الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كله مزالق وهو ينصب شركًا، فإذا لم يكن الشاعر على حذر، كان من السهل أن ينتقل فجأة من الرجز إلى السريع أو المنسرح لمجرد أن "مستفعلن" تتصدر البيت.
الشعر الحر اندفاعة اجتماعية:
كان السؤال الذي انصبت حوله مناقشات المعترضين على "البدعة" يتركز حول الأسباب الداعية التي دفعت هذه "الفئة الضالة" من الشباب إلى تبني حركة لقلب الأوزان العربية. وقد ذهبوا في التأويل مذاهب شتى، فقال بعضهم إن الشباب مولع بالأغراب والشذوذ، وقال آخرون إن الجيل الجديد كسول يضيق بالجهد ولا يصبر على متاعب الشطرين وأهوال القافية الموحدة فتخلص إلى السهولة. ورأت فئة ثالثة أن الحركة بمجملها منقولة عن الشعر الأوروبي ولا علاقة لها بالشعر العربي.
والحق أن هذه المزاعم لا تخلو من مثل ذلك الصدق العفوي الذي نجده مصاحبًا حتى لأكثر الأحكام بعدًا عن رصانة التأمل ووضوح القصد. ولعل السذاجة في الحياة الإنسانية لا تخلو من الحكمة خلوًّا تامًّا مهما بلغت درجتها. غير أن في الأمثال هذه الأحكام المتسرعة، على كل حال، تغاضيًا لا يسكت عنه عن بعض الحقائق الأولية المتعلقة بالمجتمعات ونموها وتطورها. أفتراه من الممكن أن تنشأ حركة في مجتمع ما ويستجيب لها جيل من الناس على مدى عشر سنين بطيئة طويلة دون أن تمتلك جذورًا اجتماعية تحتم انبثاقها وتستدعيه؟ أمن الجائز أن تنبعث هذه الحركة من أعماق الفراغ والسكون دونما جذور ولا روابط ولا مسببات؟ وما الذي يجعل حركة ما تظهر في عصر معين دون عصر؟
في الواقع أن الأفراد الذين يبدءون حركات التجديد في الأمة ويخلقون الأنماط الجديدة، إنما يفعلون ذلك تلبية لحاجة روحية تبهظ كيانهم وتناديهم
إلى سد الفراغ الذي يحسونه. ولا ينشأ هذا الفراغ إلا من وقوع تصدع خطير في بعض جهات المجال الذي تعيش فيه الأمة. ويغلب أن يكون الفرد المبدع غير واعٍ وعيًا حقًّا لهذا التصدع، غير أنه مع ذلك يندفع إلى التجديد الذي يعوض عما تصدع، وهو في هذا مقود بمحتمات بيئية قاهرة لا قدرة له على مقاومتها. إنه ليشعر بضغط داخلي مستبد يدفعه دفعًا إلى إحداث هذا الجديد. ولعله في اندفاعه إلى الإبداع ينساق بعين الدافع القسري الذي يجعل ماء ذا مستوى عالٍ يندفع إلى أول بقعة منخفضة يصادفها ولا يكف حتى يملأها. إن تشبيهنا هذا ليس رديئًا، فلعل علم الاجتماع يقرنا على هذا الاعتراف بسطوة التيارات الاجتماعية على الذهن الإنساني. هذا بالإضافة إلى أن ما يسمونه بدعوة "الفن للحياة" تستريح إلى مثل هذه الفكرة التي تجعل المجتمع هو الجذر الأساسي لكل حركة أدبية.
ولعل الدليل على أن حركة "الشعر الحر" كانت مقودة بضرورة اجتماعية محضة هو أن محاولات وأدها قد فشلت جميعًا، فما زال تيار الشعر الحر يشتد ويتلاطم حتى اضطر مؤتمر الأدباء العرب الثالث في القاهرة إلى أن يعترف به رسميًّا ويدخله في أبحاثه الرئيسية. وهل في وسع المهاجمات، مهما قويت وأصرت، أن تقتلع حركة انبعثت من صميم الظروف الاجتماعية للفرد العربي؟ إن حركة ما ليس عرضًا خارجيًّا يسهل نزعه بمقال أو مقالات، بمقاطعة أو استنكار. وهذا لأنها، كما قلنا، اندفاع محتوم لملء فراغ وإقامة تصدع. والحق أن في إمكاننا أن نعد حركة الشعر الحر حصيلة اجتماعية محضة تحاول بها الأمة العربية أن تعيد بناء ذهنها العريق المكتنز على أساس حديث، شأنها في هذا شأن سائر الحركات المجددة التي تنبعث اليوم في حياتنا، في مختلف المجالات.
إن العوامل الاجتماعية الموجبة التي جعلت الشعر الحر ينبثق كثيرة. ولكننا سنحصي منها في بحثنا هذا أربعة. وكلها، كما سنرى، تتعلق
بالاتجاهات الاجتماعية العامة للفرد العربي المعاصر وترتكز إلى تفاصيل الشعر القديم وخصائص الشعر الحر نفسه.
1-
النزوع إلى الواقع:
تتيح الأوزان الحرة للفرد العربي المعاصر أن يهرب من الأجواء الرومانسية إلى جو الحقيقة الواقعية التي تتخذ العمل والجد غايتها العليا، وقد تلفت الشاعر إلى أسلوب الشطرين فوجده يتعارض مع هذه الرغبة عنده لأنه من جهة مقيد بطول محدود للشطر وبقافية موحدة لا يصح الخروج عنها، ولأنه من جهة أخرى حافل بالغنائية والتزويق والجمالية العالية.
أما القيود التي تضيق آفاق الأوزان القديمة، فهي تلوح للفرد المعاصر ترفًا وتبديدًا للطاقة الفكرية في شكليات لا نفع لها، في وقت ينزع فيه هذا الفرد إلى البناء والإنشاء وإلى إعمال الذهن في موضوعات العصر. إنه يكره أن يضيع جهوده في إقامة هياكل شعرية معقدة، لها من الرصافة والهيبة أكثر مما يطيق. ولعل الرصانة الشديدة منفرة للذهن العامل الذي يريد البناء، وذلك لأنها تقيد الحركة. والشاعر يريد أن يتحرك ويندفع. إن مشكلات العصر تناديه وهو لا يجد وقتًا لترف القيود وبطر القافية الموحدة. ثم إن فروض العمل والحياة المنتجة تتطلب أن يخلق لنفسه أسلوبًا أكثر حرية وأقل هيبة وجلالًا. وهو في هذا أشبه بإنسان يشتغل فلاحًا ويضايقه أن يلبس ثيابًا أنيقة مترفة لأنه يحتاج إلى لباس بسيط يعطيه الحرية على الحركة والقدرة على العمل. ولذلك انطلق الشاعر الحديث وخلق أسلوب الشعر الحر ببساطة أسلوبه وخلوه من الرصانة.
أما الغنائية فهي تنشأ عن الموسيقية العالية في الأوزان القديمة، ومن ثم فهي تعطي تلك الأوزان جوًّا من العاطفة المصطنعة والخيال. والغنائية
ملازمة للتقييد لأنها تتضمن مبالغة وإسرافًا في العواطف. فما يكاد الشاعر يقع في مآزق القافية الموحدة ويتلكأ عند البيت الواحد حتى يعتريه إحساس بأنه لا يعبر، وإنما يكتب شيئًا مترفًا تتحكم فيه هذه الملكة الجميلة المستبدة التي تقف في آخر البيت وتصر على أن تكون أبرز ما فيه. ولعل هذا الإحساس بالترف والفراغ هو الذي يجعل الشعر القديم حافلًا بالأجواء المثقلة بالعنبر ونسيم الصبا والثياب الحريرية تجرها فتيات ناعمات لا عمل لهن سوى الدلال ونوم الضحى. إن الشاعر المعاصر -وهو فرد في مجتمع يعمل ويبني- يضيق بهذا الجو الكسول النعسان، وهذه الجمالة المفروضة فرضًا؛ أنه يريد أن يكون شعره مفكرًا، إيجابيًّا، طويل العبارة، فلا تسمح له بذلك الغنائية العالية في الأبحر الشطرية. وهو ينفر من هذه النبرة العاطفية المموسقة لأنها لا تلائم نزوعه إلى العمل والنشاط، ومن ثم فهو يريد أن يحطمها ويخرج من قمقم الأحلام وأوهام ألف ليلة وليلة. لقد وجد في الشعر الحر مهربًا من هذا الجو المثقل بالجواري والحرير وأشعة مصباح علاء الدين، وهو يطلب الواقعية حتى إذا كانت قاسية خشنة فيمد يديه ليلمس الحقيقة ولو أدمتهما.
وأما لماذا يصلح الشعر الحر للتعبير عن حياة ليس الجمال الحسي غايتها العليا؛ فلأنه كما أشرنا يخلو من رصانة الأوزان القديمة ويجعل غايته التعبير لا الجمالية الظاهرية. وهكذا تستطيع النظرة الاجتماعية أن تتبين في حركة الشعر الحر جذور الرغبة في تحطيم الحلم والإطلال على الواقع العربي الجديد دونما ضباب ولا أوهام.
2-
الحنين إلى الاستقلال:
يحب الشاعر الحديث أن يثبت فرديته باختطاط سبيل شعري معاصر يصب فيه شخصيته الحديثة التي تتميز عن شخصية الشاعر القديم. أنه يرغب
في أن يستقل ويبدع لنفسه شيئًا يستوحيه من حاجات العصر. يريد أن يكف عن أن يكون تابعًا لامرئ القيس والمتنبي والمعري. وهو في هذا أشبه بصبي يتحرق إلى أن يثبت استقلاله عن أبويه فيبدأ بمقاومتها. ويعني هذا أن لحركة الشعر الحر جذورًا نفسية تفرضها، وكأن العصر كله أشبه بغلام في السادسة عشرة يرغب في أن يعامل معامل الكبار فلا ينظر إليه وكأنه طفل أبدًا.
إن حرقة الاستقلال هذه تساهم إلى حد ما في دفع الشاعر الحديث إلى البحث في أعماق نفسه، عن مواهب كامنة غير مستغلة وعن مقدرات وخصائص يمكن أن تشحذ وتبرز فتعطيه شخصية متفردة تميزه عن أسلافه. وقد وجد الثورة على القوالب الشعرية متنفسًا لهذه الحرقة إلى الاستقلال فثار عليها. ولا ريب في أن هذه النزعة هي تفسير ما نراه من إيغال بعض الناشئين من الشعراء في التطرف والاندفاع وقد ظنوا أن الأوزان القديمة عاطلة عن القيمة وتعالوا حتى على القواعد الشعرية التي رسخت عبر مئات من سنوات الشعر واللغة. ولن يصعب على الناقد المتزن أن يغفر لهؤلاء المتطرفين نزق أشطرهم ورعونة قوافيهم ما دام يدرك الأساس النفسي للمبالغة التي سقطوا فيها.
3-
النفور من النموذج:
من طبيعة الفكر المعاصر عمومًا أنه يجنح إلى النفور مما أسميه "بالنموذج" في الفن والحياة. وأقصد بالنموذج اتخاذ شيء ما وحدة ثابتة وتكرارها بدلًا من تغييرها وتنويعها. وتلاحظ فكرة النموذج في الفن الإسلامي القديم في ما نرى على جدران المساجد والقصور وقبب الجوامع ومنائرها، حيث يقوم التزيين على أساس تكرار وحدة تجريدية ثابتة، أو مجموعة وحدات منضمة في وحدة أكبر، على أن تراعى في التكرار النسب
المضبوطة ضبطًا دقيقًا. إن الأساس الذي قام عليه هذا الفن العربي عين الأساس الذي قام عليه شعرنا القديم. فقد كان الشطر أو البيت يتخذ وحدة ويحافظ الشاعر على عزلة هذه الوحدة بتحاشي التضمين الذي مر تعريفه مراعيًا المسافات المضبوطة بينها وبين سائر الوحدات التي يتكررها إلى نهاية القصيدة.
وجاء الشاعر المعاصر باتجاهاته الحديثة ونظر في نظام الشطرين فوجده يبيح له شكلًا مقيدًا بنمط معين ذي طبيعة هندسية مضغوطة. إن الأشطر المتساوية والوحدات المعزولة لا بد أن تفرض على المادة المصبوبة فيها شكلًا مماثلًا يملك عين الانضغاط وتساوي المسافات. أو لنقل أن هندسية الشكل، لا بد أن تتطلب هندسية مقابلة في الفكر الذي يستوعبه هذا الشكل، وذلك بمعزل عن حاجة السياق. والقوالب تفرض شكلها على المادة التي تنضغط في داخلها، وإذا كانت القصيدة الشطرية ملزمة بالمحافظة على أطوال ثابتة ومسافات متناسقة فإن المادة التي يعالجها الشاعر لابد أن تصبح هي الأخرى ذات مسافات متناسقة وذلك بحكم قانون خفي يربط بين الشكل والمضمون ويجعل الواحد منهما مؤثرًا في الآخر، متأثرًا به في الوقت نفسه.
وأبسط نتائج هذا الإلزام في القصيدة العربية القديمة ما نلاحظه من ميل العبارات إلى أن تنتهي بانتهاء الشطر، وإذا امتدت فإلى نهاية البيت حيث القافية الموحدة تنتصب شامخة وتبني جدارًا متينًا يصعب على المعنى أن يتخطاه. ونحن نعلم يقينًا أن من شروط البيت الجيد عند العرب أن يكون مستقلًّا في معناه وصياغته عما بعده، بحيث عدوا "التضمين" عيبًا فادحًا من عيوب الشعر. يضاف إلى هذا أن الشطر لا يسمح للشاعر بأن يستعمل عبارة أقصر منه، فكان لابد للشاعر أن ينهي العبارة معه. وهكذا فرضت الأشطر المتساوية أن تكون العبارات متساوية إلى حد ما، أو مقسومة إلى قسمين متساويين. وفي هذا ما لا يروق للشاعر الحديث الذي
يميل إلى التعبير فيستعمل عبارة قصيرة ذات كلمتين أحيانًا. وقد يروق له أن تستوعب عبارة واحدة بيتين أو ثلاثة. وقد يحب أن يقف في نصف الشطر ويبدأ عبارة جديدة تنتهي في نصف الشطر التالي. وكل هذا يعينه على إحداث أثر معين أو إثارة حالة نفسية يقصدها. والحقيقة أن هذا هو ما نصنعه في الحياة أيضًا. فلو أصغينا إلى رجل عامي يقص حكاية لالتفتنا إلى ما يحدثه تنويع الأطوال في عباراته من أثر عميق في المستمعين.
وهذا ما يحرم منه الشاعر الذي يستعمل طريقة الشطرين والقافية الموحدة.
لقد وجد الشاعر الحديث نفسه محتاجًا إلى الانطلاق من هذا الفكر الهندسي الصارم الذي يتدخل حتى في طول عبارته، وليس هذا غريبًا في عصر يبحث عن الحرية ويريد أن يحطم القيود ويعيش ملء مجالاته الفكرية والروحية. الواقع أن إحدى خصائص الفكر المعاصر أنه يكره النسب المتساوية ويضيق بفكرة النموذج ضيقًا شديدًا، فما يكاد يقع على اتساق متعاقب منتظم في جهة من جهات حياته حتى يشتاق إلى أن يحدث فوضى صغيرة في مكان منه فيربك النموذج ويخرج على الرتابة، ولهذا أمثلة كثيرة في مبانينا وبرامجنا وحياتنا. ولم تكن حركة الشعر الحر إلا استجابة لهذا الميل في العصر إلى الخروج على فكرة النموذج المتسق اتساقًا تامًّا. والواقع أن الحياة نفسها لا تسير على نمط واحد ولا تتقيد بنسبة ثابتة في أحداثها، وإنما تجري بلا قيد، لا بل إن اللغة وهي منبع كل فكر وكل شعر، لا تتبع نماذج. إننا نتكلم بحسب الحاجة فنطيل عباراتنا ونقصره وفق المعنى لا وفق نظام هندسي مفروض. ولذلك ثار الشاعر المعاصر على أسلوب الشطرين وخرج إلى أسلوب التفعيلة وبات يقف حيث يشاء المعنى والتعبير.
4-
الهرب من التناظر:
في طفولتنا كانت البيوت التي يعيش فيها الناس ببغداد بيوتًا شرقية في بنائها، تتوسطها ساحة واسعة قد تكون فيها حديقة صغيرة يطلقون عليها
اسمًا فارسيًّا هو "البقجة" فكان البناء يحيط بهذه الساحة من جهاتها الأربع. وإذ أنظر الآن إلى الوراء، ألاحظ أن نظام الشطرين الخليلي في الشعر كان متناسبًا مع هذا الطراز في البناء لأن الشطرين تتوسطهما فسحة أو سكتة في وسط البيت.
والواقع أن شكل البناء هذا، قد كان هو المستعمل في البلاد الإسلامية منذ العصر الأموي فيما أعلم؛ لأنني شاهدت في مُتْحف دمشق الوطني نموذجًا كبيرًا لقصر الخليفة هشام بن عبد الملك فكان مبنيًّا على الطراز نفسه: ساحة واسعة في الوسط فيها الحدائق، تحف بها مباني القصر من أربع جهات. ولسنا ندري كيف كانت قصور ملوك المناذرة والغساسنة تُبنى في الجاهلية وإن كنت لا أستبعد أن تقوم على النسق نفسه ما دام هناك ارتباط خفي بين شعر الشطرين وطراز المباني.
وفيما بعد، عندما راحت بغداد القرن العشرين تتسع إلى الضواحي، بدأ الناس يبنون بيوتهم على الطراز الغربي المعدل فلا يستبقون ساحة وسط البيت وإنما يجعلون الفسحة أمام البيت ووراءه -حدائق- ولكن تأثير نظام الشطرين الشعري بقى نافذ المفعول في طراز البناء؛ لأن المهندس كان حريصًا دائمًا على تشييد بيت له جانبان متناظران تمام التناظر، فالجانب الأيمن يشبه الجانب الأيسر كل الشبه بحيث لو مددنا خطًّا وسط البيت لكانت الجهتان متطابقتين. وقد استمر هذا النسق المتناظر مسيطرًا على مباني مدينة بغداد إلى حوالي سنة 1955.
وفي سنة 1949 ظهرت مجموعتي الشعرية "شظايا ورماد" وفيها الدعوة الأولى إلى الشعر الحر. وإذ أنظر الآن إلى الماضي، أحس أنني إنما ثرت على طريقة الشطرين الخليلية، نفورًا من المنزل المتناظر الذي يتطابق جانباه تمام التطابق. والحق أنني كنت أستشعر ضيقًا شديدًا بنظام البيوت في بغداد كنت كلما رأيت مسكنًا متناظرًا شعرت بنفسي تضيق وتظلم. ولم يخطر على
بالي أنني إنما دعوت تلك الدعوة الحارة، إلى إقامة الشعر على أشطر غير متساوية، تفعيلاتها غير متناسقة في العدد؛ لأنني أدعو أيضًا إلى تغيير نظام المباني، ولأنني أنفر من التناظر وأتعطش إلى هدمه والثورة عليه.
وعندما استجاب كثير من شعراء العصر إلى دعوة الشعر الحر بدأ طراز المباني يتغير. وماذا نجد اليوم؟ لقد أصبح المهندس، حين يبني بيتًا أو عمارة، يتعمد ألا يجعلها متناظرة، فما يكاد يلاحظ أقل ميل إلى هذا التناظر، حتى يُنزل بالنسق فوضى من نوع ما، تخلخله ولو على شكل رسوم وخطوط وألوان لا نموذج فيها، ولا مقياس لها، وإنما هي نثر بلا تخطيط.
وعلى هذا، تكون سطوة الشعر الحر على الحياة العربية اليوم، ناشئة عن أننا نتأثر بطراز المباني التي نحيا فيها، وهي مبانٍ ثائرة على التناظر ثورة واضحة لكل ذي بصر. وإني لأومن إيمانًا قويًّا بأن الشعر والفن ليسا معزولين عن الحياة، وإنما يرتبطان بها ارتباطًا كاملًا. ومن ثم فإن تخطيط شوارعنا الحديثة وطراز مبانينا لابد أن يؤثر تأثيرًا مباشرًا في شعرنا وفنونا. وهذا هو الحذر الكامن وراء سطوة الشعر الحر على حياتنا الحديثة، في ظني. وعلى ذلك فإن الذين ينادون بضرورة القضاء على شعر التفعيلة الذي لا نسق ثابتًا له، إنما يتغافلون عن طراز بيوتنا وأشكال شوارعنا وينسون أنها لا بد أن تترك طابعها على أذهاننا وميولنا النفسية وتدفعنا إلى جهة معاكسة للتناظر الذي ننفر منه اليوم، ونحاول دائبين أن نحدث فوضى تخل به ولو إخلالًا جزئيًّا.
5-
إيثار المضمون:
يتجه الفرد العربي المعاصر على العموم إلى تحكيم المضمون في الشكل، وهذا مرتبط بما نراه من ميل العصر إلى الإنشاء والبناء، وهو ميل عام يستوعب مختلف مظاهر حياتنا. إن الشكل والمضمون يعتبران في أبحاث الفلسفة الحديثة وجهين لجوهر واحد لا يمكن فصل جزئيه إلا بتهديمه أولًا.
والنقد العربي المعاصر جدير بأن يلتفت إلى هذه الوحدة الوثيقة، وينبه إلى ما في الفصل بين وجهيها من خطر على الفكر والأمة. غير أن الحركات الاجتماعية والأدبية لا تخضع للمنطق العقلي وإنما يتحكم فيها قانون التطور الاجتماعي. ولقد جاء عصرنا هذا على أثر العصر المظلم الذي غلبت فيه على الشعر العربي القوالب الشكلية والصناعية الفارغة والأشكال التي تعبر عن حاجة حيوية. ووجد الشاعر الحديث نفسه خلفًا لأجيال من الشعراء يكتبون الألغاز والمهمل والتشطيرات ولزوم ما لا يلزم وكل ما يدل على أنهم لا يريدون إيصال مضمون لازم معين إلى قرائهم، وإنما همهم أن يخلقوا أشكالًا مجردة ذات قيمة ظاهرية وحسب. وقد كان رد الفعل المباشر، عند الشاعر المعاصر، أن يتجه إلى العناية بالمضمون ويحاول التخلص من القشور الخارجية. وكانت حركة "الشعر الحر" أحد وجوه هذا الميل لأنه، في جوهره، ثورة على تحكيم الشكل في الشعر. إن الشاعر الحديث يرفض أن يقسم عباراته تقسيمًا يراعي نظام الشطر، وإنما يريد أن يمنح السطوة المتحكمة للمعاني التي يعبر عنها.
ونظام الشطرين، كما سبق أن قلنا، متسلط، يريد أن يضحي الشاعر بالتعبير من أجل شكل معين من الوزن، والقافية الموحدة مستبدة لأنها تفرض على الفكر أن يبدد نفسه في البحث عن عبارات تنسجم مع قافية معينة ينبغي استعمالها، ومن ثم فإن الأسلوب القديم عروضي الاتجاه، يفضل سلامة الشكل على صدق التعبير وكفاءة الانفعال، ويتمسك بالقافية الموحدة ولو على حساب الصور والمعاني التي تملأ نفس الشاعر. وكل هذا إيثار للأشكال على المضمونات، بينما يريد العصر أن ينشغل بالحياة نفسها وأن يبدع منها أنماطًا تستنفد طاقته الفكرية والشعورية الزاخرة. إن كل ميل إلى تحكيم الشكل في المعنى يغيظ الشاعر المعاصر ويتحداه، وهذا هو السبب في ما نراه من مبالغة بعض الناشئين في استعمال الأوزان الحرة حتى كادوا ينبذون الأوزان القديمة نبذًا تامًّا.
هذه العوامل الخمسة تبدو لنا العوامل الرئيسية التي أحاطت بحركة الشعر الحر، ولكنها ليست العوامل كلها. إن من الممكن أن ننظر إلى الحركة من زوايا أخرى فنرى فيها مظهرًا لضيق الشباب بهالة التقديس التي يحيط بها النقاد العرب أدبنا، وكأن هذا الأدب كمال لا غاية بعده.
ولعل التقديس يعد في نظر الجيل العامل نوعًا من الجمود، وذلك يتضمن فكرة التحقق والاكتمال والوصول، وهي فكرة تجعل العمل والجهد شيئًا لا داعي له ولا فائدة فيه. وقد يكون جيلنا متبرمًا بمضمونات الشعر القديم، وعندما وجد أن أشباح الماضي تعشعش في هذه الأوزان قرر أن يتركها فترة ليبني كيانًا شعريًّا في أوزان جديدة ريثما يتاح له الاستقلال الكامل فيعود إلى هذا القديم بنظرة أصفى وفهم أعمق.
وإنه ليهمنا أن نشير إلى أن حركة الشعر الحر، بصورتها الحقة الصافية، ليست دعوة لنبذ شعر الشطرين نبذًا تامًّا، ولا هي تهدف إلى أن تقضي على أوزان الخليل، وتحل محلها، وإنما كان كل ما ترمي إليه أن تبدع أسلوبًا جديدًا توقفه إلى جوار الأسلوب القديم وتستعين به على بعض موضوعات العصر المعقدة. ولا أظنه يخفى على المتابعين أن بعض الموضوعات تنتفع بالأوزان القديمة أكثر ما تنتفع بالوزن الحر.
ولذلك لا نرى وجهًا نبرر به ميل بعض الناشئة إلى أن ينظموا شعرهم كله بالأوزان الحرة "وقد تناولت هذه الظاهرة بالنقد في الفصل السابق".
غير أن التطرف شيء مألوف في تاريخ الدعوات الأدبية والاجتماعية. ونحسب أن كل حركة تبدأ متطرفة أولًا، ثم ترتد إلى الاعتدال بعد أن تشذبها التجارب وتصقلها الحاجة. ثم إننا على يقين من أن كثيرًا من المغالين في استعمال الشعر الحر سيرتدون في السنين القادمة إلى الاعتدال والاتزان ويعودون إلى الأوزان الخليلية فيكتبون بها بعض شعرهم.
أما اليوم فنحن في شيء من القلق على الحركة، تقلقنا هذه المغالاة التي تصاحبها، وتلك الحدة والعصبية التي يكتب بها بعض أنصارها المتحمسين
الذين حسبوا أن محاربة آدابنا القديمة جزء من أهداف الشعر الحر. وكأن من الممكن، على الإطلاق، أن نبدع نحن شيئًا لم يساهم أجدادنا الموهوبون في تمهيد السبيل إليه منذ ألف سنة. والواقع أن حركة الشعر الحر لن ترسخ في تاريخنا حتى يدرك الشاعر الحديث أن تراثه القديم قد كان هو المنبع الذي ساقه إلى إبداع الجديد. ولعل إنكار القديم والمغالاة في النفور منه مظهر من مظاهر ضعف الثقة بالنفس عند الأمم، وقد لا يكون غريبًا أن يحس الفرد العربي، في هذه الفترة من حياته، بشيء من هذا. ولكننا على ثقة من أنه، وهو سليل هذا التراث الخصيب، لا يمكن أن يبقى في هذا المستوى طويلًا، ولا بد أن يسيطر على أبعاد نفسه كلها في المستقبل القريب. وإذ ذاك سيبدو له الشعر الحر نقطة صغيرة في تاريخه الكبير. وسيدرك، أول مرة، أن أوزانه التي ابتكرها قد بلغت مرحلة النضج وباتت جزءًا حيًّا من تاريخه الأدبي العريق.