الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-3-
إهمال الشعراء:
لم تكن طبيعة الشعر الحر ولا ظروف العصر الذي نشأ فيه هي وحدها التي أضعفت مكانته لدى الجمهور، وإنما ساهم الشاعر الذي ينظم هذا الشعر مساهمة فعالة في إشاعة الفوضى في أساليبه وتفاصيله، وفي تشويه صفحته العروضية لدى الجمهور والأدباء. وكان دور الشاعر في هذا يجري في اتجاهين اثنين:
"الأول" أنه أساء كتابة شعره، فلم يجعل الوزن أساسًا فيها، على ما كان الشاعر العربي يفعل، وإنما جعل التحكم للمعنى حينًا وللوزن حينًا آخر.
"الثاني" أنه ارتكب الأخطاء العروضية والسقطات الموسيقية عامدًا أحيانًا وغير عامد في أغلب الأحيان.
ولسوف نتناول كل فِقرة من هاتين على حدة.
أ- إساءة الكتابة:
الأصل في الشعر أن يطبع بحسب وزنه وتفعيلاته، فيقف الطابع
عند نهاية الشطر العروض. وهذ القانون يسري على الشعر في العالم كله، فحيثما وجد الشعر كان وزنه هو الذي يتحكم في كتابته. إننا لا نقف بحسب مقتضيات المعاني، وإنما نقف حيث يبيح لنا العروض. ولذلك كان القدماء يشطرون الكلمة شطرين لمجرد أن يقفوا في آخر الشطر كما في كلمة "اليمني" في قول الشاعر:
وبعبد المجيد شلت يدي اليمـ
…
ـنى وشلت به يمين الجود1
كان أسلافنا صارمين في احترامهم للشطر وللوقف العروضية في آخره، وفي آخر البيت. ذلك مع أن شعرهم كان ذا أشطر متساوية عروضيًّا، فحتى لو أنهم رصوه دون أن يقفوا في آخر الشطر، لما أساء ذلك إلى شعرهم لمجرد أنه موزون وزنًا شطريًّا كاملًا، بحيث لا يبقى عليه خوف حتى من أن يكتب في أسطر، دونما فواصل تفصل الشطر عن الشطر. إن هذا هو ما فعله مؤلفو كتاب عن "شكسبير" أصدرته سلسلة "اقرأ" فقد كتبوا الشعر كما يلي:
"أي صديقي بروت، أصغِ لقولي: أنا هذا مرآة صدق سأبدي لك ما لم تكن ترى من خلالك. لا تظن الظنون بي يا صديقي، لست بالضاحك اللعوب مجونًا، لا ولا بالمهين أبذل حبي وولائي لكل من يلقاني. لا ولا بالذي يهش ويلقي أحسن القول للحضور رياء، فإذا ما مضوا أساء حديثًا.
إن هذا الشعر مكتوب على شكل النثر. ولكنه في الواقع نظم لا نثر؛ لأنه موزون وزنًا كاملًا وإن كانت لغته مصطنعة ركيكة، ولو كتبناه بموجب الأشطر للاح كما يلي، من البحر الخفيف:
1 عبد الله بن مناذر يرثي ولده عبد المجيد.
أي صديقي بروت أصغ لقولي
…
أنا هذا مرآة صدق سأبدي
لك ما لم تكن ترى من خلالك
…
لا تظن الظنون بي يا صديقي
لست بالضاحك اللعوب مجونا
…
لا ولا بالمهين أبذل حبي
وولائي لكل من يلقاني
…
لا ولا بالذي يهش ويلقي
أحسن القول للحضور رياء
…
فإذا ما مضوا أساء حديثا1
إنه نظم موزون لا قافية له، وقد كتبه المترجم على صورة النثر. على أن أي إنسان يتحسس الوزن حري بأن يحس بأن هذا موزون لا منثور، رغم ملامح النثر التي كتب بها.
وعندما قامت حركة الشعر الحر جاءت بتطوير بارز لشكل الشطر العربي، فلم يعد هناك طول مقنن ثابت له، وإنما أصبح ذلك وقفًا على رغبة الشاعر وطول عباراته. بات الشاعر حرًّا في أن يورد أي عدد من التفعيلات في الشطر الواحد، إذا هو حافظ على الشروط العروضية للشعر الحر. وأصبح القارئ يقرأ شعرًا ذا أشطر مختلفة الأطوال كما يلي:
بويب
…
بويب
…
أجراس برج ضاع في قرارة البحر
1 كتاب شكسبير لمحمد فريد أبي حديد وزكي نجيب محمود وأحمد خاكي. سلسلة اقرأ العدد 17 "ص88".
الماء في الجرار والغروب في الشجر
وتنضح الجرار أجراسًا في المطر
بلورها يذوب في أنين
"بويب يا بويب"
فيدلهم في دمي حنين
إليك يا بويب
يا نهري الحزين كالمطر
أود أو عدوت في الظلام
أشد قبضتي تحملان شوق عام
في كل أصبع كأني أحمل النذور
إليك من قمح ومن زهور
أود لو أطل من أسرة التلال
لألمح القمر
يخوض بين ضفتيك يرزع الظلال
ويملأ السلال
بالماء والأسماك والزهر1
إن الوزن، في هذه القصيدة جارٍ على العروض العربي تمام الجريان، فهو من بحر الرجز، وقد أصاب التفعيلة الأخيرة فيه تغيير فتحولت "مستفعلن" إلى "فَعِل" حينًا وإلى "فعولْ" حينًا. غير أن القارئ غير المختص لا يستطيع أن يميز الأشطر من بعضها، إلا إذا نحن فصلناها له فصلًا قاطعًا ورتبناها بحسب وزنها. وذلك لأنه بدءًا، قد لا يكون يحسن الوزن،
1 قصيدة "النهر والموت" لبدر شاكر السياب مجلد ديوان الشاعر. دار العودة "بيروت 1971" ص453.
ثم إن أطوال الأشطر غير متساوية، والقافية خافتة تخلو من رنين القافية الموحدة القديمة التي تقرع السمع. ذلك فضلًا عن أن العبارة الحديثة لم تعد صارمة أو جهورية بحيث تلفت السمع كعبارات الشاعر القديم.
على أن أهم عامل يحدث اللبس في شعرنا الحديث هذا هو أن الشاعر لم يعد يتقيد بقانون استقلال الشطر أو البيت. فقد كان أسلافنا يعيبون الشاعر إذا ما نظم بيتًا له تتمة في بيت تالٍ. وكان المألوف في الشعر العربي كله أن يكون البيت تامًّا في حدود شطريه. وكان ذلك يحفظ للبيت عزلته ويعصم للقارئ من الالتباس. أما اليوم فحتى هذا الدليل ضاع من يدي القارئ، كما نرى في أشطر بدر السياب:
أود لو أطل من أسر التلال
لألمح القمر
يخوض بين ضفتيك يزرع الظلال
ويملأ السلال
بالماء والأسماك والزهر
هذه خمسة أشطر تضم كلها عبارة واحدة. أي أن ثلاثة أبيات منها تشترك في عبارة واحدة.
وهناك نقطة أخرى تحدث الالتباس. أن الشاعر المعاصر مولع بالتسكين، فأكثر قوافيه ساكنة الآخر كما في هذه القصيدة التي اقتطفنا منها. فإذا تهاون الشاعر وأدمج الأشطر فإن القارئ قد يتلو القوافي مشكولة بحسب إعرابها. وبذلك يضيع الوزن كليًّا. وهذا خطأ يقع فيه الشاعر وغير الشاعر؛ لأن الشكل يفسد الوزن الذي أقامه الشاعر على سكون. وإذن فماذا يحدث لو أن الشاعر كتب أبياته بالشكل التالي مثلًا.
"أورد لو أطل من أسرة التلال لألمح القمر يطل بين ضفتيك،
يرزع الظلال ويملأ السلال بالماء والأسماك الزهر" ترى هل سيكون هناك كثيرون يستطيعون أن يحزروا أن هذا شعر؟ لا أظن. ذلك أن الوزن خافت، والعبارة خالية من رنين الشعر القديم وفخامته، والشكل، حين يضاف إلى أواخر الكلمات، يقضي على الوزن. وهكذا يتحول الشعر إلى نثر ويضيع الجرس.
لذلك السبب المهم ينبغي لنا أن نتخذ الطريقة العربية في كتابه الشعر مساعدة للقارئ على تحسس الوزن فيه. إن الشطر هو الحاكم وعلينا أن نخضع له ونحن نرص شعرنا الحر على الصفحة. علينا أن نكتب الشعر الحر بحسب الأشطر، فنضع كل شطر منفردًا على سطر مستقل، كما فعل بدر شاكر السياب في قصيدته التي اقتطفنا منها. وإنما يكمن الخطر في أن يقسم الشاعر أبياته بحسب المعنى، وهو خطر يمس القارئ والشاعر معًا كما سنذكر وشيكًا. ونريد الآن أن نأتي بنموذج من الشعر المرصوص رصًّا سقيمًا لا يقوم على أساس، وإنما تلعب به أهواء فوضوية تنم عن قلة المعرفة بشئون العروض. هذه أبيات من قصيدة حرة الوزن كتبها الشاعر نصًّا على الوجه التالي:
على وجهي رمال الشك أصوات
بلا معنى. رمال تشرب الغيم المدوي
عند آفاقي فلا ذكرى أغنيها ولا
وعد على دربي، سوى ريح وعتم في
أراض جوها نار، وموت مثلما
كانت ليالينا وآتينا. أنبقى في متاه
الرمل أقدامًا تجر الجوع والحمى
بلا مأوى تجر الخيبة الكبرى: أنبقى
حفرة للريح أحداقًا رسا فيها فراغ
الهوة الكبرى، فنحن الآن لا ندري
أيبقى الكون إن متنا، أكانت هذه
الأشياء لولانا، ترى كانت
على وجهي دروب تنتهي في الغيب
في المنفى1
أول وهلة، حين قرأت هذا "الكلام" لم أفهم له وزنًا معينًا كما للشعر. لقد رأيت البيت الأول من بحر الهزج.
على وجهي رمال الشك أصوات
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن
ولكن الشطر الثالث لاح لي من بحر آخر هو بحر الرمل المحذوف:
عند آفاقي فلا ذكرى أغنيها ولا
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن
ثم حيرني الرابع فلم أعرف له وزنًا مقبولًا غير أن يكون من "الرجز"
على هذا الشكل:
وعد على دربي سوى ريح وعتم في
مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستف
وعلى هذا تكون الأشطر الأربعة الأولى قد انتقلت من "الهزج" إلى "الرمل" إلى "الرجز" وهي ثلاثة أوزان لم يجمع بينها العرب. فما معنى هذا؟ أترى الشاعر ينثر؟ أم أنه يضحك منا ويستخف بالعروض؟
وحين نعود لنقر تلك الأشطر محاولين حل لغزها نلاحظ أن فيها
1 "القصيدة الضائعة" لفؤاد رفقة. مجلة شعر ربيع 1958.
فضلًا شنيعًا متواصلًا بين أشياء لا تسيغ اللغة العربية أن يفصل بينها مثل الجار والمجرور في قوله:
…
...
…
سوى ريح وعتم في
أراض جوها نار
…
...
…
فجعل حرف الجر في شطر ومجروره في شطر آخر. ومثل المضاف والمضاف إليه وقد فصلهما الشاعر بلا مبالاة في قوله:
…
...
…
... أنبقى في متاه
الرمل أقدامًا تجر
…
الجوع والحمى
وفي قوله:
.... أحداقًا رسا فيها فراغ
الهوة الكبرى.....
ومثل الفصل بين اسم الإشارة والمشار إليه في قوله:
…
... أكانت هذه
الأشياء لولانا
…
ومثل الفصل بين "مثلما" وفعلها في قوله:
…
... وموت مثلما
كانت ليالينا وآتينا..
وفوق ذلك كله ارتكب الشاعر بدء سطر بهمزة وصل وهو أمر مستحيل لأن العرب لا تبدأ بساكن قط. وقد مر مثل هذا في نموذج الفصل بين المضاف والمضاف إليه وغيره.
ويسأل الناقد الحيران نفسه: ترى لماذا يتكلف الشاعر كل هذا التصنع في لغته فيفصل بين ما لا ينفصل ويبدأ بهمزة وصل ونحو ذلك؟ إن الشاعر لا يفعل مثل هذا إلا وهو واقع في ورطة بسبب الوزن، فعل ترى ساقت هذا الشاعر ضرورة قاسية إلى أن يقسر قواعد لغتنا بهذا الشكل القبيح؟
على أن البحث ينتهي بنا إلى الخيبة. وسرعان ما يثبت لدينا أن هذا الشاعر يرتكب الإساءات إلى اللغة العربية دونما داعٍ من أي نوع. على العكس، إن قصيدته تكون أكمل وزنًا ولغة لو أنه كتبها بحسب مقتضيات استقلال الشطر. والحقيقة المرة التي ستصدمنا أن أبيات الشاعر سالمة عروضيًّا، في حقيقة الأمر، فليست هي من الهزج والرمل والرجز كما لاحت لنا، وإنما هي من "الهزج" وحده ولم يخرج الشاعر فيها عن الوزن.
كيف حدث هذا إذن؟ أترانا نحن الذين نجهل الوزن؟ الجوابُ نفي. وإنما وقعنا في الخطإ لأن الشاعر أراد لنا ذلك حين أساء رصف قصيدته. وإنما كان ينبغي له أن يكتبها بحسب إيقاع وزنها، فلا ينهي الشطر إلا ختام التفعيلة، ولا يبدأ شطرًا بنصف تفعيلة. وها نحن نشطب صورة قصيدته كما كتبها هو ونعيد رصف أشطرها بحيث يتضح فيها وزن "الهزج":
على وجهي رمال الشك أصواتٌ بلا معنى
رمال تشرب الغيم المدوي عند آفاقي
فلا ذكرى أغنيها ولا وعد على دربي
سوى ريح وعتم في أراض جوها نار
وموت مثلما كانت ليالينا وآتينا
أنبقى في متاه الرمل أقداما
تجر الجوع والحمى بلا مأوى
تجر الخيبة الكبرى
أنبقى حفرة للريح أحداقًا رسا فيها
فرغ الهوة الكبرى
فنحن الآن لا ندري أيبقى الكون إن متنا؟
أكانت هذه الأشياء لولانا؟
ترى كانت على وجهي
دروب تنتهي في الغيب، في المنفى؟
الآن بانت القصيدة سليمة سلمت من الغلط التعبيري الكامن في فصل ما لا ينفصل والبدء بساكن، وسلمت من الغلط الوزني الكامن في الانتقال من الهزج إلى الرمل إلى الرجز1 فليقارن القارئ بين هذا الكلام المعقول الجاري على بحر واحد، وبين ذلك الكلام نفسه وقد أساء الشاعر توزيعه فكأنه لا يعرف الوزن ولا يحمل عنه فكرة.
وإننا لنتساءل الآن: لم ترى كان ذلك؟ لماذا يهين شاعر ما شعره بهذا الشكل، وإذا لم يكن لديه داعٍ أدبي معقول، مثل ضرورة الوزن، فلأي سبب يمزق قواعد اللغة العربية على هذه الصورة؟ وأي ذوق عربي سليم يحتمل من الشاعر -مهما ورطته دروب الوزن- أن يأتي بمضاف في آخر الشطر، وبمضاف إليه في أول الشطر التالي؟ إن هذا، في الواقع، لا يعدو أن يكون عبثًا لا غاية له، ولا ينبغي للناقد أن يسكت عليه. إن للفوضى والقبح حدودًا.
وإنما كان هذا وأمثاله جانبًا من الأسباب التي جعلت الجمهور العربي يقف موقف النفور من الشعر الحر، فليت الشاعر الناشئ يلتفت ويكف عن عبثه هذا الذي كثرت أمثلته في شعره.
1 أي قارئ ملم بالعروض يدرك أن الرمل والهزج والرجز تنتمي كلها إلى دائرة عروضية واحدة هي دائرة "المجتلب". على أن العرب لم تمزج بينها قط. وإنما وقع المزج بين الهزج والرمل في "البند" بشروط عروضية تقيده وتسيطر عليه. وقد شرحنا ذلك بتفصيل في الفصل الذي درسنا فيه "البند" في موضع آخر من الكتاب.
ب- الغلط العروضي
يرجع جانب كبير من نفور الجمهور من الشعر الحر إلى كون الشعراء الذين ينظمون ذلك الشعر ضعيفي الأسماع بحيث يرتكبون أخطاء عروضية مشوهة وهم لا يشعرن. وأنا أكاد أجزم بأن ثمانين بالمائة من القصائد الحرة تحتوي على أغلاط عروضية من صنف لا يمكن السكوت عنه.
وهذه النسبة العالية تلفت النظر وتجعلنا نتساءل في جد حريص: لماذا يخطئ المعاصرون في الشعر الحر كثيرًا، مع أن أوزانه هي عين أوزان الشعر الخليلي الذي ينظمه هؤلاء الشعراء أنفسهم فلا يخطئون؟ والحق أنه سؤال مهم يستأهل أن نقف عنده ونفحصه. وسنرد عليه في نقط مرقومة:
"أولًا" ينبغي لنا أن نلاحظ أن الشعراء الذين نظموا بالأوزان القديمة لا يخلون من الأخطاء العروضية، وفي وسعنا أن نملأ صفحات كثيرة بأغلاط شعراء لا يصدق القارئ أنهم يخطئون. هذا مثلًا بيت من الطويل لعلي محمود طه:
وأصغى إليه الضوء في صفو جذلان
وأضفى على الوادي شعاع حنان1
وهو بيت لا يستوي وزن شطريه اللذين يجريان كما يلي:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
فعولن مفاعيلن فعولُ فعولن
أو أنهما يجمعان بين تشكيلتين للبحر الطويل لم يجمع بينهما العرب
1قصيدة "العشاق الثلاثة" لعلي محمود طه. ليالي الملاح التائه. القاهرة.
وليس الغلط مقصورًا على علي محمود طه. فلمحمود حسن إسماعيل أخطاء مثلها هذا مثال منها، من الخفيف:
طعنة من معاذ أخرس فوها
…
فاك بعدما كنت تنهي وتأمر1
وشطره الثاني مكسور كسرًا لا يجبر لأنه خارج على الوزن.
وهذا صالح جودة في ديوانه "ليالي الهرم" قال من "الخفيف":
ارفعيه عن الثرى كما رفع الله إلى خلده نبي الصليب
وإنما يستقيم البيت لو حذفنا كلمة "كما" التي يتوقف عليها المعنى ولنزار قباني في أوائل حياته الشعرية من البحر السريع:
لعنتِ من صفراء جاحدة
…
ماذا تمنيت ولم أفعل
ابن ثمانين رضيت به
…
لتغرقي في الذهب المثقل2
إن في عروض هذين البيتين زحافًا قبيح الوقع من الصنف الذي نحاسب عليه شعراء الشعر الحر.
ولغير هؤلاء الشعراء غلطات كثيرة ليس هذا مجال ذكرها. ومن ذلك نرى أن الخطأ ليس مقصورًا على الشعر الحر وإنما يقع في سواه أيضًا، وقد تكون جذور أخطاء الشعراء الجدد كامنة في أخطاء أسلافهم من شعراء الشطرين. فلا يبنغي لنا أن نحاسب المعاصرين المتحررين وحدهم، ولا
1 قصيدة "ثورة الإسلام في بدر" لمحمود حسن إسماعيل من ديوانه هكذا أغني القاهرة 1938.
2 قصيدة "خاتم الخطبة" لنزار قباني. ديوان قالت لي السمراء. الطبعة الأولى. مطابع الأحد دمشق 1944.
ينبغي أن نعد الغلط ظاهرة ملازمة للشعر الحر حيث نبيح لأنفسنا أن نطرد هذا الشعر من حظيرة الشعر العربي.
"ثانيًا" ومع ذلك فإن الغلط في الشعر الحر أكثر منه في شعر الشطرين بشكل واضح يلفت النظر. إننا قد نجد خطأ عروضيًّا في قصيدة واحدة من عشر في أسلوب الشطرين، في حين نجده في ثمان من عشر في الأوزان الحرة. وهذه نسبة غير هينة تجعل الغلط في الشعر الحر ظاهرة متمكنة ينبغي أن تخص بالملاحظة.
والسبب الأكبر في هذه الحقيقة هو أن الشعر الحر أصعب من شعر الشطرين. وذلك واضح لكل من يعرف العروض العربي ولو معرفة بسيطة. إن القصيدة العربية التي تستعمل بحر الرمل بأسلوب الشطرين تأتينا بثلاث تفعيلات في كل شطر فلا تتعدى ذلك. ويكون كل شطر من الأشطر مساويًا في الطول لكل شطر آخر. وإذ ذاك يكون التعثر نادرًا وملحوظًا فلا يفوت الشاعر ولا الناقد ولا القارئ. ذلك أن موسيقى الشطر ترن في السمع لمجرد أنها تتكرر دونما تغيير في كل شطر.
ولكن ماذا يكون حال الشاعر، وهو ينظم قصيدة من بحر الرمل هذا، على الوزن الحر؟ إن الشطر هنا لم يعد يساوي الشطر في الطول وإنما يضع الشاعر شطرًا ذا تفعيلتين إلى جوار آخر ذي أربع. ومن ثم فإنه يحتاج إلى مزيد من اليقظة والتنبه لكي يضبط الوزن ويسيطر على الموسيقى. ولذلك يحتاج من يتصدى لنظم الشعر الحر إلى أن يكون ممرنًا تمرينًا عظيمًا على استعمال الأوزان ذات الشطرين بكل تشكيلاتها بحيث يصبح استعمال التفعيلات لديه يسيرًا، وبحيث ترن الموسيقى في كيانه رنينًا عفويًّا يميزه حق التمييز. وهذا ليس يسيرًا. فليس كل شعرائنا موهوبين. ليسوا كلهم ممرنين على النظم تمرينا يجعل دروب الأوزان واضحة في أذهانهم. ومن ثم فإن أسلوب الشطرين أهون على هؤلاء لو تأملوا.
إن من لم يحسن أسلوب الشطرين ومجرى البحور حق الإحسان لن يعرف كيف يخرج على عدد التفعيلات أو لنقل إن من لم يعرف أن ينظم قصيدة كل أشطرها متساوية الطول لن يعرف أن ينظم قصيدة يكون شطر منها طويلًا والثاني أقصر والثالث أطول. تلك مسألة بديهية.
"ثالثًا" يقع جانب من اللوم، في قضية الأخطاء العروضية الشائعة في الشعر الحر، على عواتق النقاد العرب المعاصرين. ذلك أنهم رفضوا أن يقوموا بواجبهم في نقد ذلك الشعر وغربلته، وإنما كان كل ما فعلوه أنهم هاجموه بكلمات جارحة وسخروا ممن ينظمه. ولقد كتب كثير منهم باختصار واحتقار وهزء عن الحركة كلها. وكانت حدة اللهجة وعصبية العبارات، ونبرة التحامل تشي بأنهم غاضبون وأن ما يقولونه -لذلك- بعيد عن الموضوعية. وكانت النتيجة المحتومة أن الشعراء الناشئين، وبعضهم مصاب بصلف الجهل، رفضوا أن يصغوا إليهم، وزادوا بأن جابهوهم بالسباب المقابل والهجوم والسخرية. ولم يقع الحيف في هذا إلا على الشعر العربي نفسه.
ولعل أكثر اللوم في هذه المعركة اللفظية المزرية يقع على النقاد لا على الشعراء. ذلك لأن الناقد الذي يسمي نفسه ناقدًا ثم يجهل أن الشعر الحر موزون جار على العروض العربي تمام الجريان، بحيث يتعرض للزحاف والعلل والتدوير، ويرد على المشطور والمجزوء، وتكون له ضروب، هذا الناقد يحكم على نفسه بأنه ليس ناقدًا، وإنما هو واحد من أولئك البسطاء الذين لا يتورعون عن أن يدلوا بآرائهم في كل موضوع. بلى، قد يكون هذا الناقد كفئًا في نقد موضوعات أخرى غير الشعر، إلا أنه على كلٍّ ليس ناقدًا للشعر ما دام لا يميز الموزون من غير الموزون.
ولقد كانت نتيجة هذه الأحكام السطحية المتسرعة من بعض الأدباء، أن الشاعر الناشئ الذي ينظم الشعر الحر ويدري أنه شعر لا نثر، وأنه موزون بحيث يمكن أن يحاسب عليه، هذا الشاعر فقد ثقته بالناقد،
ومعه الحق. وقد جعله ذلك يتمادى ويبالغ فلا يتنزل إلى الإصغاء إلى تصحيح مصحح. فإذا نبهه ناقد مخلص إلى خطإ عروضي، اتهمه بأنه ناقد رجعي يريد الاقتصار على أسلوب الشطرين. وانتهى الأمر إلى أن يصبح هذا الشاعر جامحًا، يخرج على العروض وعلى الموسيقى وعلى الذوق باسم "الحرية".
وهكذا انطلق الشعراء الناشئون يخطئون أفظع الأخطاء وهم يحسبون أنهم يأتون بأعظم التجديد. ومضى الناقد يسب ويهاجم ويسخر دون أن يستطيع مساعدة هؤلاء الناشئين الذين يحتاجون إلى التوجيه والرعاية والتشجيع. والحق أن بعضهم شعراء ذوو موهبة، غير أن جموحهم وعنادهم وسوء فهمهم للحرية قد ظلم مواهبهم وقطع عليهم طريق النمو والتكامل. واليوم يكاد الشعر الحر يلهث تعبًا على أيديهم.
هذه مشكلة الغلط العروضي في الشعر الحر وسوف نفرد الفصل التالي لأكثر أصناف هذا الغلط شيوعًا.