الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني: في الصلة بين الشعر والحياة
.
الفصل الأول: الشعر والمجتمع
.
باتت الدعوة إلى اجتماعية الشعر نبرة عصبية تطغى على الصحافة العربية طغيانًا عاصفًا. فالقارئ على أصدائها في كل صحيفة يقرؤها، ويسمعها تتكرر في محطات الإذاعة، وتتسلل إلى أحاديث الأندية والمجتمعات حتى باتت في عنفها تشبه تيارًا جارفًا يريد أن يكتسح القيم كلها. ونحن لا نشك في سلامة نية هذه الدعوة، وصدق إيمانها بغايتها، ومن المؤكد أنها لا تريد ضرًّا بالشعراء، فهي على العكس تؤمن بالشعر إيمانًا متحمسًا يجعلها تنتظر منه أن يحقق المعجزات في سبيل إنقاذ هذه الأمة التي تعبر اليوم مرحلة متأزمة من حياتها. على أن سلامة النية لا تملك أن تعصم من الاندفاع العاطفي الذي نلمس آثاره في هذه الدعوة، ولذلك بات على الشعر المعاصر أن يواجه الموقف ويتخذ إزاءه قرارًا.
وأول ما يؤخذ على هذه الدعوة التي تذهب إلى أن الشعر يجب أن
يكون "اجتماعيًّا" أنها تتسلح بمجموعة من التعابير المبهمة التي لا تحاول تحديدها من نحو قولها "الأبراج العاجية" و"المتهربون من الواقع" و"الأدب الشعبي" و"الشعراء الذاتيون". وقد أدى إلى تداول جماهير الكتاب لهذه الألفاظ إلى اضطراب شديد في مدلولاتها وأكسبها من السطحية ما يجعل الناقد المثقف يتحرج من استعمالها محاولًا صياغة تعابير جديدة تؤدي معانيها الفنية والنظرية. أما العاطفية التي يتصف بها كثير من المقالات التي تؤيد الدعوة، فهي تجعلها غالبًا خلوًّا من الرصانة الفكرية التي تتسم بها الدعوات الفنية والمذاهب الفلسفية. ويبدو لنا أن الدعوة قد نسيت حتى الآن أنها دعوة في مجال فني، فهي تتحدث عن كل شيء آخر غير الشعر، مع أنها موجهة إلى الشعراء. ومن المؤكد أنها لم تقف بعد لتفكر في أسس نظرية تخطها وتضمن بها لأتباعها من ناشئي الشعراء ما يقيهم التخبط وهم ينظمون قصائدهم وفقها، ولم تتساءل بعد عن المدلول الشعري لهذه "الاجتماعية" التي تنادي بها: أهي منهج يتقي به الشاعر الناشئ العثرات الضخمة التي تنتظره في مسالك القصيدة الوعرة؟ أهي تخطيط يدله على هيكل القصيدة ويعينه على بنائه؟ أهي تحديد للموضوع؟ كل هذه أسئلة تستهين بها الدعوة، فالجهة الشعرية من الشعر المعاصر هي آخر ما تهتم له وكأنها دعوة في مجال اجتماعي منفصل انفصالًا تامًّا عن الشعر الذي تطبق عليه.
والدعوة بصورتها الحالية تحتمل نقدًا شديدًا من جهاتها كلها: فنيًّا وإنسانيًّا ووطنيًّا وجماليًّا. وأبرز مواطن الضعف فيها أنها -كما قلنا- لا ترتكز إلى أسس فنية، شعرية، ولم يحاول كاتب واحد بعد أن يحددها من وجهتها النظرية. على أن في صيحاتها المتتابعة ما يمكن أن نعده أسسًا مبهمة تريد تشييدها، وفي حدود هذه الأسس نريد أن ندرسها ونناقش موقفها من الشعر إجمالًا.
أما من الوجهة الفنية، فيبدو لنا أن الدعوة حين تلح على أن الشعر
يجب أن يكون اجتماعيًّا، إنما تتناول "الموضوع" وتجعله الغاية الوحيدة المقصودة في كل شعر. فهي لا تهتم بسائر مقومات القصيدة كالبناء والهيكل والصور والانفعال والموسيقى والفكرة والمعاني الظاهرة والخفية، وإنما تقصر عنايتها على موضوع القصيدة وكأنه العنصر الوحيد الذي يكونها. وهذا مخالف لمفاهيم الشعر البديهية، فلعل الموضوع في نظر النقد الأدبي أتفه مقومات الشعر وأقلها استحقاقًا للدراسة المنفصلة، وذلك لأن كل موضوع يصلح للشعر سواء أدار حول مشاكلنا القومية أو حول شجرة توت أو معركة سباب في شارع ضيق، فالمهم على كل حال هو أسلوب الشاعر في معالجة الموضوع، ولذلك نجد الموضوع عينه ميتًا أو مغمى عليه عند شاعر، حيًّا ينبض بالجمال المنفعل عند شاعر ثانٍ. ومن هذا يبدو أن الدعوة تلح على العنصر الوحيد الذي ليس شعريًّا في القصيدة.
ولا تقتصر الدعوة على عزل الموضوع عن سائر عناصر القصيدة، وتضخيم قيمته الفنية هذا التضخيم الذي لا يشفع له شيء، وإنما تمضي في طغيانها الحسن النية، فتأبى إلا أن تحدد مجال هذا الموضوع تحديدًا صارمًا. فكل شعور لا يتعلق بالوطنية بأضيق معانيها يفوز لديها بنعوت عاطفية جارفة لا يصد اندفاعها شيء. وهكذا نجدها لا تكتفي بهدم سائر معالم القصيدة، وإنما تهدف أيضًا إلى أن تتحكم حتى في العنصر الوحيد الذي أبقته وهو الموضوع. فهي تحمل سيفًا بتارًا وتقف مترصدة، فما تكاد تعثر على انفعال خصب يستجيب لجمال وردة، أو حب ساذج أو شعور بأزمة نفسية يعانيها فرد إنسان، حتى تضرب ضربتها في عنف وقسوة وتحكم على القصيدة بالتفاهة. وقد قرأنا في الصحف العربية مقالات عجيبة في النقد تصفق لكل قصيدة اجتماعية حتى إذا كانت من وجهة نظر الفن والنقد لا تستأهل أن تسمى شعرًا، ولو أراد النقد أن يتصدى لها لانهارت انهيارًا فاجعًا. وهذا كله جناية الموضوع على الناقد.
وإذا فحصنا الدعوة من الوجهة الاجتماعية وجدناها في صميمها تنزع
إلى أن تجرد الشعر من العواطف الإنسانية. ذلك أن أشد سخطها واستنكارها ينهال على ما تسميه -دون أن توضح مقصدها- "المشاعر الذاتية" و"الهرب من الواقع" و"الانعزالية" ولو فحصنا هذه التعابير لوجدناها تنتهي كلها إلى أن تنكر أن يكون شعر الفرد العادي من الناس موضوعًا للشعر، فهو -لكي يستحق أن تدور حوله قصيدة- ينبغي أن يكون عملاقًا بلا مشاعر: فلا يحب الأزهار، ولا يضيع وقته في مراقبة مغرب الشمس على حقول الحنطة، ثم إنه لا يتألم لهمومه الخاصة، وهو يؤمن بأن الاستماع إلى الموسيقى في هذه الظروف العصيبة إنما هو خيانة وطنية، ونحو هذا.. وليس أشد تناقضًا من هذا. فكأن الدعوة عندما أرادت أن تدعو إلى الواقعية ابتعدت عن الواقع ابتعادًا عجيبًا، وأسلمت نفسها إلى اعتقادات نظرية لا علاقة لها بالحياة.
وما هذا الواقع الذي تدعو إليه؟ أليس هو حياة الناس؟ الناس الذين لا يمر عليهم يوم دون أن يتألموا ويضحكوا لأسباب تخصهم فرديًّا، ويعيشون مفكرين في عواطفهم وآمالهم وهمومهم، وتشغلهم قضايا حياتهم الخاصة بكل ما فيها من ذكريات وحماسات ومشاكل نفسية وصداقات وأفكار. وأي لون من الشعر يستطيع أن يعبر عن هذه الحياة الواقعية الإنسانية؟ أهو الشعر الساذج المنفعل بالعبرات والبسمات أم هو الشعر الاجتماعي الذي يقف موقف الوعظ والخطابة؟
ثم إننا حين نسلط الضوء على قولهم "انعزالي" نجدنا إزاء لفظ من تلك الألفاظ التي وسع الاستعمال معناها أو لعله ضيقه حتى فقد دقته.
فالدعوة حين تستعمل هذا اللفظ في مجال النقد الأدبي تنسى أن المجتمع إنما يترك طابعه على الفرد إجبارًا لا اختيارًا بحيث تصبح السمة الاجتماعية وسمًا طاغيًا لا يملك الفرد أن ينجو منه حتى إذا لاذ بأشد أنواع "الانعزال".
فحسب الإنسان أن تكون انطباعاته البصرية والسمعية والذهنية قد تكونت كلها في مجتمع بعينه، لكي يكون واحدًا من أفراد هذا المجتمع لا يستطيع
التهرب من طابعه العام. ومثل هذا الفرد لا بد أن يمثل المجتمع سواء أأراد أم لم يرد. وعلى هذا تصبح الاجتماعية سمة طبيعية لا تشبه الثوب الذي يستطيع المرء أن يخلعه متى شاء. إنها شيء ينطبع في الدم والفكر والأعصاب. وهذا شيء يلوح أن الدعوة تغفل عنه عندما تتحدث في احتقار عن أولئك "الانعزاليين الذاتيين الذين لا يمثلون مجتمعهم".
ألا يدل هذا على أن الدعوة لا تستند إلى الواقع وإنما تشيد لنفسها دعائهم من هواء في فراغ خيالي؟ ذلك أنها تغرم بالمجتمع فتحمل مصباحًا لتبحث عنه في ضوء النهار. وبدلًا من أن تتذكر أنه كيان معنوي لا وجود له إلا على صورة أفراد من الناس، نجدها تجلس على كرسي مريح وتتخيل له صورًا مثالية منمقة، ثم تطلب إلى الأفراد أن "ينضغطوا" في إطارات هذه الصور. وهذا منطق معكوس. فما هذا المجتمع؟ إنه نحن
…
أنا وأنت أيها القارئ وجيراننا وأصدقاؤنا وبنو عمنا. وكلنا نمثله: الشاذ منا والذكي والغبي والموهوب. ولكن دعاة الاجتماعية لا يصدقون هذا فهم لا يدرسون بيئتنا مستدلين عليها بإنتاج شعرائها وأدبائها وإنما يريدون أن يملوا على الشعراء والأدباء أدبًا يمثل البيئة، وهذا ألطف المتناقضات.
هذا الموقف الذي تقفه الدعوة يؤدي بنا إلى خسارة اجتماعية وأدبية كبيرة، فأنصار الدعوة ينشغلون بابتداع الصور الخيالية لما يجب أن يكون عليه الكائن الاجتماعي النموذجي، تاركين الواقع يرقد خلال ذلك منسيًّا.
وهكذا نجدهم يملئون الصحف خطبًا دون أن يحاولوا استخلاص المعنى الاجتماعي الذي يدل عليه اتجاه هؤلاء الشعراء. وهل من المعقول أن يتجه جيل كامل من الشعراء إلى اتجاه بعينه دون أن تكون هنالك أسباب بيئية وتاريخية موجبة؟ إن الأدب ليس تفاحة مسحورة تنبت في الهواء وإنما هو ثمرة على شجرة تتصل بتربة ويحيط بها مناخ، وهذا هو المعنى الذي ينساه دعاة الواقعية المزعومة "Pseudo-raslism".
ولندرس الدعوة من وجهتها الوطنية. فماذا سنجد؟ هنا أيضًا ستجبهنا أسس منهارة لا تستطيع أن تثبت للفحص طويلًا. والحق أن العنصر الوطني قائم، ولو فكرنا، على فهم للوطنية يضيق معناها تضييقًا شديدًا.
فالدعوة عندما تؤكد أن انصراف الشاعر المعاصر إلى تصوير عواطفه الخاصة يدل على نقص في حسه الوطني -والدعوة تستعمل ألفاظًا أعنف غالبًا- إنما تفترض ضمنًا ثلاثة مضمونات غريبة تستوقف النظر. وسنحاول أن نناقشها هنا.
أول هذه المضمونات أن الدعوة تفصل فصلًا قاطعًا بين دائرة "المواطن" الصالح ودائرة "الإنسان". فلكي يكون المرء مواطنًا صالحًا في نظرها ينبغي له أولًا أن يتخلص من إنسانيته، فلا يحب قوس قزح، ولا ينفعل لمنظر الحصاد، ولا تطربه أغاني الحمامة بين النخيل في ظهيرة بغدادية، ولا تمتعه مسرات الصداقة الساذجة، وذكريات نزهة عائلية مرحة على رمال جزيرة. فكل هذا إذا تغنى به الشاعر، إنما يثبت "سلبيته" في نظر الدعوة.
وما يمكن أن يقال في نقد هذا الرأي أن نسأل أنصار الدعوة أنفسهم إن كانوا في حياتهم اليومية لا يصرفون أكثر وقتهم في العواطف العائلية والحديث عن قضايا حياتهم الواقعية والتنكيت والجدل والغناء والغضب والمزاح والانفعال؟ وما دمنا لا نستطيع أن نحكم على إنسان يفعل هذا بنقص الحس الوطني، فلماذا نعامل الشاعر معاملة أخرى، وما دامت الحياة الإنسانية لا تناقض الحياة الوطنية، فإن من غير المعقول أن نحكم على شاعر بنقص الحس الوطني لمجرد انصرافه إلى تصوير الجانب الإنساني من حياته التي يشاركه فيها الناس جميعًا.
وأما ثاني المضمونات الغريبة التي تختفي خلف هذا الحكم الذي تسوقه الدعوة، فهو ينتهي بنا إلى الحكم بأن "الوطنية" معنى مرادف للكفاح السياسي، وهذا مخالف للمعنى الحقيقي للوطنية، معنى حب الوطن العربي
وحسب. أما الكفاح السياسي فهو وظيفة النخبة المثقفة من القادة والزعماء والاختصاصيين في كل أمة. ويبدو أن الدعوة تتغافل عن حقيقة أخرى مهمة هي أن الوظيفة العظمى للملايين من المواطنين في كل بلد هي إعالة أسرهم وتحسين أحوالهم الاجتماعية وتهذيب أبنائهم وانصرافهم انصرافًا مخلصًا إلى أعمالهم التي تؤهلهم لها إمكانياتهم العقلية والجسمية، فليس عملهم هذا بأقل قداسة ومكانة من عمل السياسي المناضل والزعيم الموجه. وقد تكون الدعوة إلى أن يترك الفرد العربي حياته الإنسانية ويشتغل بالكفاح السياسي دعوة خطرة تسيء إلى أمتنا الفتية التي تحتاج احتياجًا شديدًا إلى أبناء مثقفين مدربين ينصرفون إلى أعمالهم التي يحسنونها: الفلاح إلى حقله، والعامل إلى آلته، والمعلم إلى تلاميذه، والميكانيكي إلى أجهزته، والنحات إلى تماثيله، والشاعر إلى قصائده. أما الكفاح السياسي فهو عمل أناس مختصين لهم من ثقافتهم ودراستهم وظروفهم ما يهيِّئُهم لهذا العمل المعقد.
أما ثالث المضمونات، فهو الحكم بأن الشعر لا يملك قيمة ذاتية في المجتمع، وإنما هو واسطة لغايات أخرى. وهذا حكم يتجاهل القيم الحيوية التي يملكها الفن في حياتنا الإنسانية بمعزل عن موضوعه. وأول هذه القيم أن الفن شحذ لملكات معينة في الإنسان لا يعقل أن الطبيعة كانت عابثة عندما أوجدتها. وثانيها ما يراه الفيلسوف الفرنسي "جان ماري غويو" J.M. Guyau من أن في الفنون كلها وسيلة لإنفاق الفائض من الطاقة الإنسانية الذي لا بد له أن ينفق، فإذا قضى المجتمع على الفن أدى ذلك إلى أن تختزن طاقة متفجرة في الذهن الإنساني دون أن تجد منفذًا، وهذا لا بد أن يؤدى إلى نوع من فقدان التوازن بين الحياتين الحركية والنفسية، وهو أمر مضر بالحياة الإنسانية.
وحتى إذا أردنا أن نعتبر الفن لعبًا مجردًا كما يرى "كانت" و"سبنسر" فسرعان ما ينصرنا المذهب التجريبي الذي يقول بأن اللعب ضرورة بايولوجية، فما يلوح لهوًا خالصًا إنما هو في الحقيقة حاجة إنسانية متأصلة
لا بد من إشباعها. وهذه هي الفائدة الإنسانية للشعر، وهي فائدة تجعل اهتمام الدعوة بالموضوع أمرًا لا داعي إليه، فالشاعر يؤدي إلى المجتمع الإنساني خدمة جسيمة حتى وهو "يلهو" بالتعبير عن سروره بمراقبة القمر وهو يمر عبر السماء.
وإذا استشرنا أنصار مذهب التطور وجدنا فائدة الشعر تمتد حتى تشمل جهة جديدة بما تقدمه من متعة جمالية كالمتعة التي يجدها المرء في شقشقة العصافير وسكينة الفجر وهدير الشلالات وألوان الصخور. فهذه أشياء لا تستغني عنها الإنسانية؛ لأنها بما تقدم من لذة عاطفية تعين على تطور الحواس الجمالية عند الإنسان وتساعده على النمو العاطفي. والواجب الأعظم للشاعر الوطني أن يرهف مشاعر مواطنيه ويصقل أحاسيسهم الجمالية ويدفع بهم نحو مستقبل إنساني أرفع وأعمق.
وفي ختام هذا النقد العاجل للدعوة الاجتماعية نستطيع أن نقول إن الدعوة تتناسى تناسيًا تامًّا أن آداب الأمم لا تستجيب للدعوات الخارجية، وإنما تنبع من تأثرها غير الواعي بالتيارات المتداخلة التي تكمن وراء الحياة اليومية وتنحدر من ظروفها التاريخية وملابسات حياتها النفسية عبر العصور.
ولم يرو التاريخ أن أدب أمة من الأمم قد غيَّر اتجاهاته وفق دعوة عامدة نادت بها الصحافة. ومن أعجب العجب أن يقف الذين يزاولون النقد هذا الموقف الواعظ بدلًا من أن يستخلصوا القيم التي يرتكز إليها شعرنا المعاصر الذي هو دائمًا شعر اجتماعي أنتجته تربتنا. وقد لا يخفى على الدعاة أن الموقف الوعظي ينطوي على تجاهل تام لقيمة العناصر اللاشعورية في كل أدب، وهي عناصر ضرورية مصاحبة للإبداع والأصالة والاكتمال ومن دونها لا يكون الأدب أدبًا. فلماذا سينتهي إليه الشعر العربي إن قدر لدعوة الاجتماعية أن تنجح؟ لا شك في أنه سيصبح نمطًا واحدًا مصطنعًا لا يملك الشاعر أن يحيد عنه، وفي هذا سيلقى الشعر مصيره.
وإذا مات الشعر فكيف سيتاح له أن يكون عامل خير في حياتنا العربية؟ هذا هو المحذور الذي ينساه دعاة الاجتماعية في اندفاعهم العاطفي. وإن أعظم ما نخشاه أن تؤدي بنا دعوتهم إلى أن نخسر أصالة شعرنا دون أن ننجح في أن نفيد الأمة العربية.
ألا تصبح الدعوة إلى اجتماعية الشعر بهذا دعوة هدم ساذجة ينبغي أن نجند قوانا الذهنية كلها في كبح اندفاعها ورد سذاجتها المستبدة عن الشعر العربي؟