المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وكل هذه التكرارات ذات موسيقى تقليدية تنبع من جو عاطفي - قضايا الشعر المعاصر

[نازك الملائكة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌القسم الأول: في الشعر الحر

- ‌الباب الأول: الشعر الحر باعتباره حركه

- ‌الفصل الأول: بداية الشعر الحر وظروفه

- ‌البداية

- ‌الظروف:

- ‌المزايا المضللة في الشعر الحر:

- ‌نتائج التدفق في الأوزان الحرة:

- ‌الخواتم الضعيفة للقصائد الحرة:

- ‌عيوب الوزن الحر:

- ‌إمكانيات الشعر الحر ومستقبله:

- ‌الفصل الثاني: الجذور الاجتماعية لحركة الشعر الحر

- ‌مدخل

- ‌الشعر الحر اندفاعة اجتماعية:

- ‌الباب الثاني: الشعر الحر باعتباره العروضي

- ‌الفصل الأول: العروض العام للشعر الحر

- ‌توطئة:

- ‌ الشعر الحر أسلوب

- ‌تغعيلات الشعر الحر

- ‌ بحور الشعر الحر وتشكيلاته:

- ‌ الشعر الحر شعر ذو شطر واحد:

- ‌الفصل الثاني: المشاكل الفرعية في الشعر الحر

- ‌توطئة:

- ‌ الوتد المجموع:

- ‌ الزحاف:

- ‌ التدوير:

- ‌ التشكيلات الخماسية والتساعية:

- ‌ مستفعلان في ضرب الرجز:

- ‌ فاعل في حشو الخبب:

- ‌الباب الثالث: الشعر الحر باعتبار أثره

- ‌الفصل الأول: الشعر الحر والجمهور

- ‌توطئة

- ‌ طبيعة الشعر الحر:

- ‌ الظروف الأدبية للعصر:

- ‌ إهمال الشعراء:

- ‌الفصل الثاني: أصناف الأخطاء العروضية

- ‌مدخل

- ‌ الخلط بين التشكيلات:

- ‌ الخلط بين الوحدات المتساوية شكلًا:

- ‌ أخطاء التدوير:

- ‌ اللعب بالقافية وإهمالها:

- ‌الباب الرابع: ملحق بقضايا الشعر الحر

- ‌الفصل الأول: البند ومكانه من العروض العربى

- ‌مدخل

- ‌المقياس العروضي للبند:

- ‌البند والشعر الحر:

- ‌الفصل الثاني: قصيدة النثر

- ‌مدخل

- ‌المناقشة اللغوية:

- ‌المناقشة على أساس النقد الأدبي:

- ‌القسم الثاني

- ‌الباب الأول: في فن الشعر

- ‌الفصل الأول: هيكل القصيدة

- ‌مدخل

- ‌الموضوع:

- ‌الهيكل الجيد وصفاته:

- ‌ثلاثة أصناف من الهياكل:

- ‌الفصل الثاني: أساليب التكرار في الشعر

- ‌الفصل الثالث: دلالة التكرار في الشعر

- ‌مدخل

- ‌التكرار البياني:

- ‌تكرار التقسيم:

- ‌التكرار اللاشعوري:

- ‌الباب الثاني: في الصلة بين الشعر والحياة

- ‌الفصل الأول: الشعر والمجتمع

- ‌الفصل الثاني: الشعر والموت

- ‌الباب الثالث: في نقد الشعر

- ‌الفصل الأول: مزالق النقد المعاصر

- ‌الفصل الثاني: الناقد العربي والمسؤولية اللغوية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌فهارس الكتاب:

- ‌ثبت الاعلام:

- ‌ثبت الموضوعات:

الفصل: وكل هذه التكرارات ذات موسيقى تقليدية تنبع من جو عاطفي

وكل هذه التكرارات ذات موسيقى تقليدية تنبع من جو عاطفي مصطنع مما يصح وصفه في اللغات الأجنبية بكلمة Sentimental والواقع أن قيام التكرار على أساس غنائي ليس أمرًا مستحبًّا خاصة في تكرار التقسيم الذي يميل بطبعه إلى الغنائية.

ص: 287

‌التكرار اللاشعوري:

هذا الصنف لم يرد في الشعر القديم الذي وقف نفسه -فيما يلوح- على تصوير المحسوس والخارجي من المشاعر الإنسانية. وشرط هذا الصنف من التكرار أن يجيء في سياق شعوري كثيف يبلغ أحيانًا درجة المأساة.

ومن ثم فإن العبارة المكررة تؤدي إلى رفع مستوى الشعور في القصيدة إلى درجة غير عادية. وباستناد الشاعر إلى هذا التكرار يستغني عن عناء الإفصاح المباشر وإخبار القارئ بالألفاظ عن مدى كثافة الذروة العاطفية.

ويغلب أن تكون العبارة المكررة مقتطفة من كلام سمعه الشاعر ووجد فيه تعليقًا مريرًا على حالة حاضرة تؤلمه أو إشارة إلى حادث مثير يصحي حزنًا قديمًا أو ندمًا نائمًا أو سخرية موجعة. ونموذج هذا التكرار عبارة "أنها ماتت" في قصيدة الخيط المشدود في شجرة السرو1. فما كاد بطل القصيدة يسمعها حتى أصابته رجة شعورية أدت إلى أن يصاب بهذيان داخلي واختلاط موقت في تفكيره فراحت العبارة تعيد نفسها في ذهنه كدقات ساعة رتيبة. وإنما تنبع القيمة الفنية للعبارة المكررة، في هذا الصنف من التكرار، من كثافة الحالة النفسية التي تقترن بها.

لقد ورد هذا التكرار اللاشعوري في قصيدة عنوانها "نهاية"2 لبدر شاكر السياب، وصحبته ظاهرة يصح أن نقف عندها وقفة صغيرة،

1 شظايا ورماد. "بيروت 1959" ص163.

2 أساطير "النجف الأشرف 1950".

ص: 287

فمنذ لفت بدر السياب الأنظار إلى هذه الظاهرة بات بعض الشعراء الجدد ملتفتين إليها، وإن كانوا غالبًا لم يفطنوا تمامًا إلى الغرض الفني منها وإنما عدوه فيما يلوح تجديدًا محضًا أو نوعًا من الترف الفني.

استقى بدر السياب عبارته المكررة من كلمة أثبتها نثرًا قبل القصيدة مما قالته له فتاة: "سأهواك حتى تجف الأدمع" ويلوح من القصيدة أن ظروف الشاعر مع قائلة العبارة قد تغيرت وانقلبت حتى باتت العبارة، حين يتذكرها، تبدو له كالسخرية من الحاضر وتخزه في مرارة، ومن ثم فهي تتردد في ذهنه وتلاحقه وتتشكل أشكالًا بين "سأهواك حتى سأهواك" و"سأهواك حتى س

" و"سأهواك حتى" و"سأهوا –".

هذه هي الأبيات:

" سأهواك حتى" نداء بعيد

تلاشت على قهقهات الزمان

بقاياه.. في ظلمة.. في مكان

وظل الصدى في خيالي يعيد

"سأهواك حتى

س

" يا للصدى

أصيحي إلى الساعة النائية

"سأهواك حتى" بقايا رنين

تحدين حتى الغدا

"سأهواك -" ما أكذب العاشقين

"سأهوا.." نعم تصدقين!

إن البتر هنا بليغ. ففي مثل هذه الحالات التي نجابهها كلنا أحانًا سواء في حالة حمى عالية تشتت التفكير المنتظم، أو في حالة صدمة عنيفة كوفاة شخص عزيز نفاجأ بها دونما مقدمات

في مثل هذه الحالات يصدف أن

ص: 288

تتردد في أذهاننا عبارة مهمة تنبعث من أعماق اللاشعور وتطاردنا مهما حاولنا نسيانها والتهرب من صداها في أعماقنا. وكثيرًا مما تفقد العبارة المتكررة معناها وتستحيل في الذهن المضطرب إلى مجموعة أصوات تتردد أوتوماتيكيًّا دون أن تقترن بمدلول، ومن ثم فهي تتعرض لأن "تنبتر" في أي جزء منها، فجأة حين ينشغل العقل الواعي بفكرة طارئة يفرضها العالم الخارجي، فتصحي المصدوم من ذهوله لحظات.. ولكن سرعان ما تعود العبارة الدرامية حين يخف الانشغال بما هو خارجي وترن في السمع. أنه تكرار لاشعوري لا يد لنا فيه. وهذا هو الذي يبرر وقوف بدر شاكر السياب عند الألف في كلمة "سأهواك" وكأن الصوت في انبتر فجأة ودُفع دفعًا إلى التلاشي.

على أن السياق الذي وضع فيه بدر تكراره اللاشعوري مفتعل قليلًا والتركيز ينقصه. فالشاعر كما نرى من الأبيات يمتلك من الوعي ما يجعله يرد على العبارة ويناقشها بقوله "نعم تصدقين""ما أكذب العاشقين" وتعليقاته هذه تبدد الجو اللاواعي الذي يرتكز إليه منطق "البتر". على أن أصالة الابتكار تبقى مع ذلك تطبع الأبيات.

وقد حاول شعراء آخرون تقليد هذا البتر في التكرار أذكر منهم الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في قصيدة له عنوانها "لعنة الشيطان"1 يقول فيها:

من يكونان؟ همسة أرجف الليل صداها وانساب في الظلماء

من يكونان؟ من يكو؟ من يـ

واصطكت شفاه على بقايا النداء.

ولعله واضح أن البتر هنا غير مبرر نفسيًّا، فالمفروض أن هذا التكرار يمثل "أصداء" ومن طبيعة الصدى أن يتردد الجزء الأخير منه وحسب لا الأول كما في تردد عبارة الشاعر.

1 لعنة الشيطان "بغداد 1952 "؟ " ص6.

ص: 289

وقد استعمل بلند الحيدري هذا البتر في قصيدة عنوانها "ثلاث علامات"1 حيث يقول:

وافترقنا

أنا لا أذ

نحن لا نذكر أن كنا التقينا

وهو يلوح لنا بترًا ضعيفًا لا يمكن تبريره إلا بفذلكة، وقد تكون للشاعر وجهة نظر خاصة فيه لم نحزرها. إن هذه المحاولات من شعرائنا طيبة من حيث إنها محاولات في طريق وعر لم يسلك، غير أنها أيضًا محاولات متسرعة تسمها اللفظية أحيانًا. وقد يكون التكرار اللاشعوري من أصعب أنواع التكرار إذ يقتضي من الشاعر أن ينشئ له سياقًا نفسيًّا غنيًّا بالمشاعر الكثيفة. فإن الترجيع الدرامي لا يجيء إلا عبر عقدة مركزة تجعل من الممكن أن تفقد عبارة معناها فتروح تكرر في حرية وقد تنبتر وتتشكل بمعزل عن إرادة الذهن الذي يعانيها.

هذه هي الدلالات الثلاث التي صادفتها للتكرار في شعرنا الحديث، وقد تكون هناك دلالات أخرى لم أفطن إليها. وقد يتطور أسلوب التكرار في شعرنا بحيث يغتنى ويمتلك مزيدًا من الدلالات والمعاني فيتاح للبلاغة والنقد أن يضيفا إلى ما جاء في هذا البحث.

ومهما يكن فقد آن الأوان لأن ينتبه بعض شعرائنا إلى أن التكرار، في ذاته، ليس جمالًا يضاف إلى القصيدة بحيث يحسن الشاعر صنعًا بمجرد استعماله، وإنما هو كسائر الأساليب في كونه يحتاج إلى أن يجيء في مكانه من القصيدة وأن تلمسه يد الشاعر تلك اللمسة السحرية التي تبعث

1 أغاني المدينة الميتة وقصائد أخرى "بغداد 1957".

ص: 290

الحياة في الكلمات، لا بل إن في وسعنا أن نذهب أبعد فنشير إلى الطبيعة الخادعة التي يملكها هذا الأسلوب، فهو بسهولته وقدرته على ملء البيت وإحداث موسيقى ظاهرية فيه، يستطيع أن يضلل الشاعر ويوقعه في مزلق تعبيري. ولعل كثيرًا من متتبعي الحركات التجديدية في الشعر المعاصر يلاحظون أن أسلوب التكرار قد بات يستعمل في السنوات الأخيرة عكازة تارة لملء ثغرات الوزن، وتارة لبدء فقرة جديدة، وتارة لاختتام قصيدة منحدرة تأبى الوقوف، وسوى ذلك من الأغراض التي لم يوجد لها في الأصل، وهو أمر نأمل أن يتجه نقادنا المتزنون إلى الوقوف في وجهه في حزم وصرامة تكفيان لردعه.

ص: 291