الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذوقه. ومن هنا ينهض المشكل. لقد ثبت لنا أن أغلب الشعراء الناشئين الذي نظموا الشعر الحر كانوا دون مستوى هذه الحرية التي أعطيت لهم، فقد راحوا يكتبون بلا توقف، فكان المرء، وهو يقرأ شعرهم يجري في معترك لاهث لا راحة فيه. وما من شك في أن الناضجين من الشعراء يقدرون عظم المسئولية التي تلقيها الحرية على عواتقهم. ذلك أن هذا الوزن الحر لا يقدم أية مساعدة وإنما يقع العبء كله على سياق المعنى، وارتباطات الألفاظ في القصيدة، وليس هذا بالأمر الهين.
نتائج التدفق في الأوزان الحرة:
هذه "التدفقية" التي لاحظناها تؤدي إلى قيام ظاهرتين ملحوظتين في الشعر الحر يمكن أن نعدهما من عيوبه:
أ- تجنح العبارة في الشعر الحر إلى أن تكون طويلة طولًا فادحًا.
وهذا نموذج من قصيدة لبدر شاكر السياب:
وكأن بعض الساحرات
مدت أصابعها العجاف الشاحبات إلى السماء
تومي إلى سرب من الغربان تلويه الرياح
في آخر الأفق المضاء
حتى تعالى ثم فاض على مراقيه الفساح1
هذه الأشطر كلها عبارة واحدة، وليست فيها وقفة من أي نوع. وهذا مثال ثان من قصيدة لعبد الوهاب البياتي:
أترى الظلال الهائمات وراءه وعت الغناء
1 قصيدة "حفار القبور" لبدر شاكر السياب. مطبعة الزهراء. بغداد 1952 "ص3".
فاسترسلت في شبه حلم واستفاقت للمساء
تروي أحاديث الصبيات اللواتي كن يصطدن الرجال
بغنائهن وراء أسوار الليال1
العبارة هنا سؤال وبترها خلال القراءة أعسر؛ لأن نبرة التساؤل التي تبدأ بقوله "أترى الظلال" ينبغي
ألا تنتهي قبل لفظ "الليال". وهذا الطول في العبارة عيب تساعد عليه طبيعة الشعر الحر، ولا بد للشاعر من الوعي المتصل لكي يتحاشاه. والحقيقة أننا لو تأملنا قيود الأوزان الحرة لوجدناها لا تقل عن قيود أوزاننا القديمة إن لم تزد، فالوقفة اضطرارية في الحالتين وإن اختلفت أسبابها. وذلك أمر يحتم على الشاعر الحر أن يتبع نظامًا صارمًا في صياغة عباراته بحيث يعوض عن القيود الجبرية في نظام الشطرين.
ب- تبدو القصائد الحرة وكأنها لفرط تدفقها، لا تريد أن تنتهي، وليس أصعب من اختتام هذه القصائد. وسبب هذه الظاهرة ما سبق أن نبهنا إليه من انعدام الوقفات. ففي نظام الشطرين تقدم الوقفة القسرية للشاعر مساعدة كبيرة؛ لأنها هي في ذاتها وقفة، فلا يبقى على الشاعر إلا أن يختم المعنى، وهنا تستطيع أية عبارة جهورية قاطعة أن تؤدي المهمة، خاصة في قصائد الوصف والمناجاة ونحوها. أما في الوزن الحر فإن الوقفات الطبيعية معدومة، والشاعر إذا استعمل أشد العبارات جهورية وقطعًا يحس أن القصيدة لم تقف، وإنما استمرت تتدفق، وعليه لذلك أن يستمر في تغذيتها وإطالتها رغم انتهائه مما أراد أن يقول. وتشتد المتاعب في قصائد الوصف والمناجاة لأسباب تتعلق بطبيعة هذه القصائد، ولذلك
1 قصيدة "الظلال الهائمة" لعبد الوهاب البياتي. مجلة الأديب. سبتمبر 1952 "ص41".