الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الطبعة الأولى:
لقد تصدرت هذه المقدمة كتاب قضايا الشعر المعاصر في طبعاته السابقة، وحين وجدت المؤلفة تصدر الطبعة الخامسة من كتابها بمقدمة ضافية ضمنتها ما جد لديها من آراء وتعليقات، رأيت أن تكون مقدمة الطبعة الأولى في الختام بعد إضافة ملاحظات، توضح نقطًا معينة، وإن كان هذا مخالفا للمألوف.
دكتور عبد الهادي محبوبة
اعتادت السيدة نازك الملائكة، إما أن تقدم لكتبها بقلمها، كما فعلت في ديوانها "شظايا ورماد" المطبوع في سنة 1949م، أو أن تكلف أحد أعضاء أسرتها ليقدم لها على أساس الصلة الشخصية التي تربطها به، كما عملت في ديوانها الأول "عاشقة الليل" الذي طبع عام 1947م، حيث قدمت له أختها الأصغر السيدة إحسان
…
وها هي اليوم تبدي رغبتها في أن أقدم لكتابها هذا بنفس الدافع العائلي الذي يربطنا معًا تمشيًا مع العادة التي درجت عليها.
أما سبب اتخاذها هذا المسلك فهي أنها، كما قالت: "لا تؤمن
بجدوى المقدمات الأدبية؛ لأن الكتاب، أي كتاب، ينبغي أن يعتمد على قيمته الموضوعية".. وهو مسلك -كما يبدو لنا- سليم إلى حد كبير إذا كان الغرض من المقدمة التعريف بالمؤلف والكتاب، أو كانت نقدية تشير إلى محاسن الموضوع أو مساوئه أو إليهما معًا. إلا أن القصد من المقدمة -كما نعرف- فضلاً عن ذلك- ربما كان مقتصرًا على إيجاز أهم النقاط البارزة في الكتاب وعرضها على جمهور القراء بأسلوب يسهل عليهم الاطلاع السريع عليه، والإفادة المتوخاة منه. وإذا أرد المقدم الزيادة في الفائدة فعليه أن يمهد لتلك النقاط المهمة بما يصلها بماضيها، وأن يطعمها بما يوضحها ويجلوها، وأن يضيف إليها موجز رأيه ليتم النفع بها.. وعلى هذا الأساس من تحديد مسئولية المقدم وتعيين واجبة فيما يعرض ويرى نتقدم بالخلاصة الآتية:
تتعرض الفنون على اختلافها إلى هزات تطورية عنيفة مثلما تخضع الأمم وسائر الأجناس إلى تطورات تقدمية حاسمة. ويعنى المختصون بدراسة هذه التغيرات فيولونها استقراء وتمحيصًا، ويمعنون في البحث عن منابعها وأسبابها، ونتائجها وأهدافها.. ولا تقل عناية المولعين بالفنون والآداب بتسجيل أية ظاهرة جديدة تطرأ على ناحية فنية معينة عما لدى رجال العلوم الآخرين، ولربما فاقوهم حماسة وتوسعًا في البحث عن جذور هذه الهزة وعن أغراضها وأهدافها، لما لها من علاقة وثيقة بتطور الفكر الإنساني، وفضل كبير على رقيه.
وشعرنا العربي -بين الآداب والفنون الجميلة العالمية- كان ولم يزل في طليعة فن القول من حيث معانيه وأساليبه، من حيث مضامينه وأغراضه وصور التعبير فيه، ثم حيث موازين عروضه وقافيته وتنوع أشكاله، فقد دلتنا المجموعة الضخمة من الدواوين المطبوعة والمخطوطة التي ورثناها عن العصر الجاهلي والإسلامي، على مدى الخصب الذهني والعاطفي،
والثراء اللغوي والتعبيري، الذي كان يتميز به الشاعر العربي خلال العصور الفائتة حتى شعر المناسبات، وفي أدب القصور والبلاطات.
وقد تعرض شعرنا العربي هذا إلى أنواع من الهزات التجديدية لما فطر عليه الذوق العربي من استعداد وإمكانية للتطور، كان منها ما يتصل بأغراض الشعر ومضامينه، ومنها ما يتصل بأسلوبه وشكله. وهذا ما سنشير إليه فيما بعد - على أن لأية اتجاهة فنية جديدة دلالتها وأثرها ولا سيما هذه الحركة الخاصة بعروض الشعر وموسيقاه، وأمثالها، مما ألف الكتاب للإحاطة به، وتنسيق قواعده.. كيف لا، والشعر في مقدمة الفنون التي تصور لنا وجدان الأمة وألوان حياتها، وترسم لنا الملامح الشخصية لأفذاذها وشعرائها، كما تعكس لنا -في الوقت ذاته- مدى النشاط الفكري والوجداني الذي يبذله الشاعر في معترك الحياة؛ لإعلاء شأن الإنسان ورفع مستواه.
ومن ناحية أخرى فإن الشعر باعتباره ظاهرة لا يثبت أما الإنسان المتغير في مثله وتقييمه لظواهر الوجود، فلا بد أن يواكبه بطئًا وسرعة، عمقًا وسطحية، تركيبًا وبساطة. ولسنا بصدد البحث عن الإنسان كيف ومتى يجتاز هذه المراحل الحضارية، ولكنا نريد التأكيد على مدى الارتباط بينهما من وجوه كثيرة.
فالشعر كظاهرة تعبيرية في حياة الإنسان يبدأ بسيطًا -كغيره- ثم يتعقد تدريجًا بتعقيد حياة إنسان الظاهرة نفسها فيتضاعف مضمونًا من ناحية المعاني وأبعادها اتساعًا وعمقًا، ويتكاثف شكلًا من ناحية الأساليب وجودتها لغة وصياغة، ومن ناحية انتقاء الألفاظ ودقة رصفها ورقتها، ورتابة موسيقاها. وبهذا كانت لغات الأمم وآدابها في مرحلة بداوتها وجاهليتها أقل ألفاظًا وأبسط محتوى.
إن هذا التعقد المأنوس، غير المتكلف، لدليل على رقي الفكر والعاطفة معًا، وتزاحم مظاهر الحضارة المحيطة بهما وتقديمها. وبهذا
تتكاثر الأسماء والمسميات، وتتشابه الدلالات والمدلولات حتى لتختلط ببعضها أحيانًا، فتكون مهمة الدارس المفكر التمييز بين المتشابه والمختلط من الألفاظ والمعاني، وتصبح فضيلة العبقري اكتشاف المعنى الأصيل والاهتداء إلى اللفظ المناسب له، وهو ما يسمى في عرف الفن ابتداعًا وسموًّا في الخيال.
وقد عاش العربي، أول ما عاش، حياة أدنى إلى البساطة في التحضر، وليس هذا فحسب؛ لأن حضارة الإنسان آنذاك كانت لم تتزايد بعد في متطلباتها حتى تتعقد، ومظاهر الترف المعاشي لم تتعدد في معطياتها حتى تتزاحم. وبهذا كان مضمون كل شيء ساذجًا، وكان القصيد العربي يحتوي على مضامين عدة، وكان الشاعر يتنقل بين هذه الأغراض المتنوعة لتأليف القصيدة، جاعلًا من البيت وحدة مستقلة الأداء والإعراب قدر الإمكان؛ ليدل على براعته في الإيجاز.
ولما اتسعت أبعاد حضارته، وتعددت صورها، كان لا بد للمضمون أن يتوسع ويطول، وبذلك ضاق صدر القصيدة عن أن ينفسح لأكثر من غرض واحد إذا استوعبه الشاعر وأجاد تحليله وتصويره، وسواء عليه أتحول إلى غيره أم لا فإن القصيدة تطول ويملها السامع والقارئ، وتخرج عن الإطار المألوف إلى دائرة الملاحم القصصية والأراجيز التعليمية.. وبذلك استبدل الشاعر تنقله بين المضامين إلى تنقل بين الأوزان المختلفة تارة، أو بين ضروب الوزن الواحد أخرى، ومن قافية لغيرها بقصد التنويع تارة أخرى. وحاول -أحيانا- الخروج على الوزن والقافية معًا فعادت به طبيعة الشعر العربي إلى واقعها أخيرًا.. وفي هذا التنقل والتنويع -على اختلافه- ما فيه من دلالات نفسية وفنية واجتماعية للشاعر والقارئ والسامع تكشف عن مستوى الحضارة الذي بلغته الأمة.. لذا كانت مسرحيات شوقي طريفة مقبولة، في حين جاءت مملولة ترجمة سليمان البستاني "1856-1925م" لإلياذة هوميروس، وملحمة الزهاوي "ثورة في الجحيم".. ذلك أن البستاني أتى بترجمته على شكل مقطوعات، كل
مقطوعة منها موحدة الوزن والقافية، وبهذا تحولت إلى مجموعة قصائد. أما الزهاوي فقد اختار لملحمته البالغة 435 بيتًا بحر الخفيف مع وحدة القافية في الوقت الذي كان يدعو إلى الشعر المرسل والتحرر من قيد القافية، وينظم فيه.
ومن جهة أخرى فليس صحيحًا أن الشعر العربي وما يعتمد عليه من مقاييس النقد الأدبي معايير ثابتة متحجرة كما وصمه بعضهم1. ولعل في تسمية الأوزان بالبحور ما يوحي لنا بالسطح الواسع، والعمق الهائل لمن يدرك كيف يعوم فيستخرج منه الجديد والغريب، فضلًا عن المعنى المعروف.
وآية ما ندعيه في مرونة الأسس النقدية في أدب العرب، وخصب الذهنية العربية، وقابليتها التطورية ما عرفناه من تجديدات في المضمون والشكل طرأت على الشعر العربي بعد تاريخه المسجل بفترة وجيزة: فلم يمر عليه قرن واحد حتى دخلته أغراض جديدة بظهور الإسلام، ووجدنا الشعر السياسي مثلًا عليه. ولم تمر مائة عام أخرى حتى بدأ عهد جديد دعاه النقاد بعصر الشعراء المحدثين قبال القدامى لما دخل على الشعر من اتجاهات جديدة في الصياغة وأساليب التعبير على يد أبي نواس وأبي تمام، وبشار بن برد ومسلم بن الوليد، وابن المعتز وابن هرمة والشريف الرضي وسواهم2.. بل إن "مطيع بن إياس" الذي عاش في أواخر الدولة الأموية في الكوفة، وأوائل الخلافة العباسية في بغداد، المتوفى سنة 170هـ = 787م يعد أول الشعراء المحدثين، الذين جددوا في العروض العربي وكان بين هؤلاء من خرج على بحور الشعر الخليلية كـ "رزين بن زَنْدوَرْد المتوفى حوالى سنة 247هـ" مولى طيفور بن منصور الحميري
1 أدونيس: الشعر العربي ومشكلة التجديد – مجلة شعر العدد: 21-22 سنة 1962م.
2 الآمدي: الموازنة – 13 والجرجاني: الوساطة – 38.
خال المهدي، حيث أتى باوزان جديدة في شعره حتى لقب بالعروضي1 وفي الوقت نفسه كانت هناك محاولات تجديد في العروض قام بها أبو العتاهية فنظم بأوزان لم تعرف قبله. إذ من المعروف أن المختصين من العرب استنبطوا ستة أوزان أخرى من مقلوب دوائر البحور التي جاء بها الخليل والأخفش وسموها: المستطيل والممتد والمتوافر والمتئد والمنسرد والمطرد.. وهي مقلوب الطويل والمديد الوافر. إلخ.. كما استحدثوا ألوانًا أخرى من الشعر بأوزان جديدة إلا أنها لا يُلْتزم فيها النطق بالحركات دائمًا، وتأتي ملحونة أحيانًا، دعوها السلسلة، والقوما، وكان وكان، والمواليا. كما حاول أبو العتاهية وآخرون الخروج على قاعدة القافية الموحدة3 وتفننوا فيها فجاءوا بما أسموه بـ "المذدوج" وهو مشطور بحر مقفى الشطرين، ثم "بالمسمط" وهو بيت مصرع بقافيتين، وأربعة أشطر بقافية موحدة يختمها الشاعر بشطر قافيته كالأولى.. ثم "المخمس" وهو يأتي بأربعة أشطر موحدة القافية تُختم بشطر قافيته تتكرر في نهاية كل مخمس.
وأمعن بعضهم في التحرر من القافية فقال أبياتًا من الشعر المرسل3.
بينما حدثت حركة في الشكل دفعت إليها الآفاق الحضارية الجديدة، قام بها شعراء الموشحات في الأندلس. وهي انطلاقة تطورية خرج بها أصحابها على سنن الشعر القديم فنوعوا الأوزان والقوافي في القصيدة الواحدة وكان لذلك أثره في كل حركة تجديد جاءت بعدها. فقد ابتدع مقدم بن معافى -من شعراء الأمير عبد الله محمد المرواني- فن الموشحات في أواخر القرن الثالث الهجري ثم قوي وانتشر على يد "أبي بكر عُبادة
1الأصفهاني: الأغاني ج3–254. الخطيب: تاريخ بغداد ج8/ 436، وياقوت، الإرشاد: ج4/ 16، وبروكلمن: الأدب العربي" ج2/ 10-11.
2 بن رشيق: العمدة ج1–120 وإبراهيم أنيس: موسيقى الشعر 278.
3 لباقلاني: إعجاز القرآن – 59. والمرزباني محمد بن عمران: الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء: 19-20.
القزاز المتوفى سنة 422هـ"، ثم ظهر فن الزجل بلغة العامة المتحضرة، واشتهر "ابن قزمان" المتوفى سنة 555هـ، بالإبداع فيه. وسرعان ما تناقل الشعراء شرقًا وغربًا هذه الفنون وانتشرت في أوساطهم وجودوا فيها.
ثم مرت بأمة العرب قرون عجاف رزحت طوالها تحت نير الاستعباد فأصيب فكرها بالخمول ومنيت حضارتها بالانهيار، وما أن استيقظت حتى قويت واستعادت مكانتها الحضارية والفكرية، وشمل حياتها التجديد، وبخاصة حينما اطلعت على أدب الغرب فاقتبست منه وتأثرت به، فكانت أول ظاهرة تجديدية في دواوين الشعراء من مهاجري سوريا ولبنان إلى أمريكا في أوائل هذا القرن، وقرأنا لهم صنوفًا متنوعة في أفانين من الشعر أمثال: إيليا أبو ماضي، جبران خليل جبران، والشاعر القروي رشيد سليم الخوري، وشفيق المعلوف وفوزي المعلوف ونسيب عريضة وغيرهم.
وفي الوقت نفسه كانت دعوة التجديد في الشرق العربي تتردد أصداؤها في نفوس جماعة الديوان التي يتزعمها العقاد ويدعو لها زميلاه عبد الرحمن شكري وإبراهيم عبد القادر المازني من جهة، وجماعة "أبولو" التي يمثلها أحمد زكي أبو شادي وخليل مطران وأنصارهما من جهة أخرى، وشقت طريقها بخطى واسعة على يد محمد فريد أبي حديد وخليل شيبوب ومحمد مصطفى بدوي ولكن لم يخرج واحد من هؤلاء وأولئك عن نظام "الشعر المقطوعي" وإن أطلقوا عليه اسم "الشعر الحر" تارة و"الشعر المرسل" أخرى و"الشعر الحر المرسل" تارة ثالثة1معللين لذلك بعدم التزامه القافية الموحدة.
1. موريه: حركات التجديد في موسيقى الشعر العربي الحديث، ترجمة سعد مصلوح ص135، ط المدني، القاهرة 1969م.
وتوفي أبو شادي في إبريل سنة 1955م وهو يحدد الشعر الحر في مناسبات الدفاع عنه أو الدعوة له بأنه "الذي يجمع أوزانًا وقوافي مختلفة حسب طبيعة الموقف ومناسباته1. غير أن علي أحمد باكثير -من أتباع أبولو- قد اهتدى إلى الشعر الحر من دون أن يعرف ذلك، فإنه نظم مسرحيته -السماء أو إخناتون ونفرتيتي- سنة 1943م من بحر معين هو "المتقارب" وجاءت الأشطر فيه بعدد من التفعيلات غير متساوية ولكنه -مع ذلك- أطلق عليه اسم "الشعر المرسل" لأنه لم يتقيد فيه بوحدة القافية2فكان بموقفه هذا يذكرنا بالرحالة "كريستوف كولومبس" الذي اكتشف أمريكا وهو يظن أنها إحدى جزر الهند الشرقية.
ثم تلتها حركة "الشعر الحر" في أواخر النصف الأول من القرن نفسه، في يوم الثلاثاء 27 تشرين الأول من سنة 1947 بالذات.. ففي ضحاه كان ميلاد أول نموذج له، في قصيدة بعنوان "الكوليرا" وقد كانت التجربة التي انفعلت بها الشاعرة فاستوحتها وصورتها هي أحداث "الهيضة" التي وقعت في مصر الشقيقة حينذاك ونشر الوباء أجنحة الموت الفاجع على ربوعها
…
وكان يومًا مشهودًا في منزل الشاعرة وعند الأسرة بكامل شخوصها، من الأب الأديب الباحث الأستاذ صادق الملائكة إلى الأم الشاعرة المعروفة أم نزار إلى الإخوة إحسان ونزار وعصام وسُها، كما رواه لي دفتر الذكريات المخطوط بقلم المؤلفة نفسها، وهو سجل للمحاورات والأحداث التي تجري بين أعضاء الأسرة في مناسبات خاصة، وفي أوقاتها المعينة.
ولعل من المفيد أن اقتطف منه ما يلي:
تدخل "نازك" غرفة الاستقبال وبيدها القصيدة وتقول: هذه القصيدة
1 أولو: 2، 10/ 1934م/ 90.
2 باكثير: محاضرات في فن المسرحية القاهرة 1958م/ 10.
مشكلة جديدة من مشاكل ديواني المنحوس -شظايا- "×"1.
فتجيب "إحسان": إن عشاق الشعر الأوروبي سيفهمونها ولا شك.
أبو نزار: ما هذا الشعر الجنوني؟ إنه هذيان! أين الوزن، أين القافية، ما معنى الموت، الموت، الموت؟!
نازك: هل تعني أنك لم تفهم فكرة القصيدة؟
أبو نزار: الفكرة تصويرية لا بأس بها: ولكن هذا الوزن المبتكر لم يطربني وأنا لا أفهمه، اسألي أمك.
أم نزار: لقد قرأت القصيدة اليوم وقلت لها: إنها أشبه بالشعر المنثور مع أنها لا تخلو من وزن غريب.
إحسان لنازك: اكتبي عليها أنها من الوزن الفلاني ليصدقوا.
نازك: لقد قلت لك إن الجمهور سيضحك مني ولكني -مع ذلك- واثقة أن هذه القصيدة ستكون بداية عصر جديد في الشعر العربي.
أبو نزار: من يقرؤها؟! أنا والعراقيون الذين اعتادوا رصانة المتنبي وجزالة البحتري؟ إنك لن تستطيعي الخروج على الذوق العربي، فأنت واحدة، والأمة ملايين.
نازك: قولوا ما شئتم، أقسم لكم إني أشعر اليوم بأني قد منحت الشعر العربي شيئًا ذا قيمة.
نزار: إن العمل الذي يقابل باختلاف عظيم في الرأي لا بد أن يكون عظيمًا.
بهذا القدر اليسير أكتفي، وقد نقلت ما رأيته متصلًا بالموضوع من محضر الجلسة التي حوت نقاشًا طويلًا وحوارًا عنيفًا، تاركًا للمؤلفة أن تنشر وقائع مذكراتها الممتعة كاملة، ليطلع عليها القراء.
1 كان يومذاك لما يزل بهذا الاسم ثم عدلت الشاعرة إلى تسميته بـ "شظايا ورماد" بعد ذلك.
لقد استجاب العروض العربي لهذه الحركة التطورية الجديدة. وشاعت في الأوساط الأدبية وتلاقفها شعراء الشباب بعد نقد قاس وسخرية لاذعة..
والذي يغلب على ظننا أن حركات التطوير تلك إنما كانت بدافع الرغبة إلى الجديد وليست تخلصًا من قسوة عمود الشعر وصرامته، وإلا ما ذهب "المعري" وغيره إلى الزيادة في القيود فالتزم في القافية ما لا يلزمه العروض به، وآثرها في "لزومياته" وكذلك في "فصوله وغاياته"، حتى لكأنها وسائل للأداء كما ازدادت أعانت الشاعر على رسم صورته وتأدية غرضه.. كما نعتقد بأن حركة الشعر الحر هذه إنما هي مرحلة تطورية لعروض الشعر العربي وليست مقتبسة عن الشعر الغربي كما ذهب بعضهم1 وإن كانت تشبهه في بعض الوجوه؛ إذ ليس كل شبيه مستمدًا من شبهه، إن كان بعض أنصارها ممن قرأ أدب الغرب وأفاد منه وادعى الأخذ عنه.. ثم إنها لم تعالج "المضمون" وإن كان هو الحاجة الملحة التي دفعت إلى اختراعه2، ولم تدرس "وحدة الموضوع" وإن كانت هي الحافز القوي إلى ابتداعه3.. وعلى ذلك فإن كل ما وصلنا من تجديد وتنويع في الأسلوب والشكل منذ فجر النهضة الحديثة سواء أكان في مدرسة شعراء المهجر في أمريكا أو في "أبولو" في القاهرة إنما هي إرهاصات مهدت لميلاد الشعر الحر الذي كان بمنزلة رد الفعل لبعض أنواعها، والذي ابتنى قواعده على أسس فنية خاصة في العروض العربي لا يتعداها..
ونميل أخيرًا إلى القول: بأن هذه الحركة إنما هي عودة بالشعر العربي إلى أوزانه العروضية حيث جعلت -التفعيلة- أساسًا تعتمد عليه في بناء البيت بعد أن نزع فريق من الشبان إلى التطرف في التحلل منها،
1 خليل مطران: مقدمة أطياف الربيع لأبي شادي سنة 1933م.
2 و3 المصدر السابق نفسه.
وظن الشعر نثرًا وتوهم الوزن والقافية قيدًا، ونظم المقطوعات المنثورة ودعاها شعرًا وأضاع بذلك عنصرًا أساسيًّا من أهم خصائص الشعر، وهو موسيقى التفعيلة؛ لأن الوزن والقافية -كما نرى- ليسا قيدين في الشعر من حق الشاعر أن ينطلق ويتحرر منهما وإنما هما خاصتان من أهم خصائص الشعر الجديد ليتميز بهما عن النثر الفني.. فهي -حركة الشعر الحر- دعوة إلى الحرية في اختيار الأوزان المناسبة لا التحرر منها أو التحريف فيها لاعتقاد روادها بأن الوزن ظاهرة موسيقية لا يتخلى عنها الشعر إلا ويستحيل نثرًا.
ولعل في وصف هذا اللون من الشعر "بالحر" دون التحرر ومرادفاتها مثلًا ما يشعر الباحث بضرورة الالتزام بالوزن والقافية، ولكنه التزام من نوع جديد: فيه حرية للشاعر ضمن حدود "بحور" معينة يتميز بها الشعر عن النثر، ليس في الموسيقى وحسب؛ إذ هي حاصلة فيها وإن اختلفت في نوعها ومقدارها.. التزام في بحر من البحور وحرية في عدد تفعيلات الشطر من البيت في القصيدة الواحدة. ثم التزام في القافية وحرية في تنويعها في القصيدة نفسها.. فليس "الشعر الحر" امتزاجًا بين بحور مختلفة أو التنويع فيها1 ولا ابتداع بحور جديدة، أو تحررًا من قيد الوزن والقافية؛ لأنهما إيقاع لا يريد دعاة "الشعر الحر" فقدانه وإنما يحرصون أشد الحرص على الرتابة فيه، وعلى تكرار النغم الذي يحدثه.
ومزية هذا الكتاب لا تنحصر في تحديد مفهوم "الشعر الحر" الذي اختلف في تطبيقه كثير من النقاد والكاتبين فضلًا عن الشعراء المجددين، وإنما حاولت الكاتبة أن تضع له قواعد عروضية كاملة في فصول مطولة ودعت العروضين والشعراء إلى دراستها، فإذا صحت أصبحت جديرة بأن تثبت فصلًا في كتب العروض العربي الذي لم يتناول -بطبيعة
1 أبو شادي في كتاب: جماعة أبولو وأثرها في الشعر الحديث صفحة -528 لعبد العزيز دسوقي: ط الرسالة سنة 1960م.
الحال- هذا الأسلوب المعاصر في الوزن.
وليس ذلك فحسب، وإنما قدمت لتلك الفصول الطويلة بنبذة عن تاريخ الشعر الحر باعتباره حركة جديدة ظهرت سنة 1947م ثم درست أسبابه الاجتماعية كما تمثلتها هي وكرست جهدها لوضع عروض لهذا الشعر يقيس عليه الناشئون قصائدهم فلا يقعون في الأخطاء. والكاتبة تؤكد أن أغلب الشعر الحر الذي ينشر اليوم حافل بالغلط العروضي والشقطات، غير أنها تشعر -في يقين- أن هذا الغلط لن يستمر؛ لأن شباب الجيل القابل سيكون أكثر فهمًا وتذوقًا لأسرار اللغة العربية والأوزان الشعرية، كما خصصت المؤلفة فصلًا طويلًا للأخطاء العروضية الشائعة، صنفتها فيه إلى أصناف، وضعت لها عناوين مميزة، مثل: الخلط بين التشكيلات، ومستفعلان في ضرب الرجز، وغير ذلك.
والكتاب -فضلًا عن هذا- دعوة إلى تطوير أساليب النقد العربي بحيث يساير الشعر المعاصر وبالتالي الحياة المعاصرة نفسها، وهذه الفكرة ترد على صورة دعوة فعلية أحيانًا نجدها مبثوثة في عناوين الكتاب، ولا سيما المتعلقة بالشعر الحر، كما ترد على صورة فصول في النقد تحاول فيها الكاتبة أن تطور تلك الأسس التي تدعو إليها والتي تكاد تكون بمجموعها محاولة جديدة في النقد الأدبي.
أما الفصول التي تضع أسسًا جديدة في النقد فيمكننا التنبيه إليها، وهي:
أ- هيكل القصيدة: وفيه تدرس القصيدة العربية على أساس بنائها لا على أساس موضوعها. وفي هذه الدراسة تمييز دقيق بين الموضوع وبناء القصيدة، وقد انتهت فيه إلى وجود ثلاثة أنواع من الهياكل، أطلقت عليها:
الهيكل المسطح، الهيكل الهرمي، والهيكل الذهني، وجاءت بمثال مفصل من كل صنف. والذي يلاحظ أن الكاتبة وضعت كثيرًا من الاصطلاحات الجديدة التي يحتاج إليها الناقد المعاصر، مثل: الكفاءة، التماسك، الصلابة، ومثل: الأوزان الصافية والممزوجة، ومثل: التشكيلات وتريد بها
الشكل العروضي لضرب القصيدة في الشعر الحر، وهي تعادل في العروض القديم مجموع العروض والضرب في البيت الواحد، ولم يضع له القدماء اسمًا. ومثل: التكرار البياني واللاشعوري وتكرار التقسيم.
ب- الفصلان البلاغيان عن "التكرار" في الشعر الحديث. وهي محاولة جديدة كل الجدة في إقامة بلاغة عربية على أساس الشعر المعاصر، ذهبت الكتابة فيهما إلى أن البلاغة ينبغي أن تتطور موضوعاتها بحيث تستوعب ما جد من أساليب في لغتنا. وكل من تتبع ما ورد عن التكرار في أدبنا القديم وكتبنا البلاغية يرى بوضوح أن هذين الفصلين جديدان في موضوعهما، فقد قسمت في الفصل الأول التكرار، بناء على ملاحظتها للشعر قديمًا وحديثًا: إلى تكرار الحرف، وتكرار الكلمة، وتكرار العبارة، وتكرار المقطع. وأتت بأمثلة وضعت على أساس استقرائها لها، شبه قواعد جمالية لهذا التكرار. وبحثت في الفصل الثاني معاني التكرار، كما بدت لها، فقسمتها إلى تكرار بياني، وتكرار لا شعوري، وغيرهما وجاءت بلفتات جديدة تستحق الدراسة.
ج- ولعل أبرز الفصول -بعد ذلك- هو الفصل المعنون بـ "البند ومكانه من العروض العربي" وقد ذهبت فيه الكاتبة خلافًا لمن سبقها ممن درسوه إلى: أنه شعر ذو وزنين لا وزن واحد كما توهم دارسوه، وأثبتت ذلك بالاستشهاد، ثم وضعت عروضًا كاملًا لهذا اللون الطريف من الشعر الذي شاع في العراق خلال القرون الثلاثة الفائتة. والذي نظنه أن هذا الفصل سيثير مناقشات من قبل المعنيين بالنقد والشعر معًا.
د- ومن مزايا الكتاب التي تلفت نظر الباحثين -أخيًرا- موقف المؤلفة من استيراد النظريات الأوروبية وتطبيقها على الشعر العربي، وقد فصلت هذا الموضوع النقدي الدقيق في فصل "الناقد العربي والمسئولية اللغوية" وتوصلت إلى أن قواعد النقد العربي الأساسية ينبغي أن تنبع من البيئة العربية ومن طبيعة الشعر العربي لا أن تستورد من خارج محيطهما.
وبعد: ففي الوقت الذي تكبر فيه رائدة الشعر الحر فيما اهتدت إليه من قواعد لحركة التجديد الشعرية، ولما ابتدعته من مصطلحات، وتوصلت إليه من نتائج تعتبر ثروة لغوية وأدبية في النقد العربي، نختلف معها في نقاط عدة نكتفي بإيجاز اثنين منها:
1-
المفارقة في مصطلح "الشعر الحر":
ووجه المفارقة في هذا الاصطلاح أنه ينطوي على تجديد في الشعر ولكننا إذا أمعنا النظر فيه نجده لم يزل يحتفظ بتعريفه عند نقاد الأدب منذ عهد قدامة بن جعفر بأنه القول الموزون المقفى الذي يدل على معنى1..
وأنه تجديد نحو الحرية في الشعر، ولكننا إذا استقرأنا ما نظم فيه نراه لم يخرج على عمود الشعر الذي حدده "المرزوقي" في مقدمته لشرح ديوان الحماسة2. وهو -الشعر الحر- بنظر مبدعيه سبيل لانطلاق الشاعر من قيود شكلية تعوق خياله عن الإبداع والاسترسال، وتصد لسانه عن التعبير والتصوير، غير أنه برفع تلك القيود قد فرضوا عليه قيودًا معنوية قاسية من أجل أن يكون ما يقوله شعرًا ما دام الشعر نغمًا ملحنًا، وليس موسيقى فحسب.
2-
تجريد النثر من الموسيقى: في معرض الموازنة بين النثر والشعر في الفصل الذي تحدثت به المؤلفة عن "قصيدة النثر" انتهت إلى "أن الموسيقى ملازمة للشعر لا له". والذي نعرفه أن النثر الفني موسيقى تأتيه من توازن الجمل وسجعها، ذلك التوازن الذي هو أقرب إلى الوزن في الشعر، وذلك السجع الذي هو أشبه بالقافية فيه، مما يدلنا على أنه هو الأصل الذي ارتقى منه الشعر، كما كان الرجز هو الحلقة الوسطى بين النثر المتوازن المسجوع وبحور الشعر الناضجة. ولكن هذا الطراز من البيان العربي قد جفاه المجددون من الكتاب أيضًا حتى ولو كان عفويًّا غير
1 قدامة بن جعفر: نقد الشعر - 13 ط الأولى القاهرة سنة 1934م.
2 المرزوقي: شرح ديوان الحماسة ط مصر سنة 195م صفحة - 9.
متكلف، وناله من التعريض والتنديد ما نال الشعر الموزون المقفى..
فالتفعيلة -كما هو واضح- موجودة في النثر وبخاصة الفني منه.
والموسيقى توجد فيه كما توجد في الشعر، إلا أن في الوزن موسيقى لا نجدها في غيره بله في عدمه حتى ليخيل إلينا ونحن ننشد قصيدة موزونة أن في الوزن شيئًا أبعد من الموسيقى اللفظية نفسها، هو نَغَمُ المعنى الذي كان صداه الوزن.
ولعل هذا هو الذي ألصق الوزن بالشعر لأنه غناء في الأصل، وجعله من خصائصه وميزاته، ليس في لغة العرب وحسب وإنما في لغات الأمم جميعها، وإلا فلماذا اهتدى السمع المرهف إلى القافية، وناشد انسجامها مع الوزن والمضمون ولم يكتف بالوزن مثلًا؟
وقبل أن نختم هذه المقدمة الموجزة ألا يصح لنا أن نتساءل: أي الطريقين أقرب إلى الحرية في الشعر ما دمنا ننشدها لتحقيق ذاتية الشاعر:
وسهولة تنقله في تصوير مشاعره مع المحافظة على موسيقى الشعر وإيقاعه:
هل الالتزام بتفعيلة واحدة من بحر معين كما توصلت إليه صاحبة الكتاب ودعت له باسم الشعر الحر أم باستخدام عدة أوزان يختارها الشاعر، ينتقل بينها حسب انسجامها مع الموضوع كما ذهب إليه أبو شادي وأصحاب أبولو جميعهم؟
والله نسأل أن يلهمنا السداد، ويهدينا سبيل الرشاد.
د. عبد الهادي محبوبة
بغداد "1962"