الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناقشة على أساس النقد الأدبي:
يبدو لنا أن دعوة النثر، في أحكامها على الشعر، تستند إلى تعريف له يضع الإلحاح كله على المحتوى أو "المضمون". فالشعر، في نظر أصحاب هذه الدعوة ليس إلا معاني من صنف معين، فيها خيال وعاطفة وصور، وسواء بعد ذلك أن يكون موزونًا أو غير موزون؛ لأن الوزن، في رأيهم، ليس شرطًا في الشعر. وعلى هذا الأساس يكون للشعر في نظرهم عنصر واحد هو المضمون. فإذا أردنا أن نستخلص للشعر تعريفًا مشتقًّا من آرائهم هذه قلنا إنه "تجمع معانٍ جميلة موحية فيها الإحساس والصور".
ومن الواضح أن مفهومهم هذا للشعر يقف في الطريق الأقصى المواجه للتعريف العربي القديم الذي كان يحدد الشعر بأنه "الكلام الموزون المقفى" وهو تعريف يجعل الوزن الأساس الأعظم للشعر دون اعتراف بالمضمون. والحقيقة أن كلا التعريفين قاصر ناقص: التعريف الجديد يهمل الشكل والتعريف القديم يهمل المضمون. فكأن هؤلاء المعاصرين أرادوا تصحيح مفهوم غالط قديم فوقعوا في مفهوم غالط جديد. ولا يخفى علينا أن غلط التعريف الجديد أشد وأكبر من غلط تعريف أسلافنا.
وأما إذا أردنا أن نرجع إلى صوت الواقع في أنفسنا، وأن نحكم عقولنا فلسوف ننتهي إلى أن للشعر ركنين ضروريين لا بد منهما في كل شعر وهما:
1-
النظم الجيد "الشكل" أو "الوزن".
المحتوى الجميل الموحي، المتموج بالظلال 2- الخافتة والإشعاع الغامض الذي تنتشي له النفس دون أن تشخص سر النشوة.
وإنه لمن المؤسف أن كلمة "نظم" قد أصبحت تزدري في عصرنا وكأنها إهانة يُسب بها الشاعر. والواقع أنها كلمة جليلة، لا بد لكل شاعر من أن يملك ناصيتها. ذلك أن الشاعر المبدع لا بد أن ينطوي على ناظم
متمكن بارع وإلا لم يكن شاعرًا. والنظم هو المرحلة الأولى في كل شعر. وأما أن هناك أناسًا ينظمون شعرًا موزونًا يخلو من عبقرية الإبداع ورعشة الموسيقى فإن ذلك لا يهين كلمة "النظم". إن كل شاعر ناظم بالضرورة، وليس كل ناظم شاعرًا، وذلك لأن الشعر أعم من النظم، فهو يحتويه دون أن يقتصر عليه. وواقع الأمر أن الناس، بالنسبة للشعر ثلاثة:
1-
إنسان يتذوق الشعر ويطرب له إلا أنه لا يميز الموزون من المختل وقد يمر على غلط عروضي فلا يدركه. ومن هذا الصنف كثير من الناس.
2-
إنسان ينظم الموزون نظمًا متقنًا جاريًا على قواعد العروض دون أن تنبض منظوماته بالجمال أو تتفجر بدفء الإبداع. وهذا هو الناظم.
3-
إنسان يحسن النظم ويتقنه حتى ليوجع النشاز سمعه وروحه وهو فوق ذلك يمتلك موهبة تفكير الموسيقى والسحر فيما ينظم. وهذا هو الشاعر. وهو في هذا الباب في المرتبة الأولى من أصناف الناس.
والذي لا ريب فيه أن الناظمين أناس ذوو موهبة وإن لم تكن موهبتهم كاملة، ولذلك ينبغي لنا أن نحترم موهبتهم، وأن نثني عليهم بما يستحقون. نقول هذا ونحن نرى الاتجاه لدى طائفة من الشعراء اليوم إلى احتقار الناظمين والتشنيع عليهم. وإنما الحق أن ينظر هؤلاء الشعراء إلى أنفسهم ليكملوا ما ينقصهم من عدة الناظم ومقدرته. فما قيمة شعر جميل الصورة ولكن أوزانه تتعثر بالسقطات؟ إن الناظم الذي يحسن النظم أجدر بإعجابنا، لو أنصفنا، من شاعر لا يحسن النظم. ذلك أن الأول بصفة كونه ناظمًا، قد استكمل عدة فنه حين أتقن النظم وضبط أصوله. وأما الشاعر فإنه، وهو يجهل قواعد النظم، إنما يفتقد جزءًا مهمًّا من عدة الشاعر؛ لأن الوزن هو الروح التي تكهرب المادة الأدبية وتصيرها
شعرًا، فلا شعر من دونه مهما حشد الشاعر من صور وعواطف، لا بل إن الصور والعواطف لا تصبح شعرية، بالمعنى الحق، إلا إذا لمستها أصابع الموسيقى، ونبض في عروقها الوزن.
هذا مجمل رأينا، والواضح أن أنصار "قصيدة النثر" يخالفوننا فيه. وإنما الوزن، في عرفهم، مجرد شكل خارجي عارض اصطلح الأقدمون عليه، فلو حذفناه وكتبنا الشعر من دونه لأنقذنا شعرنا من التقليد وجئنا بشيء طريف.
وإننا لنحب أن نسألهم، على ذلك، سؤالًا لعل له عندهم جوابًا: ترى إذا استطاع ناثر وشاعر أن يعبرا، كلٌّ بأسلوبه الشخصي، عن عين الكمية من الصور والعواطف والأخيلة، فأيهما سيهز السامعين هزًا أشد؟ أيهما سيبعث فيهم مقدارًا من النشوة أكبر، وإلى أيهما سيستجيب الذوق الإنساني استجابة أرهف وأحر؟ أما في رأينا فإن الجواب واضح وبديهي. إن الموزون الطافح بالصور والأخيلة والعواطف سيملك قلوبنا ويهزنا ويثيرنا أكثر من النثري الطافح بنفس المقدار من الجزئيات. وذلك لأن عنصرًا جماليًّا جديدًا قد أضيف إليه هو الموسيقى والإيقاع.
والسبب المنطقي في فضيلة الوزن، هو أنه، بطبعه، يزيد الصور حدة، ويعمق المشاعر ويلهب الأخيلة. لا بل إنه يعطي الشاعر نفسه، خلال عملية النظم نشوة تجعله يتدفق بالصور الحارة والتعابير المبتكرة الملهمة. إن الوزن هزة كالسحر تسري في مقاطع العبارات وتكهربها بتيار خفي من الموسيقى الملهمة. وهو لا يعطي الشعر الإيقاع وحسب وإنما يجعل كل نبرة فيه أعمق وأكثر إثارة وفتنة. ولذلك كان الشعر مؤثرًا بحيث كان القدماء يعدونه ضربًا من السحر يسيطر به الشاعر على الجماهير. وقديمًا كان الشعر قرين أصحاب الرؤى والكهان وحتى الأنبياء إلى درجة جعلت القرآن الكريم يبرئ الرسول في الآية {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} .
ولا ريب في أن النثر، بافتقاره لهذه الموسيقى المؤثرة، يفقد خاصية يتفوق بها الشعر عليه في إثارة المشاعر ولمس القلوب. ولذلك كان النثر، في الغالب، قرين البحث العلمي والدراسة الموضوعية، حتى أصبحنا نصف الشعر الذي لا يطربنا بأنه "نثري". والحقيقة التي لا مفر لنا من مواجهتها أن الناثر، مهما جهد في خلق نثر تحتشد فيه الصور والمعاني، يبقى قاصرًا في اللحاق بشاعر يبدع ذلك الجمال نفسه ولكن بكلام موزون. فالوزن في يد الشاعر قمقم سحري يرش منه الألوان والصور على الأبيات المنغومة، هيهات للناثر أن يستطيع ذلك بنثره. أترى دعاة قصيدة النثر ينكرون أن خواطر محمد الماغوط التي اخترناها تكون أجمل لو نظمت شعرًا لا نثرًا؟ نقول ذلك لا لننتقص من تلك الخواطر وإنما لمجرد أنها كتبت نثرًا وتطاولت إلى أن تسمي نفسها شعرًا، وإنما النشوة والموسيقى والدفء من مصاحبات الوزن، فمن رغب فيها فليكن شاعرًا وليعرف كيف يرقرق معانيه في قصائد متدفقة. وبعد، فليس يعيب النثر أنه ليس شعرًا، وأن الموسيقى ملازمة للشعر لا له. إن تلك هي طبيعة الأشياء وكلٌّ لما خلق له.
وفي وسعنا ختامًا، أن نلخص تعريف الشعر إنه ليس عاطفة وحسب، وإنما هو عاطفة ووزنها وموسيقاها. وعلى ذلك فإن قدرة الناثرين على حشد العواطف والصور في نثرهم لا يقرب ما يكتبون من الشعر أي تقريب. وإنما جمال ما يكتبون مرتبط بكونه نثرًا، ولن يكون شعرًا إلا إذا نجحوا في صياغته شعرًا. وتلك موهبة الشاعر دون الناثر وهو أمر يترك خارجًا مهما قالوا ومهما جهدوا.
وأحب أن أذكر أصحاب الدعوة أخيرًا بأنهم، بعد كل ما قالوا وكتبوا وضجوا، ما زالوا هم أنفسهم مضطرين إلى التمييز بين الشعر والنثر. وهذه خزامى صبري نفسها، في فقرتها التي اقتبسناها، تتحدث عما تسميه "وزنًا تقليديًّا" -تقصد الشعر- ووزنًا غير تقليدي -تقصد
النثر. فلا نراها فعلت أكثر من استبدال الكلمتين العربيتين الدالتين: "شعر ونثر" باصطلاحات معقدة جديدة فيها عموم وغموض. وهل حقًّا إن قولهم "وزن تقليدي" أحسن من قولنا "شعر"؟ أم ترى قولهم "وزن غير تقليدي" يصلح اسمًا للنثر؟ ولماذا اضطروا إلى التمييز بين الاثنين؟ والواقع الذي لا جدال فيه، أنهم إذا لم يعترفوا بأن الشعر شعر، والنثر نثر، فلا بد أن يعترفوا بأن بينهما فرقًا واضحًا. وهذا يدحر كل مناقشة قد يوردونها. إن هناك شيئًا اسمه الوزن، وهو يفرض عليهم نفسه مهما تجاهلوه.