الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للشعر. ذلك أنها تطالب بتحديد ما لا صلة له بالقصيدة، وهو الموضوع، وبذلك تقحم على الشعر عنصرًا غريبًا عنه. والواقع أن قيام القصيدة على موضوع اجتماعي شيء لا غبار عليه إطلاقًا، بشرط ألا نعد هذه الاجتماعية فضيلة فنية مميزة تعطي الموضوع شعرية خاصة غير عادية.
وإنما يصبح الموضوع مهمًّا، ويستحق الالتفات، في اللحظة التي يقرر فيها الشاعر أن يختاره لقصيدته، فهو إذ ذاك يوجه الهيكل ويمشي معه. وأول شرط في الموضوع أن يكون واضحًا محددًا، لا كموضوعات تلك القصائد التي تدور وتدور فلا يخرج منها القارئ بطائل. ومن هذا الصنف تلك القصائد التي يكون موضوعها عامًّا يشمل جوانب واسعة لا حدود لها من الأفكار والتصورات وهو صنف يتخلص منه الشاعر عندما يضع له عناوين عامة مثل "خواطر" أو "تأملات" أو "رباعيات" ونحو هذا. مثل هذه القصائد تستند، في واقع الأمر، إلى عقيدة واهمة من الشاعر في أن الموضوع وحده يكفي لإنشاء قصيدة، وما دامت القصيدة تعالج أفكارًا مفيدة ذات طلاوة فهي تبرر وجودها تبريرًا تامًّا. وليس هذا مقبولًا من وجهة نظر الشعر. وإنما ينبغي أن تكون القصيدة موحدة، مبنية، لا أن تمتلئ بمادة تكفي لإنشاء عشرين قصيدة.
وخلاصة ما يمكن أن نقول في الموضوع أن القصيد ليست موضوعًا وحسب وإنما هي موضوع مبني في هيكل.
الهيكل الجيد وصفاته:
لا ريب في أن الهيكل هو أهم عناصر القصيدة وأكثرها تأثيرًا فيها. ووظيفته الكبرى أن يوحدها ويمنعها من الانتشار والانفلات ويلمها داخل حاشية متميزة. ولا بد من الإشارة إلى أن الموضوع الواحد لا يفترض هيكلًا معينًا وإنما يحتمل أن يصاغ في مئات من الهياكل بحسب اتجاه
الشاعر وقدرته الفنية والتعبيرية. ومهما يكن فلا بد لكل هيكل جيد من أن يمتلك أربع صفات عامة هي التماسك والصلابة والكفاءة والتعادل1.
أما التماسك فنقصد به أن تكون النسب بين القيم العاطفية والفكرية متوازنة متناسقة، فلا يتناول الشاعر لفتة في الإطار ويفصلها تفصيلًا يجعل اللفتة التالية تبدو ضئيلة القيمة أو خارجة عن نطاق الإطار. ومثال هذا الخروج على التماسك قصيدة لبدر شاكر السياب عنوانها "حفار القبور"2 تقع في أربعة مشاهد واضحة كان ينبغي أن ينال كل منها من عناية الشاعر ما يساوي عنايته بغيره، ولكن الشاعر، لسبب ما، تلكأ طويلًا في المشهد الأول وحلل نفسية الحفار في بطء شديد. ثم تقدم في عجلة، إلى المشاهد الثلاثة الباقية فأجهز عليها في غير عناية. ذلك مع أن القصيدة لم تبلغ قمتها العاطفية ومن ثم قمتها الدراماتيكية، إلا في المشهد الرابع. وهذا كله قد أخل بتماسك الهيكل وضعضعه فتفكك وأساء إلى هذه القصيدة التي تمتاز بما فيها من صور وانفعالات وحركة ملموسة يحسها القارئ عبر المشاهد المتلاحقة.
وثاني صفات الهيكل الجيد، الصلابة، ونقصد بها أن يكون هيكل القصيدة العام متميزًا عن التفاصيل التي يستعملها الشاعر للتلوين العاطفي والتمثيل الفكري. وتكبر قيمة هذه الصفة في الهيكل الهرمي كما سيأتي. والتشبيهات والأحاسيس ينبغي أن تكون تفاصيل سياقية عارضة يحرص الشاعر على كبح جماحها بحيث لا تضيع فيها حدود الخط الأساسي في الهيكل. ويتضمن هذا أن الصور والعواطف ينبغي ألا تزيد عما يحتاج إليه الهيكل، فقد ثبت في حالات عديدة أن هذه الزيادة المعرقلة تفقد
1 اصطلاحات وضعتها أنا. ولا بد من الوضع إذا نحن أردنا أن نبني أسسًا ثابتة لنقد عربي حديث يرتكز إلى إنتاجنا وحياتنا الفكرية المعاصرة.
2 حفار القبور. مطبعة الزهراء. بغداد 1952.
القصيدة كثيرًا من قيمتها الجمالية. ومن نماذج الإطار الرخو الذي لا يملك مزية الصلابة قصيدة محمود حسن إسماعيل "انتظار"1 التي ضاع إطارها العام في كثير من الصور الجميلة والتفاصيل، وقد تصيدها الشاعر تصيدًا ناسيًا الخطة العامة لقصيدته حتى طغت على الهيكل وطمست معالمه.
أما الكفاءة فنعني بها أن يحتوي الهيكل على كل ما يحتاج إليه لتكوين وحدة كاملة تتضمن في داخلها تفاصيلها الضرورية جميعًا دون أن يحتاج قارئها إلى معلومات خارجية تساعده على الفهم. ويتضمن هذا معنيين:
أولهما، أن لغة القصيدة تكوِّن عنصرًا أساسيًّا في كفاءة الهيكل، فهي أداته الوحيدة، ولذلك ينبغي أن تحتوي على كل ما تحتاج إليه لكي تكون مفهومة، وهذا هو السبب في نفورنا اليوم من استعمال الألفاظ القاموسية غير المألوفة في لغة العصر. ذلك أن هذا يحتفظ بجزء من معنى القصيدة في خارجها، في القاموس. وهذا، في صميمه، يتعارض مع التعبير ومع لحظة الإبداع عند الشاعر.
وثانيهما، أن التفاصيل ونعني بها التشبيهات والاستعارات والصور – التي يستعملها الشاعر في القصيدة ينبغي أن تكون واضحة في حدود القصيدة، لا أن تكون قيمتها ذاتية بحيث تأتي أهميتها من مجرد تعلق ذكريات الشاعر الشخصية بها. وإنما ينبغي أن يعتمد المعنى الكامل للقصيدة على القصيدة نفسها لا على شيء في نفس الشاعر. ولعل معترضًا أن يحتج علينا لأننا نستبعد عن سياق القصيدة كل ما له قيمة ذاتية عند الشاعر. وجوابنا على ذلك أننا لا نمانع في أن يدخل الشاعر ما يشاء من تفاصيله الشخصية الأثيرة لديه، ولكن على أن يمنح هذه التفاصيل قيمة فنية تنبع من الهيكل نفسه. والقانون في هذا أن على الشاعر أن يحترس من الخلط بين ما له
1 ديوان "أين المفر" القاهرة 1947.
قيمة في القصيدة وما له قيمة في نفسه. فللقصيدة عالمها الخاص المنفصل عن عالم الشعر. إنها كيان حي ينعزل عن مبدعه منذ اللحظة الأولى التي يخط فيها على الورق. وذلك هو الذي يجعل الشاعر مضطرًا إلى أن يكف عن اعتبار تجاربه كافية في ذاتها لإبداع قصائد، فالشعر لا يعترف بأية قيم عاطفية أو جمالية في خارجه، ولا بد لمن يريد أن يتغنى بمكان يحبه أو شخص يعزه أن يجعل هذا الشخص وذلك المكان حبيبًا في داخل القصيدة نفسها بمختلف وسائل الفن المشروعة.
ولا بد لنا أن نشير هنا إلى فشل تلك المحاولات التي يلجأ إليها الشعراء حين يضيفون إلى قصائدهم حواشي وشروحًا عن تاريخ الأماكن التي يتغنون بها في قصيدة ما، فليس أبعد عن روح الشعر من مثل هذا. وذلك، ولا ريب، يجعل أكداسًا كثيرة من الشعر الوطني الذي ينظم اليوم عاطلًا من القيمة الفنية؛ لأن الشاعر يعتمد فيه على المعرفة السابقة التي يملكها الجمهور المعاصر عن الأشخاص والأماكن والأحداث، فلا تكون قصيدته إلا هامشًا أو تعليقًا على الأشياء، دون أن تملك في ذاتها المستلزمات الكافية لقصيدة حول تلك الأشياء. وأما حين ستتطور حياتنا وتصبح تلك الأحداث معلومات تاريخية لا يحتاج إليها جمهور عربي متأخر، فإن نقص تلك القصائد سيظهر وسيفقدها مكانتها الفنية. ولذلك ينبغي للشاعر أن يتطلع إلى قصيدته وينسى الجمهور. فإنما التعبير المكتمل إرضاء للحس الفني المتعطش في نفس الشاعر مهما كان الجمهور قانعًا ومستعدًّا للمسامحة ومد يد المساعدة. والقصيدة التي تحوجنا إلى أن نقرأ عنها حاشية أو شرحًا نثريًّا ليست قصيدة جيدة، ولعلها -من وجهة نظر الفن- فشل يعترف به الشاعر نفسه حين يرضى أن يضع القصيدة حواشي وهوامش.
وأما التعادل الذي هو آخر صفات الهيكل الجيد فنقصد به حصول التوازن بين مختلف جهات الهيكل وقيام نسبة منطقية بين النقطة العليا فيه والنقطة الختامية. وإنما يحصل التعادل على أساس خاتمة القصيدة، حيث
يقوم توازن خفي ثابت بينها وبين سياق القصيدة. فإذا كانت القصيدة تتناول موضوعًا ساكنًا كالنهر مثلًا فتصفه كما يلوح للشاعر في لحظة معينة، جاءت القصيدة تعاقب صور وانفعالات وأفكار متتالية ذات قيمة متساوية. وفي هذه الحالة تكون خاتمة القصيدة أقوى من سائرها حيث يقوم نوع من التعارض الخفي بين البيت الأخير وبقية الأبيات. أما حين تتناول القصيدة حادثًا "أو امتدادًا زمنيًّا، بكلمة أخرى" فإن الحركة تأتي من تعاقب الزمن الذي يستغرقه الحادث ويمر عبر القصيدة أمامنا. وفي هذه الحالة تكون الخاتمة متميزة عن سائر القصيدة بأن توقف هذه الحركة عند نقطة منطقية. وهي حالة يقوم فيها التعارض بين الحركة الزمنية في القصيدة والسكون في ختامها.
ومن الأساليب التي قد يختتم بها الشاعر قصيدته ما يقوم على أساس الإيقاع والموسيقى كأن تكون القصيدة ذات مقطوعات متساوية الطول رباعية أو أكثر، فيجعل المقطوعة الأخيرة ذات طول مختلف. والقصر أكثر تأثيرًا في هذه الحالة، ومنه قصيدة جميلة لمحمود حسن إسماعيل عنوانها "فاتنتي مع النهر"1 ختم فيها قصيدته ببيتين، بعد مقطوعات أطول بكثير، فكانت خاتمة مؤثرة من أجمل ما يقرأ للشعر من خواتم. وهذا هو المقطع الثالث منها والخاتمة:
سألته: يابن الأسى رحمة
…
فالنوح لا يُطرب سمع الصباح
فجرك رفراف السنا والمنى
…
فوقك طير عبقري الجناح
ما لك لا تُلْهم غير الأسى
…
ولا تغني غير نار الجراح؟
فقال: يومًا، ستلاقي هنا
…
عذراء من حور السماء الملاح
تبحث عني، فأجبها مضى
…
صبك في الدنيا شريد النواح
1 نشرت في مجلة الرسالة. المجلد الأول. السنة السابعة ص83.
أنت التي أسلمته زورقًا
…
في لجة الدنيا لهوج الرياح
فمر كالنسيان بي وانطوى
…
صباحه عني شقيًا وراح
فاتنتي، سر الهوى سابح
…
في نور عينيك فلا تسألي
في زهوة المرج شذى نائم
…
أخشى عليه يقظة المنجل
ولعل في وسعنا أن نستخلص قانونًا عامًّا يشمل الحالات التي يستعملها الشاعر في اختتام قصيدته، ومضمون القانون أن القصيدة تميل إلى الانتهاء إذا استطاع الشاعر أن يحدث تعارضًا واضحًا بين السياق والخاتمة. فإذا كان السياق هادئًا جعل الخاتمة جهورية مجلجلة وإذا كان السياق متحركًا مال بالخاتمة إلى السكون وهكذا. واحسبنا لا نحتاج إلى أن نقول إن الشاعر الحق، كل شاعر، يعرف هذا القانون بفطرته الفنية فلا يحتاج إلى أن يتعلمه أو يفكر فيه وهو ينظم. وقد نظم الشعراء في العصور كلها قصائد ذات خواتم ناجحة، دون أن يحتاجوا إلى أن أجيء اليوم لأستخلص لهم هذه القاعدة. ولكن مهمة النقد تبقى مع ذلك قائمة، والعالم مملوء دائمًا بالنظامين ومحترفي الشعر، وهؤلاء قلما يعرفون متى ينبغي أن يسكتوا. والمشاهد اليوم أن مئات من القصائد التي تنشرها الصحف تنقصها لمسة الختام وهي تترك في النفس أثرًا يشبه العطش. ذلك أنها تثير في أنفسنا توترًا ثم تتركنا لمخالبه دون أن تزيله أو تنهيه.
والحقيقة أن قراءتنا للقصيدة ليست أقل من معاناة فعلية للتجربة التي مر بها الشاعر، فإذا لم يحسن الشاعر أن يختمها ذلك الختام الطبيعي كان يخوننا ويلعب بنا ولو دون أن يقصد. وهو في ذلك كمن يسير بنا خطوة خطوة في طريق صاعد المفروض أنه يؤدي بنا إلى غاية، حتى إذا بلغنا نصف الطريق تركنا ونكص راجعًا. أن القصيدة غير الكاملة