الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين الوحدات، وهو خلط ترفضه الأذن الشعرية المرهفة، كما يرفضه الناظم العروضي الممرن الذي أحسن درس العروض، فلا الموهوب يقبله ولا العارف بالعروض. أقول هذا مع تقديري لشاعرية مجاهد عبد المنعم.
والحقيقة التي لا ينبغي أن تفوتنا أن الخلط بين الوحدات المتساوية شكلًا ليس إلا جزءًا من الخلط بين التشكيلات. إن شطري فدوى ينتمي كل منهما إلى تشكيلة لأن "مستفعلن مستفعلان" تختلف كل الاختلاف عن "مستفعلن مستفعلن فعول" كما سبق أن شرحنا في موضوع التشكيلات، وكان على الشاعر، ومثلها الشاعر، أن تختار إحدى التشكيلتين وتجري عليها في القصيدة كلها وبذلك تكون الوحدتان "سراب" و"مذاق" المتساويتان في الشكل، متساويتين عروضيًّا أيضًا لوقوعهما في المكان عينه من التفعيلة. والأمر كذلك بالنسبة للكلمتين "كتابته" و"نهايته".
وفي ختام هذه الفقرة من بحثنا أحس القارئ يسألني: لماذا لم يقع أسلافنا الشعراء في مثل هذا الخلط بين الوحدات؟ ولماذا عرف هذا الداء في عصرنا؟ والجواب أن الشعر الحر أصعب من الشعر ذي الأشطر المتساوية. لأن التساوي كان يضطر الشاعر إلى أن يورد عين التفعيلات في كل شطر. فإذا بدأ القصيدة: مستفعلن مستفعلن فعول.
فإذا هذا يبقى طولًا ثابتًا لكل شطر تالٍ، فلا يستطيع الشاعر أن يخطئ. وأما الشاعر الحديث فإن ظروفه صعبة لأن من حقه أن يطيل الشطر ويقصره، وهذا يجعله أكثر تعرضًا للمزالق.
ج-
أخطاء التدوير:
ما زال الجمهور العربي يشكو من أن الشعر الحر يلوح له نثرًا لا وزن له. وأحسب أن كثرة التدوير في شعر الشعراء الناشئين تساهم،
بنسبة عالية، في إشاعة هذا الإحساس في نفوس القراء. ويكمن سبب ذلك في جوهر التدوير نفسه. لأنه في حقيقته مد للعبارة وإطالة للشطر، فإذا كان الشاعر ضعيف السيطرة على قصيدته بالمعنى العروضي، لاح وكأن ما يقوله نثر خالٍ من الموسيقى والإيقاع.
ونحب أن نورد مثلًا. إني أسحب أول عدد أصادفه من مجلة "الآداب" فأقع فيه على قصيدة لخليل الخوري من دمشق يبدؤها قائلًا من الكامل:
أنا في انتظار المعجزه
من أين؟
لا أدري! ولكني هنا ألتاث
يوجعني انتظار المعجزه
الصمت في الأغوار يزحف
يأكل الأبعاد يفترس الزمان
أصغي أكاد أحس
أحدس ما تحيك1 أنامل الصمت العميق2
إن هذه الأشطر تزخر بالتدوير. هناك من الأشطر المدورة الثاني والثالث والخامس والسابع. وحيث إن الشعر الحر ذو شطر واحد كما سبق أن قررنا فإن التدوير يصبح ممتنعًا كل الامتناع فيه؛ لأن العرب لا تدور ضرب الشطر أو البيت، وإنما يدور العروض وحسب، ثم إن الحاجة إلى التدوير تنتفي أصلًا في كل شعر حر. ذلك لأن طول الشطر غير معين بحيث يستطيع الشاعر أن يضع ما يشاء من تفعيلات مستغنيًا عن التدوير. وعلى هذا الأساس كان ينبغي أن يجمع الشاعر كل شطرين مدورين معًا. وبذلك تصبح قصيدته كما يلي:
1 الصواب "تحوك". ويخطئ في هذا الفعل كثير من الناشئين، لا ندري السبب.
2 قصيدة "الرؤيا المكبلة" خليل الخوري. مجلة الآداب. بيروت. آب 1961.
أنا في انتظار المعجزه
من أين؟ لا أدري ولكني هنا ألتاث يوجعني انتظار المعجزه
الصمت في الأغوار يزحف، يأكل الأبعاد، يفترس الزمان
أصغي أكاد أحس أحدس ما تحوك أنامل الصمت العميق.
وعندما نكتبها هكذا، كما ينبغي أن تكتب وكما تفرض قواعد العروض العربي، نلاحظ أنها طويلة الأشطر في الغالب مع شيء من عدم الانسجام بين الشطر الأول القصير والأشطر الثلاثة التالية على أنها مع ذلك جميلة التعبير جارية على قواعد البحر الكامل. والمأخذ على هذه الأشطر هو كما قلنا عدم التناسق بين طولها. فأين الشطر الأول المكون من تفعيلتين من الشطر الثاني المكون من ست؟ أو من الثالث والرابع وكل منهما ذو خمس تفعيلات؟
ولا يقل سوء تأليف عن ذلك كون الشطر الثاني في حقيقته بيتًا ذا شطرين من البحر الكامل هذا وزنه:
من أين لا أدري ولكني هنا
…
ألتاث يوجعني انتظار المعجزه
متفاعلن متفاعلن متفاعلن
…
متفاعلن متفاعلن متفاعلن
ومن هذا ندرك أن الأشطر الثالثة "2 و3 و4" في أصل الشاعر لم تكن في الحقيقة إلا بيتًا واحدًا ذا شطرين. فلماذا إذن كتبه الشاعر هكذا:
من أين
لا أدري ولكني هنا ألتاث1
يوجعني انتظار المعجزه؟
1 يعرب "ألتاث" خبرًا للكن، و"يوجعني" خبرًا ثانيًا، وتعدد الخبر جائز في النحو ويصح أيضًا تقدير واو العطف محذوفة.
إنه أولًا يقطع بيتًا تقطيعًا لا صلة له بالوزن، وهذا غير مقبول، فإنما التقطيع صفة يفرضها الوزن ولا يتحكم فيها سواه، ثم إن الشاعر بهذا التقطيع المتعسف يجعل أشطره مدورة في موضع لا يسوغ فيه التدوير.
ذلك فضلًا عن أن قواعد البلاغة لا تبيح أن نفصل عبارة "من أين" عن عبارة "لا أدري". وليس من غرض بياني يسوغ فصل الفعل "ألتاث" عن الفعل "يوجعني" وهما في مرتبة نحوية واحدة. ومهما كان فإن فصل العبارات عن بعضها في الشعر ينبغي ألا يكون إلا إذا اقتضته وقفة عروضية، فلا شيء سواها يستطيع تقرير فصل غير مباح. هذا مع العلم بأن بعض الفصل لا تبيحه حتى وقفة عروضية وذلك مثل الفصل بين مضاف ومضاف إليه ونحوه.
والواقع أن السادة الشعراء يرتكبون في الواقع إساءتني أولاهما: أنهم يقعون في التدوير في الشعر الحر مع أنه ممتنع فيه لأنه شعر ذو شطر واحد، وثانيتهما: أنهم بالإضافة إلى خطيئة التدوير، يقسمون الشطر إلى أشطر على أساس المعنى، مع أن الشطر في العروض وحدة موسيقية مستقلة وينبغي أن يُفْصل بينها وبين أية وحدة أخرى فصلًا ملحوظًا بترك فراغ على الورق.
هذا وأمثاله يشير إلى أن القصيدة قد أفلتت من سيطرة الشاعر المعاصر، فهي تقوده وتجري به حيث تشاء، وهو لا يملك من عدة اللغة، والعروض ما يعينه عليها. إنه غير شاعر بوحدة الشطر، تارة يبدأ شطرًا بالنصف الأخيرة من الكلمة، وتارة ينهي شطرًا بالنصف الأول من الكلمة. وأحيانًا يورد بيتًا ذا شطرين متساويين على النمط الخليلي وهو يظن أنه يكتب شعرًا حرًّا تتعدد أطوال أشطره. وتراه يكتب أبياتًا مدورة وهو يحسب أن كل شطر فيها مستقل، وأحيانًا يضع قافية في نهاية الشطر ويظن أنها هي القافية، مع أن شطره مدور بحيث يذهب نصف القافية إلى الشطر التالي فلا تعود قافية. وكل هذه الفوضى تنشأ عن وقوع الشاعر
في التدوير وهو غافل.
أليس التدوير مسألة عروضية بحتة مرتبطة بالمعنى وبالموسيقى؟ ومن قال إننا أحرار في استعماله حيث شئنا ومتى شئنا؟ لنأخذ هذه الأشطر من خليل الخوري كما كتبها هو:
آه متى يشتد عصف الريح،
عصف الريح روح البحر،
لولا الريح جف البحر، آهٍ
من يحث لنا السحاب؟
أربعة أشطر جميلة سطرها الشاعر وهو لا يدري أنها في واقعها العروضي شطر واحد لا ينفصم نهايته كلمة "السحاب". ولقد كان التدوير المتصل ثقيلًا هنا لأن المعنى كان يقتضي الوقوف بعد الاستفهام الأول "آه متى يشتد عصف الريح؟ " وكان ينبغي أن ينتهي الشطر عند آخر هذا السؤال انتهاء عروضيًّا لينسجم الوزن والمعنى كما ينبغي لهما في كل شعر جيد. وأما عبارة "عصف الريح روح البحر" فقد كان حقها أن تفصل فصلًا كاملًا عن سابقتها؛ لأنها عبارة خبرية وما قبلها استفهام يختلف عنها بلاغيًّا.
وإنما وجد التدوير لربط شطر أول لم ينته المعنى فيه بشطر تالٍ له. وهذا هو القانون في كل تدوير. وإذن فما الداع إلى أن يربط الشاعر للعبارتين "متى يشتد عصف الريح؟ " و"عصف الريح روح البحر؟ " ما من جواب منطقي سوى أنها قد تكون "ضرورة" فإن في الأمة العربية اليوم جيلًا من الأدباء والشعراء الناشئين يحسبون هدم قواعد البلاغة والنحو والعروض مظهرًا من مظاهر التجديد. ولذلك لا نجدهم يعنون بمراجعة قاموس أو مرجع في القواعد، لا بل إنهم يستخفون بالناقد الذي يعاتبهم على إهمال قاعدة أو استعمال لفظة على قايس فاسد. وليس من الضروري أن يكون خليل خوري أحد هؤلاء فإن قصيدته هذه تشير إلى قدرة تعبيرية ملحوظة.