الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-1-
الوتد المجموع:
يعرف العروضيون "الوتد المجموع" بأنه مجموع ثلاثة أحرف، اثنان منهما متحركان والثالث ساكن كقولنا "لقد، هوى، صحا، نعم".
ومن هذا نستطيع أن نستخلص أن هذا الوتد يختم التفعيلات "فاعلن، متفاعلن، مستفعلن" ومعنى هذا أنه يرد في أربعة من بحور الشعر الحر هي:
1-
المتدارك: فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن.
2-
الرجز، مستفعلن مستفعلن مستفعلن.
3-
الكامل، متفاعلن متفاعلن متفاعلن.
4-
السريع، مستفعلن مستفعلن فاعلن.
وقد اقتصرت كتب العروض العربي، قديمها وحديثها، على تقديم الوتد تقديمًا عابرًا في بدايات أبحاث العروض، ثم لا تعود إلى ذكره.
قط. ونحن اليوم في فترة من تاريخ الشعر العربي تحتم علينا أن نعنى بهذا الوتد، خاصة في تلك التفعيلات التي تنتهي به مما ذكرنا.
والذي نلاحظه -وهي ملاحظة شخصية- أن الوتد في الشعر العربي يتصف بشيء من الصلادة والقسوة، ويجنح من ثم، إلى أن يتحكم في الكلمة التي يرد بها، ويرفض أن يسمح للشاعر بتخطيه. ومعنى هذا، إذا أردنا التبسيط، أن الوتد يبلغ من القوة بحيث يستطيع أن يشق الكلمة التي يرد في أولها إلى شقين. مثال ذلك أن نقول مثلًا:
شيخ المعرة شاعر
…
مستفعلن متفاعلن
إن الوتد الأول هنا هو الحروف الثلاثة "معر" في كلمة "المعرة" وقد جاء من الكلمة في وسطها، وبذلك شقها إلى شقين أحدهما في آخر التفعيلة "مستفعلن" والآخر في أول التفعيلة "متفاعلن".
وتفسير ما نذهب إليه أن التفعيلة، بمعناها الشعري، وقفة موسيقية ينقطع عندها النغم، وهذه الخاصة أبرز وأشد في التفعيلات الوتدية التي أشرنا إليها، لما ذكرناه من قسوة الوتد وصلادته، فإذا توقف الصوت عند آخر الوتد انقسمت الكلمة إلى قسمين تتخللهما وقفة قصيرة وذلك مستكره ينفر منه السمع الشاعري نفورًا ظاهرًا.
إن قسوة الوتد هذه تجعل من الكياسة الشعرية أن يحاول الشاعر إيراده في آخر الكلمة لكي يختمها به ويقويها، بدلًا من أن يورده في أولها فيقطع أوصالها ويضيع تماسكها. هذا هو القانون العام، وقد نحتاج إلى بعض الاستثناءات فيه بالنسبة للمواقع التي يرد فيها كما سنذكر.
وقد يتساءل القارئ: ماذا صنع آلاف الشعراء العرب من أسلافنا لتحاشي مشكلات هذا الوتد المشاكس إذن عبر القرون؟ ولماذا لم يقعوا في
شركه إذا كان يستدعي هذا الالتفات الخاص من الشاعر؟ والجواب أنهم كانوا يتحاشونه بالسليقة؛ لأن طبيعة الكلمة العربية وطبيعة موسيقى الأوزان كانت ترفض للشاعر أن يقع في مزالق الوتد، فيعرف كيف يتخلص منه، وتلهمه فطرته الموسيقية أن يلجأ إلى واحدة من الطرق التالية للتخلص من أشواك الوتد:
1-
أن يورد الشاعر الوتد في آخر الكلمة لا في أولها كأن يقول "متجافيًا" أو "زهر الربى" أو "ذاهبًا".
2-
أن يورد الوتد في النصف الأول من الكلمة على أن يكون آخره حرف مد. مثال ذلك قول ابن مالك:
وأستعين الله في ألفيه
فالوتد هو الحروف "تعي" في كلمة "وأستعين" وآخره كما نرى ياء. وقد خفف ذلك من قسوته وجعل شوكته تكسر في حرف المد.
3-
ومما يخفف وقوع الوتد في الجزء الأول من الكلمة أن يكون آخر الوتد أل التعريف مثل قول مصطفى جمال الدين من قصيدة رجزية1:
1 قصيدة "حسونيات" مجموعة "عيناك واللحن القديم" للشاعر مصطفى جمال الدين، مطبعة الأديبة "بغداد 1972" ص103.
أهلا بعينيك أبا فلاح
…
يا حاشد القلوب بالأفراح
فإن الوتدين في الشطر الثاني مختومان بأل التعريف "شدأل""ب بأل". ويتكرر هذا في أبياته التالية أيضًا:
وحاصد اليأس وزارع المنى
…
وساكب البرء على الجراح
وجاعل الليل لفرط بهجة
…
أجمل من توهج الصباح
ويبدو لي أن سبب ليونة الوتد المختوم بأل التعريف أن أل هذه ليست جزءًا من الكلمة، وإنما هي أداة تضاف إلى الاسم، فالوتد المنتهي بها لا يمزق الكلمة.
ولكن الذي يلوح لي، أن علينا أن نستثني من هذه القاعدة، الوتد الذي ينتهي بأل التعريف الواقعة خاتمة لعروض البيت، فإنها هنا لا تكسر شوكة الوتد وإنما يبقى مع وجودها حادًّا ويحطم جمالية البيت، ومن هذا بيت مصطفى جمال الدين نفسه من قصيدة من البحر الكامل:
بغداد بالسحر المندى بالشذى
…
فواح من حلل النسائم يقطر1
ولا يقولن قائل إن هذا مقبول بدليل وقوعه في شعر شعرائنا القدماء، ذلك أنه كان يرد لديهم على ندرة. أما أنا فقد كنت طوال حياتي الشعرية أنفر منه ووقعت فيه مضطرة في قصيدتي "إلى عيني الحزينتين" المنظومة سنة 1945 في أوائل حياتي الشعرية ولم يكن جناحي قد قوي على الطيران فأوقعت التدوير في بحر وتدي عندما قلت:
1 قصيدة "بغداد" المصدر السابق ص21.
ورأيتما خلل الدموع مفاتن الـ
…
ماضي وطاف الشوق في أفقيكما
وذلك لأن وقوع أل التعريف في ختام عروض البيت يشق الكلمة التي وقع فيها التدوير إلى شقين ولا يلتئم الجرح.
ولابد لي أن أنبه إلى أن هذا جائز عندما يقع في عروض المجزوء مثل مجزوء الكامل، خلافًا للوافي. وهي قاعدة غريبة أشرت إليها في موضع آخر من هذا الفصل ووقفت عاجزة عن تفسيرها، فما الذي يلطف ضيقنا ويلينه ونحن نقرأ مجزوء الكامل الذي تنتهي عروضه بأل التعريف، في حين نستقبح ذلك في وافي الكامل؟ فلينظر القارئ إلى انسياب أبيات علي الجارم المجزوءة:
يَخطِرْنَ حَتَّى تَعْجَبَ الْأَغْصَانُ مِنْ لِيِن الْقُدُودِ يَعْبَثْنَ بِالأًيَّامِ وَالْأَيَّامُ أَعْبَثُ مِنْ وَلِيدِ
هَذَا أَوَانُ الْعَدْوِ لَا الْإِبْطَاءِ وَالْمَشْيِ الْوَئِيد
إن الأشطر هنا متموجة، مناسبة، مترقرقة وكأنها موجة عذبة تعلو وتهبط في وداعة ويسر. ويكاد الشطران يكونان شطرًا واحدًا متناسقًا فلا وقفة بينهما.
4-
ومع ذلك فإن إيقاف الوتد على حرف صلد في منتصف كلمة ليس ممنوعًا. وإنما يرد في الشعر بشروط. وذلك بأن يكون وقوعه كذلك نادرًا بحيث يرد إلى جواره، وتد يختم كلمة، ووتد آخر يقف على حرف مد، فإن وجود هذه الأوتاد التي كسرت حدتها يجعل الأذن تتقبل ورود وتد واحد عنيف في البيت، لا بل إن وروده قد يضيف تنويعًا إلى التفعيلات لقلته وندرته.
الوتد في شعر المعاصرين:
في الحق أن شعراءنا الذين نظموا الشعر الحر يقابلون الوتد بقلة اكتراث ويتركونه، في أحيان كثيرة يهدم ألحانهم ويضعف موسيقى شعرهم دون أن يحسوا، ولا نظن ذلك يقع لهم لأن العلم بالعروض ينقصهم، فالعروضيون كما قلنا لا يتعرضون إلى هذه القضية قط، وإنما لأن معرفة شعرائنا بالشعر العربي السليم أقل مما ينبغي لهم. وقد يكون بعضهم من مدمني قراءة الشعر المعاصر وهو غالبًا غير سالم من الأخطاء العروضية، وليس مثلًا يحتذى في الذوق الموسيقي. وإلا فلا تعليل لدينا لما نراه في القصائد الحديثة من رداءة في الصياغة وركاكة في الأنغام. وأغلب الظن أن القارئ يتلو القصيدة ويحسها ضعيفة الوزن ناشزة النغم دون أن يدري سبب ذلك فيها. وهو غالبًا يخرج مغتاظًا مهيأً لأن يهاجم الشعر الحر في أول فرصة تسنح له.
هذا مثلًا بيت لفدوى طوقان من قصيدة ضعيف الوزن1. قالت من الرجز:
هنا استردت ذاتي التي تحطمت بأيد الآخرين.
إن الأوتاد في هذا الشطر هي:
ترد في كلمة "استردت"
تي الـ في كلمة "ذاتي التي"
تحط في كلمة "تحطمت"
بأيـ في كلمة بأيدي
1 قصيدة "تاريخ كلمة" لفدوى طوقان. مجلة الآداب. بيروت عدد أيار 1961.
وهذا تقطيع البيت1:
ومنه نرى أن الشاعرة قد وقفت أربع مرات على حرف صلد غير ممدود بينها الياء الساكنة غير الممدودة، وحكمها في هذا الموضع حكم الحرف الصلد. وهذا كما نرى من قراءة البيت، قد ألقى على الكلمات عبثًا ثقيلًا وكسرها تكسيرًا. والبيت، بعد ذلك، خالٍ من ليونة الموسيقى والتدفق الشعري الرقيق الذي يرد في بحر الرجز عادة. وذلك لأن الوتد هنا أقوى من الكلمة، بحيث قطع أوصالها. ولو كانت الشاعرة اختارت مواقف ساكنة على حروف ممدودة ينتهي عندها الوتد كما سبق أن شرحنا، أو لو أنها على الأقل قد فعلت ذلك في تفعيلتين من أربع لساعد ذلك الشطر. ولكنها لم تفعل ذلك وإنما وقعت في عكسه فجمعت بين الوقوف على حرف صلد، والوقوف في وسط الكلمة. فكانت الكلمة تبدأ في وسط التفعيلة وتنتهي في وسط التفعيلة التالية. وكذلك الأمر في التفعيلات فهي تبدأ في منتصف كلمة وتنتهي في منتصف كلمة تالية، وكل ذلك ظاهر في تقطيع الشطر الذي أوردناه سابقًا. وهو أمر شائع في الشعر الحر الذي نظموه في السنوات الأخيرة، فليست فدوى هي وحدها التي وقعت فيه وإنما اخترنا الشطر من شعرها لأنها تحسن النظم ومثل هذا في شعرها نادر.
ونحب أن نشير إلى أن الوتد في تفعيلة الرجز "مستفعلن" أقسى منه في تفعيلة الكامل "متفاعلن" وذلك لأن ورود السبب الثقيل
آثرنا رسم الكلمات المقطعة على غير طريقة العروضيين في جمع الحروف التفعيلة وحذف ما لا يلفظ منها. وذلك رغبة منا في تسهيل الأمر على القارئ الذي لم يألف العروض.
"مت" في أول تفعيلة الكامل يخفف من قسوة الوتد في ختام التفعيلة بسبب موازنته له، وكأن ثقل السبب يقابل قسوة الوتد. وأما في "مستفعلن" حيث السبب الخفيف "مس" فإن الوتد في آخرها يصبح أشد قسوة لوداعة السببين الخفيفين السابقين له. ولذلك نجد الرجز أسرع انزلاقًا من الكامل إلى النثرية وضعف الموسيقى، على الرغم مما نراه من سهولة النظم على الرجز بحيث سماه أسلافنا "حمار الشعراء". ومصداق ما نقول إن أخطاء الشعراء في الشعر الحر المكتوب على وزن الرجز أكثر بكثير من أخطائهم في ذلك الشعر وهو مكتوب على وزن الكامل.
ومع ذلك كله فإن قواعد الوتد في الرجز تنطبق على قواعده في الكامل ولو بدرجة أخف. ولذلك نلاحظ أن التدوير نادر الورود في البحر الكامل والبحر الطويل1 ويكاد يكون مستكرهًا ولو لم تنص كتب العروض على منعه. وإنما ذلك ملحوظ في دواوين الشعراء أنفسهم، ولسنا نراهم وقعوا فيه إلا اضطرارًا.
وخلاصة الرأي أن من مستلزمات الوتد أن يقف بين الحين والحين في نهاية الكلمة، وأن تكسر شوكته ببعض الوسائل الأخرى التي ذكرناها. ذلك أمر يحتمه الذوق وتتطلبه الأذن الشعرية، وقد صنعه الشعراء، وإن كان العروضيون لم يقرروه قط. حتى ابن مالك، في ألفيته النحوية المنظومة، قد التزمه. والحق أن منظومته، من وجهة نظر العروض، تتمتع بموسيقى مقبولة نفتقدها في أكثر شعر الرجز الحديث الذي شاع في السنين الماضية. وإنه لعار يحلق بالشعر الحديث أن تكون "منظومات" أسلافنا التعليمية أوفر موسيقى من قصائد شعرائنا المعاصرين. ونحن أشد أسفًا على ذلك لأننا ندري أن شعراءنا لا يقلون مواهب عن أولئك
1 تفعيلات الطويل في إحدى تشكيلاته "فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن" وهي تنتهي بوتد.
القدماء، غير أن الاستهانة بالقواعد وقلة المبالاة بالخطإ قد باتت في عصرنا شبه نمط مضلل وقع فيه الجيل. وليس الذنب ذنب الحرية كما يظن أناس يحبون التقليد والجمود، وإنما هو ذنب الجهل وضعف السمع حينًا وذنب عدم المبالاة حينًا.