الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يغني نثر عن شعر ولا شعر عن نثر، لكل حقيقته ومعناه ومكانه. فلماذا جاء الناثر المعاصر ليزدري النثر ويحاول رفعه بتسميته شعرًا؟
هذا هو السؤال. ونحن نوجهه إلى أنصار هذه الدعوة لعل له عندهم، من جواب.
وخلال ذلك، نحب أن نتفرغ لمناقشة هذه الدعوة وسوف تكون مناقشتنا في اتجاهين: أحدهما على أساس اللغة والآخر على أساس النقد الأدبي.
المناقشة اللغوية:
تقع دعوة "قصيدة النثر" في خطإ كبير هو أنها تطلق كلمة "شعر" على الشعر والنثر معًا، فإذا نظم شاعر قصيدة من البحر المنسرح ذات شطرين وقافية موحدة، كانت لديهم شعرًا، وإذا كتب ناثر فقرة نثرية خالية من الوزن والقافية تمام الخلو كان ذلك، في حسابهم، شعرًا أيضًا. فلا فرق إذن بين الشعر والنثر لأنهما كليهما يسميان في عرفهم شعرًا، وعلى هذا يكون كتاب الرافعي "رسائل الأحزان" شعرًا مثل معلقة امرئ القيس تمامًا، لا فرق بينهما. وما ذلك إلا لأن الدعوة لا تؤمن بوجود صلة بين الوزن والشعر فالكلام يكون شعرًا سواء أكان موزونًا أم لم يكن. لا بل إن النثر -لديهم- أكثر شعرية من الشعر؛ لأن وزن الشعر تقليدي كما سبق أن رأينا من أحكام خزامى صبري وجبرا إبراهيم جبرا. وهكذا نجد أنصار هذه الدعوة يلغون الفرق بين الموزون وغير الموزون إلغاء تامًّا، ومن ثم يحق لنا أن نسألهم: لماذا إذن ميزت لغات العالم كلها بين الشعر والنثر؟ وما الفرق بين الشعر والنثر إن لم يكن الوزن هو العنصر المميز؟
إن هذا يسوقنا إلى أن نرجع بأذهاننا إلى الأصل الفكري للتسميات اللغوية ولسوف نلاحظ أن التسمية تقصد في الأصل تشخيص نواحي الخلاف بين الأشياء لا نواحي الشبه. فإذا قلنا "الليل والنهار" أو "الشعر والنثر"
فإن أحد الاسمين في كل فريق يشخص الناحية الكبرى التي يختلف بها عن قرينه. إن الليل والنهار يتشابهان في أنهما كليهما يحتويان، في المتوسط، على اثنتي عشرة ساعة، كما أن الشعر والنثر يتشابهان في أن كلًّا منهما يحتوي على عواطف إنسانية وصور معبرة في المتوسط. غير أن قولنا الليل والنهار لا يثير في أذهاننا مسألة عدد الساعات هذه كما أن قولنا الشعر والنثر لا يثير لدينا مسألة المحتوى العاطفي والجمالي، وإنما تشخص التسميات الأربع خصائص أكبر من هذه وأوضح، تشخص الظلام في الليل والضياء في النهار، كما تشخص الوزن في الشعر وعدم الوزن في النثر. ومن ثم فإذا نحن سمينا كل كلام شعرًا بمعزل عن فكرة الوزن، فسوف نكون كمن يسمي الحياة كلها نهارًا سواء أكان فيها ضياء أم لا. وإنه لواضح أنها تسمية مفتعلة. إن الليل ليل، والنثر نثر. وواجبنا نحو اللغة والذهن الإنساني أن نسميهما ليلًا ونثرًا دون أن ننتحل لهما تسميات مضللة لا تشخص شيئًا. وما الذي نستفيده من تسمية النثر شعرًا والليل نهارًا يا ترى؟ أو ليس تشخيص الفروق أحسن من ذلك وأجدى؟
إن اللغة، التي هي محصول الذهن الإنساني عبر عشرات القرون، لا تضع الأسماء اعتباطًا ولا عبثًا، وإنما هناك مفهوم فلسفي عام يكمن وراء كل تعريف وتسمية، في كل لغة. تحاول اللغة أن تشخص الملامح البارزة وترمي بذلك إلى تصنيف الأشياء تصنيفًا يسهل على العقل مهمة التفكير، ويعطي الإنسانية مجالًا للتعبير عن منطقها وفكرها. فما نكاد نلفظ كلة النهار في أية لغة حتى يشرق الضوء في الذهن الإنساني وتنبسط فكرة النور، وما نكاد نلفظ كلمة الشعر حتى ترن في ذاكرة البشرية موسيقى الأوزان وقرقعة التفعيلات ورنين القوافي. واليوم جاءوا في عالمنا العربي ليلعبوا لا بالشعر وحسب وإنما باللغة أيضًا وبالفكر الإنساني نفسه ومنذ اليوم ينبغي لنا، على رأيهم، أن نسمي النثر شعرًا والليل نهارًا لمجرد هوى طارئ في قلوب بعض أبناء الجيل الحائرين الذين لا يعرفون ما يفعلون بأنفسهم.
ولست أظنني أبالغ حين أحكم بأن هذه المحاولة تكاد تكون تحقيرًا للذهن الإنساني الذي يحب بطبعه تصنيف الأشياء وترتيبها. فإذا أطلقنا اسمًا واحدًا على شيئين مختلفين تمام الاختلاف فما وظيفة الذهن الإنساني؟ وإذن فلماذا لا نرتد إلى فترات الجاهلية اللغوية، يوم لم تكن هناك أسماء للأصناف؟ وإنما التصنيف وتسمية الأصناف نتاج الحياة الفكرية للأمم، كلما كانت الأمة أعرق في الفكر والحضارة، كانت تفاصيل التسميات أكثر وأدق. وعلى هذا لا تكون تسمية النثر شعرًا أكثر من نكسة فكرية وحضارية يرجع بها الفكر العربي إلى الوراء قرونًا كثيرة.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد وحسب، وإنما نجد له جذورًا تمس الجانب الاجتماعي للغة. فلعلنا نستطيع أن نلاحظ كلنا أن تسميتنا للنثر "شعرًا" هي، في حقيقة الأمر، كذبة لها كل ما للكذب من زيف وشناعة، وعليها، أن تجابه كل ما يجابهه الكذب من نتائج. والكذبة اللغوية لا تختلف عن الكذبة الأخلاقية إلا في المظهر، إن كل كذبة سائرة إلى أن تنكشف أمام عيون الطبيعة الصادقة التي لا تنطق إلا بالحق وبالاستقامة، واللغة الإنسانية، كل لغة، هي الصدق في أنقى معانيه وأسماها. إنها واقعية لأنها تسمي الأشياء بأسمائها الحقة، فلا تخون ولا تكذب ولا تزيف، وهكذا نجد الكرسي يسمي كرسيًّا لأن هذا الاسم يعطينا صفته في الأحوال كلها ولا يكذبنا قط. والنثر يسمى في اللغة نثرًا لأن اسمه هذا يعطينا صفة النثر، كما أن الشعر يسمى شعرًا ليعطينا صفة الشعر، وهذا الصدق المطلق في اللغة يكسبها ثقتنا وإجلالنا، وهو أيضًا يحمينا نحن الذين نتكلم هذه اللغة من أن نكذب، فنحن نشدها إلينا ونلوذ بصدقها في ساعات الضيق. فإذا هوجم شاعر بأنه يكتب نثرًا لا شعرًا، وجد أمامه هذه اللغة الصادقة ذات التعابير المحددة الصريحة المستعدة لحمايته فيلوذ بها ويقول لمن يتهمه إن إنتاجه شعر لا نثر. وهو في هذه الحالة يستعمل رصيد "الشعرية" الذي تملكه لفظة "شعر" في أذهان الناس. وهم
ينسبون إلى ما يكتب كل صفات الشعر فورًا بمجرد أن يقول لهم ذلك.
والحق أن لغتنا العربية لن تحمينا يعد اليوم. ذلك أن هنالك اليوم أناسًا يكتبون النثر ويسمونه في جرأة عجيبة شعرًا، حتى فقدت كلمة شعر صراحتها ونصاعتها. ولسوف يتشكك الجمهور في أي شعر نقدمه له باسم "الشعر" لأن لفظ شعر قد تبلبل معناه واختلط وضاع. والواقع أن هذه الكذبة، وكل كذبة مثلها، خيانة للغة العربية وللعرب أنفسهم بالتالي. إن اللغة التي يستعملها أناس غير صادقين سرعان ما تتلوث بالكذب وتفسد. وعندما تكشف الحياة، أو الضمير اللغوي العام الكامن في النفس البشرية – أن كلمة "شاعر" قد أصبحت نعتًا للناثر، فإنها ستضطر إلى الشك في كلمة "شاعر" وكلمة "شعر". فمهما أكد الناس أنهم ينظمون شعرًا فلن يصدقهم أحد قبل التثبت الأكيد.
وما معنى هذه النتيجة؟ معناها أننا لن نزيد على أن نخسر كلمة مهمة من كلمات اللغة فتموت كلمة "شعر". ومن الطبيعي ألا يعني ذلك أن الشعر نفسه سيموت. فلو زالت الكلمة من القاموس العربي لبقي الناس ينظمون الشعر مع ذلك. فإنما اللغة رموز تذهب وتجيء. وأما الحقائق التي تكمن وراء تلك الرموز فإنها لا تموت على الإطلاق. إن الحقيقة لا تزيف مهما تلاعبنا باسمها. بلى نستطيع أن نزيف كلمة ناصعة بأن نطلقها على ما لا تمثله في الأصل، ولكننا بذلك سنقتل الكلمة نفسها، وأما الحقيقة فسوف تبقى ناصعة. وسرعان ما ستجد تلك الحقيقة لنفسها اسمًا آخر جديدًا فيه النصاعة اللازمة. وبهذا تخلد الحقيقة وتسقط الكلمة.
ولسوف يجد دعاة "قصيدة النثر" أنفسهم حيث بدءوا، فلقد استحال معنى كلمة "شعر" إلى التعبير عن النثر كما أرادوا، غير أن الشعر وجد لنفسه اسمًا آخر صادقًا ينص على الوزن الذي حاولوا قتله. ولسوف يبقى الناثرون حيث كانوا مع الناثرين.