الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-5-
مستفعلان في ضرب الرجز:
يقع بعض الذين ينظمون قصائد من بحر الرجز في خطإ شنيع هو أنهم يوردون التفعيلة "مستفعلان" في ضربه، ولا يقع هذا في الشعر العربي قط لأن الأذن تمجه. ولعل خير دليل نقدمه على شناعة وقع "مستفعلان" هذه في ضرب الرجز ما نجده في كتب النحو العربي حين يتحدثون عن أنواع التنوين فيسمون التنوين في خاتمة بيت رؤبة التالي "غاليًا" أي صعبًا عسيرًا لا ينبغي أن يرد:
وقائم الأعماق خاوي المخترقن
مشتبه الأعلام لماع الخفقن
وظاهر أن التفعيلة الأخيرة هنا قد التقى فيها ساكنان وباتت مماثلة لمستفعلان "ما عدا أن القاف فيها حرف صيح لا لين". وإنما سموا النون هنا "غالية" لأنها وردت في مكان غير مقبول من تفعيلة الرجز التي ترفضها. وليس في الشعر العربي كله، عدا هذه النون، تشكيلة لبحر الرجز تنتهي بـ "مستفعلان". ومن الواضح أن بيت رؤبة شاهد نحوي، وكثيرًا ما يتعسف النحاة في التماس الشواهد.
وأما لماذا أورد المعاصرون "مستفعلان" هذه في خواتم تشكيلات الرجز في شعرهم الحر، فلعل التعليل الوحيد له أن الشاعر الناشئ سمع أن في الشعر الحر حرية فظن أن معنى تلك الحرية أن يخرج على العروض وقواعده، وحتى على الأذن العربية وما تقبله. وغاب عنه أن العروض هو الموسيقى ولا سبيل إلى الخروج عليه ما دمنا ننظم شعرًا. ولا ريب أن اصطلاحنا "الشعر الحر" لا يسمح بمثل هذه التأويلات الفضفاضة التي وقع فيها الشعراء لأننا احترزنا بكلمة "الشعر" عن أن نقصد بالاصطلاح الخروج على ما هو أساسي في كل شعر وهو الموسيقى. وأما "الحرية" فقد شرحناها بأنها التحرر من التقيد بالشطرين المتساويين في الطول. ومن ثم فإذا نظمنا قصيدة حرة، على زن الرجز، فمن المنطقي أن نتقيد بقوانين العروض الخاصة ببحر الرجز جميعًا، ما عدا التقيد بعدد معين من التفعيلات في كل شطر.
وقد بدأت الفوضى في بحر الرجز على يد قلة من الشعراء الناشئين كما أذكر، وكنت وأنا أرقب ما تنشر الصحف أعتقد أن الراسخين من الشعراء، الذين مارسوا النظم بأسلوب الشطرين طويلًا، سوف يتحاشون الوقوع في هذه الفوضى، ومن هؤلاء نزار قباني مثلًا وقد سبق له من بحر الرجز في ديونه الأول:
تقول لي مكسورة الأهداف عم تبحث؟
قلت أضعت قبلة وفقدها كم يورث
قد قفزت مني وفوق الثغر منك تمكث
سمراء رديها إلي ليس بي تريث1
هنا نرى نزار قباني لا يأتي بتشكيلة فيها "مستفعلان" غير أنه يقع في ذلك عندما يخرج إلى سماء الحرية في الشعر الحر بعد ذلك بسنوات،
1 قالت لي السمراء. نزار قباني. الطبعة الأولى، دمشق1947.
وكأنه نسي حتى أذنه الموسيقية وتحرر منها فنسمعه يقول:
أكتب للصغار
للعرب الصغار حيث يوجدون
"مفاعلان":
أكتب للذين سوف يولدون
"مفاعلان":
أكتب للصغار
قصة بئر السبع واللطرون والجليل
واختي القتيل
هناك في بيارة الليمون أختي القتيل
"مفاعلان":
إذ كان في يافا لنا حديقة ودار
يلفها النعيم
وكان والدي الرحيم
"مفاعلان":
مزارعًا شيخًا يحب الشمس والتراب1
وكذلك نجد هذا الخطأ لدى فدوى في قصيدتها "تاريخ كلمة" التي سبق أن اقتطفنا منها ذلك حيث تقول:
ومرت الأيام يا صديقي الأثير
جديبة مطمورة بالثلج بالأسى المرير
"مفاعلان"
وقلبي الوحيد ينطوي على جفافه على ظماه2
"مفاعلان":
إن هذا شنيع. وأنا على يقين من أن نزار وفدوى -وكلاهما شاعر مرهف ذو موهبة صافية- سوف يلاحظان معنى ما أقول فورًا ويقران
1 قصيدة "قصة راشيل شوار زنبرغ" ديوان "قصائد من نزار قباني". مطابع دار العلم للملايين بيروت 1956.
2 قصيدة "تاريخ كلمة" لفدوى طوقان. مجلة الآداب. أيار 1961.
أنه ناشز. وإنما يقعان فيه، على ما أظن، وهما يشعران بنفور منه. غير أن دوار الحرية قدأصابهما فيمن أصابه، فجعلهما يكستان صوت فطرتهما الشعرية. ولعل هذا هو أيضًا شأن غير قليل من الشعراء الذين نشئوا بعد نزار وفدوى مثل صلاح عبد الصبور1 وغيره. ونحن نتمنى أن يعود هؤلاء الشعراء إلى صوت فطرتهم التي تلهمهم وأسماعهم العربية ليتبينوا الصواب من الخطإ. ولا أظنه يضير الشاعر المعاصر أن يدرس العروض ولو دراسة عابرة، فإنما وجد العروض ليعين الشعرا أكثر مما يعين الناظمين. وإنما يفهم العروض الفهم الحق الشاعر الموهوب. وأما الناظم فمهما درسه فإن جوانب منه تبقى غامضة عليه، فضلًا عن أنه لا يستطيع أن يبدع فيه، وقصارى ما يملك أن يقيس على الموازين قياسًا انطباقيًّا جامدًا.
والواقع أن الشعر ليس موهبة وحسب، وإنما هو نظم قبل ذلك، وللنظم قواعده وأسسه. فإذا كان الشاعر الموهوب، بكل موهبته التي يعتز بها، ينظم الشعر ويخطئ في الوزن، فما باله يزدري العروض ويترفع عن دراسته إذن؟
1 يقع صلاح كثيرًا في "مستفعلان" عندما ينظم قصائد من الرجز. وقد سبقت له شواهد في بحثنا هذا.