الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1-
أنه شعر ذو أشطر غير متساوية الطول. وكلما كان تنوع الأطوال أوضح كان البند أكثر موسيقية وأصالة.
2-
أنه شعر ذو وزنين هما الرمل والهزج، يتداخلان تداخلًا فنيًّا مستندًا إلى قواعد العروض العربي، فلا يختتم آخر أشطر الرمل إلا بالضرب "فاعلاتان" الذي يمهد لبحر الهزج فيصح أن يليه. وعندما يبدأ الهزج يستمر الشاعر عليه حتى يورد في آخر أحد الأشطر الضرب "فعولن" الذي يمهد لبحر الرمل فيصح أن يعود ثانية. وهكذا.
وإذا اختل أي من هذين الشرطين كانت النتيجة نظمًا آخر لا صلة له بالبند، سواء أكتبناه على أسطر كالنثر، أم أفردنا له فراغًا كافيًا كما فعلنا في "أبيات" حسين العشاري.
البند والشعر الحر:
لا ريب في أن الشعر الحر أقرب في خطة وزنه إلى البند منه إلى أسلوب الشطرين، ذلك أنهما كليهما يقومان على أساس "التفعيلة" لا "الشطر" وتباح في كل منهما الحرية في عدد التفعيلات فيجيء الشطر طويلًا أو قصيرًا بحسب رغبة الشاعر وحاجة معانيه.
على أن الشعر الحر أسهل من البند في خطته وذلك لأنه يقوم على بحر واحد من البحور العشرة التي تصلح له، فيختار الشاعر أحد هذه البحور وينظم منه القصيدة مقتصرًا على تشكيلة واحدة منه لا يتخطاها شأنه في ذلك شأن الشاعر العربي في أسلوب الشطرين. مثال ذلك أن شاعر الشعر الحر لا يستطيع أن يجمع بين التشكيلتين التاليتين مثلًا:
مفاعيلن مفاعيلن
مفاعيلن فعولن
وذلك لما سبق أن لاحظناه من أن العرب لم يجمعوا تشكيلتين في قصيدة واحدة. وإنما نجد قصائد تنفرد بإحدى التشكيلتين هذه أو تلك.
وأما في البند فإن هاتين التشكيلتين تجتمعان وليس في اجتماعهما محذور كما رأينا في النموذج الذي درسناه، ثم إن اجتماع بحرين اثنين من بحور الشعر ليس مستساغًا في البند وحسب، وإنما هو مطلوب وهو السر في حلاوة البند وموسيقيته. وذلك هو الفرق الوحيد بين الشعر الحر والبند، وهو فرق لا يطغى على أوجه الشبه التي ذكرناها.
والحقيقة أن الشبه بين الشعر الحر والبند يبلغ من القوة إلى درجة أن بعض الناشئين من الشعراء يخلطون بينهما دون أن يدروا، ومنهم نذير عظمة الذي نقرأ له هذه الأشطر على أنها من الشعر الحر.
قد عرفت الآن بو زيد عرفت الصيد والكهفْ
ولم كان إذا ما كحل العينين بازي الليل بو زيد
وأما يرم الشارب بو زيدْ
أنا عنترة الحيْ
هلموا أيها الأبطال إن الصيد بالنار ضئيل
لم تقاسمنا أبو زيد خجالًا1؟
رمل "فاعلاتان".
هزج" مفاعيلْ.
"هزج".
"هزج".
"هزج" فعولن.
"رمل" فاعلاتن.
الواقع أن هذه الأشطر الشعبية في روحها تكون بندًا كامل الوزن ينضبط فيه البحران: الرمل والهزج انضباطًا تامًّا. فالشطر الأول كان من الرمل ذي الضرب المسبغ "فاعلاتان" فانتقل الشاعر بعده فورًا إلى الهزج الذي ضربه "مفاعيل" على القاعدة. وتتالت بعده ثلاثة أشطر من الهزج آخرها انتهى بالضرب "فعولن" الذي مهد لبحر الرمل وقد انتقل الشاعر إليه فورًا مستعملًا الضرب "فاعلاتن". وهذا كله جارٍ على قاعدة البند التي استخلصناها في هذا الفصل جريانًا تامًّا. وإنه لدليل على قوة سمع نذير
1 قصيدة "الفانوس" لنذير عظمة. مجلة شعر. بيروت. العدد التاسع شتاء 1959.
عظمة أنه جاء بالوزنين المتعاقبين ولكل منهما ضربان اثنان، في مزيج متآلف تام الموسيقى، مع أنه لم يسمع بالبند -في يقيني- لأن هذه القصيدة نشرت في بيروت سنة 1959 وقد يدلنا هذا على أن الشاعر الأول الذي ابتدع البند في القرن الحادي عشر الهجري، إنما وصل إليه وهو غير واعٍ كما وصل إليه نذير عظمة. وقد ضبط كلاهما الوزن أجمل ضبط على غير نسق سابق وإنما تم ذلك بهداية السمع الإنساني المعجز.
ومن متطلبات الأمانة العلمية أن أقول في ختام هذا الفصل إن قول شعراء البند:
مفاعيلن مفاعيلن فعولن
…
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
يمكن أن يقرأ على أنه كله من الهزج كما يلي:
مفاعيلن مفاعيلن – فعولن فا – علاتن فا – علاتن فا – ذلك لأن "فعولن فا" مساوية لمفاعيلن وكذلك "علاتن فا"، وقد يبدو عند هذا صواب رأي الذين يصرون على أن البند كله من الهزج. والواقع غير ذلك فإن مثل تلك القراءة لا تكون ممكنة إلا في غياب القافية التي تعين نهاية الشطر فلا يعود من المقبول أن نقول "فعولن فا" وإنما ينتهي الشطر عند فعولن – القافية وذلك يقفل المجال أمامنا إقفالًا كاملًا فلا نستطيع تخطي فعولن الهزجية ودمجها بالسبب الخفيف في أول تفعيلة الرمل "فا - علاتن".
وإني لأحب أن أختم هذا الفصل بالاستشهاد ببند ثانٍ يثبت صحة خطة الوزن والقافية التي ذهبتُ إليه، وهذا البند من شعر باقر بن السيد إبراهيم الحسيني "1177-1218هـ" وهو يبدؤه من الرمل على القاعدة فيقول:
إنما أسني هدايا طفقت تخترق البيدْ
"رمل".
وتفري شقق الصم الصياخيدْ
بها القب المناجيدْ
شذاها عبق القطرْ
وأزرى بشذى العطرْ
لقد قصر عن إدراك معنى وصفه الفكرْ
من الخل الوفي المستهام المغرم الصبْ
الكئيب المدنف العاني الذي أنحله الحبْ
ولم يبلغ منى القلبْ
من الحب
معنى إله يتمه الوجدْ
وأضنى قلبه الصدْ
فتى ما زال مشغوفًا ومشغولًا بذكر الإلفِ
لم يألف لذيذ النوم من قبلُ ومن بعدْ
على البعد لكم داعِ
وللوصل مراعِ
وإلى الله التماسًا بدعا الإخوان ساعي
نائب عنكم خصوصًا عند قبري خازني علم رسول اللهِ
مولى الثقلين السيدين السندين الكاظمين الأريحيين
الهمامين الإمامين الجوادين
من القوم الأُلَى قد شرعوا الدين الحنيفي
وسنوا سبل النهج الحقيقي
ميامين هداة
وغطاريف سراة
"هزج ضربه فعولن".
"رمل".
"فاعلاتان".
"هزج".
"هزج ضربه فعولن".
"رمل".
ومغاوير كماة
بهم قد باهل المختار طه آل نجران
وآتاهم إله العرش قدرًا
لم ينله قبلهم إنس ولا جان
كرام الخلق من خصوا
بحسن الخلق أهل الصدق سبل الحق
أمن الخائف الجاني
غياث الواله العاني
مصابيح الدجى، باب الرجا، سفن النجا، أهل الحجى
أرعى الورى جارا إذا ما الدهر جارا
لجناب الماجد المولى الذي طاولَ
أفلاك المعاني بمعانيهْ
وسارت كمسير البدر في البر وفي البحر أياديه1
"فاعلاتان".
"هزج".
"فعولن".
"رمل فاعلاتان".
"هزج".
أكتفي بهذا القدر وأرجو أن يكون هذا البند كافيًا للرد على من زعم من الباحثين أنني لا أجد دعمًا للقاعدة التي وضعتها إلا بند ابن الخلفة، فها هو ذا بند باقر الحسيني يثبت أن البند يتألف من وزنين يتداخلان ولكل منهما ضربان اثنان. والواقع أن في البنود الكثيرة التي أوردها عبد الكريم الدجيلي يرحمه الله في كتابه أدلة كثيرة على قيام القانون الذي استخلصته للبند هذا مع أنني أقر بأن طائفة من البنود مضطربة الوزن، وبعضها يقفز من الرمل إلى الهزج من دون تمهيد.
وأما من ذهب إلى أن هذه البنود من الهزج بزيادة سبب خفيف في أولها
1 "البند في الأدب العربي تاريخه ونصوصه" لعبد الكريم الدجيلي مطبعة المعارف "بغداد 1959" ص44.
فيمكن الرد عليه بثلاث حجج دامغة:
1-
بأي حق نترك سببًا خفيفًا في أول كل بند فلا نزنه؟ إن "المجادل" يسوغ ذلك لكي يستطيع القول بأن الشطر الأول إنما هو من الهزج لا من الرمل. ووفق هذه الحجة لن يبقى في الشعر العربي بحر اسمه الرمل لأن علينا أن نترك السبب الخفيف في أوله دائمًا وسرعان ما سيجد هذا "المجادل" أن أبيات صلاح عبد الصبور الجميلة التالية من الهزج حتمًا:
كان لي يومًا إله وملاذي كان بيته
قال لي إن طريق الورد وعر فارتقيته
وتلفت ورائي وورائي ما وجدته
ثم أصغيتُ لصوت الريح تبكي فبكيته
إن علينا -وفق رأي هذا المجادل- أن نترك السبب الخفيف "كا" في أول المقطوعة فلا نزنه، وبذلك تصبح الأبيات من وزن "الهزج" وننفض أيدينا من "الرمل" نهائيًّا فلا يعود له وجود في دولة الشعر.
2-
بأي حق يدعونا هذا المجادل إلى أن نتخطى القافية مع أنها تختم الشطر وتعين الوزن لأن ما بعدها هو أول الشطر التالي ويكون حينًا من الرمل وحينًا من الهزج؟ والواقع أن القافية تقضي على كل جدل فلماذا يريد المجادل أن نتجاوزها اعتباطًا؟
3-
الدليل الأخير على أن البند يقوم على وزنين أن طائفة من شعراء البند يقفزون من الرمل إلى الهزج دونما تمهيد وهذا يثبت إثباتًا لا جدال فيه أن شعراء البند كانوا شاعرين تمام الشعور بوجود وزنين. وقد جئت بمثال على هذا الانتقال المتكلف من وزن إلى وزن في أبيات حسين العشاري السابقة.
والواقع أن الذين يريدون أن يثبتوا القول بأن البند يقوم على وزن واحد هو الهزج طغاة مستبدون في نظر النقد الأدبي فهم يصيحون بنا صياحًا:
1-
اتركوا سببًا خفيفًا فلا تزنوه. كذلك حكمنا وليس لكم أن تسألونا عن السبب.
2-
تخطوا القافية تخطيًا تامًّا ولا تستدلوا بها على انتهاء الشطر. كذلك شئنا وليس لكم أن تعترضوا. والواقع أن هذا طغيان غريب. أكل دليل على رأينا نهمله؟ وبأي حق يا سادة؟
وأقول ختامًا إن شعراء البند منذ القرن الحادي عشر الهجري قد وقعوا في أخطاء عروضية غير قليلة تثبت أن ضعف السمع ليس مقتصرًا علينا في هذا العصر، وإنما للقرون السابقة نصيب منه. وفوق كل ذي علم عليم، والذي لا يخطئ مطلقًا هو الله سبحانه.