شعرية كبيرة للأدب العربي الحديث". إن إحساس هذا الشاعر بالموت أكثر تميزًا منه عند الشابي مثلًا، حتى يكاد يقرب من كيتس، وكأن أي حادث يرتبط بإحساسه لا بد أن يذكره بالموت، وهكذا نجد أن سعادته بالرجوع إلى
1 قصيدة كيتس ode to a nightingale
2 قصيدة كيتس المطولة Hyperion الكتاب الثاني.
3 القصيدة المطولة endymion – الكتاب الأول – الأغنية الموجهة إلى pan.
4 endymion الكتاب الرابع.
5 قصيدة كيتس ode to melancholy.
6 قصيدة كيتس sleep and poetry.
قريته في قصيدة "العودة"1 تعيد إلى ذهنه ذكرى القمة العليا للحياة، تلك القمة التي يبلغها الإنسان بالموت:
أموت قرير العين فيك منعما
يخدرني نفح من المرج عاطر
ويلحفني هذا البنفسج ولتكن
مسارح عيني الربى والمخاضر
وآخر ما أصغي إليه من الصدى
خريرك يفنى وهو في الموت سائر
ولعل هذه الأبيات تذكرنا باللوحة الجميلة التي رسمها أبو القاسم لقبره، فهنا نجد العطر والبنفسج وخرير الماء وشاعرًا يموت سكران بالجمال مخدرًا بالعبير. هذه العذوبة التي يجدها الشاعر في تذكر ساعة الموت تعيد إلى الذاكرة قول كيتس في إحدى رسائله إلى خطيبته "فاني":"هناك أمران خصبا الجمال أحلم بهما: حبك وساعة موتي". والهمشري لا يقل عن كيتس تولهًا بالفناء، حتى إنه نظم ملحمة كاملة سماها "شاطئ الأعراف"2 وتحدث فيها عن رحلته الأولى بعد الموت نحو الحياة الأخرى. والقصيدة تكاد تكون أغنية حب موجهة إلى الموت لا أثر فيها للحسرة ولا للذكرى، وكأن الشاعر يلتذ لكل لحظة من لحظات موته إن صح التعبير.
أما الشاعر الإنكليزي روبرت بروك RUPERT BROOKE الذي مات قتيلًا في الحرب العظمى، فإن حبه للموت لم يكن حب عشق كحب الشابي وكيتس والهمشري، وإنما كان حب صداقة، كان خاليًا من تلك الحدة
1 "الروائع لشعراء الجيل" محمد فهمي "القاهرة" ص28.
2 المصدر السابق. ص36.
الحسية التي لمسناها في شعر زملائه. وسبب هذا، في رأينا، أن بروك لا يرى في الموت غرابة تجعله يبالغ في حبه، وإنما هو شيء اعتيادي له ما للحياة من جمال وفيه ما فيها من إزعاج لا أكثر.
وقد ترك هذا الموقف أثره في شعر بروك الذي يتجه اتجاهًا يختلف عن اتجاهات الثلاثة الآخرين. فهو مثلًا يتحدث في إحدى قصائده عن "شاعر" ميت لقي حبيبته في جهنم، فراحا يركضان عبر شوارع الجحيم سرورًا باللقاء.. ثم اكتشف فجأة أن عينيها فارغتان، وأحس، مكان شفتيها القديمتين، برودة ثلجية. وأدرك أخيرًا أنهما ميتان كلاهما1.
وفي هدوء تام يتخيل بروك في قصيدة أخرى، موت حبيبته والطقوس الرومانية التي ستقيمها أسرتها عند دفنها2. ولا بد لنا أن ننبه هنا أن هذا الموقف يخلو كليًّا من رغبة الإيذاء التي تدفع أحيانًا بإنسان مهجور إلى أن يتخيل موت هاجرة تشفيًّا أو إغاظة. فبروك يصف موت الفتاة لمجرد اللذة التي يجدها في وصف الحادث بصفته الإنسانية. والموت عنده حدث اعتيادي لا يستدعي الجنون. وهذا أمر يجعل استعماله للانتقام والتشفي ضربًا من العبث المستحيل. وفي قصيدة ثالثة يتخيل بروك نفسه وقد مات، ولا يصحب تخيله هذا أي حزن، وإنما مقصد القصيدة أن تصف رعشة مفاجئة تسري بين الزملاء الموتى ويدرك الشاعر منها أن حبيبته قد ماتت ووافت عالم العدم3.
ألا يبدو من هذا كله أن الموت عند بروك يتجرد من فكرته المخيفة المحزنة تجردًا كاملًا فلا تبقى منه إلا الحقيقة العارية؟ وهذا يجعل موقفه
1 قصيدة dead men's men's love لبرويرت بروك.
2 قصيدة بروك ambarvalia ومطلعها:
Swings the way still by hollow and hill
3 قصيدة "sonnet" ومطلعها:
oh!. Death will find me، long before I tire.
منه مختلفًا عن الموقف المألوف بين الناس. فهؤلاء يجعلونه خاتمة بينما يراه بروك في أكثر الأحيان بداية فنية لإمكانيات متعددة. وهذا يعيد إلى ذاكرتنا قصيدة كيتس "هايبريون hyperion" وفيها نجد "أبولو" الإله الجديد لا يبلغ مرتبة الإلوهية إلا بعد أن يموت "die into life" وبهذا يكون الموت خطوة نحو الحياة الكبرى.
بعد هذا الاستعراض السريع لمظاهر الولع بالموت في شعر الهمشري والشابي وكيتس وبروك.. سنحاول أن نتساءل عن العلاقة الممكنة بين هذا الولع الغريب بالموت، والوفاة المبكرة التي أردت الشعراء المذكورين وهم في غضارة الشباب قبل الثلاثين. ولعل بعض السر يكمن -في حالة كيتس والشابي- في مرض السل الذي ماتا به في سن السادسة والعشرين، فالمعروف أن هذا داء عاطفي تصحبه أعراض من الحساسية والعذوبة وحدة الانفعال1 غير أن الهمشري وبروك قد ماتا فجأة لأسباب عارضة، فتوفي الأول في عملية جراحية بسيطة أحسبها الزائدة الدودية، ومات الثاني قتيلًا خلال الحرب، وهذا يبعد أن يكون المرض هو السبب في حب الموت. فبماذا، إذن، نعلل هذه الظاهرة الغريبة؟ ولم كان هذا الحب الخصب للموت عند شعراء ماتوا في ريعان شبابهم؟ أكان الغرام يتصل بالوفاة المبكرة عن طريق الإيحاء على وجه ما؟ أم كان نتبجة لإدراك غامض للموت المبكر الذي ينتظر في زاوية من زوايا المستقبل القريب؟
1 حين كتبت هذا الفصل سنة 1954 كان الشائع في الوسط الأدبي أن الشابي قد مات بمرض السل الرئوي. والظاهر الآن، من الدراسات الأحداث في تونس، بلد الشاعر، أن مرضه كان ضعف القلب، وأنه لازمه منذ يفاعة سنة. وقد آثرت أن أترك هذا البحث كما نشر دون تعديل مع الاحتراز بهذه الحاشية.
لكي نصل إلى أجوبة هذه الأسئلة نلاحظ أن بين الشعراء الأربعة صفة مشتركة يملكونها جميعًا على شيء من التفاوت، هي حدة الإحساس أو القدرة على الانفعال العنيف. وهذه صفة لا يملكها المتوسطون من الناس، ولعل هذا من حسن حظ الإنسانية. ذلك أن الانفعال إسراف في الطاقة لا ترضاه الطبيعة. والحق أن الطبيعة تمقت الإسراف في الجهات كلها وتعمل جاهدة على رد الحياة البشرية إلى الاعتدال الذي يضمن لها البقاء.
ومن السهل أن نمثل لهذا الإسراف في الانفعال بالإشارة إلى قصيدة "العاشق الأكبر""the great lover" لبروك. وقد عد فيها الأشياء التي أحبها حبًّا شديدًا، على كثرتها. وسنعجب حين نجدها تشمل الصحون البيضاء والأكواب، والغبار، والسطوح المبللة تحت ضوء الطريق، وأقواس قزح: ودخان الخشب المحترق، وقطرات المطر المختبئة في الأزهار الدافئة، ونعومة الأغطية، وخشونة الشفوف، والغيوم، والجمال اللاعاطفي الذي تملكه آلة ضخمة ورائحة الثياب القديمة، والألم الجسمي وهو يتحول إلى الهدوء، والنوم والأماكن العالية، وأشجار البلوط، وأشياء أخرى كثيرة غير هذه. وهي أشياء منحها الشاعر كثيرًا من الانفعال الذي يخزنه سواه من الناس للأحداث الكبيرة في الحياة. فالإنسان المتوسط يدرك في أعماقه أن هذا التبذير في الإحساس مضر بحياته، ومن ثم يبتعد عنه ويحرص على الاقتصاد في العاطفة.
وفي حالة الهمشري تجبهنا تلك الحدة العاطفية التي نلمسها في الصلاة الملتهبة التي أرسلها إلى حبيبته "جتا" في عالمها اللامنظور1 وتلوح لنا في وضوح ونحن نقرأ قصيدته البديعة في "النارنجة الذابلة"2 وكلا "جتا"
1 الروائع لشعراء الجيل. قصيدة "إلى جتا الفاتنة" ص17.
2 نفس المصدر - ص12.
و"النارنجة" رمال منهارة لا يقيم عليها الإنسان المتوسط الحكيم سعادته، فالأولى وهم مطلق والثانية مجرد شجرة فانية.
وقد كانت انفعالية الشابي أكثر اتساعًا من انفعالية الهمشري حتى كانت العواطف عنده مرضًا ناهشًا، فعاش الشاعر يلهث وأتعبه الشعر حتى قتله. إن الشعر قد كان هو السل الأكبر في حياة هذا الشاعر المشتعل، ومن أجله عاش يتعذب بكل جمال يمر به، وإن كان عذابه لذيذًا.
أما كيتس فنحن نحتاج إلى أن نقف عنده وقفة أطول، فقد كان الانفعال، بالنسبة إليه، هو الموضوع وهو غاية الحياة كلها. وهذا يخالف الموقف الشائع الذي لا يرى في العواطف إلا عرضًا يصاحب الأحداث ويستحسن الإنسان المتوسط أن يتجنبه جهد الإمكان. ويكفي، لكي نشير إلى المكانة العميقة التي يحتلها الانفعال من حياة كيتس، أن نقتطف بيتين رائعين وردا في إحدى قصائده. قال:
"أواه، هل وجد قط ذلك الإنسان
المنفرد الذي أحب ولم تقتله الموسيقى؟ "1
إن المضمون الفكري الذي تنطوي عليه هذه الصرخة العاطفية الغنية بالمعاني هو أن اجتماع الانفراد والحب والموسيقى في حياة أي إنسان كفيل بأن يثير انفعاله إلى درجة قاتلة. غير أن كيتس كان يتحدث عن نفسه، وقد كان يدرك في مرارة أن الموسيقى لم تقتل مع الناس كثيرين غيره.
والحق أن كيتس قد كان يملك قدرة خارقة على الانفعال يندر مثيلها حتى بين الشعراء والفنانين الكبار وكأنه كان متجهًا بكيانه كله إلى أن يحترق ليكون شاعرًا عظيمًا. إن ألفاظه تنبجس بالعواطف الغزيرة والإحساسات الحادة حتى يكاد القارئ المرهف المتذوق لا يقوى على أن
1 قصيدة كيتس endymion الكتاب الثاني.
يقرأ كثيرًا من شعره في جلسة واحدة. وقد عالج كيتس قضية الانفعال في أساليب مختلفة في شعره، على نطاق عام حينًا، تفصيلي حينًا آخر.
وأول ما يلفت نظرنا أن شخصياته في القصائد القصصية كانت كلها شخصيات مرهفة الحساسية تذهب في القدرة على الانفعال المركز إلى حدود بعيدة تكاد تصبح شاذة. وهكذا نجد أن "بورفيرو ومادلين"1 و"لاميا وليسيوس"2 و"أنديميون وسينثيا"3 و"ساترن"4 وغيرهم كانوا كلهم متوحشين في حبهم وكرههم وسخطهم ورضاهم، وقلما كانوا يعرفون الوسط. إنهم أناس يعيشون بعواطفهم ويأكلون قلوبهم.
وهكذا نجد أنديميون -في القصيدة الوحشية الجمال التي تحمل اسمه- يغرم بسينيثا غرامًا عاصفًا لا مثيل له ويترك قلبه نهبًا لكل جمال يحيط به مهما صغر، حتى يكاد يتعذب بحبه لأشياء مثل الفراشات وزنابق الماء وضربات قاطع الأخشاب في غابات "لاتموس".
أما قصيدة "لاميا" فهي تنتهي بمعانيها اللاشعورية المكتنزة إلى أن التفكير يقضي على الحياة عندما يحاول أن يقتل العاطفة: لقد كانت "لاميا" أفعى تحولت إلى فتاة جميلة بقدرة سحرية، غير أنها كانت مخلصة في حبها للطالب "ليسيوس" عاشق الشعر والفلسفة، فبنت له قصرًا مسحورًا جدرانه من الموسيقى. وفي يوم الزواج، خلال دعوة صاخبة بالعطر والموسيقى والألوان، يتدخل "أبولونيوس" أستاذ الفلسفة فيحدق في "لاميا" تحديقة ثابتة طويلة تكشف عن حقيقتها الخيالية وتهدم الجدران الموسيقية للمنزل، وإذ ذلك تصرخ "لاميا" وتتلاشي. وإلى هنا يكون الموقف غير غريب بالنسبة للقارئ فماذا في أن يهدم الواقع الملموس
1 بطلا قصيدة كيتس the eve of st. agnes.
2 بطلا قصيدة كيتس lamia.
3 بطلا قصيدة endymion.
4 شخصية بارزة في قصيدة كيتس hyperion.
خيالات من هذا النوع؟ غير أن النتيجة التي انتهت إليها "ليسيوس" هي الموضوع الهام بالنسبة لكيتس. ذلك أن "ليسيوس" قد مات حالًا عندما فقد حبيبته المسحورة، وسدًى حاول "أبولونيوس" إنقاذه.
وقد كان هذا سر كيتس أيضًا.
هذه المبالغة في بذل القوى النفسية لا بد أن تؤدي بالشاعر إلى أن "يستنفذ" قواه الروحية والشعورية في بضع سنين، ثم يقف لاهثًا فجأة ويضطر إلى أن يموت. فالانفعالية تشبه الاحتراق؛ لأنها تجعل الشاعر ضعيفًا إزاء مظاهر الحياة المحيطة به، فكل جمال يعصف بقلبه، وكل اتساق يملأ مشاعره بالحماسة الطافحة، وهذه حالة تصبح فيها قيمة الأشياء المحيطة بالشاعر أغلى من حياته نفسها.
وهكذا كان الانفعال أول طريق إلى الموت في حياة هؤلاء الشعراء؛ لأن رصيد الإنسان من الطاقة العاطفية محدود بحيث إذا بالغ في صرفه انتهى إلى "إفلاس" انفعالي مبكر. وهذا الإفلاس هو الباب المؤدي إلى الموت. ولنتخيل كيتس أو الشابي من دون انفعال. إنهما ولا شك يموتان
…
ولعل هذه الحقيقة تبيح لنا أن نعتقد أن هذا الولع الذي صبه شعراؤنا على الموت كان يتضمن إدراكًا باطنًا سابقًا للخاتمة المبكرة، تسوقهم إليه ملاحظتهم الخفية لانعدام التوازن بين المبذول من طاقتهم العاطفية والرصيد الكامل منها في كل حياة إنسانية. وكأن الواحد منهم كان يشعر بأنه يقتل نفسه شيئًا فشيئًا حينما يسرف في طاقة الانفعال.
ولا شك في أن هذا يلوح حماقة للمتوسطين من الناس وهم أغلبية البشر. غير أن منطق العبقرية إجمالًا ينسجم مع ما سماه "نيتشه" بالرغبة في الفناء للتفوق على الذات. وهي رغبة غير واعية لا يد للشاعر الانفعالي فيها، فهو بطبعه مسرف، وإن أدى الإسراف إلى موته، لا بل إنه
يسرف لكي يموت. وهو يمنح الأشياء كلها قيمًا جمالية أعلى من القيم التي يمنحها إياها الفرد العادي، ويؤدي هذا "المنح" إلى الموت.
ومن ثم يتكون في حياة الشاعر الانفعالي مثلث من القيم زواياه الثلاث هي الانفعال والشعر والموت. فالشاعر يحب الانفعال لأنه يؤدي إلى الشعر على أنه يلاحظ أن الانفعال هو الموت لأن الأول طريق محتم إلى الثاني
…
ومن ثم تبدأ مرحلة من الغرام بالموت نفسه تقابل الغرام بالشعر حتى تصبح الألفاظ الثلاثة في معنى واحد. إنها مرحلة يندغم فيها الطريق بالغاية التي ينتهي إليها في وحدة متينة لا انفصام لها.
وربما كان رأينا هذا محض "جولة" جبنا فيها جهة وحشية من جهات التعليل الأدبي. ولعل الموضوع يحتاج إلى أن نواجهه مرة أخرى.